حرب في راما

١

إبَّان الفترةِ الفاصلة السابقة، استمرَّ هيكل مجتمعات الكائنات الفضائية المسافرة ونظامها داخل المركبة الفضائية في التمزُّق. ورغم تحذيرات كائنات الأوكتوسبايدر (الكائنات الفضائية رقم ٦٦٦ ٢) ومحاولاتهم الحميدة لتجنُّب صراع شامل مع البشر (٨٠٦ ٣٢)، فقد ازدادت احتمالات نشوب حرب دامية خلال الفترات القادمة بين الجنسين، ولن تخلِّف إلا قليلًا من الناجين. ومن ثَم فإن الموقف يستوفي كافة الشروط اللازمة لوساطة المرحلة الثانية.

وقد فشِلت جميعُ مساعي الوساطة السابقة، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى أن البشَر، وهم الأكثرُ عدائية بين الجنسين، لم يبالوا تمامًا بكافة أساليب الوساطة المختلفة غير المباشرة. عددٌ قليل فقط من البشر هم مَن استجابوا للمحاولات العديدة لتغيير سلوكياتهم العدوانية، وأولئك الذين لم يتجاوبوا مع هذه المحاولات لم يستطيعوا منْعَ الإبادة الجماعية للكائنات الطائرة والكائنات اللاسويقية (٢٤٩ ٤٧، «أ» و«ب») التي اقترفها حكَّامهم.

ومجتمع البشر منظَّم على النحو الهرمي الصارم الذي كثيرًا ما لوحظ في الأجناسِ الموجودة قبل عصر السفر إلى الفضاء. فلا يزال يسيطر عليهم قادةٌ اهتمامُهم الأول هو الاحتفاظ بنفوذهم الشخصي. في حين أن مصلحةَ المجتمع، بل حتى بقاءه، يأتي في المرتبة الثانية في سلسلة الأولويات الخفية للقادة الحاليِّين للبشر، وذلك بعد استمرارِ نظامٍ سياسي يمنحهم سلطةً مطلَقة. ومن ثَم فإن احتمال تجنُّب نشوب صراع واسع النطاق بين البشر وكائنات الأوكتوسبايدر ضئيلٌ بأي مقاييس منطقية.

ولا تزال مجموعةٌ صغيرة من البشر، من بينهم جميعُ أفراد العائلة التي عاشت في نود تقريبًا أكثرَ من عام؛ مقيمةً في المدينة الرئيسية لكائنات الأوكتوسبايدر. وقد أظهر تفاعُلهم مع مضيِّفيهم أنه من الممكن للجنسين أن يعيشا معًا في وفاق. وقد قرَّر مؤخرًا وفدٌ يتكوَّن من هؤلاء البشر وكائن أوكتوسبايدر واحد أن يبذلوا جهودًا مكثَّفة لمنْعِ نشوبِ حرب واسعة النطاق بين الأجناس عن طريق الاتصال بقادة مستوطنة البشر مباشرة. إلا أن احتمالات نجاح هذا الوفدِ ضئيلة للغاية.

حتى تلك اللحظة لم تتَّخذ كائنات الأوكتوسبايدر أيَّ خطوات عدائية صريحة. ولكنهم بدءوا عمليةَ الإعداد لحربٍ ضد البشر. ومع أنهم سيحاربون فقط إذا خلصوا إلى أن بقاءَ وطنهم في خطر، فإن القدرات البيولوجية المتطورة لكائنات الأوكتوسبايدر ستجعل نتيجةَ هذه الحرب محسومةً سلفًا.

أما الشيء غير المؤكَّد فهو ماذا سيكون ردُّ فِعل البشر عندما يحتدِم الصراع ويتكبَّدون خسائر فادحة. ومن المحتمل أن تضع الحرب أوزارها بسرعة، وبمرور الوقت قد يتوصَّل الناجون من الجنسين مرةً أخرى إلى حالةٍ قريبة من توازن القوى. وبناءً على بيانات المراقبة المتاحة عن البشر، فإنَّ هناك احتمالًا لا يُستهان به أن هذا الجنس من الكائنات سيستمر في المعركة حتى يفنَوا جميعًا أو يفنَى معظمهم. ومثل هذه النتيجةِ ستدمِّر جميعَ آثار واحد على الأقل من المجتمعين الفضائيِّين الباقين على متن المركبة الفضائية. وللحيلولةِ دون وقوع هذه العاقبة الوخيمة للمشروع، فإنه من المحبَّذ التفكيرُ مليًّا في وساطة المرحلة الثانية.

٢

استيقظت نيكول على صوتِ الأطفال الثلاثة وهم يلعبون في غرفة المعيشة. وجاءتها إيلي وهي ترتدي لباسَ المنزل إلى باب غرفة نومها لتسألها هل رأت دميةَ نيكي المفضَّلة. فأجابتها نيكول: «أظن أنها تحت فِراشها.»

فعادت إيلي تستأنف حَزْم الحقائب. وكانت نيكول تسمع صوتَ ريتشارد في الحمَّام. فقالت في نفسِها: «لم يَعُد لدينا كثيرٌ من الوقت» في الوقتِ الذي ظهرت فيه فجأةً حفيدتها، تلك الفتاةُ الصغيرة، عند باب الغرفة. قالت وهي تبتسم: «سنغادر أنا وأمي يا جَدتي. سنذهب لنرى أبي.»

فتحَت نيكول ذراعيها أمام الطفلة التي ركضَت لترتمي في أحضانها. وقالت لها: «أعلم يا حبيبتي.» وضمَّتها إلى صدرها بقوةٍ ثم بدأت تربِّت على شَعرها. وقالت: «سأفتقدك كثيرًا يا نيكي.»

