الفصل الخامس

نموذجَان

النموذجان المتقابلان في الملكات والأخلاق ظاهرة معهودة في كل أمة، ولا سيما خلال النهضات التي تبرز فيها كوامن الملكات وتمتحن فيها حقائق الأخلاق.

وعهدُ التاريخ بها في شئون الضمير كعهده بها في شئون المعرفة والحكمة، أو في شئون السياسة والتشريع، أو في كل شأن له أثر بيِّن في أعمال الناس.

فاصطلح النقاد على تسمية هذين النموذجين في المعرفة والحكمة بالنموذج الأفلاطوني نسبة إلى أفلاطون، والنموذج الأرسطي نسبة إلى أرسطاطاليس، أو النموذج الذي يتمثل في النظريات ويتعلق بما وراء الطبيعة، والنموذج الذي يتمثل في التجربة والمشاهدة ويتعلق بالطبيعة وظواهرها المحسوسة.

وفي الأدب والفن يوجد المثاليون عشاق المثل الأعلى، والواقعيون طلاب الواقع الذين يأخذون الدنيا كما هي ويصفون الناس على ما هم عليه.

وفي السياسة محافظون ومجددون، وفي التشريع حرفيون ومعنويون، وفي العقيدة أو فقه العقيدة مقتدون ومجتهدون، وفي ميول الناس ومشاربهم عاطفيون وعقليون، وأصحاب أثرة أو أصحاب إيثار.

وليس المقصود بالنموذجين المتقابلين هنا تقابل الضدين اللذين يتناقضان كما يتناقض الصواب والخطأ، والخير والشر، والعلم والجهل، والهدى والضلال.

ولكن المقصود هو التقابل الذي يتمم فريقًا بمزايا فريق، ويُعين قوة نافعة بقوة أخرى تكافئها، ويزدوج في عناصر الأمة كما يزدوج الجناحان اللذان يستقل بهما الطائر، ولا يستقل بفرد جناح.

هذان النموذجان معهودان، لازمان.

معهودان على الخصوص حيثما نهضت أمة من الأمم بجميع قواها وجميع مزاياها، وجميع ما فيها من عُدد الأهبة والحيطة وبواعث الإقدام والإحجام.

ولازمان في النهضات على الخصوص حيثما تقدمت النهضة في طريقها واحتجب عنها إمامها وهاديها، وأصبح لزامًا بعده أن تتقابل القوى، وتتعاون الجهود.

ومن تمام الدعوة المحمدية أنها كشفت هذه النماذج المتقابلة في الأمة العربية بين عشية وضحاها، فإذا الأمة العربية كلها كأنما هي حشد مستعد بكل عدة، متزود بكل زاد.

ظهر فيها أقطاب الشجاعة وأقطاب الدهاء، وظهر فيها المتقدمون والمتحذرون، وظهر فيها الخياليون والعمليون، وظهر فيها كلُّ طرف وما يقابله من طرف يوازنه ويستند إليه.

وبين هذه النماذج كلها نموذجان من الطراز الأول، يوشك أن يجتمع فيهما كل ما تفرق في غيرهما من الملكات والشمائل والميول.

نموذجان كبيران تغيب في أطوائهما جميع النماذج الصغار.

وهما نموذج الصِّديق ونموذج الفاروق.

بين هذين الرجلين العظيمين تَقابُلٌ كثير الشعب متعدد الأنحاء؛ تَقابُلٌ ينتهي إلى التجاذب والإخاء ولا ينتهي إلى التدافع والنفار؛ لأنهما كانا يحومان معًا في نطاق كوكب واحد، أو نظام كوكبي واحد كما تحوم السيارات والأقمار حول شمس واحدة هي لها جميعًا مركز أصيل لا تنفصل عنه.

وربما دخل في وجوه التقابل بين هذين الرجلين العظيمين أكثر مما أجملناه من الفوارق التي تختلف بها نماذج الناس؛ العقل والعاطفة، والمحافظة والتجديد، والواقع والمثل الأعلى، وما لا يحصى من الألوان والشيات، والأطراف والحدود.

