العيش في منازل السالكين

قبل أن ينتصف النهار، عدت إلى مشيخة الطريقة الكناسية الأحمدية.

ربت الشيخ صالح جاد الرب كتفي: قم معي، سنلتقي مولانا شيخ الطريقة.

هو على يقين أن من لا شيخ له، فالشيطان شيخه. حتى لو استقام على طريق الحق، فإنه مثل الشجرة التي لم يغرسها غارس، إن أورقت لم تثمر، وإن أثمرت خلت ثمرتها من المذاق اللذيذ. الشيخ سالم غيث أستاذه، شيخه، أخذ على يديه العهد، أن يسير سيرته، ولا ينقض العهد. هو يتحرك، يسأل، يجيب، وفي وجدانه أن شيخه معه، يفيد من كلماته وتعاليمه. المريد يسلم لشيخه بكل ما يقول، ولا يرد عليه كلماته، يتأسى به في سائر أحواله، يلجم لسانه — في حضرة شيخ الوقت — بالصمت، يخضع للهيبة، يلزم السكينة والوقار.

ربط نفسه بالشيخ، هو كل شيء في دنياه. يخلف شيخ الطريقة في غيابه، يقضي بما يحتاج إلى الفتوى، أو الرأي، أو النصيحة. ما يتطلب العرض على شيخ الطريقة، يحمله إليه، أو ينتظر قدومه إلى بيت الصوفية. لا أحب أن أفتي فيما لا أعلمه، ولا أهرف بما لا أحيط بكل جوانبه. يثق أن انقياد المريد — مهما تعلو مكانته — لشيخه، واجب ينبغي الحرص عليه. لا يناقش، يمتثل لأوامر شيخ الوقت، يجتنب نواهيه، بالكلام، أو بإيماءة العين.

لا أحد — في غياب الشيخ — يدخل حجرته، تظل مغلقة، يحتفظ عم حمود بمفتاحها، لا يسلمه إلا إلى شيخ الطريقة، أو الشيخ جاد الرب.

الحجرة في الطابق الأرضي، منفصلة عن بقية حجرات البيت، لها باب مستقل، يفضي إلى الشارع الخلفي، يستقبل فيها شيخ الوقت زواره من الرجال، ونافذة حديدية صغيرة، يستطيع الواقف وراءها أن يتعرف إلى من بالخارج.

هذا الرجل يعرف ما لا يعرفه الكثيرون — ولا أعرفه — من علوم الألوهية والرياضة والروحانيات والتنزيل والتأويل والفقه والسنن والأحكام والزهد والتصوف والروايات والتراجم والسير والأخبار. يعرف كذلك ما يغيب عن أفهام الكثيرين من علوم القياسية والبرهانية والجدلية والكيمياء والحيل والسحر. لم يترك كتابًا بلغته يداه من كتب الحكماء والعلماء والفقهاء والفلاسفة إلا حاول أن ينقل ما فيه إلى دماغه، يستوعب مفرداته ودقائقه وتفصيلاته. صفت نفسه من شوائب الماديات، فهو لا ينشغل بغير العبادة، والتقرب إلى الله. همه رؤية اللوامع والبوارق والنوازل واللوائح والطوالع. يدعو الله أن يضيء قلبه بأنوار اليقين. اليقين هو إيمان المرء بالتوحيد والإخلاص والصبر والتوكل والشكر. معرفة الصوفي يقينية، لأنه يأخذها من عين اليقين. يطيل جلساته في الخلوة، يتلقى فيوض المعرفة الإلهية.

هذا الرجل، قدوة الواصلين، خلاصة الصالحين من أولياء الله. جاهد النفس، حاربها بالجوع والعزلة والسهر والزهد في الدنيا والانقطاع عما تزينه العينان للنفس، فتتمناه. لم ينتقل من مقام إلى آخر، حتى بلغ الكمال في المقام الأول. يكثر من الاستشهاد بالقرآن، وأحاديث الرسول، والموازين الشرعية، وتفاسير العلماء، وأدلة العقل. يرنو ببصيرته إلى الملأ الأعلى.

