الفصل الحادي عشر

الصدِّيق في بيتِهِ

من السهل بعد مراجعة يسيرة لحياة الصديق في جملتها أن نعلم أنه «رجل بيت» أو «رجل أسرة» وأن أواصره البيتية لا تستند إلى الشعور بالواجب وحده، ولكنها تستند مع الشعور بالواجب إلى الشعور بغبطة القرابة ومودَّة الرحم ونعمة الألفة والمصاحبة، فلم يكن ولدًا بارًّا؛ لأن البر بالآباء واجب وكفى، ولا أبًا رحيمًا؛ لأن الرحمة بالأبناء غريزة وكفى، ولا زوجًا وفيًّا لأن الوفاء للأهل واجب وكفى، ولكنه كان كذلك كما كان في جميع أواصره وعلاقاته: رجلًا يشعر بالغبطة في جوار أبناء جنسه، ويأنس للصحبة في جو الشعراء والأصدقاء، ويتجلى فيه خلق الإنسان «الاجتماعي بطبعه» على أخلصه وأوفاه.

عُرف بره بأبويه في الجاهلية، فلما أسلم وصاحب النبي عليه السلام جمع بين بر الفطرة والحنان وبر الواجب والفريضة، واطمأن إلى هذا البر كما يطمئن صاحب الخير الذي لا جزاء عليه أن يصبح وله من الحظوة الإلهية أجمل جزاء.

وعرف عطفه على أبنائه طوال حياته، فما داخلته في عطفه عليهم قسوة أو شدة إلا أن يكون ذلك بدافع من العقيدة أو وازع من التأديب.

قال له بعض أبنائه — وقد كان يقاتل مع المشركين: إنني كنت أراك فأتحاماك.

فقال له: لكنني لو رأيتك لما تحاميتك.

وكان بين عائشة والنبي كلام. فسألها: من ترضين أن يكون بيني وبينك؟ أترضين بأبي عبيدة بن الجراح؟

قالت: لا. ذلك رجل هيِّن يقضي لك.

قال: أترضين بأبيك؟

قالت: نعم.

فلما جاء أبو بكر قال رسول الله: اقصصي!

فقالت: بل اقصص أنت.

فأخذ رسول الله في إعادة ما جرى بينهما من كلام، وبدرت من عائشة كلمة لا تعنيها فقالت: اقصد، أي التزم القصد ولا تزد في الرواية، فرفع أبو بكر يده فلطمها وانتهرها مغضبًا: تقولين يا بنت أم رومان: اقصد! من يقصد إذا لم يقصد رسول الله! وجعل الدم يسيل من أنفها ورسول الله يحجز بينهما ويقول لصديقه: إنا لم نرد هذا. حتى انصرف برضى من رسول الله. فقال لها ما معناه: رأيت كيف أبعدك الله منه! أو قال لمثل هذه المناسبة: «رأيت كيف أنقذتك من الرجل!»

ففي هذا وأمثاله يشتد أبو بكر على بنيه وهي شدة قد تقترن بالرحمة ولا تحجبها إلا إلى حين.

وكان لصدق شعوره بالأبوة يحس ما يحتاج إليه الوليد في نشأة الطفولة ويزوِّده بتلك الحاجة ولو أغضب الآباء، وهم عنده أصدق الأصدقاء.

فلما أخذ عمر بن الخطاب ابنه عاصمًا من أمه المطلقة تخاصما إليه فقضى بالوليد لأمه وقال لعمر: «ريحها وشمها ولطفها خير له منك.» فكان غاية الرحمة وغاية العدل في آن، وإن رجلًا يعدل حين يَهم بالجور عمر لهو من العدل بمكان لا يُسامى.

وكادت الصداقة عنده أن تكون أخوَّة أو بنوَّة. فكان يتحدث عن عمر يومًا فإذا هو يقول كأنما يتحدث إلى نفسه: «والله إن عمر لأحب الناس إليَّ …»

ثم خشي أن يكون في قوله ما يمس الصدق الذي فطر عليه فسأل من معه وفيهم عائشة: كيف قلت؟ فأعادت له عائشة ما جرى به لسانه، فاستدرك قائلًا: اللهم أعز والولد ألوط، أي ألصق بالقلب وأدنى.

•••

وقد بنى أبو بكر بزوجتين في الجاهلية وزوجتين في الإسلام، منهن أم رومان وهي أم ولديه عبد الرحمن وعائشة رضي الله عنهما، ومنهن حبيبة بنت خارجة التي مات عنها وهي حامل، فولدت بعد موته أم كلثوم.

ومن أولاده — غير عبد الرحمن وعائشة — عبد الله الذي كان يأتيه بأخبار قريش حين هاجر مع النبي إلى المدينة. وقد جرح بالطائف ومات بجرحه بعد انتفاضه. وكان فيه شجاعة وأدب ورقة، وله شعر حسن يروى بعضه في زوجته المطلقة عاتكة بنت زيد وقصته معها من أدلِّ أخبار هذه الأسرة على شعور أبي بكر بالأبوة والزوجية والواجب في وقت واحد، وأن المغالبة بين الرحمة والواجب في نفسه كانت مغالبة سجال.

