الفصل الأول

الأمير عمر طوسون والسودان

لا يسع المؤرخ الصادق إلا أن يعرض لنصيب حضرة صاحب السمو الأمير العظيم عمر طوسون في الاهتمام بأمر السودان، فلِسِمُوِّه المقالات والمذكرات والاحتجاجات والكتب والنداءات في صدد العلاقات القديمة والحاضرة بين مصر والسودان، وسموه يبذل الكثير في معونة طلاب العلم السودانيين الفقراء في الأزهر والخارج، ويكرم مثوى الضيوف السودانيين، ويساعد جهات البر والعلم في السودان، كملجأ القرش ومعهد أم درمان والمساجد والأندية، ويغتنم سموه كل فرصة للوقوف على أنباء السودان من الذين يزورون سموه من أهله والذين أقاموا به كالضباط والموظفين المصريين، ولا يزال سموه يبحث وينقب لكشف ما خفي من تاريخ السودان ورجاله وعلاقاته بمصر، ويقدح زناد الفكر، لكي يعيش السودان سعيدًا ويحيا السودانيون حياة سعيدة، ويكاد حديث السودان يغلب كل حديث آخر في حضرة سموه. ولما عاد أعضاء البعثة المصرية دعا سموه من أمكن مقابلتهم، لاستطلاع رأيهم في نتائج رحلة البعثة.

وسيذكر تاريخ السودان وعلاقاته بمصر النصيب الأول الذي لسمو الأمير في هذا الشأن، وقد قدَّر السودانيون أنفسهم برَّه بهم وحبه لهم، فأحلوه من نفوسهم أسمى منزلة، وأجمعوا على حبه، ولهجت ألسنتهم بذكره والدعاء له.

على أن مسألة السودان، على ما لها من الأهمية وعظيم الشأن عند سموه، ليست المسألة الوحيدة التي يعنى بها سموه، فإن سموه — كما هو المعروف — العلم في بيئته، بمتابعة الاهتمام بالشئون العامة في مصر والشرق والإسلام وإبداء الرأي في كل فرصة؛ لهذا رأيت أن أعقد هذا الفصل خصيصًا أترجم فيه حياته.

ترجمة صاحب السمو الأمير عمر طوسون

ولا نقصد من هذه الترجمة مدح الأمير، فهو غني بصيته الذائع وشهرته الواسعة عن المدح والإطراء. ولقد أبى علينا مرارًا درج ترجمته في كتابنا، ذهابًا مع ما عُرِف عنه من التواضع والبعد عن الزهو، فلما توسلنا إليه برغبة الأمة وإلحاح الكافة من الأدباء والعظماء أذن لنا: فنحن نترجمه للأمة وللسودان ومصر لا لنفسه؛ ليكون للبلاد من تاريخ حياته الحافل بجلائل الأعمال نبراسًا يضيء لها الطريق؛ طريق المجد الصحيح ومحبة الخير للخير.

وفي اعتقادنا أن في ترجمة الأمير أكبر درس للعظاميين الذين يرون في مجرد الحسب والنسب كل الفخر، وفي الغنى الموروث عن الآباء والأجداد غنى عن كل منقبة تكسبهم مجدًا جديدًا وذكرًا حميدًا، بل درسًا في الأخلاق الفاضلة.

قدَّمنا هذه المقدمة ليعرف الأمير قصدنا من ترجمته، وأننا لم نعْدُ ما في نفسه ولم نتجاوز غرضه، وليكون القارئ على بصيرة من الغاية التي حدت بنا إلى الإفاضة في هذه السيرة فتشرق عليه شمس العظمة من سمائها الصافية، وتنعكس أشعتها على مرآة نفسه، فيقتبس من أنوارها ما يشاء ويحتذي ببعض ما فيها من أمثلة العلاء، ولعله يقتفي مثالًا كريمًا ويهتدي صراطًا مستقيمًا. ومن قرأ تراجم العظماء وترسَّم آثارهم لا يلبث أن يكون عظيمًا:

فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم
إنَّ التشبُّه بالرجال فلاح