روى جدي الذكريات عن مشيخة الشيخ سالم غيث للطريقة، وروى أبي ما يخص تلمذته على يدي الشيخ، رعى مريديه بما لم يعهدوه في مناقب الأقطاب الذين سبقوه. ثبتت في ذاكرتي حكايات من مريدين في الطريقة — عن مناقبه، تعددت الروايات عن مناقب، نسبت — وتنسب — إلى شيخ الطريقة من زمن بعيد. يجعل من مريديه أصدقاء، أحباء، يترك لهم فرصة، فهم ما يرون ويسمعون، لا يكون المريد في حضرة شيخه كالميت بين يدي مغسله.

أول ما يحرص عليه أن تخلو النفوس من كدورات الطبع، وظلمة الحس، يضن بالعلم أن تداخله تحريضات وتلميزات وشتائم. يطلب من المريد أن يكون عالمًا بالكتاب والسنة قدر طاقته، يحرص على طهارة الباطن بكثرة الاستغفار، والتوبة، والإنابة، والرجوع إلى الله، واتباع تعاليم الكتاب والسنة. حتى الذكر الذي حدد الشيخ أداءه في جلسة ما، يجب على المريدين أن يلتزموا به، لا يجاوزونه إلى أذكار أخرى، إلا إن أذن الشيخ.

أصيخ السمع جيدًا، فلا يفوتني شيء من عظاته. أغمض العينين، وأنصت. أركز على الإنصات.

جاوز شيخ الوقت ما التزمت به الطريقة من إصاخة الأسماع جيدًا، فلا يغيب شيء من كلماته، عدم مناقشة العظات التي تصدر عن الشيخ، ولا التعليمات التي يرسم بها خطوات المريدين. مشيخة الوقت أعلى درجات الوصول والقرب من الله، يصغي إلى نداء الحق، يتأمل — بعيني البصيرة — جلال الحضرة الربانية. لا يتبحر الشيخ في الأصول والفروع إلا ما تصح به طاعة الله. يخاطب الناس بما يعقلون، ويسهل فهمه. يشغله أن يفهموا من عظاته ما تطيقه أفهامهم. هو يأذن بالسؤال فيما يغيب عن الأفهام، ويجيب بما يمتلك من العلم الشرعي والتعاليم والتوجيهات والنصائح، وما في قلبه من المحبة، محبة تفيض عن أعداد المريدين، تسع كل خلق الله.

عهد إلى الشيخ صالح جاد الرب بإرشاد المريدين، وجمعهم على فعل الخير والطاعة. هو الواسطة بين شيخ الطريقة والمريدين. يوصي المريدين أن يتطهروا من النجاسات قبل بدء الحضرة، تهيؤًا للمثول بين يدي الله. خصص بعد صلاة العصر، في الثلاثاء من كل أسبوع، لرواة القصص الديني والحكايات والسير والقصائد والموشحات والتسابيح والإنشاد والابتهالات والأدعية. تضيق القاعة بزحامهم، ينتقلون إلى الساحة الصغيرة أمام البيت. عمله — بإرشاد شيخ الطريقة — تسليك المريدين، إدخالهم في الطريقة، تلقينهم الأذكار الخاصة والأوراد، توجيههم، تقديم المجاهدة، الاجتهاد في محو الصفات الرديئة، قطع العلائق بكل ما هو ذميم، حضهم على العمل الصالح، والحب في الله.

أعطاه الشيخ حق المصافحة، وحق إعطاء العهد، العهد قبول من المريد لما يفرض عليه من واجبات، التسليم الكامل لشيخ الطريقة، والالتزام باتباع تعاليمه، وطاعته، وأعطاه الشيخ حق الإجازة للمريدين، ينوب عنه إن تخلف عن الحضرة، يعرف تفصيلات يوم شيخ الطريقة، منذ الصحو إلى لزومه الخلوة.

اهتدى بهدي الشيخ سالم غيث، جعله القدوة الصالحة للوصول إلى طريق الله. اقتدى به في أقواله وأفعاله وأحواله. اعتقد في كل ما يتصل بالشيخ من الآراء والأقوال والأفعال. رفض الاعتراض في القضايا نفسها، حتى بالباطن، أو الغيبة.

وافقه صمت الشيخ سالم غيث على أن الغناء والسماع مقام للوصول إلى الله، ما يقتضي المجاهدة لبلوغه، وبلوغ مقامات التوبة والورع والزهد والحب والشكر والرجاء والفقر والصبر والتوكل والرضا. أذن للمريدين باستخدام الطبلة والدف والعود. رفض الآلات النحاسية، لأنها لا تليق.