ولكنها على تعددها واختلافها فوارق متناسبة متوافقة تقبل التلخيص في فارق واحد يطويها في معظم نواحيها، وهو الفارق بين نموذج الاقتداء ونموذج الاجتهاد.

كان أبو بكر نموذج الاقتداء في صدر الإسلام غير مدافع.

وكان عمر في تلك الفترة نموذج الاجتهاد دون مراء.

وكلاهما كان يحب النبي ويطيعه ويحرص على سنته ويعجب به غاية ما في وسعه من إعجاب.

ولكنهما في ذلك طريقان يتوازيان، وإن كانا لا يتناقضان ولا يتحدان.

وإن بينهما في ذلك لفرقًا لطيف المأخذ، عسير التمييز، نحاول الإيضاح عنه جاهدين، ونرجو أن نبرزه بأوفى ما يستطاع له من إبراز، ونحسب أننا موفقون حين نقول: إن تقديم وصف على موصوف يكفي في الإبانة عن هذا الفرق الدقيق الذي لا ينفسح حتى يتسع لأكثر من هذا التفريق.

فأبو بكر كان يعجب بمحمد النبي.

وعمر كان يعجب بالنبي محمد.

ونزيد القول إيضاحًا فنقول: إن حبَّ أبي بكر لشخص محمد هو الذي هداه إلى الإيمان بنبوته وتصديق وحيه.

وإن اقتناع عمر بنبوة محمد هو الذي هداه إلى حبه والولاء له والحرص على سنته، وعلى رضاه.

ولهذا كان أبو بكر صاحبًا آمن بصاحبه الذي يطمئن إليه ويحمد خصاله، وكان عمر عدوًّا رده الاقتناع إلى مودة الرجل الذي كان ينكره ويعاديه.

ولهذا كان أبو بكر يطيع محمدًا فيفهم القرآن، وكان عمر يأخذ بالقرآن أو بما يفهم من مشيئة الله فيناقش محمدًا حتى يثوب إلى الفهم الصحيح.

هما قريبان جِدُّ قريبين.

ولكنهما ليسا بشيء واحد على كل ما بينهما من اقتراب.

أو هما كما قلنا في ختام الفصل السابق: أبو بكر أول المقتدين، وعمر ثاني المجتهدين، وبذلك يتكافآن ولا نقول يتفاضلان.

نعم يتكافآن ويتعادلان، وهذا الذي نريد أن نؤكده ونجتنب فيه سوء الفهم والتفسير.

فليست المقابلة بين هذين الرجلين العظيمين مقابلة بين قوة وضعف، وقدرة وعجز عن قدرة.

كلا، هذا أبعد ما يخطر على بال أحد يدرك فضائل الرجلين العظيمين ويعرف ما لكل منهما من خلق مكين وعمل جليل.

فإن الضعف «سلبي» لا يُجنى منه عمل عظيم.

وصلابة أبي بكر في حرب الردة لم تكن صلابة «سلبية» تقول «لا» في موضع «نعم» ولا تزيد.

ولكنها كانت صلابة تثوب إلى قوة لا شك فيها: قوة مصدرها الاقتداء. هذا لا يهم في وصفها بالقوة وإبعادها من صفة الضعف والعجز عن القدرة … وإنما المهم أنها قوة فعالة، وأنها قوة عظيمة لا مِراء.

ليست المقابلة إذن بين هذين الرجلين مقابلة بين قوة وضعف، وقدرة وعجز عن القدرة.

ولكنها مقابلة بين القوة من نوع والقوة من نوع آخر، وكلتاهما فعالة، وكلتاهما ذات أثر في الإسلام، وفي العالم، جليل.

وليس من الضروري اللازم أن يكون كل مقتد أقل في الشأن والأثر من كل مجتهد برأيه، فقد يكون من المقتدين من هو أكبر وأقدر من المجتهدين، وقد يكون الاقتداء وكله خير، ويكون الاجتهاد ولا خير فيه. ولعلنا نوضح هذه الحقيقة بالمثل المحسوس، لأنه أقرب إلى المشاهدة والإقناع.

