الفصل الحادي عشر

قالت إلهام لأبويها فجأة: ألم تلاحظ يا بابا وأنت يا نينا أننا مقصرون جدًّا مع عمي سويلم ومجدي.

ونظرا إليها ثم تبادلا النظرات، وفهمت إلهام تمامًا ما تحويه نظراتهما، وربما أحست أن كلًّا منهما يقول في نفسه ما كل هذه الجرأة من الفتاة، ولكنها أكملت حديثها متظاهرة أنها لم تفهم شيئًا على الإطلاق: أليس عمي سويلم هذا ابن بلدك يا ماما وهو الذي زوجك من بابا؟ وأنت يا بابا أليس أقرب إليك من أخ؟ كيف ينجح مجدي في بكالوريوس الهندسة ولا تدعوان العائلة إلى عشاءٍ على الأقل؟

وتبادل الأبوان النظرات مرةً أخرى، واضطر فؤاد أن يقول: والله يا بنتي لك حق، ولكن …

وقالت وهيبة: ولكن ماذا يا فؤاد؟ كان يجب أن نفعل هذا فعلًا.

وقالت إلهام: بل إنني حتى أراكما تأخرتما، إن المناسبة الآن ستكون مناسبتين.

وصاح الأبوان في دهشة حاولا ألَّا تبين: ماذا؟!

– طبعًا.

– وكيف؟

– ألم يُعيَّن مهندسًا في السكة الحديد، أليست هذه مناسبة أيضًا؟

واسترد الأبوان هدوءهما وقالت وهيبة: والله لك حق.

– وماذا تنتظرين؟

– ما رأيك يا فؤاد؟

– ادعيهم على العشاء.

– متى؟

– متى شئت.

– اليوم الإثنين، أيوافقك الخميس؟

– يوافقني طبعًا.

وقامت وهيبة إلى التليفون وأرادت أن تتكلم فقال فؤاد: انتظري يا وهيبة.

– ماذا؟

– أنا سأقابل سويلم اليوم وسأسأله إن كان يوم الخمييس يوافقه وبعد ذلك كلمي أنت نعمات.

وقالت إلهام: يا سلام، وفيمَ كل هذا وكأنك تدعو شخصًا لأول مرة، إنهم في كثيرٍ من الأيام يأتون بلا عزومة، على كل حال أنا قلت رأيي وأنتما حران.

وقامت إلى حجرتها، وقال فؤاد: ما هذا الذي تقوله ابنتك؟

– ربما يا أخي زهقت وتريد أن تعرف رأسها من رجليها.

– أيعني هذا أن نقول لهم تعالوا اخطبوا بنتنا.

– والله أنا الأخرى زهقت.

– ومن أجل هذا جريت إلى التليفون؟

– إذا كان البنت تكلمت ألا نتحرك نحن؟

– فكري قليلًا في الأمر.

– والله لو كانوا أغرابًا علينا لكان كلامك هذا معقولًا، ولكن سويلم ونعمات أخوات.

– مهما يكن الأمر، إذا كان هما لم يتكلما.

– والله لك حق، ما الذي جعلهما لا يتكلمان.

– كل بيت له أسراره.

– إلا بيت سويلم، فليس فيه أسرار علينا أبدًا.

– لكل بيت أسراره.

– على كل حال نحن وعدنا إلهام أن نتكلم وندعوهما.

– ألا نفكر قليلًا؟

– اسمع.

– ماذا؟

– ما رأيك لو جعلناها مكالمة عادية؟

– ما معنى عادية أنا أكلم سويلم يوميًّا وأنت تكلمين نعمات يوميًّا، ما عادية هذه؟

– أقصد دعوة عادية.

– كيف؟

– سترى.

قامت إلى التليفون ولكن فؤاد يقول لها: يا شيخة انتظري، انتظري حتى نتفاهم.

– نتفاهم في ماذا، أي عجيبة أن تدعو سويلم ونعمات ومجدي على العشاء، انتظر سترى.

وطلبت الرقم.

– ألو، نعمات، كيف أنت؟ اسمعي، فؤاد وأنا قلنا مرة واحدة كدا في نفسٍ واحد لكم زمان لم تتعشوا معنا، هل عندكم حاجة يوم الخميس، نتعشى معنا؟ وقولي لمجدي إذا لم يكن مرتبطًا يأتي يتعشى معنا أم ترى نفسه كبرت بعد أن أصبح مهندسًا؟ مجدي ابني أكثر منك، أنا أمه وأستاذته، سويلم بجانبك، اسأليه، عال، نحن في انتظاركم.

وأقفلت التليفون وهي تقول لفؤاد: هيه ما رأيك؟

– لا بأس، والسلام.

•••

قال سويلم: ماذا سنقول لهم؟

– وهل أعلم.

– الجماعة يستعجلون الخطبة.