يأخذهم السماع، يتواجدون، يشطحون، يتحركون، يتراقون على صوت المنشد، أو تناغم أصوات المنشدين.

قال الأشعل في لهجة محذرة: انحلال الشهوات والرغبات الجنسية، مصدره الأغنيات والسماع.

قال الشيخ سالم غيث: ألقي سيدنا إبراهيم في النار فظل على إيمانه.

عرفت أن الأشعل هو اليد التي تحرك الخيوط، هو الذي دبر ما حدث في شاطئ الأنفوشي، هو الذي دبر استدعائي إلى نقطة الشرطة، هو الذي دبر لقائي الرجل الأشقر في ميدان المنشية.

لما أبلغ الشيخ جاد الرب شيخ الطريقة بأفعال الشيخ محسن الأشعل، وشى صوت الشيخ سالم غيث بالحزن: لو أني أعلم أنه سيرتد عن الطريقة ما كنت أعطيته العهد.

رفض اقتراح جاد الرب بأن يفصل الأشعل من الطريقة: عندما يواجه الشيخ آراء تلاميذه بالعنف، فذلك دليل على أنه لا يملك تبريرًا لأفعاله.

استعاد سرحة في الأفق: الله يرى كل شيء، سنقف جميعًا بين يديه يوم القيامة.

الحضرة الأسبوعية يوم الثلاثاء، عقب صلاة العصر.

لم يكن يتيح مجلسه إلا لخواصه من العلماء وكبار المتصوفة والفقهاء والعلماء والمحدثين، يتبادلون الآراء والنصائح والمواعظ. يغادر حجرته إلى القاعة، أو إلى مسجد، يحضر مجالسه حتى غير مريدي الطريقة، يحرصون فلا يفوتهم شيء مما في كلماته، كأنهم وضعوا آذانهم في أعينهم، فهم يبصرون كلماته. ينهي — وقت أحاديثه — عن الكلمات الداعية والمستغيثة، وعن البكاء والنحيب والحركات العنيفة. يعظهم، يفسر آيات القرآن، وأسرار الأوامر الإلهية، ورموز الكتب المقدسة، وشرائع الأنبياء. يستشهد بأحاديث الرسول، يروي التراجم والسير، يتحدث في غرائب العلوم، ودقائق الإشارات، وعجائب الأسرار. يشير إلى حظوظ أهل الأرض من نظام الكون، ومن علوم الأفلاك والبروج والكواكب والنجوم والأركان، يكشف ما يحيط به علمه في طبقات الناس والحيوان والنبات والأرض والسماء والماء والنار والهواء والشمس والقمر والغابات والحقول والأنهار والبحار والجبال والمعادن، يستعيد ما لم يعشه المريدون من الحروب والثورات والجدب والقحط والمجاعات وانتشار الطاعون والزلازل والأوبئة، تبين الكلمات عن علمه بالطبيعة، وما بعد الطبيعة. ترتجف شفتاه في أحاديثه عن كسوف الشمس، خسوف القمر، سقوط النجوم، انطفاء الأنوار، غياب الشهب في أماكن لا ترى، انسدال الظلمة. ما يلي ذلك من البعث والحشر والميزان والصراط والحساب والجنة والنار. تطرق إلى العلوم الإلهية التي ربما غمضت عن الكثير من العلماء والصالحين. يتكلم عن حقائق الموجودات العلوية، والسفلية، والعرش، والكرسي. أضاف إلى حصيلته المعرفية، وعلمه، ما يسر له — في يقظته — مشاهدة الملائكة وأرواح الأنبياء، يسمع أصواتهم، يحاورهم، يأخذ منهم فوائد تعينه في حياته، وفي أمور الطريقة.

يعرف للمريدين قيمتهم، كثرتهم هي التي أنشأت الطرق، والفرق، وجعلت لكل شيخ مريديه. الفرق هي كثرة المريدين، وليست إرادة الشيخ، يحرص على الكلمات التي يسهل فهمها، يخاطب الناس على قدر عقولهم، ينطق الكلمات التي يأخذ الناس بظاهرها، يحيي أموات القلوب في ناس بحري. يطيب نفوسهم، يدعوهم، وعامة الحضور، إلى الحرص على تنقية الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والضار من النافع، وقضاء الحاجات، والسعي إلى العلم والحق والخير والنور. يكرر القول إن الدين لا يغني عن العلم، والعلم لا يغني عن الدين، لا قيمة لأي شيء إن اقتصرت حياتنا على أحدهما.

