مقدمة

في أحد الأطراف الحلزونية البعيدة لمجرة درب التبانة، كان هناك نجمٌ أصفر وحيد غير واضحٍ يدور ببطءٍ حول مركز المجرَّة على بُعد ثلاثين ألف سنةٍ ضوئية. كان هذا النجم الدائم — الشمس — يستغرق مائتَين وخمسة وعشرين مليون سنة ليكمل دورةً واحدة حول مداره في المجرة. وآخر مرةٍ كانت فيها الشمس في مكانها الحالي، بدأت زواحف عملاقة ذات قوةٍ جبارةٍ تؤسِّس سلطانها على كوكب الأرض؛ وهو كوكب أزرق صغير من الكواكب التابعة للشمس.

ومن بين الكواكب والأجرام الأخرى في عائلة الشمس، لم تظهر أيُّ صورةٍ من صور الحياة المعقَّدة المستمرَّة إلا على هذه الأرض. فقط في هذا العالم الفريد تطورت المواد الكيميائية وتحولت إلى كائن مدرك، تساءل لاحقًا — بعد أن بدأ يفهم عجائب وأبعاد العالم — عن احتمالية وجود معجزات شبيهة بتلك التي أتَت به إلى العالم في مكان آخر.

فكرت هذه الكائنات الأرضية العاقلة أن هناك مائة مليار نجمٍ في مجرتنا وحدها. ونحن واثقون تمامًا أن عشرين بالمائة من هذه النجوم على الأقل تدور حولها كواكب سيَّارة، وأن عددًا قليلًا لكنه جدير بالاهتمام من هذه الكواكب تعرَّض — في وقتٍ ما من تاريخه — إلى ظروفٍ جويةٍ وحراريةٍ تُساعد على تكوُّن أحماضٍ أمينيةٍ ومواد كيميائية عضويةٍ أخرى، تمثِّل العناصر الأساسية لأي حياةٍ يمكن للعقل أن يفترض وجودها. توصلت هذه الأحماض الأمينية — مرة واحدة على الأقل في التاريخ — إلى آلية التكاثر الذاتي هنا على الأرض؛ ومن ثم بدأت معجزة التطور التي انتهت بظهور الكائنات البشرية. كيف يمكننا أن نفترض أن هذا التسلسل للأمور حدث مرةً واحدةً فقط على مدار التاريخ؟ تكونت الذرات الأثقل وزنًا اللازمة لظهورنا في الكوارث النجمية التي ضربت العالم، على مدار مليارات السنين. هل من المحتمل أن تكون هذه الذرات هنا — في هذا المكان — قد ارتبطت ببعضها وكونت جزيئاتٍ خاصة، وتطوَّرت لتصبح كائنًا عاقلًا قادرًا على أن يسأل: «هل نحن وحدنا؟»

بدأ البشر على كوكب الأرض بحثهم عن رفاقٍ في الكون، في البداية باختراع التلسكوب الذي تمكنوا بواسطته من رؤية جيرانهم من الكواكب القريبة. وبعد أن تطورت التكنولوجيا التي يستخدمونها، أرسلوا المركبات الفضائية الآلية المتطورة لاكتشاف هذه الكواكب الأخرى، وللتحقُّق مما إذا كانَت هناك أيُّ علاماتٍ على وجود حياةٍ عليها. أثبتَت تلك الرحلات الاستكشافية عدم وجود حياة عاقلة قطُّ على أي جِرْم آخر في نظامنا الشمسي. واستنبط علماء البشر أنه إذا كان هناك كائنات أخرى — أي أجناس شبيهة يمكننا التواصل معها آخر الأمر — فإنها موجودةٌ بالتأكيد وراء ذلك الفضاء الشاسع الذي يفصل نظامنا الشمسي عن جميع النجوم الأخرى.