وقد كانت عاتكة من أشهر نساء عصرها بالجمال والعقل والفطنة، ففتن بها عبد الله وشغل بها عن مصالحه وشئونه، فنصح له أبوه بطلاقها فطلقها، فما زال حتى ندم وألح به الندم على فراقها، وقال من شعره فيها:

أعاتك، لا أنساك ما ذر شارق
وما لاح نجم في السماء محلق
أعاتك، قلبي كل يوم وليلة
لديك بما تخفي النفوس معلَّق
لها خلق جزل ورأي ومنصب
وخلْق سويٌّ في الحياء مصدق
ولم أر مثلي طلق اليوم مثلها
ولا مثلها في غير شيء تطلَّق

فرحمه أبوه وأمره بمراجعتها، فراجعها. فكان أبو بكر في هذا نموذجًا مقابلًا لنموذج عمر في هذه الناحية من الخلائق والوشائج القلبية، كما كان نموذجًا مقابلًا له في خلائل شتى ووشائج أخرى؛ إذ كان عمر ينعي على ولده أنه عجز عن طلاق امرأته، وعدَّ ذلك من مآخذه حين رشحه بعضهم للخلافة بعده.

ولم يكن لزوجات أبي بكر ما يشتكينه منه غير الإقلال من النفقة والقصد في المعيشة، ففي اليوم الذي اجتمعت فيه نساء النبي عليه السلام يطالبنه بالمزيد من النفقة كانت بنت خارجة زوجة أبي بكر تطالبه هذه المطالبة، فيغضب منها، ويلوي عنقها، ويذهب إلى النبي فيحدثه بحديثها ليسري عنه وقد رآه بين أمهات المسلمين على مثل تلك الحالة؛ فكأنما كنَّ جميعًا على ميعاد.

ولم يكن أبو بكر مقلًّا من المال، ولا عاجزًا عن كسبه قبل الخلافة ولا بعدها، فقد أنفق في سبيل الإسلام أربعين ألف درهم، وما زال ينفق من ماله في شراء الأكسية والأطعمة وتوزيعها على الفقراء ولا سيما في الشتاء، ولكنه آثر متاع روحه على متاع جسده وكره أن يعيش في بيته خيرًا من معيشة نبيه وصفيه، وكان يبغض السرف فيقول: «إني لأبغض أهل البيت ينفقون رزق الأيام في يوم …»

فلو بقى له من المال ما يجاوز به حظه من النفقة لما جاوزه وهو يرى أمامه مثل النبي، ويجب أن يكون مثلًا لمن معه، ومن بعده من خلفاء الإسلام، وعامة أتباعه.

وقد تعددت الروايات عما قسم له من الرزق بعد الخلافة وكيف قسم بمشورة من حضر من جلَّة الصحابة، ومنهم عمر وعثمان وعلي وأبو عبيدة. ولكن الروايات متفقة على قصده في بيته واجتنابه للسرف في معيشته، وأنه كما قال: «لم يَعْدُ سَدَّ الجوْعة وورْي العورة وقواتَةَ القِوام.»

ومات وليس عنده مدخر يذكر، فقال عمر: «رحمه الله. لقد أتعب من بعده.» يريد أنه ألزمهم قدوة تتعب ولا تريح.

•••

ونحسب أن النشأة في حياة أبي بكر البيتية لا تتمثل في شيء كما تتمثل في نشأة بنتيه عائشة وأسماء رضي الله عنهما. فأما عائشة فقد فارقت بيت أبيها وهي في نحو العاشرة أو أكبر من ذلك بقليل كما استخلص بعض المؤرخين من مراجعة التواريخ الكثيرة، فإذا هي في تلك السن قد وعت ما وعته من الشعر البليغ والأمثال السائرة والأخبار النادرة، وقد نضجت لمصاحبة النبي والوعي عنه والدراية بالمأثور من كلامه، وكانت بعد ذلك مرجعًا من مراجع الفقه والسنة خليقًا باعتماد الثقات الأجلاء.

ومن الناس من تعود أن يتخيل عائشة رضي الله عنها جارية صغيرة حظيت عند زوجها عليه السلام لجمالها وصغرها وصداقة أبيها، ولكنها — ولا ريب — لم تبلغ هذه الحظوة عنده صلوات الله عليه إلا أنها الزوجة الكفء لبلوغها والمحافظة عليها، وكانت تعرف من أدب الزواج ما يجمل بمكانها، وتعرف من ملاطفة الزوج مداخل قلبه ومواطن رضاه، وربما دللت زوجها ولم تترك له وحده مسرة تدليلها. فمن ذلك في روايات تختلف في النقل، وتتفق في هذا المعنى أنه كان عليه السلام يصلح نعله في يوم قائظ فتندى جبينه، وتحدر العرق على خده، وهي تلحظه من قريب وكأن بها وجدًا عليه. فسألها: ما لك بُهت؟

فقالت: لو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بقوله.