تمتد عظاته إلى السياسة، يتكلم عن الملوك والرؤساء والقادة والناس العاديين، لكنه لا يتخذ موقفًا سياسيًّا، يناقش، ويحلل، ويوضح، فلا يعبر عن ميل أو رفض، هذه هي الصورة كما أراها، أما رأيي فأنا أحتفظ به.

اجتمع المريدون معه على الكتاب والسنة. الطريقة تسد على الخلق، ما لم تقتف أثر النبي. يعبرون المقامات والأحوال والأذواق إلى حقيقة المعرفة، وصفاء التوحيد.

وأنا أتهيأ للسير وراءه، همس الشيخ صالح جاد الرب في أذني أن يكون أول ما أفعله مصافحة شيخ الوقت، تقبيل يده، لا أثبت نظري في عينَي الشيخ، لقاء الشيخ ذكر، والتأدب في الذكر شرط إتمامه.

مد شيخ الوقت ساعده لمصافحتي، حتى لا ألامس يده المبلولة بماء الوضوء.

احتوتني هيبته: قامته الطويلة، الأقرب إلى الامتلاء، التجاعيد الخفيفة أعلى الجبهة، وأسفل العينين، وحول الفم، الحاجبان الأبيضان، النظرة المحدقة فيما يصعب تبينه، الهدوء الذي يسم عظاته وتصرفاته، الشارب المحفي، الذقن الذي صبغه بالحناء، وإن أهمل تشذيبه. يرتدي عباءة ذات حواف فضية، فوق قفطان تلامس أكمامه أطراف الأصابع. يدير الحزام الأخضر العريض حول خاصرته. ويضع على رأسه عمامة بيضاء هائلة، ويدس قدميه في خف مغربي. يأمر بإشارة من رأسه، أو عينه، أو يده.

لم تتغير ملامحه كثيرًا عما أذكره في صباي، أجلس في الصفوف القريبة من دكة المبلغ، أتابع إيماءات الرأس، وإشارات اليدين، والصوت متعدد النبرات.

من كان هو ما أراه الآن، هو شيخ الصوفية، شيخ الوقت سالم غيث.

عرفته في روايات أبي، قرأ الشيخ بيومي الجارحي — خادم زاوية ميعي — سورة الفاتحة في أذنه عند ولادته. وجد أبوه في قراءة الشيخ ما دفعه إلى نذر الطفل للدين. أدخله الكتاب، ثم ألحقه بمعهد الورديان الأزهري، إلى نهاية الدراسة. تبدلت حياته بوفاة أبيه، خلفه في إدارة الوكالة بشارع الميدان. شاهده أبي في سني جلوسه داخل الوكالة، كرسيه إلى جانب الباب الرئيس، أوامره، تنبيهاته، تحذيراته، تلاحق عمليات النقل من الدائرة الجمركية، وإليها.

تابع اختراق الجلوات من ميدان أبو العباس — عبر شارع الميدان. إلى جامع الشيخ، ومواكب الجنازات في الطريق إلى مقابر العامود. شغله التعرف والتأمل والتعجب والولع والتشوف والتطلع والتعلق والتتبع والتآلف والود والمحبة والعبادة والذكر والصوم والقرب والزهد والورع والفناء والمجاهدة والسياحات الكثيرة.

أزمع أن يتخلص من هوى النفس. أكثر من التوبة والاستغفار. تطهر من الغفلات، وذاق حلاوة الإخلاص. سكنت نفسه روحانية. جمع همته في التوجه إلى الله تعالى، امتثل له بالكلية. امتلأ من عظمة الله. آثر إنهاء تجارته، نزع البدلة، استبدل بها الجبة والقفطان والعمامة، اعتزل الناس، انقطع إلى عبادة الله في حجرة داخل بيته، يخلو فيها إلى ربه ونفسه! وقراءاته، وإن تحققت له صلات روحية بأهل الطريق. سلك طريق الرياضات والمجاهدات. سعيًا لمحل مراتب القرب، مقام العارفين، مقام المشاهدة، مقام خاصة الخاصة، ينكشف له ما يناسب درجة الترقي. أخلص ليبلغ مقام العالمين، سبيله البحث والنظر والسؤال والتقصي ومحاولة الإثبات.