وبنهاية القرن العشرين من الزمن البشري، كانت هوائيات الأرض العملاقة قد بدأت تمسح السماء بحثًا عن أي إشارات مفهومة ربما تكون بعض الكائنات العاقلة ترسل لنا عن طريقها رسالةً لاسلكية. استمر البحث أكثر من مائة عام، وبلغ ذروته في أوج ازدهار العلم عالميًّا في بداية القرن الحادي والعشرين، ثم خفَّت حدته في العقود الأخيرة من ذلك القرن، بعد أن أخفقت المجموعة الرابعة المنفصلة من تقنيات الاستماع المنهجي في التقاط أي إشارات غريبة.

في عام ٢١٣٠ بدأ جسم أسطواني غريب الشكل يقترب من نظامنا الشمسي قادمًا من الفضاء الواقع بين النجوم، في ذلك الوقت كان معظم البشر المهتمين بالأمر قد توصلوا إلى عدم وجود حياة في الكون، وأن وجود حياة عاقلة — إذا كانت موجودة حقًّا في أي مكان باستثناء الأرض — أمرٌ نادر للغاية. فتساءل العلماء: كيف يمكننا إذن تبرير عدم توصل مجهودات البحث الدقيق خارج الأرض طوال القرن الماضي إلى نتائج إيجابية؟

لذا عندما فحص العلماء الجسم الذي دخل نظامنا الشمسي عام ٢١٣٠ عن قرب، وأعلنوا بوضوحٍ أنه ابتكار صناعي من أصل غريب. كان ذلك بمنزلة صدمةٍ لسكان الأرض. كان أمامهم دليلٌ لا يقبل الشكَّ على وجود حياةٍ عاقلةٍ متطورةٍ — أو على الأقل على وجودها في حقبةٍ سابقة — في جزء آخر من الكون. ثم غيَّرت بعثة فضائية مسارها للقاء ذلك الجسم الأسطواني الضخم المعتم، الذي اتضح فيما بعد أن له أبعادًا أكبر من أكبر مدينةٍ على كوكب الأرض، ولم يجد رواد الفضاء أمامهم سوى لغزٍ تلو الآخر. وعجزوا عن الإجابة عن الأسئلة الأساسية حول السفينة الغامضة الغريبة. فتلك السفينة الدخيلة القادمة من بين النجوم لم تقدِّم إجاباتٍ حاسمةً للألغاز المتعلقة بمصدرها وهدفها.

لم تَقُم أول مجموعة من المستكشفين البشر فقط بوَضْع قائمةٍ بعجائب راما (الاسم الذي اختير للجسم الأسطواني الضخم قبل أن يُعتبر جسمًا صناعيًّا من خارج الأرض)، لكنهم أيضًا استكشفوها من الداخل ووضعوا خريطة لها. وبعد أن غادر الفريق الاستكشافي راما، وبدأت سفينة الفضاء الغريبة تندفع في رحلتها حول الشمس مغادرةً النظام الشمسي بسرعةٍ فائقة، حلَّل العلماء جميع البيانات التي جمعها الفريق في مهمته. وأقر الجميع أن البشر الذين زاروا راما لم يقابلوا قطُّ صانعي تلك السفينة الفضائية الغامضة. غير أن التحليل الدقيق للمعلومات التي جُمعت في الرحلة كشف عن ملاحظةٍ لا مفر منها؛ وهي الإسهاب الهندسي لسكان راما. فكل نظام رئيسي ونظام فرعي مهم في السفينة كان يدعمه نسختان احتياطيتان. اعتاد سكان راما تصميم كل شيءٍ في ثلاث نسخ. لذا توقَّع العلماء قرب زيارة سفينتَين فضائيتَين مماثلتَين.

كانت السنوات التي تلت زيارة راما «١» في عام ٢١٣٠ مباشرة زاخرةً بالتوقُّعات على كوكب الأرض. فأعلن الباحثون والسياسيون بَدْء عصر جديد في تاريخ البشرية. وحرصت وكالة الفضاء العالمية بالتعاون مع مجلس الحكومات، على وضع إجراءاتٍ دقيقة للتعامل مع الزيارة التالية لسكان راما. ووُجهت أجهزة التلسكوب جميعها إلى السماء، ودخلت جميعها في تنافس بعضها مع بعض؛ طمعًا في الاحتفاء الذي يحصده أول شخصٍ أو مرصدٍ يرصد سفينة راما التالية. لكنَّ شيئًا لم يظهر.