وُلِد الأمير عمر بن طوسون بن سعيد بن محمد علي الكبير بمدينة الإسكندرية في ٨ سبتمبر سنة ١٨٧٢م. وفي السنة الرابعة من عمره تُوفي والده فكفلته جدته لأبيه خير كفالة، وعُنيت بتربيته هو وإخوته وأخواته أجَلَّ عناية، فنبت نباتًا حسنًا، وشبَّ على الكمال خَلْقًا وخُلُقًا، ودرس مبادئ العلوم على أساتذة قصر والده إلى أن بلغ الحُلُم فنزح إلى سويسرا ودرس فيها دراسةً مستفيضةً، ولمّا تخرَّج تاقت نفسه إلى السياحة فرحل إلى إنجلترا وفرنسا باحثًا مُدقِّقًا معتبرًا بما هنالك من تقدمٍ اجتماعيٍّ وعلميٍّ وصناعيٍّ وزراعيٍّ، ثم قفل إلى الديار المصرية حاملًا بين جنبيه همةً عليَّةً ونفسًا زكيةً وقلبًا ألمعيًّا وأدبًا عليًّا. وهو يجيد اللغات التركية والعربية والفرنسية والإنجليزية قراءةً وكتابةً، ويشارك في مختلف العلوم مشاركةً تدل على سُموِّ مداركه، وسعة معارفه. وقد نال من الرُّتَب والوسامات المصرية أسماها وأعلاها، واقترن بإحدى كريمات الأمير حسن باشا ابن الخديوي إسماعيل فرزقه الله منها النجباء والنجيبات من البنين والبنات. وسعادتهم بتثقيفه وتعليمه لهم تتفق مع سعادة طالعهم، وتبشِّر بأنهم سيطلعون نجوم سماء ويسطعون كواكب علاء.

ومنذ بلغ أشده جعل نصب عينيه أن يقبض يومًا ما على زمام دائرته ويدير شئونها بنفسه، فانكبَّ على التمرُّن، وكان من وقت لآخر يطوف بمزارعه الواسعة ويمعن النظر في كتب الفلاحة، ويُعنى بالوقوف على أسرارها وأصولها العملية، كما يعنى إذا رجع إلى ديوان دائرته بالشئون الإدارية والمالية. ولما كملت أهليته تولى أمره بنفسه، وقد أصبح الآن ممن يشار إليهم بالبنان في سعة الاطلاع على المعارف الزراعية والمعاملات المالية. وعهدت إلى إدارته بعدُ دائرتان من أكبر الدوائر؛ وهما دائرة الأمير حسن باشا وزوجه الأميرة خديجة هانم، ودائرة الأمير محمد إبراهيم فتبرع بإدارة شئونهما غيرةً منه على مصالح المستحقين فيهما من أبناء أسرته الكريمة، وأبى أن يأخذ على ذلك أجرًا، وطالما كلفه الطواف على مزارع الدائرتين ورعاية مصالحهما مالًا، فتأبى نفسه الكريمة إلا أن يكون على حسابه الخاص. فهو يضحي الكثير من وقته وماله في سبيل منافع بعض أعضاء أسرته شأنه في محبة الخير وإسداء النصيحة إلى القريب والبعيد. وقد بلغت الدوائر الثلاث بحسن إدارته أفضل المبالغ، وغدا مركزها المالي ثابتًا على أقوى الدعائم، ونهضت بها عزيمته نهضةً جعلتها في مقامٍ رفيع.

وللأمير ولعٌ بالفروسية وكل ما يؤدي إليها؛ فلذلك كانت دائمًا جميع أندية الرياضة في البلاد ملحوظةً بجميل رعايته؛ كمضامير السباق في الديار المصرية، فهو رئيسها منذ أمد بعيد، ومن أكبر المنشطين لها، كما له ولع قديم بالصيد والقنص جعله من أمهر الرماة، واكتسب الأمير من وراء هذا الميل الغريزي فيه صحة ونشاطًا، ينطقان بفوائد الرياضة بأفصح لسان؛ فهي لا تدخل في باب اللهو كما يظن العامة، بل هي إلى الجد أقرب لعودها على الصحة بأجلِّ الفوائد. والصحة ملاك الحياة وعليها يُبنَى العلم والعمل، وما يعمله الصحيح في يومٍ لا يقدر عليه السقيم في أيام، كما أن العقل السليم في الجسم السليم.

وسُموُّه ميَّال بطبعه إلى الرحلات والاستكشافات؛ فقد قام برحلات كثيرة إلى الصحراء الغربية ودرس طبيعة هذه الجهات وما فيها من الواحات وغيرها دراسةً مستفيضةً، وقد نشر سُموُّه في الجرائد معلوماتٍ قيِّمة عنها. ولا ننسى هنا ما جادت به يده السخية في سبيل الله والخير: من إنشائه الآبار في طريق الغادي والرائح في هذه الجهات. ومن استكشافات سموه الجديرة بالذكر بعض الآثار القديمة التي توالت عليها الدهور والأعصار؛ فمن ذلك أنه كشف في أطلال بناء قديم في جنوبي غرب واحة الدلة عن صليب قبطي من الشبه «البرنز» يرجع عهده إلى القرن الخامس أو السادس للمسيح، وكذلك عن بعض الأواني الفخارية الأثرية القديمة بتلك الجهة، ثم اكتشافاته لسليا وآثارها غربي وادي النطرون، ورأس تمثال الإسكندر الأكبر بخليج أبي قير وإرشاده لجمعية الآثار وبلدية الإسكندرية للتنقيب بجوار مسجد نبي الله دانيال، ورحلته الأخيرة في شهر يونية سنة ١٩٣٥ إلى الواحات الخارجة.