فالمصابيح الكهربائية منها ما هو أمٌّ مستقل بمفتاح، ومنها ما هو تابع موصول بمفتاح غيره.

ويتفق مع هذا أن يكون «المصباح الأم» أصغر حجمًا وأضعف نورًا من المصباح الذي يتبع غيره ويضيء بمفتاحه، وهما أقرب مثل محسوس للاجتهاد والاقتداء.

كذلك الكوكب الثابت والسيارات التي تدور حول غيرها: لا يلزم أن يكون كل كوكب ثابت أصغر من كل سيار دائر، وإن تكرر هذا في العيان وسبق إلى الأذهان.

وعلى هذا النحو كان الفرق بين الصدِّيق والفاروق، بين أول المقتدين وثاني المجتهدين. فهو فرق بين قوة من نوع، وقوة من نوع آخر، ولا محل للضعف في الموازنة بين هاتين القوتين.

•••

وهناك مقابلة أخرى بين الصديق والفاروق لا تفوتنا الإشارة إليها؛ لأنها مقابلة أصيلة فيما تئول إليه من الصفات والآثار.

ونعني بها المقابلة بينهما في تكوين البِنيَة وتركيب المزاج، وهي أيضًا مثل عجيب من أمثلة التقابل بين هذين الرجلين العظيمين.

فكان أبو بكر نموذج القوة في الرجل الدقيق.

وكان عمر نموذج القوة في الرجل الجسيم.

ومن عجيب المصادفات أن هذا كان غزير الشعر بيِّن الغزارة فيه، وهذا كان أصلع، بيِّن النزارة فيه، ليتم بينهما التقابل حتى في الصفة التي لا يقتضيها اختلاف البنية بين الرجل الدقيق والرجل الجسيم.

قلنا في كتابنا «عبقرية عمر»:

إن العالم الإيطالي لومبروزو ومدرسته التي تأتم برأيه يقررون بعد تكرار التجربة والمقارنة أن للعبقرية علامات لا تخطئها على صورة من الصور في أحد من أهلها. وهي علامات تتفق وتتناقض ولكنها في جميع حالاتها وصورها نمط من اختلاف التركيب ومباينته للوتيرة العامة بين أصحاب التشابه والمساواة. فيكون العبقري طويلًا بائن الطول، أو قصيرًا بيِّن القصر، ويعمل بيده اليسرى أو يعمل بكلتا اليدين، ويلفت النظر بغزارة شعره أو بنزارة الشعر على غير المعهود في سائر الناس، ويكثر بين العبقريين من كل طراز جيشان الشعور وفرط الحس، وغرابة الاستجابة للطوارئ فيكون فيهم من تُفرِط سورته كما يكون فيهم من يفرط هدوءه، ولهم على الجملة ولع بعالم الغيب وخفايا الأسرار على نحو يُلحظ تارة، في الزكانة والفراسة، وتارة في النظر على البعد أو الشعور على البعد، وتارة في الحماسة الدينية أو في الخشوع لله.

تلك جملة الخصائص العبقرية التي أجملناها من كلام لومبروزو وأشياعه، فكأنما شاء القدر أن يتفق الصاحبان في جوهر العبقرية ويختلفا في أعراضها اختلاف المقابلة، حتى في غزارة الشعر ونزارته على غير ما يقتضيه هذا الاختلاف.

والمقابلة بين الصدِّيق والفاروق في تكوين البنية وتركيب المزاج كان لها أثر كبير في المقابلة بين الرجلين العظيمين في الخلائق والجهود، فعمر، بما نشأ عليه من الجسامة والهيبة، لم ينشأ وله منبه من البنية ينبهه أبدًا إلى وجوب التهدئة والترويض، فمضى بتلك البنية كما يمضي راكب الفرس الجموح غير متوجس من جماحه؛ لأنه مطمئن آخر الأمر إلى العنان.