– لهم حق، الولد أخذ الشهادة وعُين أيضًا ماذا ننتظر؟

– وماذا قالت لك عن مجدي؟

– بعيد عنك كلام جعلني في نصف هدومي، ابني وأنا أمه وأستاذته وكلام يجعل اللقمة تقف في الزور.

– نعتذر.

– أمرك.

– وافرضي اعتذرنا هذه المرة ماذا سنفعل المرة القادمة؟

– والله لا أعلم.

– اسمعي نحن نذهب ونقول لمجدي يأتي معنا، وكأن الأمور طبيعية وبعد ذلك أكلم مجدي مرةً أخرى وربنا يعمل ما فيه الخير.

– أمرك.

•••

كانت إلهام تعلم أن سويلم وزوجته ينامان في القيلولة ومجدي لا ينام، طلبت في القيلولة من حجرتها متحرية ألا يسمعها أبواها.

– مجدي؟

– نعم، من؟ إلهام، أهلًا إلهام.

– اسمع يا مجدي أنتم مدعوون عندنا يوم الخميس.

– نعم أعرف.

– أريدك أن تأتي.

– هل هناك شيء؟

– أنا أريدك أنت بالذات أن تأتي، أرجوك من أجل خاطري لا تعتذر.

– أنا كنت آتيًا على كل حال.

– أعرف وإنما أردت أن أتأكد، أرجوك لا تعتذر لأي سبب.

– يا سلام يا إلهام أنت تعرفين مكانتك عندي ولا أستطيع أن أتأخر عنك مطلقًا.

– أعرف هذا، شكرًا يا مجدي هذا ما كنت أنتظر فعلًا.

•••

جلس الجميع في انتظار العشاء وكانت تعده لهم الحاجة رشيدة، التي لا يغيب عنها خبر في بيوت المنطقة كلها، فمطبخها منتدى الخدم الذين يجاورون العمارة جميعًا، وفي هذا المطبخ عرفت قصة سميحة كاملة بكل تفاصيلها، والحاجة رشيدة هي التي ربت إلهام منذ هي رضيع فهي لا تخفي عنها شيئًا.

كانت الأسرتان إذا اجتمعتا لا يجد الكلام فرصة يهدأ فيها، فالأخبار تتوالى بينهم والتعليقات لا تكف عن كل شخص وعن كل موضوع.

أما في هذه المرة فالكلام يتعثر قبل أن يخرج والصمت يجد لنفسه مكانًا متسعًا، وبعد كل فترة قصيرة يصيح سويلم وكأنه صاحب بيت: يا أمه رشيدة متنا من الجوع يا أمه رشيدة.

وفؤاد يتصايح معه في مزاحٍ لا يجرؤ أن يكون طبيعيًّا، وتختلس إلهام وهي مدركة للموقف كل الإدراك نظرة إلى مجدي فتجده متحرجًا غاية في الحرج، فعلى وجهه وجمة تتشح لتكون تظاهرًا بالسرور، وعلى فمه ابتسامة يحاول أن يثبتها على شفتيه فتنفلت منه، تريد أن تغوص في أعماقه مرةً أخرى، ونعمات في سذاجتها الطيبة حائرة لا تعرف كيف تتصنع أي شيء، ومن ينعم النظر إليها يجدها مستسلمة في خضوعٍ لما يجري حولها لا تملك حولًا ولا قوة، أما وهيبة فداخلة خارجة من حجرة الاستقبال، توهم الجميع بأنها تساعد رشيدة في إعداد العشاء، وهي في الواقع لا تصنع شيئًا إلا المشي بلا غاية، تحاول أن تجعله يبدو كأنه اهتمام بمن عندها من أعزاءٍ فتفشل محاولتها فشلًا ذريعًا.

ويأتي العشاء أخيرًا ويتناولونه ازدرادًا بلا حديث إلا تعليقات متناثرة، تؤكد الجو الحرج الذي يخيم على الجلسة كلها وعلى من فيها جميعًا.

ويعودون إلى الصالون وفي اهتمامٍ شديد تقول إلهام: قهوة عمي سويلم يا داده رشيدة وشاي مجدي وقهوة بابا.

ويقول فؤاد في محاولة تظرف: حسبتك نسيت بابا.

وتقول إلهام في تلحينٍ مازح: أنا أنسى الكل، أنسى الكل علشانك.

ويضحكون.

وتصيح إلهام: أخيرًا.

وتقول وهيبة: أخيرًا ماذا؟

وتقول إلهام: أخيرًا ضحكتم.

فتعيد هذه الملاحظة الوجمة إلى وجوههم جميعًا. وجمة ذاهلة فقد تبين كل منهم أن تصنعه كان مكشوفًا.

وتقول إلهام: أنا منتظرة هذه الضحكة من الصبح لأتكلم.

ويقول فؤاد: تتكلمين؟

– وأنتم جميعًا ولا مؤاخذة تصمتون، أولًا يا عمي سويلم أنا التي عملت هذه العزومة لأن المسألة بينكم أصبحت مضحكة محزنة بشكلٍ لا يمكن السكوت عليه.