•••

ومن وقف على حياة الأمير عجب أشدَّ العجب من انكبابه على العمل دون سآمةٍ أو ملل؛ فهو، مع أعمال الدوائر العظيمة، لا ينقطع عن القراءة والدرس في مكتبته الحافلة بالنفائس، وله غرامٌ باقتناء كتب التاريخ والوقوف على آثار الأقدمين، ولا يخلو الكثير من أيامه من النظر في شأنٍ هام، أو دعوةٍ لاكتتاب أو رياسة جمعيةٍ، كما لا يخلو شهر من سفره إلى ضياعه مرةً أو أكثر، وقد يبقى في الأرياف أسبوعًا لمشارفة الأعمال الجارية في أراضيه.

والأمير بعيدٌ بفطرته السليمة، وتربيته القويمة عمَّا يغضب الله، وهو يكره الخمر ويكره شاربيها، ويعاقب من يعلم أنه يشربها من موظفيه أشد العقاب. وجمعية منع المسكرات بالإسكندرية تحت رياسة شرفه، ويمدها دائمًا بمساعداته. ونذكر له بهذه المناسبة اقتراحه على الحكومة المصرية بقبول اشتراكها في مؤتمر مكافحة منع المسكرات الذي انعقد بمدينة أنفرس ببلجيكا، ومعاونته للجمعيات التي أُنشئت في نواحي القطر لمحاربة المخدرات بمختلف الوسائل. وهو يُجلُّ الإسلام وأوامره. وإيمانه بالله عظيم، واعتقاده راسخ. يعجبه من الناس الصدق والإخلاص، ويقرِّبهم إليه أكثر مما يقربهم جاههم ومناصبهم. وهو مشهور بدفاعه عن القومية المصرية وعن الدين والأمة الإسلامية، وصدِّ تيار المبشرين والملحدين، وبنصائحه الاجتماعية الثمينة الغالية. وآراؤه معروفة ومقدورة في مسائل مساواة المرأة للرجل في الميراث وإبدال القبعة من الطربوش، ومزاحمة المرأة للرجل في ميدان العمل، وما يرى سموه أنه ينجم عن ذلك من الأضرار الأدبية والمادية والاجتماعية. ومحبته للمصريين تعدل محبتهم له، وهم في نظره سواء لا فرق بين مسلمهم ومسيحيهم. وكثير من موظفي دوائره من الأقباط وبينهم من بلغوا مراكز كبيرة، وتولوا المناصب العالية عنده، وفيهم سوريون وأجانب. وهو شرقيٌّ في ميوله. ويعدُّ سموه أن أكبر جزاء له من الأمة المصرية على التفاته السامي نحوها، وعنايته التي يظهرها في ظروف مختلفة — هو ذلك الحب الخالص الذي يتجلى لسموه في غدوه ورواحه وعند كل فرصة تمكنها من إظهار ما تكنه لشخصه المحبوب. وفي أيام المظاهرات الوطنية الكبرى كان يقف الجمع المحتشد تحت شرفات دائرته هاتفًا له داعيًا، ولا ينصرف حتى يطل سموه عليهم ويحييهم، وكذلك حالهم معه في كل مشهد واحتفال.

بعض مآثر الأمير ومبراته

لا ينتظر القارئ منا أن نحصي له مبرَّات الأمير وأعماله العظيمة في هذه العجالة، وإنما سبيلنا في ذلك أن نلمع إلى بعضها إلماعًا، ونذكر ما حضرنا منها ليقاس عليه ما غاب عنا: فكرمه الواسع لا تحضرنا عبارة تفي بالإفصاح عنه؛ خصوصًا إذا أهابت بجدواه دواعي البذل، ونزلت بالناس سنو الشدائد؛ فهناك تتجلى أريحيته للعطاء ويكون بأياديه الجسام أندى كفًّا من الغمام؛ فالحرب الطرابلسية إنما كانت مادتها ماله، ولو لم يسعفها بمعونته وجاهه ومبرته لما أمكن أهلها الدفاع عن حوزتهم بضعة أشهر، وكذلك حرب البلقان التي شبت نارها على أثر حرب طرابلس فقد أقرَّ فيها عين الدولة والملة، ورأس لجنة الإعانة في مصر، فلبته الأمة والتفت حوله، وألفت اللجان في المديريات والبلدان، وكان يستندي الأكُفَّ بنفسه، ويخطب الخطب الرنانة في المشاهد الحافلة بالأمراء والأعيان فيجري النضار بين يديه سيلًا متدفقًا وهو يبعث به إلى الدولة العثمانية العلية تباعًا.