وأبو بكر، بما نشأ عليه من الدقة والنحول، قد نشأ وله منبه إلى غوائل الحِدَّة التي تعهد من أصحاب هذا التركيب ولا تؤمَن غوائلها عليهم، فراض نفسه على التهدئة والترويض، ومضى بتلك البنية كما يمضي راكب الفرس الجموح عوَّدها قبل الدخول في المضمار أن تدَع الجماح، وأن تشعر بالعِنان القابض عليها في كل حين.

وهنا لا تكون التفرقة أيضًا من قبيل التفرقة بين القوة والضعف، وبين القدرة والعجز عنها، ولكنها على ما قدمنا تفرقة بين قوة وقوة تكافئها، أو بين طرازين من القدرة يتقابلان.

فلو كان أبو بكر ضعيفًا قليلًا لجمحت به الحدة، ولم يعتصم من عزمه إلى كابح قدير على الكبح، فتحطم كما يتحطم الضعفاء.

ولو كان شعوره بنفسه شعور ضعف وقلة لاستقر على هذا الشعور واستكان إليه، ولم يأخذ نفسه بالسَّمت والوقار، ولا بمناقب السيادة والمروءة، ورضي له ولذويه بما يرضى به الضعفاء.

ولكنه شعر من نفسه بقوة يعتصم بها ويقوى على رياضتها، فكان مثلًا للقدرة الرائضة والنفس المُرَوَّضة كما تكون في الرجل الدقيق النحيل.

•••

في حياة الصاحبين موقف من المواقف النادرة التي يظهر فيها الرجل كله، ولا يتفق في التجارب النفسية أن يواجهها الإنسان مرتين في حياته، وهو الموقف الذي فاجأهما بموت النبي عليه السلام.

ليس للصاحبين غير صديق واحد بمنزلة محمد عندهما من المحبة والتَّجلَّة، وهما لا يروعان كل يوم بنبأ فاجع يسوءهما كما يسوءهما نبأ موته وانقضاء عشرته والأنس بقربه، فالموقف نادر، والبليَّة به خليقة أن تَبتلي الرجل في كل ما ينطوي عليه من بديهة وروية.

وابتلي به عمر فغضب غضبته المرهوبة وثار بالنُّعاة يتوعدهم ليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن محمدًا قد مات.

غضب غضبة الرجل المملوء بقوته وحميته، الذي لم ينبهه منبه قط إلى ترويض غضبه، والمبالاة بعواقب ثوراته، وكأنما قام في دخيلة نفسه أنه يستكثر حتى على الموت أن يجترئ على الصديق الذي يحبه ذلك الحب، ويجله تلك التجلة، ويعتقد فيه تلك العقيدة، وينتظر حتى من الموت أن يتحامى جانب ذلك الصديق، ويرعى له حرمة لا يرعاها لسائر الأحياء.

وأبو بكر يحب محمدًا كما يحبه عمر، ويأسى لفراقه كما يأسى، ويرفعه مثله درجات فوق مقام الأحياء من قبله ومن بعده، ولكنه رجل راض نفسه وقمع حدة طبعه، وعرض الصبر على ما ليس يدفعه دافع ولا تغني فيه حيلة، فإن كان تسليم فهذا أحق المواقف بالتسليم وأولاها بطول ما ارتاض عليه من صبر، وما تأهب له من أسوة.

بذلك أدى كل من الرجلين ضريبة طبعه ومزاجه الذي لا معدَى له عن مطاوعته والاستجابة لدواعيه.

ثم زالت الغاشية الأولى. فظهر الرجلان في حالة القرار كما ظهرا في حالة المفاجاة: ظهر أن عمر لم يكن ثورة كله، بل كانت فيه إلى جانب الثورة رويَّة تفرغ للأمر في أحرج أوقاته، وظهر أن أبا بكر لم يكن روية كله، بل كانت فيه إلى جانب الروية مطاوعة لسليقة الحب والألفة قد تشغله عن العواقب إلى حين.