وبعد بضع ثوانٍ، دلف التوءمان واتانابي إلى الغرفةِ قافزين. قال جاليليو: «أنا جائع يا سيدة نيكول.»

وأضاف كيبلر: «وأنا أيضًا.»

فتركت نيكول حفيدَتها على مضضٍ وبدأت تسير خارجةً من غرفة النوم. وهي تقول: «حسنًا يا أولاد، سيكون إفطاركم جاهزًا في غضون دقائق قليلة.»

وقبل أن ينتهيَ الأطفال الثلاثة من طعامهم، وصل ماكس وإيبونين وماريوس عند الباب. فقالت نيكي قبل أن تحظى نيكول حتى بفرصةٍ لتحيتهم: «أتعلم يا عم ماكس! سأذهب لأرى أبي.»

مرَّت أربع ساعات بسرعة. شرح خلالها ريتشارد ونيكول كلَّ ما حدَث مرتين: الأولى لماكس وإيبونين، والثانية للعروسين اللذين لا تزال أمارات السعادة ترتسم على ملامحهما من ليلة زفافهما. وعندما اقترب وقتُ رحيل كلٍّ من ريتشارد وإيلي ونيكي، بدأت الإثارة والحيوية اللتان كانتا تميِّزان حديثَ الصباح تخبوان. وبدأ القلق يتملَّك نيكول. قالت في نفسِها: «اهدئي وابتسمي. الحزن لن يسهِّل عليك الأمر.»

كان ماكس أولَ شخص يلقي تحيةَ الوداع. فقال لنيكي: «تعالي إلى هنا أيتها الأميرة الصغيرة وقبِّلي عمَّك ماكس.» فاتَّبعت الفتاة التعليمات بطاعة. ثم نهض هو واجتاز الغرفةَ إلى حيث كانت إيلي تتحدَّث إلى والدتها. وقال لها وهو يعانقها: «اعتني بتلك الفتاةِ الصغيرة يا إيلي، ولا تدعي هؤلاء الأوغاد يمَسُّون شعرةً منكم.» ثم صافح ريتشارد ونادى التوءمين كي يلحقا به إلى الخارج.

سريعًا ما تغيَّرت الأجواء في الغرفة. ومع أن نيكول قطعت وعدًا عليها بأن تحافظ على رِباطة جأشها، فقد شعرت بهلعٍ شديدٍ عندما أدركت أنها لا تملِك سوى دقائقَ قليلةٍ للوداع. وسار باتريك وناي وبينجي وإيبونين على خطى ماكس، فأخذوا يعانقون الثلاثي المغادرَ ويودِّعونهم.

حاولت نيكول أن تحتضِن نيكي مرةً أخرى، ولكن الطفلة الصغيرة اندفعت تركض إلى الخارج لتلعب مع التوءمين. ودعت إيلي إيبونين واستدارت إلى نيكول. قالت لها وقد أشرق وجهها: «سأفتقدك يا أمي. إنني أحبك كثيرًا.»

جاهدَت نيكول للسيطرة على انفعالاتها. وقالت: «لم يكن من الممكن أن أُرْزق بابنةٍ أفضلَ منك.» وبينما كانتا تتعانقان، همسَت نيكول في أذن ابنتها. قالت: «توخَّي الحذر. هناك الكثير من المخاطر المحدقة.»

فجذبت إيلي نفسَها من حِضن والدتها ونظرت إلى عينيها. والتقطت نفسًا عميقًا. وقالت بحزن: «أعلم يا أمي، وهذا يخيفني. أتمنَّى ألا أخيِّب ظن …»

فقالت نيكول برفقٍ وهي تربِّت على كتفَي ابنتها: «لن تفعلي. ما عليك سوى أن تذكري ما قاله الجدجد في قصة بينوكيو.»

فابتسمت إيلي. وقالت: «ودائمًا ليكن ضميرك مرشدَك.»

سمِعت نيكول نيكي وهي تصيح: «لقد وصل آرشي!» فتلفَّتت حولها تبحث عن زوجها. وسألت نفسَها في خوف: «أين ريتشارد؟ إنني لم أودِّعه …» مرَّت إيلي بجوارها مسرعة وهي تتجه إلى الباب حاملة حقيبتين على ظهرها.

كانت نيكول تلتقط أنفاسها بصعوبة. وسمِعت باتريك يقول: «أين العم ريتشارد؟» ثُم صوتًا من غرفة المكتب يجيب: «أنا هنا.»

فقطعت الرَّدهة مهرولةً إلى غرفة المكتب. فوجدت ريتشارد يجلس على الأرض وحوله مكوِّنات الأجهزة الإلكترونية وحقيبة ظهره المفتوحة. فوقفت نيكول عند البابِ ثانيةً تحاول التقاطَ أنفاسها.

سمِعها ريتشارد من خلفه واستدار إليها. قال بهدوءٍ دالٍّ على عدمِ قلقه: «أهلًا يا حبيبتي. ما زلت أحاول معرفةَ عدد المكوِّنات الإلكترونية الاحتياطية التي يجب أن آخذها معي لأجهزة المترجم.»

فقالت نيكول بهدوء: «لقد وصل آرشي.»

فألقى ريتشارد نظرةً سريعة على ساعته. وقال: «أظن أنه قد حان وقتُ الرحيل.» وملأ كفَّه بمجموعة من القِطَع الإلكترونية ووضعها في حقيبةِ ظهره. ثم وقف واتَّجه إلى نيكول.

وهنا صاح باتريك يناديه: «عمي ريتشارد.»

فصاح ريتشارد بدوره مجيبًا: «أنا قادم. دقيقة واحدة.»