ولقد عرفت الدولة العثمانية مواقفه العظيمة لها في مواطن كثيرة؛ خصوصًا في هاتين النازلتين، ومن جمعية الهلال الأحمر، وأرادت أن تكافئه بالأوسمة والرتب، بل بالولايات فأبى شاكرًا وقال: إني لم أفعل غير الواجب، وليس على الواجب جزاء.

وغرضه الأقصى من أعماله هذه إحياء عاطفة التعاون والتعاضد بين الشرقيين وإحكام روابط الألفة والاتحاد التي تقويهم لعلمه أنهم إذا لم يتمسكوا بهذه العروة الوثقى فقد ذهبت ريحهم.

والأيام تبين عن كثبٍ صدق ما نرى، وليس أصدق من عِبَر الدهر وحوادثه، وهذا هو مذهبه السياسي للشرقيين عامةً، ورأيه أنهم لو عملوا بهذا المبدأ؛ مبدأ التكافل، ما تخطفتهم ذئاب الغرب، ولا التهمت بلدانهم واحدة تلو الأخرى. وطالما مد يد المساعدة للدولة في ظروف مختلفة؛ فقد حدث حريق هائل في الآستانة، وحدث مثله في الشام ومصر في وقت واحد، فأعمل همته وجمع للمصابين بين البلدان الثلاثة مبالغ ذات بال نفَّست من خناقهم، وأزالت بعض كربتهم. ولم ننسَ تبرعه للأسطول العثماني والطيارين العثمانيين واحتفاله بهم في مضمار الإبراهيمية من رمل الإسكندرية في يوم مشهود.

ومن مآثره الغرَّاء عوله لجماعة البخاريين الذين سدَّت عليهم الحرب الأوروبية الكبرى طريق الوصول إلى بلادهم بعد أدائهم فريضة الحج؛ فقد كفاهم ببره معرَّة السؤال والتكفف أكثر مدة هذه الحرب المشئومة، وحاطهم بمعروفه في ستر وكفاية، حتى تموَّل منهم المعدم واشتغل العاطل وفتحت في وجوههم الطريق … إلى غير ذلك من المكارم الكثيرة، التي تعيد لنا ذكرى الأجواد في سالف الأيام. ولما تمخضت الحرب الكبرى عن انتصار الحلفاء واقتطاعهم أكثر الولايات العثمانية، واحتلالهم عاصمة الخلافة، وانحازت فلول الجيش التركي وعلى رأسها مصطفى كمال باشا إلى داخل الأناضول يدافعون عن البقية الباقية من بلادهم وهم خلوٌ من المال والسلاح، أهاب هذا الأمير الكبير بالمصريين فلبوه مسرعين إلى معاضدة هؤلاء الأبطال ومساعدتهم بالمال، ونهجت الأمم الإسلامية؛ وخصوصًا الهنود، هذا السبيل مقتفين أثره في هذا العمل الإنساني، الذي بيَّض وجه مصر وعطَّر الخافقَيْن بذكرها.

وقد دامت هذه المعونة ثلاث سنوات متواليات وهي تتدفق على الأناضوليين من غيث جوده سيلًا منهمرًا، حتى فازوا على اليونان وأخرجوهم مدحورين من بلادهم، ثم استمرت — ولا زالت — لإعالة أيتام الأناضول إلى أن توارى شبح الموت والجوع عن أعينهم.

ولكن بعد أن تم الفوز للكماليين ألغوا السلطنة العثمانية وقلبوها جمهورية على رأسها مصطفى كمال، ثم تمادى بهم السير في هذا الطريق فألغوا الخلافة وأخرجوا الخليفة عبد المجيد وسائر أسرة آل عثمان مشرَّدين في الممالك الأجنبية مجردين مما يُقوِّم أود معيشتهم، فظهر بطل الإسلام مرةً أخرى في ميدان العمل وأثارت هذه الكوارث نخوته المعروفة، فقام يدافع عن مقام الخلافة ويذود يد الدهر عن هذه الأسرة الكريمة، وألَّف جمعية لإمداد الخليفة عبد المجيد وأمراء البيت العثماني وأميراته، كان أوَّل مدد لها أرسل إليهم أربعة آلاف جنيه.

