الفصل العاشر

ثقافَته

تُعرف ثقافة الرجل المثقف بعلامات كثيرة، ولو لم تكن لها بالفكر والاطلاع صلة ظاهرة.

وندَر أن يظهر من الإنسان أثر محسوس إلا كان فيه علامة من العلامات على نصيبه من ثقافة زمانه.

على أن هذه العلامات تتفاوت في الدلالة كما تتفاوت في القيمة، وأدلها وأقومها — فيما نرى — كلام الإنسان ورأيه في كلام غيره؛ لأن الكلام صورة نفسية وقدرة عقلية في وقت واحد. فهو يكشف عن نفس قائله كما يكشف عن قدرة عقله ومبلغ عرفانه بتصوير خلجات قلبه وخطرات ذهنه، فتقديره لكلامه وكلام الناس ميزان صادق لتقدير الرجل في جملة أحواله وأفعاله، وعلامة على الثقافة الروحية والفكرية قلما تضارعها علامة أخرى.

وتقدير الكلام من أصدق العلامات على ثقافة الصدِّيق، سواء نظرنا في وزنه لكلامه أو في وزنه لكلام غيره، أو في وزنه للكلام عامة من حيث هو جزء من «الشخصية الإنسانية» يحرص عليه المرء كما يحرص على مقومات نفسه.

فالصديق كان أحرص الناس على كلام يبدر من لسانه، وكان أعلم الناس بموضع كلام الرجل من مروءته وشرفه، فكان قوله نزرًا، ووصيته بالإقلال من المقال أسبق وصاياه إلى ولاته وعماله.

قال لخالد بن الوليد: «أقل من الكلام فإنما لك ما وعي عنك.»

وقال ليزيد بن أبي سفيان: «إذا وعظتهم فأوجز، فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضًا.»

وكان يقول: «إن البلاء موكل بالمنطق» ويجتنب التزيد في المقال كما يجتنب التعرض للبلاء.

كان أقرب الصحابة إلى النبي عليه السلام وألزمهم له في نهاره وليله، ولكنه على هذه الملازمة لم يرو من الأحاديث النبوية إلا نيفًا ومائة وأربعين حديثًا لم يتجاوز ما أثبته البخاري ومسلم نحو سبعها.

وقيل في تعليل ذلك أنه رضي الله عنه مات قبل تدوين الأحاديث.

وهو تعليل يُرد عليه أنه كثيرًا ممن سمعوا الأحاديث النبوية ماتوا كذلك قبل الاشتغال بتدوينها، وإنما هي قلة كلامه فيما نرى أَقَلَّتْ ما سمع الناس عنه فحرروه ونقلوه.

ذلك وزنه للكلام عامة من حيث هو ملكة نفسية وجزء من الشخصية الإنسانية.

أما كلامه هو فمن أرجح ما قيل في موازين الكلام، سواء في ذلك موازين البلاغة أو موازين الخلق والحكمة، وله من جوامع الكلم أمثلة نادرة تدل الواحدة منها على ملكة صاحبها فيغني القليل منها عن الكثير كما تغني السنبلة الواحدة عن الجرين الحافل، حين تكون المسالة مسألة الدلالة على المنبت والنبات.

فحسبك أن تعلم معدن القول من نفسه وفكره حين تسمع كلمة كقوله: «احرص على الموت توهب لك الحياة.»

أو قوله: «أصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة.»

أو قوله: «خير الخصلتين أبغضهما إليك.»

أو قوله: «الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله.»

أو قوله: «إذا فاتك خير فأدركه، وإن أدركك فاسبقه.»

أو قوله: «لا تخزن عن المشير خبرك؛ فتؤتى من قبل نفسك.»

أو قوله: «ليست مع العزاء مصيبة.»

فهي وما أثر عنه من أمثالها كلمات تتسم بالقصد والسداد، كما تتسم بالبلاغة وحسن التعبير، وتنبئ عن المعدن الذي نجمت منه فتغني عن علامات التثقيف التي يستكثر منها المستكثرون؛ لأن هذا الفهم الأصيل هو اللُّباب المقصود من التثقيف.

وكانت له رضي الله عنه لباقة في الخطاب إلى جانب هذه البلاغة في الكلام، وهذا الجد في وزن المقال.

عزَّى عمرَ في طفل احتسبه فقال له: «عوضك الله منه ما عوضه منك»

وسال رجلًا يحمل ثوبًا: أتبيع هذا الثوب؟

فأجابه: لا عافاك الله!

قال: هلا قلت: لا وعافاك الله.

وهذا تمام البصر بالكلام، قصد في العبارة، ووزن للكلام، وذوق في الخطاب، ولا تتعرف النفس المثقفة إلى الناس بآية هي أقرب من هذه الآية وأحق منها بالتصديق.

ومن السهل على من يملك هذا البيان في كلامه أن يتتبع شواهد البيان في كلام الآخرين.

ولعل الصديق قد ملك هذا البيان؛ لأنه طبع عليه وطبع على حبه فتتبعه في كلام البلغاء من الخطباء والشعراء.

