عندما تتحرك الظلال

مضت — بقامتها القصيرة، الممتلئة، والإيشارب الذي أخفى معظم شعرها الأسود، وجانبًا من وجهها — في شارع الأباصيري. مالت — قبل نهاية الشارع — في شارع جانبي ضيق، ألقت السلام على البقال الملاصق لباب البيت، ودخلت.

تنقلت بين الورش وهياكل السفن والقوارب المقلوبة وألواح الخشب والغزل والحبال وكومات الحجارة وقعدات الصيادين وباعة الشاطئ. بدت الملامح مطموسة، أو غائبة، حتى الاسم لا أعرفه.

ابتسم — لارتباكي — الرجل ذو السروال الأبيض، الفضفاض، يعلوه قميص وصديري مزدان بأزرار صغيرة متجاورة: هل استهواك القزق؟

وغمز بعينه: إن أردت فاتن فابحث عنها في شارع الأباصيري.

لحق ابتعادي بالقول: أنت تبحث عن فاتن مقدمة الشاي لأسطوات القزق. هي الآن ملكة متوجة في بيت الأشعل.

التقطت الاسم.

هذه إذن هي الفتاة التي دست عليَّ اتهاماتهم بما لم أفعله.

أول رؤيتي لها، وهي تلتفت ناحيتي في اتجاهها إلى البحر، فطنت — بعد فوات الأوان — إلى الصلة بين النظرة والمشية المتأودة. أخذني التمشي على الشاطئ، علا الصراخ، تبينت الجسد الذي يصارع الغرق، نسيت حتى التردد في داخلي، نزعت ملابسي، وجريت ناحية البحر.

عاودت السير في شارع الأباصيري من أوله، أسأل أصحاب الدكاكين، والجالسات على أبواب البيوت، والمطلات من النوافذ. أصف المرأة كما أتذكرها، أهمل الملاحظات المؤنبة للسؤال عن سيدة. ما أريده هدف لا قيمة للمعاناة في فك ألغازه.

قال لي الرجل من وراء الضباب الذي صنعته صينية الهريسة: تريد فاتن؟

أردف لنظرتي المتسائلة: نسيت اتهامها لك؟!

أصابني تبلد، لم أعد قادرًا على الكلام، ولا الحركة، ولا فعل أي شيء.

وهو يشير بيده ناحية السيالة: بيت الأشعل في حارة المزار. ستعود من الطريق نفسه.

واصطنع لهجة إشفاق: خذ حذرك. لا جزء في جسدها يخلو من عضة شاب!

ظللت في وقفتي أعلى دحديرة أبو العباس، حتى عاد الهدوء إلى المكان، لا مارة، ولا أعين في النوافذ أو مداخل البيوت، والدكاكين الثلاثة المتجاورة مغلقة.

منذ صحبني الشيخ جاد الرب خارج نقطة الأنفوشي، لم تعد المرأة شاغلًا لي. قال الشيخ للضابط ما أقنعه.

عرفت في حكايات خواص المريدين، من يرفضون أقوال محسن الأشعل وأفعاله، ما لم أكن أعرفه.

فاجأته زوجته — في عودته إلى البيت — بالتقاط كوب من الطاولة أمامها، قذفته ناحيته بآخر عزمها.

– لماذا تركت حبيبة القلب؟

أدرك المعنى. حاول لملمة نفسه: أنا لم أتركها. أنت حبيبة قلبي.

علا صوتها: هل تظن عطارتك تعوض ما فقدته؟!

وضعت سبابتها على فمها، كي لا يرد. استطردت: أنت تلعب في الوقت الضائع!

ارتعشت يدها بفنجان القهوة، أعادته إلى الطاولة، وأكملت كلامها: إن أردت عشيقة فأحسن الاختيار. البحر يشغي بالأسماك الجميلة!