وبمجرد أن أحاطَ ريتشارد نيكول بذراعيه، ارتجف جسدُها. فقال هو: «سيكون كل شيء على ما يرام … هذه ليست المرةَ الأولى التي نفترق فيها.»

تعاظم الخوفُ داخل نيكول إلى درجةٍ كبيرة حتى إنها لم تتمكَّن من التفوُّه بكلمة. وحاولت باستماتةٍ أن تتحلى بالشجاعة، ولكن كان هذا أمرًا مستحيلًا. فقد كانت تعلم أن هذه هي المرة الأخيرة التي ستلمُس فيها زوجها.

ثم وضعت إحدى يديها خلف رأس ريتشارد واقتربت منه قليلًا كي تقبِّله. كم أرادت حينها أن توقِف الزمن، وأن تجعل تلك اللحظةَ تستمر إلى الأبد. ثم التقطت عيناها صورةً لوجه ريتشارد، وطبَعت قُبلة رقيقة على شفتيه.

فقال هو: «أحبك يا نيكول.»

وللحظة، ظنَّت أنها لن تستطيع الردَّ عليه. ولكنها تمكَّنت في النهاية من أن تقول: «وأنا أيضًا أحبك.»

ثم التقط حقيبةَ ظهره ولوَّح لها مودِّعًا. وقفت نيكول عند الباب تراقبه وهو يتَّجه إلى باب المنزل. وسمِعت من داخلها صوتَ أومه وهو يقول: «تذكَّري.»

•••

لم تستطِع نيكي أن تصدِّق حظَّها السعيد. فأمامها عند بوابة مدينة الزمرد مباشرةً، كان هناك نعامصور ينتظرهم، كما قال آرشي بالضبط. وبينما كانت والدتها تغلِق سحَّابة معطفِها كانت هي تتحرَّك بنفادِ صبرٍ لا تطيق الانتظار. وقالت: «هل يمكنني أن أطعمَه يا أمي؟ هل يمكنني هذا؟ هل يمكنني؟»

ومع أن النعامصور كان قابعًا على الأرض، فقد كان على ريتشارد أن يساعد نيكي في الصعودِ على ظهره. فقالت الفتاة الصغيرة بمجرد أن استقرَّت على موضع الجلوس: «شكرًا لك يا جَدي.»

قال آرشي لريتشارد وإيلي وهم يسيرون في الطريق عبْر الغابة: «لقد حدَّدنا وقت التنفيذ بدقةٍ متناهية. فسنصل إلى المعسكر في الوقت الذي ستبدأ فيه جميع القوات في تناول طعام الإفطار. هكذا سيرانا الجميع.»

فسأله ريتشارد: «كيف سنعرف تحديدًا وقتَ ظهورنا؟»

«هناك بعضُ الطفيليات نتحكَّم فيها من الحقول في أقصى الشمال. وبعد أن يستيقظ الجنود ويتجوَّلون خارج خيامهم، سيحلق سريعًا صديقك الطائر تيمي وهو يحمل رسالةً مكتوبة تعلن عن وصولنا الوشيك ليلقيها فوق رءوسهم في الظلام. وستشير رسالتنا إلى أن هناك يراعاتٍ ستكون في مقدِّمتنا وأننا سنلوِّح بعلمٍ أبيض، كما اقترحت.»

لاحظت نيكي أن هناك بعضَ العيون الغريبة تحدِّق إليهم من ظلام الغابة. فقالت لوالدتها: «أليس هذا ممتعًا؟» ولكن إيلي لم تُجِبْها.

•••

أوقف آرشي النعامصور على بُعد كيلومتر تقريبًا جنوب معسكر البشر. وبدت المصابيح وغيرها من مصادر الإضاءة خارجَ الخيام البعيدة أمامهم وكأنها نجوم متلألئة في ذلك الظلام. وهنا قال آرشي: «يجب أن يُسقِط تيمي الرسالة الآن.»

كانوا يتحرَّكون بحذرٍ شديد في الظلام عدة ساعات، ولا يريدون الاستعانةَ باليراعات لتجنُّب احتمال ملاحظة القوات لوجودهم في وقتٍ مبكِّر عما خطَّطوا له. وكانت نيكي نائمةً بهدوء ورأسها في فخذ أمِّها. في حين كان ريتشارد وإيلي متوترين. سأل ريتشارد قبل أن يتوقفوا: «ماذا سنفعل إذا أطلقت القوات النيرانَ علينا قبل أن نقول أيَّ شيء؟»

فأجابه آرشي: «سنعود أدراجنا ونلوذ بالفرار بأسرعِ ما يمكننا.»

فسألته إيلي: «وماذا سيحدُث عندما يطاردوننا بطائرات الهليكوبتر وكشافات البحث؟»

فقال آرشي: «يستغرق النعامصور أربع ودن تقريبًا للوصول إلى الغابة عندما يركض بسرعته القصوى.»

عاد تيمي إلى الفريق وأبلغهم، في حوار قصير من البقبقة والألوان مع آرشي، أنه قد أتمَّ مهمته. ثم ودَّع كلٌّ من ريتشارد وتيمي أحدهما الآخر. وقد عبَّرت عينا الطائر الكبيرتان عن مشاعرَ لريتشارد لم يرَها من قبل، وهو يربِّت على أسفل بطنه. وبعد لحظات قليلة، عندما حلَّق تيمي مبتعدًا باتجاه مدينة الزمرد، أضاءت يراعتان قُرب الطريق واتجهتا صوب معسكر البشر. وكان ريتشارد هو الذي يتقدَّم المجموعة قابضًا بإحكام على العَلم الأبيض بيده اليمنى. والنعامصور يتبَعه على بُعد خمسين مترًا تقريبًا وعلى ظهره إيلي وآرشي والطفلة النائمة.