أمَّا أعماله لمصر والمصريين فهي أجلُّ وأعظم؛ فبابه مجتمع العفاة، ومزدحَم الواردين والصادرين عن ذلك المنهل العظيم، وسُدَّته قبلة عرائض أولي الحوائج وكعبة آمال ذوي الخلة من الفقراء والمستورين. وهو يسعهم بفضله، ويعُمُّهم بسببه. وهو يواسي موظفي دائرته في مرضهم وفي موتاهم، ويعينهم في زواجهم وفي ولادة أولادهم وختان ذكورهم. وقد رتَّب لهم الأطباء، ويتبرع لهم بما يحتاجون إليه من الدواء، وهو الذي يموِّن بيوتهم بالغلال منذ بداية الحرب، ومدارسه لأبناء الفلاحين في ضياعه العامرة وأبناء الموظفين فيها، تُعلمُّهم بدون أجر مبادئ العلوم، وتصرف لهم أدوات الدراسة كلها بغير مقابل.

وذلك غير إقامته للمساجد فيها وتعليم موظفيه عامةً على نفقاته علوم اللغة العربية في دروسٍ يومية تُعطى لهم عقب فراغهم من أعمالهم، وإعطائه الجوائز للناجحين في امتحانها كل عام. وقد يرى في بعض هؤلاء نجابةً فيعِينه على تتميم دراسته. ومن أبناء الموظفين وغيرهم مَن بعث بهم إلى مدارس أوروبا العالية على نفقته الخاصة لامتيازهم بالنبوغ، ولا يزال بعضهم فيها إلى الآن.

وأُعطياته لمعاهد العلوم والجمعيات الخيرية، لا تدخل تحت حصر: نذكر منها تلك الهبة الجليلة التي نفح بها جمعية العروة الوثقى، وجمعية المواساة على أثر رجوعه الأخير من أوروبا؛ فقد وهبهما من أجود أطيانه ما جعل الألسنة تنطلق بشكره عليه. وكم وهب هاتين الجمعيتين والملجأ العباسي هِباتٍ أخرى جزيلةً سابقةً ولاحقةً في ظروفٍ متعددةٍ. وله في مشيخة العلماء بالإسكندرية مآثر جميلة؛ فمنها عطاياه لترقية المتعلمين بها، وهباته لمكتبتهم، وإننا نثبت هنا أبياتًا من قصيدةٍ لفضيلة الشيخ إبراهيم سليمان أحد شيوخهم، تلاها بين يدي سموه على أثر عطيةٍ من تلك العطايا، وقد جاءه منهم وفد شكر تحت رياسة شيخهم إذ ذاك، وهو الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبو الفضل شيخ الجامع الأزهر الأسبق، وهي:

أكلما ناب خطب قيل «يا عمر»
كأنما «عمر» من جنده القدر
وكل خطبٍ دجا يبدو له «عمر»
كأنه الشمس للآفاق والقمر
البدو يسأله والمدن تأمله
كأنما من ذويه البدو والحضر
لو كان في زمن القرآن إذ نزلت
آياته أنزلت في مدحه السور
فلا عدِمنا هباتٍ منه واكفةً
لم يسقِنا مثلها في كفه المطر
حنا على العلم واستسقت معاهدنا
منه فظل عليها الخير ينهمر

ومن شكر العروة الوثقى لسموِّه أنها سمَّت مدرستين من مدارسها؛ إحداهما للبنات والأخرى للبنين، باسمه الكريم. والدار التي فيها مدرسة البنين موهوبة لها من سموه. ومن أفضل أياديه المشكورة إيعازه لجمعية المؤاساة التي يرأسها سموه رياسة شرف بتوزيع مقدار كبير من الدقيق على فقراء الإسكندرية عندما اشتدت الضائقة بهم، وخلت الأسواق أو كادت من هذه المادة الضرورية للحياة.

وقد أخذ يعاضد مشروع الكشافة لعلمه بما فيه من الفوائد الجلى لنابتة البلاد، فلُقِّب عن جدارة من جمعية الكشافة بالإسكندرية بلقب «الكشاف الأعظم» بعد أن جعلها تحت رعايته العالية.

وإذا لم تقم في وجه هذا المشروع الجليل عقبات فسيبلغ بجميل رعايته مبلغًا عظيمًا ويجني شبان مصر منه نفعًا عميمًا.