فبينما هو مشتغل بتجهيز رسول الله إذا بالأنصار يجتمعون في سقيفة بني ساعدة ليتخذوا لهم أميرًا دون إخوانهم من المهاجرين، وإذا عمر يتأهب للأمر أهبته، ويعالج الخَطْب قبل استفحاله، ويأخذ أبا بكر من بيت رسول الله إلى سقيفة بني ساعدة ليبايعه هناك بالخلافة … ويتقي الحدة من أبي بكر فيهيئ في نفسه كلامًا يصلح لذلك المقام يمهد به لكلامه. وفي بعض الروايات أنه فكر في أمر المبايعة قبل ذلك حين لم يفكر فيها أحد من المهاجرين، وأنه شاور أناسًا وشاوروه فيما يكون بعد وفاة رسول الله. فما كانت غضبته الثائرة إلا ريثما قبض على العنان بكلتا يديه، ثم كان عنانه ذلك أطوع عنان.

كلا الرجلين العظيمين فيه روية وفيه حدة: تأتي الروية أولًا أو تأتي الحدة أولًا، ذلك هو موضع الفارق من بوادر المزاج والتركيب، ولكن الروية هناك قائمة في المزاجين حين تراد.

•••

وقد نلمس هذه الجوانب المتقابلة من مزاج الصاحبين في كل مسألة ذهبا فيها مذهبين، ونزعا فيها إلى رأيين مختلفين.

من ذلك مسألة الرِّدة، ومسألة خالد بن الوليد، ومسألة الأعطية والنوافل للمؤلفة قلوبهم ولغيرهم من عامة المسلمين.

في كل مسألة من هذه المسائل كان لكل من الصاحبين عند طبعه ومزاجه، أو عند المعهود من وصفه واستقصاء أحواله، دليل أصدق على خلوص الرأي وصراحة الضمير والتوجه إلى الأمر بما يستدعيه عندهما من مقدماته وموجباته، في غير حيد ولا انحراف عن سواء السبيل.

ففي مسألة الردة جنح أبو بكر إلى الصرامة وجنح عمر إلى الهوادة، وفي ظاهر الأمر أن هذا اختلاف على غير المنظور من طبيعة الرجلين، ولكن الواقع أنه لا يخالف المعهود إذا مضينا فيه إلى ما وراء الظاهر القريب.

فقد كان أبو بكر عند طبعه حين أبى أن يترك عقالا مما كان يأخذه رسول الله من فريضة الزكاة، وكان كذلك عند طبعه حين استثاره الاستخفاف به والجرأة عليه، كأنهم يستصغرونه ويتقحمونه، وهو الذي توقَّر طول حياته من مكانة من يستصغر ويتقحم؛ لدقة في تكوينه وقوة في نفسه تعاف أن تحسب عليه الدقة في التكوين صغرًا في المقام.

وقد كان عمر عند طبعه حين أخذ بالتصرف والاجتهاد على حسب اختلاف الأحوال، ووثق من مصير الأمور على الخير بأية حال.

•••

أما مسألة خالد بن الوليد فقد كان السؤال فيها: هل يحاسب أو لا يحاسب؟ فكان جواب الصاحبين على حسب المعهود فيهما من مزاج وخليقة، ولم يكن منظورًا أن يقضي أحد منهما بغير ما قضاه.

قتل خالد مالك بن نويرة وبَنَى بامرأته في ميدان القتال على غير ما تألفه العرب في جاهلية وإسلام، وعلى غير ما يألفه المسلمون وتأمر به الشريعة.

أفيحاسب على هذا أو لا يحاسب عليه؟

أول جواب يبدر إلى عمر عن هذا السؤال هو المحاسبة بِغَير ونَاء. ولِم لا؟ ما الذي يُتَّقى؟ ما الذي يكون؟ إن المبالاة بعقبى حسابه ليست مما يروع عمر ويثنيه، بل لعلها مما يحفزه إلى التحدي والإسراع فيه.