فعاد يسألها: أي قوله؟

فأجابته: حين يقول:

ومبرَّأ من كل غبر حيضة
وفساد مرضعة وداء مُغيل
وإذا نظرت إلى أسرَّة وجهه
برقت بروق العارض المتهلل

فقام النبي إليها يقبل ما بين عينيها، ويقول لها: سررتني يا عائشة سرك الله.

فهي أبعد شيء عما يتصوره النقاد الأوروبيون حين يصورونها لقرائهم لعبة صغيرة بين يدي رجل كبير يدللها ولا تفاهم بينه وبينها، ولكنها الزوجة التي تكافئ الزوج في حياته المنزلية، والمرأة التي تبادل الرجل عما عنده من شعور، والتلميذة التي تتلقى عن أستاذ عظيم فتحسن التلقي عنه، وهي من جميع هذه الجوانب مثل صالح للنشأة البيتية في أسرة الصديق.

•••

أما أسماء — ذات النطاقين — فما حمد الناس فضيلة للمرأة بنتًا وزوجًا ووالدة إلا كانت فيها على أجملها وأسماها وأحقها بالتمجيد والإكبار.

أسلمت مع أبيها، وكانت تخاطر بنفسها لإخفاء هجرته مع رسول الله وتزويدهما بالطعام والميرة في تلك الهجرة، ولم تجد ما تشد به طعامهما فشقت نطاقها وشدته به، فسميت لذلك ذات النطاقين.

وتزوجت الزبير بن العوام وليس له مال ولا مورد، فكانت تعلف فرسه وتدق النوى لناضحه وتستقي له الماء وتخرز له غربه وتنقل النوى على رأسها من الأرض التي أقطعه إياها رسول الله على مسيرة ميلين. وما زالت كذلك حتى علم أبوها بمشقتها في خدمة زوجها اتفاقًا فأعانها بخادمة، بعد أن قضت زمنًا تخدم بيتها وهي بنت أبي بكر وزوج الزبير، وأم عبد الله من أعظم أبطال الإسلام.

وحوصر ابنها عبد الله في مكة فخذله الناس حتى أهله وولده، وعرض عليه بنو أمية الأمان والولاية والمال. فذهب إليها يعرض عليها أمره، وهو يقول: «… لم يبق معي إلا اليسير ومن لا دفع عنده أكثر من صبر ساعة من النهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟»

فما ضعفت من الهول ضعف النساء، ولا ضعف الأمهات، وإن الأبطال الصناديد ليضعفون في مكانها، فلا يعدمون المعذرة الناهضة، والشفاعة المقبولة، بل ملكت جأشها وملكته جأشه، وأقبلت عليه تقول: «يا ولدي، إن كنت على حق تدعو إليه فامض عليه، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيتلعبوا بك، وإن قلت: إني كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار، ولا فعل من فيه خير. كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقنع به يا ابن الزبير. والله لضربة بسيف في عز أحب إليَّ من ضربة بسوط في ذل.»

والتفتت تدعو الله كأنما تناجي نفسها: «اللهم ارحم طول ذاك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأمه! اللهم إني قد سلمت فيه لأمرك، ورضيت فيه بقضائك، فأثبني في عبد الله ثواب الشاكرين.»

مقالة أم جاوزت المائة واصطلحت عليها الملمات، وكف بصرها من الحزن ويئست من نصرة ابنها ومن حياته في جهاده، فناهضت من السن والمرض والخوف والثكل في أحرج الساعات ما تنوء به عزائم الأقيال وتنهد له أركان الجبال.

ثم غلب القوم ابنها المقدام فصلبوه ورفعوا جثته للتمثيل والتشهير، فآلمها أن يصاب في كرامة موته، كما آلمها من قبل أن يصاب في كرامة حياته.

وذهبت إلى الحجاج تسأله في ذلك سؤال الأعزاء، فقادها الدليل إليه حتى وقفت على مقربة منه تقول: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟

قال في غير رفق ولا حياء: المنافق؟

فما همها وهو صاحب طلبتها أن يجيبها أو لا يجيبها، وإنما همها أن تدفع عن ولدها وأن تجزي الشاتم بشتمه، وقالت مغضبة: والله ما كان منافقًا، والله ما كان منافقًا، وقد كان صَوَّامًا قَوَّامًا …

فعالجها مغيظًا من ردها عليه: اذهبي، فإنك عجوز قد خرفت …

قالت: لا والله! ما خرفت. ولقد سمعت رسول الله يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فأنت هو.»

وهذه هي الأم التي يشرف بها الأبناء والآباء، وتشرف بها سلالة آدم وحواء …

هذه أسماء بنت أبي بكر.

وتلك عائشة بنت أبي بكر.

فما عسى أن يقول القائل وأن يثني المثني على بيت ينجب هاتين العقيلتين الكريمتين؟

لقد كان لأبي بكر أبناء من خيرة الرجال.

ولكن البيت تدل عليه بناته قبل أن يدل عليه أبناؤه. لأن الفضل في نشأتهن كلها للبيت، من حيث يحسب لغير البيت الفضل في نشأة الأبناء.

وذلك هو بيت الصديق، أكرم به من بيت بين ما حملت الأرض كلها من بيوت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