أما أعماله العامة، فلا تكاد تجد مشروعًا نافعًا ظهر تحت سماء مصر إلا وله فيه يدٌ بيضاء، ومن ذلك تشجيعه للمعارض الزراعية، واشتراكه في الاكتتابات لإحياء العلم وتشجيع المشروعات الأهلية، وبلغ به هذا التشجيع أن تفضَّل واشترك مع الإسكندريين بخمسمائة سهم في جمعية المشروعات الأهلية، وكان غرضها تجاريًّا محضًا. ولما كان الكثير من أعماله العظيمة واقعًا تحت أعيننا، وهو كل يوم يتجدد، فلا حاجة بنا إلى عده، وإنما نذكر له هنا إعانته «الوفد المصري» إلى مؤتمر فرساي بعشرة آلاف جنيه، وبهذه المناسبة نذكر أن سموَّه أول من تكلم مع الزعيم الخالد رئيس الوفد المصري «سعد زغلول باشا» في هذه الفكرة عندما وضعت الحرب أوزارها، وأول من أراد جمع المصريين عليها بدعوة صدرت منه فعلًا في يوم معين ونشرت في الجرائد، ولكن الظروف حالت دون هذا الاجتماع «راجع خطاب الأستاذ الكبير مكرم عبيد في المؤتمر الوطني العام ومذكرات المغفور له سعد زغلول باشا».

ومما لا يفوتنا ذكره اكتتابه في لجنة الأمراء التي صرفت جُلَّ مالها في تخفيف الويلات التي نتجت عن ضحايا المظاهرات، ولم يكتف — حفظه الله — بذلك، بل دعا السكندريين إلى مثل هذا العمل ليكون خاصًّا بضحايا المظاهرات في الإسكندرية وحدها، وكان لهم نِعم القدوة الحسنة. وشأنه في انضمام الأمراء إلى بقية الأمة في نهضتها الوطنية الأخيرة عند حضور لجنة «ملنر»، والمطالبة بالاستقلال التام مشهور معلوم.

ومما نذكره لسموه مقرونًا بالشكر والإعجاب دعوته في الصحف للمصريين عامةً إلى مدِّ يد المساعدة للجمعية الخيرية الإسلامية وتقدُّمهم إلى الاكتتاب لها بمبلغ خمسة آلاف جنيه بمجرد ما علم سموه بحاجة الجمعية إلى المال، واستصراخها لذوي البر والإحسان، فكان أول الملبين وإمام المحسنين.

وعلى أثر هذه الدعوة لفت نظره العالي بعضهم إلى الجمعية الخيرية القبطية، وأنها أيضًا في حاجة إلى بر سموه فنفحها بألف جنيه، ودعا الأقباط إلى الاكتتاب لها كما دعا المسلمين إلى الاكتتاب لجمعيتهم في نشرة مُذيَّلة باسمه الكريم جاء في آخرها ما نصه:

والغرض الأقصى لي من ذلك أن أُشرف على مضمار للخير في مصر بين الأخوين الشقيقين «المسلم والقبطي» تتسابق فيه العزائم، وتتبارى الهمم؛ لأنظر إلى أية غاية يجري الأخوان المتباريان، وأيهما يحرز قصبات السبق في هذه الحلبة الخيرية، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

تلك سجية فيه عرفَتْها له مصر، فهي ما هزت مواضع الأريحية من أنفس كرمائها إلا رأت ذلك الأمير المحبوب يرتجل الندى ارتجالًا ويرسل مكارمه إرسالًا.

وكثيرًا ما تقدمت أريحية سموه دعوة الداعين فأحالت دعوتهم دعاء وثنتهم عن الطلب إلى الثناء.

فإنَّا لم نكد نسجل للأمير الجليل تلك النفحة التي شمل بها الجمعية الخيرية الإسلامية حتى ارتجل مبرَّةً أخرى، فشمل الجمعية الخيرية القبطية بنفحة ترفع القواعد من بنائها. ولم نكد نفرغ من شكر هاتين المبرتين حتى بدهنا بثالثة لا ينقطع برها، ولا ينقضي شكرها.

فإنه لم يكد تمثال (نهضة مصر) يتصل حديثه بسموه حتى تفضَّل فتبرع بخمسمائة جنيه مصري من ثمن ذلك التمثال.