وفي النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الثاني والعشرين، انتهت فجأةً حالةُ الازدهار الاقتصادي التي كان من أسباب استمرارها في مراحلها الأخيرة ردودُ الفعل العالمية لراما. وغرق العالم في أسوأ كسادٍ عرفه في تاريخه، وهو ما عُرف باسم «الفوضى الكبرى» التي صاحبها فقدان الحكومات وانتشار الفقر المدقع. أثناء تلك المرحلة المؤسفة، تخلَّى العالم فعليًّا عن جميع أنشطة البحث العلمي، وبعد عدة عقودٍ أُرغم فيها العالم على مواجهة مشكلاتٍ يومية، كان سكان الأرض قد نسوا تقريبًا أمر الزائر الغامض القادم من بين النجوم.

في عام ٢٢٠٠، وصل جسمٌ أسطوانيٌّ دخيلٌ ثانٍ إلى النظام الشمسي. فعاد سكان الأرض ينفضون الغبار عن الإجراءات القديمة التي وُضعت بعد رحيل راما الأولى، وأعدُّوا للقاء مع راما «٢». اختير طاقم من اثني عشر شخصًا لهذه المهمة. وبعد اللقاء بوقتٍ قصيرٍ أعلن الطاقم أن سفينة راما الفضائية الثانية مطابقة تقريبًا لسابقتها. وصادف البشر ألغازًا وعجائب جديدةً بما في ذلك كائنات غريبة، لكنهم ظلوا غير قادرين على الإجابة عن الأسئلة المتعلِّقة بمصدر وهدف راما.

أثار موت ثلاثةٍ من أفراد الطاقم بصورةٍ غريبةٍ قلقًا بالغًا على الأرض؛ نظرًا لأن السكان كانوا يتابعون كل ما يتعلق بالمهمة التاريخية على شاشات التليفزيون. وعندما ناور الجسم الأسطواني العملاق في المسار، وأصبح على مسارٍ سيجعله يصطدم بكوكب الأرض، تحوَّل القلق إلى ذعر وخوف. واضطر قادة العالم في غياب أي معلومات أخرى إلى الاعتراف بعدم وجود بديلٍ سوى افتراض أن راما «٢» جسمٌ معادٍ. لم يكونوا ليتركوا سفينةً فضائيةً تصطدم بالأرض، أو تقترب منها إلى حدٍّ يسمح لها باستخدام أي أسلحة متقدمة قد تكون بحوزتها. ومن هنا اتُّخذ قرار بتدمير راما «٢» وهي لا تزال على مسافةٍ آمنة.

صدر أمر بعودة الطاقم الاستكشافي إلى الأرض، لكن ثلاثة من أفراده — رجلان وسيدة — كانوا على متن راما «٢» عندما نجحت السفينة الغريبة في تفادي قذيفةٍ نوويةٍ أُطلقت من فوق الأرض. وناورت راما مبتعدةً عن كوكب الأرض العدائي، ورحلَت عن النظام الشمسي بسرعةٍ فائقة، حاملةً معها أسرارَها التي لم تُكتشف وثلاثةَ البشريين.

استغرقت راما «٢» ثلاثة عشر عامًا للابتعاد عن الفضاء القريب من كوكب الأرض، وهي تحلق بسرعةٍ تقارب سرعة الضوء، حتى وصلت إلى وجهتها التي كانت مجمعًا هندسيًّا ضخمًا يطلق عليه «نود»، يقع في مدارٍ بعيدٍ حول نجم الشعرى. أنجب البشريون الثلاثة على متن السفينة الأسطوانية العملاقة خمسة أطفال وأصبحوا عائلة. وبينما كانت العائلة تستكشف عجائب موطنها الجديد في الفضاء، صادفت مرة أخرى الأجناس الفضائية التي قابلتها في البداية. غير أنه في الوقت الذي وصل فيه أفراد العائلة إلى «نود»، كانوا قد أقنعوا أنفسهم بالفعل أن هؤلاء الغرباء مسافرون على متن راما مثلهم.