ارتقى المعارج، يخلو إلى التأمل والتفكير، يغيب عن الناس، وعن كل ما حوله، تعلو الروح عن كل ما يقيدها، تنطلق في فضاءات لا مرئية، يتحقق وجودها مع الله.

علت سن الشيخ حمزة أبو الحسن، فتهيأ لاعتزال المشيخة.

قال للشيخ سالم غيث: تعب من سبقوني، ولحقتهم بالتعب. لم يعد لدي ما أفعله.

ثم وهو يحاول إخفاء نبرة الأسى في صوته: حاول!

أخذ العهد والمبايعة من الشيخ في سلوك الطريق. شيخ الصوفية هو المرشد إلى الطريق الذي يجب السير فيه، طريق حكم القرآن والسنة في جميع الأحوال والأقوال والأفعال.

اكتملت ولايته بما أضافه إلى عاداته من العزلة والصمت والجوع والسهر. حاله الزهد، والعزوف عن الدنيا، وقطع العلائق بها. يخالطه الناس، يرونه بظاهره، لكنه حقيقة تظل مخفية عن الأعين، ستر الله أحواله عن نظرات الناس، فهو معهم بجسده، وفي رحاب السموات بقلبه. هام في حب الله، ينتظر الشوق إليه، لم يكن يبالي إن اعتبر الناس أفعاله لصالحهم من الكرامات.

أوكل للشيخ سالم غيث وراثة مشيخة الطريقة. واصل سلوكه في مدارج العارفين حتى مكانة شيخ الوقت.

لم يكن من عملي نظافة بيت الصوفية: قاعته وحجراته وأثاثه ومكتبته وسجاده وحصيره، ما يحتاجه من الشموع والبخور والمقشات والقدور والأوعية. تغيب عم حمود لمرضٍ ثلاثة أيام، حاولت محاكاة ما كان يفعله العجوز ذو الوجه المتغضن، والعينين الذابلتين، والخدين الغائرين، والملامح الأميل إلى الحزن.

أول ما يفعله — كل صباح — التقاط نسخة «الأهرام» من بسطة الباب، يضعها على طاولة للشيخ صالح جاد الرب، يتصفحها قبل أن يضعها على مكتب شيخ الطريقة. ينظف القاعة، والغرف الملحقة، يفرد الحصير والسجاد، يرتب الكراسي والطاولات الصغيرة. يهمل المواضع الخالية، فالملائكة تشغلها، تشارك المريدين أداء الذكر، بما يحفزهم إلى المواجيد والتجدد والأذواق والمعارف واستغراق المشاعر والإشراقات الروحية. يتصدر المكان كرسي شيخ الوقت، هو وحده الذي يجلس عليه. عدا الشيخ جاد الرب، لا أحد يؤذن له بالجلوس على كرسي شيخ الطريقة. أهم ما يحرص عليه وعاء البخور النحاسي، يضعه في منتصف القاعة تمامًا، تتضوع منه روائح البخور والمسك والصندل والعنبر. يتمدد تحت العمود القريب من باب الدخول، يضع ساعده تحت رأسه، يغلق عينيه، يتظاهر بالنوم، بينما يصغي إلى كل ما يدور حوله.

لم يكن يبدِّل جلبابه الزفير المخطط في الشتاء أو الصيف، إذا نزعه فلغسله، ويرتديه بعد أن يجف، يبدو مغسولًا، مكويًّا، في معظم الأوقات.

أعتذر عن قبول جلباب من الشيخ جاد الرب: اعتدت جلبابي.

علت شفتَي الشيخ بسمة إشفاق: عم حمود لن يرتدي جديدًا إلا عندما يلفونه في قماش الكفن!

لما أتعبه ظهره، ترك عمله عتالًا في الميناء، يحمل سفن البضائع، ويفرغها. عهد إليه الشيخ صالح جاد الرب بأمر بيت الصوفية. كأنه اعتاد تنفيذ الأمر، لا يسأل، ولا يناقش، ولا يقدم على شيء إلا أن يأمره الشيخ.