أدركت — حين رأتها في الحلقة — أنها خلقت للعشق، جسدها الخالي من الانحناءات والتكويرات التي تغيب عن جسمها الممتلئ، والبحة المنغمة في صوتها. وصف الريس رجب أبو علي ضحكتها في داخل الحلقة بأنها تطير العقل. تظاهر الشيخ الأشعل برعاية المرأة لشيء في نفسه، هي خالية من الجمال، يا وحشة كوني نغشة، ذلك ما تفعله المرأة، طبيعتها الأنثوية تداري — بالأصباغ والتقصع — دمامتها الواضحة.

تعرف أنها تقترب من السن الذي تتجه فيه نظرات الرجال إلى نساء أخريات. ربما ذلك ما يفعله زوجها. لم يكن حبه لها يمنعه من إقامة علاقات أخرى، جانبية أو عابرة. فتشت في ملابسه، وفي أوراق العمل. لم تجد وثيقة الزواج التي تؤكد تخمينها، لكن الهاجس لزم رأسها. عمق خوفها أنه خصص للمرأة شقة في بيت يملكه، ربما لو أنها انتظرت، فستأتي المرأة، وتأخذ مكانها في البيت. إذا تحدى الشيخوخة، وأغوته الصرمحة، فسأريحه مما بين فخذيه!

قلص التأثر أمعاءها، شعرت بتهيؤ للقيء، وارتعاشة في جسدها، حين أبلغها أكبر أبنائه أن المرأة لجأت إلى التعاويذ لتطليقها.

تبع الولد روايته بالقول: احذري. فاتن ليست ككل النساء!

ثم وهو يغالب حرجه: قال الريس مأمون البنا — لما أغرى بها مهندس الحي: رشوة النقود تزول بإنفاقها، جسدها رشوة عينية محترمة، لا تُنسى.

رمقته بعينين مشتعلتين: تنسى بيتك مع امرأة كل الرجال.

والتوت شفتاها في ابتسامة ساخرة: نسيت أن ابنك أطول منك؟!

قصدته في بيت الصوفية، تطلب وساطته لموافقة الحي على إقامة الكشك بين الورش. استغرقه قوامها وملامحها وتأودها. سألها عن أسطوات القزق: هل يحسنون معاملتها؟ عن أهلها في كرموز، مشوارها اليومي ما بين البيت والأنفوشي.

تكررت زياراتها بالأوراق المطلوبة. زارها في الورش. قدمت له الشاي من الكشك المغروس في الرمال، ألواح الصاج، وخشب الصناديق، والورق المقوى.

رسم على وجهه أمارات التشكك.

– إذا هبت النوة فستزيل الكشك.

أعاد بناء الكانتين، رص في الأرفف أكياس العطارة، ما يحتاجه ناس البحر لمغالبة الإجهاد والتقوية. أضاف عبوات من اللبن الجاف والملح والسكر والشاي وعلب البولوبيف. لطول المشوار بين القزق وبيت أهلها في كرموز، أخلى لها شقة من غرفة وصالة في حارة المزار، الواصلة بين شارعي الأباصيري ومحمد كريم.

أدركت أنه أحبها.

قدمت من ناحية ميدان الأئمة، أطلقت بلوزتها القطنية خارج البنطلون الجينز الضيق، كأنها خاطته حول ردفيها، ولها مشية مترجرجة.

المفاجأة ما دبرته لمواجهتها، تراني أمامها، لا تجد وقتًا للهرب، أو للاستغاثة. إذا التقينا في الشارع، فإنها قد تصدمني بما لم أعدَّ له نفسي، ولا تصورته. ربما واجهتني بالعداء من قبل أن تلتقي، الأعين.

التقطت ما حولي بنظرة ملهوفة، ودخلت.

وضعت كفي على فمها، فلا تتحول الشهقة إلى صراخ.