بقيَت العائلة البشرية في «نود» لأكثر من عام. خلال تلك الفترة طُوِّرت سفينة راما الفضائية وجُهِّزت لرحلتها الثالثة والأخيرة إلى النظام الشمسي. علمَت العائلة من الرجل النسر — وهو مخلوقٌ آليٌّ من أفراد الحياة العاقلة في «نود» — أن هدف سلسلة سفن راما الفضائية هو جَمْع أكبر قدرٍ ممكن من المعلومات عن المركبات الفضائية في المجرة، ووَضْع لائحةٍ بها. وأخبرهم الرجل النسر أيضًا — الذي كان له رأس ومنقار وعينا نسر وجسم إنسان — أن سفينة راما الأخيرة — راما «٣» — ستحتوي على موطن أرضي مصمم بعناية يتسع لألفَي شخص.

بثت «نود» تسجيل فيديو إلى الأرض يعلن العودة الوشيكة لسفينة راما الثالثة. ويشرح أن أجناسًا فضائية متطوِّرة تريد معاينة ودراسة النشاط البشري لمدَّةٍ طويلة، وطالَبَ البث بإرسال ألفَي ممثِّل من البشر للقاء راما «٣» في مدارها حول المريخ.

بدأت راما «٣» رحلتها من نجم الشعرى عائدة إلى النظام الشمسي، بسرعةٍ أكبر من نصف سرعة الضوء. وداخل السفينة كان أغلب أفراد العائلة البشرية في «نود» ينامون في مضاجع خاصة. وفي مدار المريخ استقبلت العائلة الأشخاص الآخرين القادمين من الأرض، وسرعان ما أصبح الموطن البدائي داخل راما آهلًا بالسكان. كانت تلك المستعمرة التي أُطلِقَ عليها «جنة عدن الجديدة» محاطةً بالكامل بجدران سميكةٍ ومعزولةٍ عن باقي السفينة الغريبة.

انطلقت راما «٣» على الفور بسرعات تقارب سرعة الضوء، مندفعة خارج النظام الشمسي في اتجاه النجم الأصفر تاو سيتي. ومرت ثلاث سنوات دون أي تدخُّلٍ خارجي في شئون البشر. وأصبح سكان جنة عدن الجديدة منغمسين تمامًا في حياتهم اليومية، لدرجة أنهم لم يُعيروا الكون خارج مستوطنتهم الكثير من الاهتمام.

عندما واجهت الديمقراطية الوليدة في الجنة التي أسَّسها سكان راما للبشر عددًا من الأزمات التي ضيَّقت الخناق عليها، استولى زعيمٌ انتهازيٌّ على السلطة في المستعمرة، وبدأ يقمع المعارضة بلا رحمة. في ذلك الوقت هرب أحد المستكشفين الأصليين لراما «٢» من عدن الجديدة، ونجح في نهاية المطاف في الاتصال بزوجٍ من الأجناس التكافلية التي تعيش في موطنٍ متاخمٍ محاطٍ بسياج. لكن زوجته ظلَّت في المستعمرة البشرية، وحاولَت أن تكون ضمير المجتمع، لكن محاولاتها باءت بالفشل. ثم سُجنت بعد عدة أشهر، وأُدِينَت بالخيانة، وتحدَّد موعد تنفيذ حكم إعدامها.

مع استمرار تدهور الظروف البيئية والمعيشية داخل عدن الجديدة، غَزَت القوات البشرية المنطقة المتاخمة لها في نصف أسطوانة راما الشمالي، واشتبكَت في حرب إبادةٍ مع الجنسَين الفضائيَّين التكافليَّين. في ذلك الوقت استمر سكان راما الغامضون — المعروفون فقط بإبداعاتهم الهندسية — في مراقبتهم الدقيقة للبشر من على بُعد، وهم يدركون أنها مسألة وقت قبل أن يلتحم البشر بالأجناس المتطورة التي تستوطن المنطقة إلى جنوب البحر الأسطواني …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