كان ريتشارد يرى الجنود بمنظاره عندما كانوا على بُعد أربعمائة متر منهم. وكانت القوات منتشرةً تنظر في اتجاههم. وقد أحصى ريتشارد عددهم فوجدهم ستة وعشرين، منهم ثلاثة شاهرون بنادقهم، واثنان يفحصان الظلام بمنظاريهما.

وكما هو مخطَّط، ترجَّل كلٌّ من إيلي ونيكي وآرشي عن ظهر النعامصور عندما كانوا على بُعد مائتي متر من المعسكر. وتراجع النعامصور في حين تقدَّم أربعتهم باتجاه الجنود البشريِّين. فتذمَّرت نيكي التي لم تكن مستعدةً للاستيقاظ من النوم بعدُ، ولكنها هدأت عندما شعرت بأهميةِ طلب أمها منها أن تلزم الصمت.

كان آرشي يسير بين ريتشارد وإيلي. وكانت نيكي تمسك بيدِ أمها وتعدو كي تَلحقَ بخطواتهما. وبعد أن رأى ريتشارد أنه سيكون بإمكانهم سماعه من هذه المسافة، صاح: «مرحبًا. أنا ريتشارد ويكفيلد. لقد جئنا نعرض عليكم السلام.» ثم لوَّح بالعَلم الأبيض بقوة. وواصل: «إن معي ابنتي إيلي وحفيدتي نيكي وممثلًا عن كائنات الأوكتوسبايدر.»

من المؤكد أنه كان مشهدًا مذهلًا للجنود، فلم يرَ أيٌّ منهم كائن أوكتوسبايدر من قبل. وظهرَ ريتشارد والفريق المصاحِب له من قلبِ ظلام راما في الوقت الذي حامت فيه يراعتان فوق رءوس الجنود.

فتقدَّم أحد الجنود إلى الأمام. وقال: «أنا النقيب إنريكو بيوجي، الضابط المسئول عن هذا المعسكر. وأنا أقبَل استسلامكم بالنيابة عن القوات المسلَّحة لعدن الجديدة.»

•••

نظرًا لأن الجنود لم يعرفوا بوصولهم الوشيك إلى المعسكر إلا قبل وصولهم بأقلَّ من نصف ساعة، لم يُتَح وقتٌ كافٍ أمام سلسلة متخذي القرار في عدن الجديدة لوضع خطة للتعامل مع السجناء. فبمجرد أن تأكَّد النقيب بيوجي من أن وفدًا يتكوَّن من رجل وسيدة وطفلة وأوكتوسبايدر فضائي يقترب من معسكره بالفعل، اتصل بالقيادة في نيويورك عبْر اللاسلكي مرةً أخرى وطلب منهم تعليماتٍ حول ما يفعلونه بعد ذلك. فطلب منه العقيد المسئول عن الحملة أن «يتحفَّظ على السجناء في مكانٍ آمن»، و«يستعدَّ لتلقي أوامرَ أخرى».

وقد توقَّع ريتشارد أن أيًّا من الضباط لن يقومَ بأي تصرُّف ذي أهمية حتى يستشيروا ناكامورا شخصيًّا. وكان قد أخبر آرشي في أثناء رحلتهما الطويلة على متن النعامصور أنه سيكون من الضروري استغلالُ أي وقت يُتاح أن يقضوه مع الجنود في المعسكر لبدء إثبات كذِبِ الدعاية التي كانت حكومة عدن الجديدة تنشرها.

فبعد أن تم تفتيشُ السجناء وتجمهر الجنود حولهم، قال ريتشارد بصوتٍ عالٍ: «هذا الكائن هو ما نطلق عليه أوكتوسبايدر. وجميع كائنات الأوكتوسبايدر شديدةُ الذكاء، وفي بعض الجوانب هي أكثرُ ذكاءً منَّا، ويعيش خمسة عشر ألفًا تقريبًا منهم في نصف الأسطوانة الجنوبي الذي يمتد من هنا إلى قاعدة تجويف القطب الجنوبي. وأنا وعائلتي نعيش في مملكتهم منذ أكثرَ من عام، وهذا بمحضِ إرادتنا، وقد وجدنا أن كائنات الأوكتوسبايدر جنسٌ يتمتَّع بحسٍّ أخلاقي ويحب السلام. وقد أتيت أنا وابنتي إيلي مع هذا الممثِّل عن كائنات الأوكتوسبايدر، الذي نطلق عليه آرشي؛ لنحاولَ إيجاد طريقةٍ لوقف المواجهة العسكرية بين الجنسين.»

فسأل أحدُ الجنود إيلي: «ألستِ أنتِ زوجة الدكتور روبرت تيرنر. تلك التي اختطفَتها كائنات الأوكتوسبايدر؟»

فأجابته إيلي بصوتٍ واضح: «بلى أنا. ولكني لم اختَطَف بمعنى الكلمة. لقد أرادت كائنات الأوكتوسبايدر التواصلَ معنا، ولكنها لم تستطِع هذا. فأخذتني لأنها رأت أنني بإمكاني تعلُّم لغتهم.»

فسألها جندي آخرُ غير مصدِّق لكلامها: «هل يتحدَّث ذلك الشيء؟»

حتى تلك اللحظة كان آرشي صامتًا كما كان مخططًا. لذا حدَّق فيه الجنود بذهولٍ عندما بدأت الألوان تتدفَّق من الجانب الأيمن للشق وتدور دورات كاملة حول رأسه. فقالت إيلي مترجمةً ما قال: «إن آرشي يلقي عليكم التحية. ويطلب من كلٍّ منكم أن يفهم أنه لا يود هو أو أيُّ فرد من جنسه إيذاءكم. كما يريدني أن أخبركم أنه يستطيع قراءةَ حركات الشفاه وسيسعده أن يجيبَ عن أي أسئلة قد تطرحونها.»