فكان يروي الشعر ويحفظ الأمثال ويراجع النبي عليه السلام في الأبيات التي يبدل مواضع كلماتها ليخرجها عن وزنها، ومنه — لا ريب — قبست السيدة عائشة ذلك القبس من مأثورات الشعر والخطب — فيما كانت تتمثله وترويه، وإليه ترجع السليقة التي ظهرت في ذريته ومنهم ولداه عبد الله وعبد الرحمن وكانا ينظمان الأبيات بعد الأبيات.

وهو نفسه لم ينظم الشعر فيما أجمع عليه الثقات، ولكنه — وإن لم ينظم — قريب السليقة ممن قالوه ولو بالتذوق والحفظ والرواية.

ولهذه الثقافة مراجعها التي ترجع إليها أفضل ثقافات زمانه في الجزيرة العربية.

طبع سليم وملاحظة صادقة وخبرة بالدنيا من طريق المعاملة والسياحة، وإصغاء إلى الحسن من القول، والوثيق من الأخبار، وعلم بالأنساب والتواريخ مشهور بين المشهورين من أربابه، واستيعاب للقرآن كله ولفقه الدين كله، ودراية بما استوعب من معانيه عن فهم وعن سماع ممن نزل عليه القرآن الكريم، صلوات الله عليه.

قرأ يومًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: ١٠٥].

فقال: إنَّ الناس يضعون هذه الآية في غير موضعها، ألا وإني سمعت رسول الله يقول: «إن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، والمنكر فلم يغيروه، عمهم الله بعقابه.»

وسأل أصحابه يومًا: ما تقولون في هاتين الآيتين: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف: ١٣]. والَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [الأنعام: ٨٢].

قالوا: لم يلبسوا إيمانهم بظلم الخطيئة.

فقال: لقد حملتموها على غير المحمل: استقاموا فلم يلبسوا إيمانهم بشرك.

وإن فقه القرآن لينبوع يستمد منه الصديق في سلامة طبعه وصفاء ذهنه مددًا يرجع بأمداد.

فثقافته في زمانه هي ثقافة الفقيه الأديب المؤرخ بما اصطلحوا عليه من معنى التاريخ في ذلك الزمان.

ولا يتشابه معنى التاريخ عندهم ومعنى التاريخ عندنا كما نتوسع فيه اليوم، ولكنَّ النسب الذي كان يعلمه الصديق كان هو النسب المحيط بالمحامد والمثالب في القبائل العربية كافة، وهو أنفع ما في علم التاريخ حين يراد بعلمه الطموح إلى منزلة الحمد والسمعة الرفيعة والتنزه عن معارض الذم وقَالَةِ السوء، وكذلك كان علم الصديق بأنساب العرب أجمعين.

لما خرج النبي عليه السلام ليعرض نفسه على القبائل في أول الدعوة الإسلامية كان معه أبو بكر وعلي بن أبي طالب أسبق الناس إلى الإسلام.

قال عليٌّ رضي الله عنه: «فرفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر فسلم، وكان مقدمًا في كل خير، وكان رجلًا نسَّابة فقال: ممن القوم، قالوا: من ربيعة، قال: وأي ربيعة أنتم؟ أمن هاماتها أو من لهازمها؟

قالوا: من هاماتها العظمى.

قال: وأي هاماتها العظمي أنتم؟

قالوا: من ذُهل الأكبر.

قال: فمنكم عوف بن مُحلِّم الذي يقال فيه: لا حر بوادي عوف؟

قالوا: لا.

قال: فمنكم المزدلف الحر صاحب العمامة الفردة؟

قالوا: لا.

قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو القرى ومنتهى الأحياء؟

قالوا: لا.

قال: فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟

قالوا: لا.

قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالب أنفسها.

قالوا: لا.

قال: فمنكم أصهار الملوك من كنْدة؟

قالوا: لا.

قال: فمنكم أصهار الملوك من لخْم؟

قالوا: لا.

قال أبو بكر: فلستم ذهلًا الأكبر. إنما أنتم ذهل الأصغر.»

وكان هذا علمه بأنساب كل قبيلة ومحامد السابقين منها ومثالبهم ولا سيما قريش ومن جاورها. ولهذا كانوا يقولون كلما سمعوا أبياتًا من الشعراء المسلمين يردون بها الهجاء على المشركين: هذا تلقين ابن أبي قحافة وما عداه؛ لأنه كان في هذا العلم بين قريش عامة بغير نظير.

ونحن لا ننتظر بداهة من كل رجل تيسرت له هذه المراجع أن يبلغ من الثقافة مبلغ أبي بكر الذي تدل عليه أقواله وأعماله وخلائقه وسجاياه. ولكننا إذا علمنا أن تلك مراجعه وأن ذلك مبلغه فقد علمنا شيئًا آخر نقصده ونتحراه، وهو أنه رجل خلق من معدن العظمة والامتياز، ولم يخلق رجلًا كسائر الرجال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