تراجعت لاصطدامي بأرفف المكتبة الخشبية، وتناثر ما عليها من كتب وأوراق.

الملف مثل مجلد قديم مهترئ الغلاف. خضرة غلافه بلا عنوان يتوسطها، ولا عناوين فرعية، لا أذكر إن كانت تلك هي صورته حين أودعته يد الشيخ جاد الرب، شغلني ما يضمه من أوراق أدركت قيمتها في تقليب الشيخ، نظرته المتفحصة، تحذيره الهامس، الخائف، من الأعين المتسللة.

قلبته.

استعصت قراءاتي لما سود صفحاته من الأرقام، والحروف الغريبة، والعلامات، والعبارات غائبة المعنى، والجمل الناقصة، وغير المترابطة.

حذرني الشيخ صالح جاد الرب من أن أعيد على أحد رواية ما حدث.

هذا سر ليس من حقك أن تبوح به لنفسك. لم تجد في الملف ما تفهمه، فأتيت به. من واجبي أن أقدمه إلى شيخ الطريقة، هو الذي يحتفظ به، أو يقرر ما يشاء.

تخلى الشيخ سالم غيث عن انحناءته، أغلق الدرج الصغير أسفل الكومودينو، وتنهد: أوراق من أحزاب الشاذلية.

– والملف؟!

وغلبني انفعال: الشيخ صالح جاد الرب وضع الملف في الدرج.

وتخللت شعري بأصابعي، أحسست تلبده بالرطوبة: ابحث جيدًا.

أهملت تغير سحنة الشيخ سالم غيث، ونظرات الغضب في أعين المريدين. أمسك ساعدي، ومضى بي إلى حجرة جانبية.

– الملف في يد قوي أكبر مني ومنك ومن الجميع.

– الشيخ صالح طلب الملف، وأعطيته له.

قال شيخ الطريقة: تصفحته، مجرد أوراق مليئة بالطلاسم والرموز.

همس بنبرة مشفقة: إنهم لا يريدون الملف، بل يريدون صمتك!

العين الراصدة التقطت تفصيلات اللحظة: سقوط الملف على أرضية الحجرة، انتقاله من يدي إلى يد الشيخ صالح جاد الرب، خضوع الأشعل للتصور بأن المضمر سيبين، ينكشف الشطح والرموز والإشارات والألغاز والأسرار والرؤى الغائبة، في قراءة ما بداخل الملف من أوراق.

تمنيت لو أن كل شيء من حولي يتغير، أعود إلى ما قبل بيت الصوفية، أظل في شونة ستاني، لا أتركها، ولا يشغلني احتمال ما.

– قلت وأنا أشير إلى نفسي بأصابع مضمومة: أنا لم أتكلم.

شابَ صوته الهادئ تغيُّر: هذا ما يخشونه.

– لماذا الملاحقة إذن؟

– يتصورون مثلما تتصور أن الحصول على الملف غاية كل شيء!

إنهم يلاحقونني بما لا أستطيع رده.

– إذا أعلنت عجزك فسينقشعون كسحابة عابرة.

وجاوزني تهيؤًا للصلاة: انسَ الملف الضائع، اصنع لنفسك ملفك الخاص، عد إلى ما تعيشه، وليس إلى ما عاشه الآخرون.

علا صوته وهو يتثبت من موضعه في مقدمة المصلين: استقيموا يرحمكم الله.

تلاصقت الصفوف، وتلامست الأكتاف.

تعالى صوت شيخ الوقت: الله أكبر.

وبدأ الصلاة.

ربما لو أني تركت بيت الصوفية، فستطالعني حياة جديدة، لا ترتسم في مخيلتي بملامح محددة. أبتعد عن كل ما يحيط بي، ألوذ بنفسي، أخلو إليها، لا أعاني التلفت.

قبل أن أخطو إلى خارج البيت، لحقني الشيخ صالح جاد الرب. أمسك ساعدي، وهمس بلهجة مترفقة: هل ستظل في حيرتك؟

تقافزت الكلمات في فمي، لكنني لم أعرف كيف أنطقها، كيف أعبر عما بداخلي، فلا يساء فهمي.

حثني على الكلام بنظرة صامتة.

غلبني القهر: المطاردة هي ما أعانيه.

وهو يدفع بي إلى خارج البيت: أنتظرك غدًا في صلاة الظهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