فقال جندي متعجبًا: «هل هذا حقيقي؟!»

وفي تلك الأثناء، كان النقيب بيوجي يقف بعيدًا عنهم لا يملِك فِعل أي شيء، ويقدِّم وصفًا حيًّا للموقف عبْر جهاز اللاسلكي للعقيد في نيويورك. فكان يقول: «نعم يا سيدي، ألوان على رأسه … جميع الألوان يا سيدي: أحمر، أزرق، أصفر … مستطيلة الشكل، كمستطيلات متحركة، تدور حول رأسه ثم يتبعها المزيد … ما هذا؟ تلك السيدة، زوجة الطبيب يا سيدي … يبدو أنها تفهم ما تعنيه هذه الألوان … كلا يا سيدي، لا يوجد حروف ملوَّنة، فقط شرائط ملوَّنة …

الكائن الفضائي يتحدَّث إلى الجنود الآن يا سيدي … كلا يا سيدي، إنهم لا يستخدمون الألوان … طِبقًا لما تقوله تلك السيدة، يستطيع الأوكتوسبايدر قراءةَ حركات الشفاه … مثل شخصٍ يعاني إعاقةً في السمع يا سيدي … الأسلوب نفسه حسب ظني … مهما كان، فإنه يجيب بالألوان وزوجة الطبيب تترجمُ ما يقول …

كلا، لا يحملون أسلحةً من أي نوع يا سيدي … لكنْ معهم كثيرٌ من لعب الأطفال، والملابس والأشياء الغريبة الشكل التي يقول السجين ريتشارد ويكفيلد إنها مكوِّنات إلكترونية … لُعَب أطفال يا سيدي، قلت لُعَب أطفال … لدى الطفلة كثيرٌ من لُعَب الأطفال في حقيبة ظهرها … كلا، ليس لدينا جهاز فحص هنا … حسنًا، يا سيدي … هل لديك أدنى فكرة كم من الوقت قد ننتظر يا سيدي؟»

•••

في الوقت الذي تلقَّى فيه النقيب بيوجي أخيرًا أوامرَ بإرسال السجناء إلى نيويورك على متن إحدى طائرات الهليكوبتر، كان آرشي قد نجح في ترْك انطباع قوي في نفوس جميع الجنود بالمعسكر. وقد بدأ الأوكتوسبايدر استعراضَ قدراته العقلية المذهلة بضربِ أرقامٍ تتألَّف من خمسة أو ستة أعداد في رأسه.

وقد سأل أحد الجنود الصِّغار السن: «كيف نعرف أن هذا الأوكتوسبايدر يخبرنا بالإجابة الصحيحة؟ فكلُّ ما يفعله هو عرض شريط من الألوان.»

فأجابه ريتشارد ضاحكًا: «ألم تتأكَّد بنفسك يا صديقي من الإجابة باستخدام الآلة الحاسبة الخاصة بالملازم أن الرقم الذي قالته ابنتي كان صحيحًا؟ هل تظن أنها قد حسَبت النتيجة في عقلها هي؟»

فقال الشاب: «آه، نعم. فهمتُ ما تعنيه.»

أما ما خلَب لُبَّ الجنود حقًّا فكان ذاكرةَ آرشي الاستثنائية. حيث كتب أحدُ الجنود، بناءً على طلب ريتشارد، قائمةً تحتوي على سلسلة من عدة مئات من الأرقام على ورقة، ثم قرأها على آرشي رقْمًا تلو الآخر. وأعادهم الأوكتوسبايدر عليهم مرةً أخرى عبْر إيلي، دون أن يرتكب أيَّ أخطاء. وقد ظنَّ بعض الجنود أن الأمرَ ينطوي على خدعةٍ ما؛ فربما يرسل ريتشارد إشاراتٍ مشفرة إلى آرشي. ولكن عندما كرَّر آرشي هذا الإنجازَ تحت ظروف مُحكَمة للغاية تمنع أيَّ مساعدة خارجية، اقتنع جميع مَن شكَّكوا فيه.

عندما وصلت الأوامر بنقل السجناء إلى نيويورك كان الجوُّ العام في المعسكر يتَّسم بالهدوء والألفة. لقد حقَّق الجزء الأول من خطتهم نجاحًا لم يتوقَّعوه قط. ومع ذلك، فقد كان ريتشارد عصبيًّا عندما صعدوا على متن الهليكوبتر لعبور جزء من البحر الأسطواني.

•••

مكَث السجناء في نيويورك ساعةً تقريبًا فحسب. وقد استقبلهم حراسٌ مسلَّحون عند مهبط الطائرة الهليكوبتر في الميدان الغربي، وصادروا حقائبَ ظهرهم رغم اعتراضاتِ ريتشارد ونيكي العالية، واصطحبوهم إلى الميناء. وقد حمَل ريتشارد نيكي بين ذراعيه. وبالكاد وجد وقتًا لينظر بإعجابٍ إلى ناطحات السَّحاب التي تلوح فوق رءوسهم في الظلام، والتي كانت دائمًا ما تثير إعجابه.