ومن مبراته الخالدة التي زادت أواصر الاتحاد متانةً ما تبرع به أخيرًا لمدرستي البطركخانة والمشغل البطرسي على أثر زيارته غبطة الأنبا كيرلس بطريرك الأقباط الأرثوذكس؛ فمنح المدرستين سندات من الدين الموحد لتُعطَى أرباحها السنوية جوائز لأوائل الناجحين والناجحات منهما، وهكذا غَرْس يديه الكريمتين يبقى نفعه ما توالى الجديدان.

وما ننسى لا ننسى تبرعات سموه المتوالية في وجوه البر والخير؛ فمن ذلك تبرعه بمائة جنيه في مشروع شراء قطعة أرض بإنجلترا لدفن موتى المسلمين بها، وحثه المسلمين في مصر على الاكتتاب لهذا المشروع، وتبرعه بمثل هذا المبلغ لجمعية المحافظة على القرآن الكريم برمل الإسكندرية، وبمبلغ أربعين جنيهًا كل سنة لجمعية مشروع القرش، وتبرعه المتتالي لترميم مساجد السودان في مدنه المختلفة ومدها ببعض الكتب الدينية والعلمية، وتبرعه لنادي الضباط المصريين بالسودان، وللنادي السوداني بالقاهرة، ولنادي الطلبة المصريين بإنجلترا، وبالكئوس الفضيَّة للألعاب الرياضية للمدارس الأميرية وغيرها.

مكارم يتلو بعضها بعضًا، ومبرَّات يسطع في العصر شذاها، وإن مصر التي تقدِّر كل عامل لها في أبنائها لَتحمد للأمير أياديه البيضاء، وتذكر له أنه لم يدع فرصة سانحة للبر بها إلا انتهزها مشكورًا، وأن حياته المباركة نجاح لكل عمل عميم النفع.

ولا يفوتنا أيضًا معاضدات الأمير وتشجيعاته المادية والأدبية، فمن ذلك تأليف سموه جمعية للاحتفال بالطيار المصري محمد صدقي بالإسكندرية ومنحها له خمسمائة جنيه، ومساعداته للمؤلفين والمفكرين على نشر مؤلفاتهم، وطبعه على نفقته الخاصة مؤلفات بعض رجال مصر العاملين ومذكراتهم، وتشجيعه للعلوم والآداب، إلى غير ذلك مما له أكبر الأثر في حياة هذا الوطن وشئونه.

وأما نصائحه إلى أبناء وطنه مصر فهي غالية مجدية، وكلها تنهى عن الشقاق والخصام وتأمر بالاتحاد والوئام كلما دبر لها أعداؤها فتنة أو ألقوا في جموع الأمة عصا التفرقة.

وبالجملة، فالأمير عمر — بإجماع الأمة المصرية — صاحب الأيادي العديدة، والأعمال المجيدة والآثار الخالدة، والسيرة الطاهرة، في بعدٍ عن الشهوات، وترفُّع عن الغايات، وثبات عند الملمات، واجتهاد وجدٍّ يشبه سميَّه سيد المسلمين عمر بن الخطاب في الصلابة في الحق، والثبات على العهد، والميل إلى الجد. ثابت على مبادئه ثبوت الجبال حتى ليس في مقدوره أن يقول ما لا يعتقد، أو يعمل ما لا يريد، أو يعد فيخلف أو يحكم فيجحف، صبور وقور، ذو أناة وحلم، لا تنال الملمات من نفسه الكبيرة، ولا يظهر لها أثر عليه، وذلك من عجيب ما أودعه الله فيه من الخلائق، فهو في بيئته نسيج وحده، ووحيد هذا العصر، في كرم الخلال وشرف الفعال، فما أجدره بقول القائل:

ولو صوَّرت نفسك لم تزدها
على ما فيك من كرم الطباع

أما العلم والتأليف، وهما مما تنبو عنه، عادة، طباع أهل النعمة والثراء، فضلًا عن الأمراء، فقد بلغ الأمير فيهما الشأو البعيد.

وإن بحوثه التاريخية والعلمية لفي غنى عن الإيضاح والبيان، وهي تتناول مواضيع كثيرة هامة، وقد نشر معظمها في جرائد مصر العربية والإفرنجية. وسمو الأمير يعمل بجد ومثابرة على إظهار مكنونات تاريخ جده الأكبر محمد علي باشا، وإثارة دفائن هذا التاريخ الحافل بجلائل الأعمال؛ فمن ذلك أنه لفت نظر وزارة الأشغال على أثر عثوره بجريدة الوقائع المصرية على مقطوعات شعرية بها تواريخ إنشاء بعض القناطر المصرية في هذا العهد السعيد، واقترح عليها نقش هذه المقطوعات التاريخية الأثرية على ألواح توضع في مواضع هذه القناطر، فنالت فكرته استحسانها ونفذت مقترحه.