غطت جانب وجهها الأيمن بإيشارب، تحاول مداراة ما يبدو تهدلًا في عينها وزاوية فمها. لا أذكر كيف كانت على الشاطئ، ولا إن كان ما أصابها قديم. ما أعرفه أن حياتي متعلقة بما تعلمه، وتخفيه.

– من أنت؟

همت بالكلام، ثم سكتت.

أعياني البحث. تعددت الروايات عنها، أصلها وفصلها، والمؤامرة التي جرت من بعدها تهديدات كثيرة، ها هي ذي أمامي، واقفة، تخفي بالإيشارب ملامحها.

وهي تجاهد لتهدئة أنفاسها المتلاحقة: كيف عرفت مكاني؟

وأنا أزفر: دخت؛ حفظ الناس سحنتي!

وحدجتها بنظرة متسائلة: هل رأيتني قبل ذلك اليوم؟

وأشرت ناحية النافذة.

ارتعشت شفتاها كما لو كانت تهم بالكلام، ثم لزمت الصمت.

أعدت السؤال: من أنت؟

غالبت ترددها: أعرفك من قبل أن ألتقيك!

استعدت الكلمات التي لحقني بها ذو السروال الأبيض، الفضفاض، والقميص والصديري: هي سمكة تجيد العوم في فراش أي رجل.

من هذه المرأة؟

أدرتها من كتفيها في مواجهتي: من دبر ما حدث؟

حدست — ربما — أني سأصفعها، رفعت ذراعيها — بتلقائية — تتقي الصفعة.

أزاحت الإيشارب.

حدقت، أبحث عما تحاول إخفاءه. شعرها المصبوغ بالحمرة لا يتناسب مع بشرتها السمراء. الوجه على غير ما تصورته، النمش الخفيف يغطي معظم وجهها، الحاجبان على شكل قوسين رفيعين. ظللا العينين بلون أزرق فوسفوري. حددت شفتيها بحمرة داكنة.

هي المرأة التي استغاثت بي في شاطئ الأنفوشي. لماذا تتخفى؟ وممن؟ ومن الذي حرضها على ما فعلت؟

قاومت رغبة في أن أنتف شعرة طويلة في الشامة أسفل ذقنها.

عدلت الطرحة السوداء فوق رأسها.

– لاحظت ميلك لمراقبتي، أخشى أن يجرك ما تحاوله إلى إيذاء نفسك.

بسطت ذراعيَّ بامتدادهما: ليس أشد من هذا الأذى.

واجهتني بعينين مشتعلتين: ما لم ينالوا ما يريدون فسيظل الخطر أكبر مما تتصوره.

أدركت من لهفة عينيها، أنها تنتظر أن أحكي ما أعرفه، أدلها على ما أرهقني إخفاؤه. تنبهت — في لحظة لا أذكرها — إلى تعاطفي مع كلامها. حكت وقائع استدعت ما عانيته في وحدة صباي، حتى تكفل الشيخ برعايتي.

أزمعت أن أظل صامتًا، فلا أبوح بما قد أعاني تأثيراته.

أطلقت «أف» غاضبة: فتحت الأبواب على ما لم يدُر في بالي، ولا تصورته، امتدت التهم باتساع العالم: مداراة أفعال الفتوات وباعة المخدرات في قبو الملاح والبلقطرية، اغتصاب طفل في خرابة شارع سراي محسن باشا، تهريب بضائع من الدائرة الجمركية …

من الذي دبر ذلك، ووضعه على الأفواه؟

اقتحمني الارتباك من نظرتها المحدقة: سأفعل أي شيء لأنقذ نفسي من الجنون.

– ليس أمامك إلا الابتعاد بنفسك.

أردفت بنبرة مستهزئة: أنت لا تستطيع الدفاع عن ثيابك الداخلية!

وداخل صوتها إشفاق: لماذا لا تعطيهم ما يريدون. تنقذ نفسك، وتبعد عن تهديداتهم. بدت الكلمات مألوفة، كأني سمعتها من قبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