كان اليخت الذي عبَر بهم النصف الشمالي من البحر الأسطواني مشابهًا لزوارق التنزُّه التي يستخدمها ناكامورا ورجاله في بحيرة شكسبير. ولم يتفوَّه أيٌّ من الحراس بكلمةٍ لهم في أثناء عبورهم البحر. فهمست نيكي لجَدها وهي تضحك بعدما لم يُلقِ أحدهم بالًا للأسئلة العديدة التي ألقَتها: «جَدي، ألا يعرف هؤلاء الرجالُ كيف يتحدثون؟»

كانت هناك مركبةٌ مخصَّصة للطُّرق البرية تنتظرهم على رصيفِ سفنٍ أُنشئ حديثًا من أجل الأنشطة الجديدة في نيويورك ونصف الأسطوانة الشمالي. وقد شقَّ البشر فتحةً في جدار الحاجز الجنوبي في منطقةٍ متاخمة لموطن المخلوقات الطائرة/اللاسويقية، وبنَوا مرسى سفنٍ ضخمًا، وقد بذلوا في ذلك مجهودًا شاقًّا وتكبَّدوا نفقات ضخمة.

وقد تساءل ريتشارد في البداية عن السبب الذي لم يجعل الطائرة الهليكوبتر تُقِلُّه هو ورفاقه مباشرةً إلى عدن الجديدة. ولكن بعد قليل من التفكير، توصَّل إلى استنتاجٍ صحيح، وهو أن هناك حدًّا أقصى للارتفاع الذي تصل إليه طائراتُ الهليكوبتر التي صُنعت على عُجالة بسبب الارتفاع الشاهق للجدار الحاجز الذي يمتدُّ مسافة كبيرة حتى المنطقة التي تبدأ فيها الجاذبية الصناعية الناتجة عن دوران مركَبة راما في الانخفاض بدرجةٍ كبيرة. وهذا بالإضافة إلى احتمال عدم توافر طيارين مهرة. ففكَّر ريتشارد في نفسه وهو يستقل المركبة: «هذا يعني أن البشَر يجب أن ينقلوا جميعَ عتادهم وجنودهم إما عن طريق هذا الرصيف أو عن طريق الخندق والنفق أسفل الموطن الثاني.»

كان قائدُ مركبتِهم آلي جارسيا. ويسير أمامهم وخلفهم مركبتان أخريان على متنهما بشرٌ مسلَّحون. وقد انطلقت المركبات الثلاث بسرعة كبيرة تشقُّ ظلامَ السهل الرئيسي.

كان ريتشارد يجلس على المقعد الأمامي إلى جوار السائق، بينما جلس كلٌّ من آرشي وإيلي ونيكي في المؤخرة. استدار ريتشارد في مقعده وأخذ يذكِّر آرشي بأن هناك خمسةَ أنواع من الكائنات الآلية في عدن الجديدة، فقاطعه الجارسيا الآلي. قال له: «فلينظر السجين ويكفيلد إلى الأمام ويصمت.»

فقال ريتشارد بلا مبالاة: «أليس هذا سخيفًا بعضَ الشيء؟»

فسحب الجارسيا الآلي ذراعه اليمنى بعيدًا عن عجلةِ قيادة المركبة وبظهر يده صفعَ ريتشارد بقوة على وجهه. وكرَّر مرة أخرى بينما كان ريتشارد يتمالك نفسه من عنف الصفعة: «انظر إلى الأمام، واصمت.»

بدأت نيكي تبكي بعد ذلك اللجوء المفاجئ إلى العنف. فحاولت إيلي أن تهدِّئها وتطمئنها. فقالت الفتاة الصغيرة: «أنا لا أحبُّ هذا السائق يا أمي، لا أحبه.»

كان الظلام يخيِّم على عدن الجديدة بعد أن اقتيد السجناء عبْر نقطة التفتيش عند مدخل الموطن. ووُضع آرشي والبشر الثلاثة في عربة كهربائية مفتوحة يقودها جارسيا آلي آخرُ. وقد لاحظ ريتشارد على الفور أن الجو بارد في عدن الجديدة كما كان في راما تقريبًا. أخذت العربة تقفز وهي تشقُّ طريقها الذي كان في حالةٍ مزرية، واتجهت شمالًا إلى ما كان يومًا محطةَ قطار قرية بوسيتانو. وكان هناك خمسة عشر أو عشرون شخصًا يرابطون حول نيران موقدة على الأرصفة الأسمنتية المحيطة بالمحطة القديمة. كما كان هناك ثلاثة أو أربعة آخرون متمددون ونائمون، يتخذون من صناديق الورق المقوَّى والملابس البالية أغطيةً لهم.

فسألت نيكي والدتها: «ماذا يفعل هؤلاء الناس يا أمي؟» ولكن إيلي لم تُجِب لأن الجارسيا الآلي التفت بسرعة ورمقها بنظرة عدوانية.

كان بإمكانهم رؤيةُ أضواء فيجاس المبهرة أمامهم عندما انعطفت العربة إلى اليسار في حركة حادة إلى زقاق سكني في منطقةٍ مبانيها من الخشب، كانت يومًا جزءًا من غابة شيروود. توقَّفت العربة فجأةً أمام منزل ريفي ضخم يمتد أفقيًّا أمامهم. واقترب من العربة رجلان شرقيان مسلَّحان بمسدَّسات وخناجر. وأشارا إلى ركَّاب العربة كي يخرجوا منها، وبعد ذلك أمرا الآلي بالانصراف. ثم قال أحدهما: «تعالوا معنا.»

دخل آرشي وزملاؤه البشر إلى المنزل، واصطحبهم الحارسان ليهبطوا سلسلةً طويلة من السلالم إلى قبوٍ لا نوافذ له. ثم قال الرجل الثاني: «هناك طعام وماء على المائدة.» ثم استدار وبدأ يصعد درجات السُّلم.