وتصيح وهيبة: بنت!

وتقول إلهام: أرجوك يا ماما هذا الوضع لا بد أن ينتهي الآن وفورًا، ولن أتكلم كثيرًا حتى لا أعذبكم أكثر من عذابكم، أي عفريت وسواس خناس جعلك أنت يا عمي سويلم وأنت يا خالتي نعمات وأنت يا بابا وأنت يا ماما تظنون أن مجدي يريد أن يتزوجني أو أنني أريد أن أتزوج مجدي.

وتصيح وهيبة: إلهام!

وتمضي إلهام في حديثها كأنما لم تسمع شيئًا: هل خلفتم أخشابًا أم آدميين؟ أليس من حقنا ونحن من بني الإنسان الذي حمله ربه أمانة الاختيار أن يختار مجدي عروسه وأختار أنا زوجي؟ من قال لكم إن اتفاقكم الهامس يسري علينا ويجعل مجدي يختارني ويجعلني أنا أختار مجدي؟ مسكين يا مجدي ومسكينة يا أنا، ظللنا عمرنا كله نتحمل إشاراتكم الخفية، والابتسامة ترتسم على وجوهكم إذا سألت مجدي عن امتحانه أو قدمت له برتقالة على طعام، أو طلبت له فنجان شاي، وكنت أنا وهو نلاحظ هذا وتلتقي منا العيون رغم أنفينا، ونصمت في ألمٍ ونتحمل في صبر، وهو يعلم وأنا أعلم سخافة هذا الذي تصنعونه، والحرج عنده أشد ألف مرة، مسكين! فهو رجل ولولا أنه يعرف مشاعري لكان لا يدري ماذا يفعل، فهو رجلٌ عظيم وإنسان حساس وكل المزايا فيه، ولكنني أنا لم أختره وهو لم يخترني، ربما كان يختارني أو أختاره لو لم يشعر كل منا أنه مفروض على صاحبه، أنتم باتفاقكم السري وإشارتكم التي كنتم تظنونها في غاية الذكاء، وهي لم تكن كذلك، أنتم الذين باعدتم بيننا، ثم كيف يخطب هو أو أقبل أنا أن نتزوج ونحن نحس عمرنا كله أننا إخوة، بيته بيتنا أطلب فيه ما أشاء من أكلٍ وشرب وهو أيضًا يشعر أن بيتنا بيته، ليست الأخوة صلة رحم فقط، وإنما كثيرًا ما تكون أقوى بطبيعة الصلة بين الناس بعضهم وبعض، مثل الأخوة التي بينكم أنتم الأربعة، كيف تتصورون أن يتعلم مجدي في الجامعة وأتعلم أنا في الجامعة ثم تتحكمون أنتم فينا؟ النهاية أنا ومجدي متفقان اتفاقًا له الآن سنوات بعيدة، لا أذكر منذ متى ودون أن نتكلم، أننا لن نتزوج، فإذا كان عندكم وسيلة لتزويجنا غصبًا عنا فالأمر لكم.

وساد الصمت ولم ينبس أحد بكلمةٍ، وقالت نعمات في رعونةٍ وفي محاولة إنقاذ: مجدي قل شيئًا.

وفي رجولةٍ وثبات قال مجدي: لقد قالت إلهام كل شيء، وإن كان هناك ما أقوله فهو فعل لا قول.

وقام مجدي وأمسك بيد إلهام، وصافحها قائلًا: أنت أشجع مني، وأنا أعرف أخلاقك العظيمة كل المعرفة، وإنما لم أكن أتصور أنك رائعة إلى هذه الدرجة، أنا أحييك.

وقال سويلم: ولكن يا بني …

وقال فؤاد وقد أحس أن الصلة بينه وبين سويلم عادت إلى طبيعتها: ولا كلمة يا سويلم، العيال علمونا درسًا كان يجب علينا نحن أن نعلمه لهم، ولكن يا أخي لا بد أن نعترف أن العلم شيء عظيم والثقافة قيمة كبرى، وأنا وأنت لم نتخرج في الجامعة، فأن يعلمنا أولادنا أكرم لنا ألف مرة أن يعلمنا الأغراب.

ويضحك الجميع ويقول مجدي لأمه: الآن يا نينا تستطيعين أن تزغردي.

– تدهش نعمات.

– أزغرد! أزغرد على أي خيبة؟

ويقول مجدي: زغردي أنكم أخوات كما كنتم دائمًا وأن أصغر عضو في الأسرتين حلت المشكلة بكل عقل وبكل شرف، وحياتي عندك يا ماما زغردي.

وتزغرد نعمات ثم تقول: الأمر لله.

وتعود الأسرتان إلى مألوف عاداتهما من الضحك والتعليقات، ويحس الجميع أن السحابة أمطرت ماءها ولم تصب أحدًا بالبلل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