أما أبو بكر فقد استشار هنا طبيعة الاقتداء، وطبيعة الإعجاب بالبطولة وطبيعة اللين والإغضاء، وهي تشير عليه بالإعفاء من الحساب أو بالإمهال به إلى حين.

فهو لا يعزل قائدًا من قواد رسول الله وسيفًا من سيوفه، وهو لا ينسى بطولة خالد وإن زل أو أخطأ التأويل، كما قال، وهو يُؤثر اللين؛ لأنه في عامة أحواله مطبوع عليه ما لم يمسه الأمر فيما يثير.

•••

وجاءت مسألة الأعطية فأَبى أبو بكر أن يتصرف في تمييز الأقدار وأقدم عمر على التصرف والاجتهاد.

وجاءت مسألة المؤلفة قلوبهم فأعطاهم أبو بكر متبعًا سابقة الرسول وأنكر عمر عطاءهم؛ لأنهم كانوا يأخذون ما أخذوه والإسلام ضعيف …

فأما الآن فماذا عساهم أن يصنعوا إن لم يأخذوا ما يصنعونه كائنًا ما كان لا يكرثه ولا يثنيه.

•••

وهكذا نستقصي علل الخلاف بين الصاحبين في كل مسألة من المسائل، فإذا هي في مردها خلاف بين قوتين من نوعين، أو خلاف في تناول الأمور على طريقتين، ولم تكن قط خلافًا بين قوة وضعف، أو بين حرص وتفريط، أو بين أَثَرة وإيثار.

ومن المسلَّم أن القوة ضروب، وأن العظمة صنوف، وأن اللَّين لا يلين أبدًا، والشديد لا يشتد أبدًا، فلا بد من اختلاف بين العظيم والعظيم، ولا بد من اختلاف بين عمل العظيم الواحد في أوقات، وليس العجب أن يجري كل منهم على خطته وأسلوبه، وإنما العجب أن تتعدد ضروب القوة وتتعدد صنوف العظمة ثم تتوحد الخطة والأسلوب.

وموضع العبرة — بل موضع الإعجاز فيما تقدم — هو تلك الدعوة التي شملت هذه القوة كلها في طيَّة واحدة، وضمت هؤلاء الرجال جميعًا حول رجل واحد، وجذبت إليها أكرم العناصر التي تأتي بالعظائم وتصلح للخير وتُقدم على الفداء.

فأوجز ما يقال في تلك الدعوة أنها خاطبت خير ما في الإنسان فلبَّاها أمثال الصديق والفاروق، وأقبل عليها الأقوياء المخلصون من كل طراز، فليست هي بالدعوة التي تخاطب الضعف والضعة، ولا بالدعوة التي تخاطب الطمع والأثرة، ولا بالدعوة التي قوامها الترهيب والترغيب، ولكنها الدعوة التي يجيبها أكرم سامعيها، ويتخلف عنها أقلهم سعيًا إلى الخير واقتدارًا عليه.

والصديق والفاروق خير نماذج الرجال في الجزيرة العربية، ففي خلائق هذين العظيمين دليل على السرِّ الذي من أجله نادى محمد قومه ومن أجله أجيب، ومن قال من المكابرين والمتعنتين: إن دعوة محمد لم تكن بالدعوة الصالحة فليقل: أي صلاح كان يَلقى في الجزيرة العربية مجيبين أكرم وأقدر من هؤلاء المجيبين؟ وأي هداية بين الناس أشرف من الهداية التي تجمع إليها أقوى الأقوياء وأطيب الطيبين، على ما بينهم من تقابل في المزاج والرأي كأعجب ما يكون التقابل بين المختلفين المتفاوتين؟ وأي إقناع أقنع الصديق؟ وأي إقناع أقنع الفاروق؟ الخشية؟ المتعة؟ الشر؟ الطمع؟ لقد كانا إذن آخر من يجيب، وكان خصومهما إذن أسرع المجيبين وأسبق المؤمنين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