فقال ريتشارد: «انتظِر لحظة. حقائبنا … إننا نحتاج إلى حقائبنا.»

فقال الرجل بنفاد صبر: «سنعيدها إليكم بمجرَّد أن يتم فحصُ محتوياتها بدقة.»

فسأله ريتشارد: «ومتى سنقابل ناكامورا؟»

فهزَّ الرجل كتفيه ووجهه يخلو من أيِّ تعبير. ثم صعِد درجات السُّلم مسرعًا.

٣

مرَّت الأيام ببطء شديد.

في البداية لم يكن بمقدور ريتشارد أو إيلي أو نيكي معرفةُ الوقت، ولكنهم سريعًا ما اكتشفوا أن كائنات الأوكتوسبايدر لديها ساعةٌ داخلية دقيقة دقةً مذهلة، حيث يضبطونها ويُدخِلون عليها تحسيناتٍ في أثناء تعليمهم وهم صِبية. وبعد أن وجَّهوا آرشي إلى استخدام وحدات التوقيت البشري (وقد استخدم ريتشارد التعليقَ الذي كثيرًا ما يستخدمه: «عندما تكون في روما، افعل كما يفعل الرومان …» كي يقنع آرشي بأن يتخلى، على الأقل مؤقتًا، عن وحدات التيرت والودن والفينج والنيليت)، اكتشفوا، عن طريقِ استراق النظر إلى ساعة الحارس الرقمية عندما يُحضِر لهم الطعام والماء، أن دقةَ ساعة آرشي الداخلية لا تحيد عن التوقيت الصحيح إلا بمقدارٍ أقلَّ من عشر ثوانٍ كلَّ أربع وعشرين ساعة.

وجدت نيكي سلواها في سؤالِ آرشي باستمرار عن الوقت، ونتيجةً لذلك تعلَّم ريتشارد ونيكي، بعد تَكرار الملاحظة، كيف يقرءون ألوانَ آرشي الخاصةَ بوحدات قياس الوقت والأرقام الصغيرة. بل إنه مع مرور الأيام، حسَّنت المناقشات الدائمة في القبو من قدرة ريتشارد على فهْم لغة كائنات الأوكتوسبايدر بوجهٍ عام. ومع أن مهارته في فهْم معاني شرائط الألوان لم تكن متقدمةً بعدُ مثل إيلي؛ فبعد أسبوع واحد كان بإمكان ريتشارد أن يتجاذب أطرافَ الحوار مع آرشي بيسرٍ دون الحاجة إلى إيلي لتترجِم له.

وكان البشر ينامون على حشيةٍ يابانية على الأرض. وكان آرشي يخلُد إلى النوم في وضعٍ مُلْتوٍ خلفهم خلال الساعات القليلة التي ينامها كل ليلة. وكان أحد الرجلين الشرقيَّين يجدِّد لهم مخزونهم من الطعام مرةً واحدة كلَّ يوم. ولم يفوِّت ريتشارد فرصةً واحدة لتذكير الحارسَين أنهم لا يزالون ينتظرون حقائبهم ولقاءهم الشخصي مع ناكامورا.

وبعد مرورِ ثمانية أيام لم يَعُد الاستحمام بتمريرِ الإسفنجة على الجسد في حوضِ الاستحمام المتاخِم لحمَّام القبو مُرضيًا. فطلب ريتشارد منهم السَّماح باستخدام مرشَّة ماء وبعض الصابون. وبعد عدةِ ساعات حملوا إليهم حوضَ غسلِ ملابس كبير. فاستحم كلٌّ من البشر الثلاثة، على الرغم من أن نيكي في البداية كانت تعارض بصورةٍ أثارت دهشتَهم خَلْع ملابسها كاملة أمام آرشي. وبعد الاستحمام شعر كلٌّ من ريتشارد وإيلي بأنهما أفضل حالًا حتى إنهما بدآ يتشاركان بعضَ التعليقات المتفائلة. فقال ريتشارد: «لا يمكنه الاحتفاظ بوجودنا سرًّا إلى الأبد. لقد رآنا عددٌ كبير من الجنود … ومن المستحيل ألا يقولوا شيئًا، بغض النظرِ عن أوامر ناكامورا.»

وأضافت إيلي بابتهاج: «أنا واثقة أنهم سيأتون من أجلنا قريبًا.»

ولكن بنهاية الأسبوع الثاني من سجنِهم، خبا ذلك التفاؤل المؤقَّت. فبدأ ريتشارد وإيلي يفقدان الأمل. إلى جانب أن نيكي أصبحت مصدرَ إزعاج وهي تخبرهم دائمًا أنها تشعر بالملل وتشتكي أنه ليس لديها ما تفعله. فبدأ آرشي يروي على نيكي قصصًا حتى يشغَل تفكيرها. وقد كانت «أساطيره» عن كائنات الأوكتوسبايدر تسعد الفتاةَ الصغيرة (وقد دارت بينه وبين إيلي مناقشةٌ طويلة حول المعنى الدقيق لهذه الكلمة قبل أن يقبِّلها في النهاية).

وترجمةُ إيلي للأساطير كانت تبدأ دائمًا بالعبارات التي اعتادت الفتاة أن تسمعها في بداية القصص الخيالية قبل الخلودِ إلى النوم. فكان آرشي يبدأ القصةَ قائلًا: «في سالف العصر والأوان …» فتبدأ الفتاة تصيح في ترقُّب.

سألته الفتاة الصغيرة بعد واحدة من هذه القصص: «كيف كان يبدو شكلُ السلف يا آرشي؟»

فأجابها آرشي: «إن الأساطير لم توضِّح هذا قط. لذا أظن أنه بإمكانك تخيُّل أيِّ صورةٍ تريدينها لهم في ذهنك.»