وما ظهر إلى الآن لهذا الأمير النابغة من آثار قلمه البليغ باللغتين العربية والفرنسية، ودبجته براعته من المباحث الممتعة، وكلها من الطريف الذي لم يكن معروفًا من قبل، يجعل له القدح المُعلَّى في هذا المضمار.

وذلك مثل مقالاته التي نشرتها الصحف والمجلات العلمية عن الجيش المصري أيام محمد علي، وعن المدارس والصنائع والبعثات العلمية، وفي ذلك العهد ومحاضراته القيَّمة التي ألقاها في المجمع العلمي المصري وتلقتها أندية العلم في الشرق والغرب بمزيد الاهتمام. وكتابه النفيس عن أفرع النيل القديمة الذي ظهر منذ عهد قريب مطبوعًا باللغة الفرنسية، وسيظهر عن قريب باللغة العربية، ورسائله التاريخية العديدة، إلى غير ذلك مما شارك الأمير فيه أكابر العلماء المحققين وسلكه في سلك جهابذة المؤرخين المتميزين.

وقد تغنى الشعراء بمدحه وأكثروا من القول فيه مما لو جُمع لكان ديوانًا كبيرًا، وإننا نختم هذه السيرة المتضوَّعة بقصيدة في الأمير لشيخ شعراء الجيل الغابر إسماعيل صبري باشا، بعث بها إلى سموه أيام حرب البلقان والهلال الأحمر وهي:

لك الإمارة والأقوام ما برحت
بكل عالي الذرى في الكون تأتمر
لو لم تنلها لما ألقت أعنَّتها
إلا إليك: خلال كلها غرر
يا ابن الأُلى لو أطلُّوا من مضاجعهم
يومًا عليك لقالوا إيه يا «عمر»
أعدت أيامهم في مصر ثانيةً
حتى توهَّم قوم أنهم نشروا
وسرت سيرتهم حتى كأنهمو
إذا خطرت بأرضٍ مرةً خطروا
لله درُّك! كم نبَّهت من همم
تثني على أهلها الآصال والبكر
وكم تعهَّدت جَرْحى من أسود وغًى
إن يكشر الدهر عن أحداثه كشروا
مستنجدًا من بني مصر أولي شمم
إذا رأوا ثلمةً في حوضهم جبروا
مستهميًا هاميًا والنيل في وجلٍ
من أن تجود به أيمانكم حذر
حتى تفاهمت الأرحام وادَّكرت
ما بينها الأهل والخلان والأسر
وآذن البر بالسقيا وما فتئت
منهم ومنك صنوف البر تنتظر
وحركت كل كفٍّ بالندى مِقةً
حتى تعجبت الأنهار والغُدُر
والناس، إن قام يستسقي الكريم لهم
سحائب الفضل بشِّرهم، فقد مطروا
أبي علاء سعيد أن يشابهه
إلا ابن دوحته إن قام يفتخر
ما زال يحمده رائيك مُدَّكرًا
والأصل بالفرع إن حاكاه يدَّكر

مؤلفات سمو الأمير

المؤلفات الفرنسية:

  • (١)

    تاريخ أفرع النيل القديمة قبل الفتح العربي وفي مدته (٢ جزءان).

  • (٢)

    تاريخ النيل (٣ أجزاء).

  • (٣)

    مالية مصر من عصر الفراعنة إلى الآن (١ جزء).

  • (٤)

    جغرافية مصر في عصر العرب (ظهر منه جزءان وباقي ثلاثة تحت الطبع).

  • (٥)

    الأديرة القبطية بوادي النطرون.

  • (٦)

    الإسكندرية في سنة ١٨٦٨م.

المؤلفات العربية:

  • (١)

    كلمات في سبيل مصر.

  • (٢)

    صفحة من تاريخ مصر في عهد محمد علي «تحت الطبع».

  • (٣)

    مالية مصر من عهد الفراعنة إلى الآن.

  • (٤)

    الصنائع والمدارس الحربية والبعثات العلمية في عهد محمد علي.

  • (٥)

    الجيش المصري البري والبحري في عهد محمد علي.

  • (٦)

    مصر والسودان.

  • (٧)

    مذكرة عن مسألة السودان بين مصر وإنكلترا.

  • (٨)

    البعثات العلمية في عهد محمد علي ثم في عهد عباس الأول وسعيد.

  • (٩)

    صفحة مجد للجيش المصري البري والبحري في حرب القريم.

  • (١٠)

    بطولة الأورطة السودانية المصرية في المكسيك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