سألته بعد قصةٍ أخرى: «هل هذه قصةٌ حقيقية؟ أمَا كانت كائنات الأوكتوسبايدر لتغادر كوكبَها لو لم يصحبها السلفُ إلى الفضاء أولًا؟»

فأجابها آرشي: «هذا ما تقوله الأساطير. فهي تقول إن كلَّ ما كنَّا نعرفه تقريبًا حتى خمسين ألف عام مضت، قام السلف بتعليمنا إياه.»

وفي إحدى الليالي بعد أن أخلدت نيكي إلى النوم، سأل ريتشارد وإيلي آرشي عن أصلِ هذه الأساطير. فأجابهما الأوكتوسبايدر: «إنها متداولة منذ عشرات آلاف السنين بزمنكم. وتحوي أقدَمُ السِّجلات الموثَّقة التي تركها جنسنا كثيرًا من القصص التي قصصتُها على مسامعكم في الأيام القليلة الماضية … وهناك العديد من الآراء المختلِفة عن مدى واقعية هذه الأساطير … والدكتورة بلو تؤمن أنها دقيقةٌ كقصص، وعلى الأرجح نتاجُ عملِ قاصٍّ بارع — من سكان الموطن البديل بالطبع — لم يجِد مَن يقدِّر عبقريتَه حقَّ قدْرِها في زمنه.»

وأجاب آرشي عن سؤالٍ آخرَ من أسئلة ريتشارد قائلًا: «إذا صدَّقنا هذه الأساطير، فقد كنَّا — نحن كائناتِ الأوكتوسبايدر — منذ سنواتٍ بعيدة، كائناتٍ بسيطةً تركب البحر، ولم يتمخَّض التطوُّر الطبيعي لنا إلا عن الحدِّ الأدنى من الذكاء والوعي. وقد كان السلف هم مَن اكتشفوا إمكاناتنا، عن طريقِ وضْع رسمٍ توضيحي للخريطة الجينية لدينا، وهم أيضًا مَن حوَّلونا على مدارِ أجيال كثيرة إلى ما أصبحنا عليه عندما وقَعت الكارثة الكبرى.»

فسألته إيلي: «ماذا حدَث للسلف بالضبط؟»

«هناك كثير من الروايات عن هذا الأمر، وبعضها متناقِض. فبعضها يقول إن معظَم السلف أو جميعهم الذين كانوا يعيشون على الكوكب الأساسي الذي كنَّا نعيش معهم عليه؛ يُرجَّح أنهم قد لقوا حتفَهم في الكارثة. وتقول بعض الأساطير إن لهم بعضَ القواعد الاستيطانية البعيدة حول النجوم القريبة، التي استمرَّت موجودة عدةَ مئات من الأعوام، ولكنها أيضًا ما لبِثت أن زالت في نهاية الأمر. وتقول إحدى الأساطير إن السلف قد استمروا في العيش والازدهار في نظمٍ نجمية أخرى بيئتها مناسبة لهم أكثر، وأصبحوا أكثرَ الكائنات العاقلة تَعدادًا بالمجرة. ولكننا لا نعلم الحقيقة. كلُّ ما نعلمه علمَ اليقين هو أن الجزءَ اليابس من كوكبنا الأساسي كان غيرَ صالح للعيش عليه سنواتٍ كثيرة جدًّا؛ وأنه عندما غامرت حضارة كائنات الأوكتوسبايدر بالخروج من الماء مرةً أخرى، لم يكن هناك أيٌّ من السلف على قيد الحياة.»

•••

عندما امتدَّت الأيام إلى أسابيع، أصبح للرباعي المقيم في القبو إيقاعٌ يوميٌّ. ففي كل صباح، قبل أن تستيقظ نيكي وإيلي، كان آرشي وريتشارد يتجاذبان أطرافَ الحديث حول عددٍ كبير من الموضوعات ذات الاهتمام المشترك. أصبحت قدرةُ آرشي على قراءة الشفاه حينها لا غبارَ عليها تقريبًا، ووصل فهْم ريتشارد للغةِ ألوانِ كائناتِ الأوكتوسبايدر مرحلةً كافية، حتى إنه كان نادرًا ما يَطلب من الأوكتوسبايدر أن يعيد ما قال.

وكان كثيرٌ من حواراتهم عن العلم. وكان آرشي مفتونًا بتاريخ تطوُّر العلوم بصورةٍ خاصة عند الجنس البشري؛ فأراد أن يعرف تواريخَ التوصُّل إلى الاكتشافات، ودوافع بحثهم أو تجاربهم في المقام الأول، والنظرياتِ غيرَ الدقيقة أو المتعارضة المفسِّرة للظواهر التي طُرحت جانبًا نتيجةَ مستويات الفهم الجديدة لهذه الظواهر.

قال آرشي في صباحِ أحد الأيام: «إذن فالحرب هي التي سرَّعت من تطوُّر علم الطيران والفيزياء النووية عند جنسك.» ثم أضاف بعد مرور بضعِ ثوانٍ: «يا له من مفهوم مذهل! … لا يمكنك أن تدرك مدى ذهولي لتعرُّفي، ولو بصورةٍ غيرِ مباشرة، على عمليةِ فهْمِكم التدريجية للطبيعة … إن تاريخنا مختلف تمامًا. ففي البداية، كان جنسنا جاهلًا تمامًا. وبعد ذلك بوقتٍ قصير نشأ نوعٌ جديد من كائنات الأوكتوسبايدر، نوعٌ ليس بإمكانه التفكيرُ فحسب، وإنما ملاحظة العالَم وفهْم ما يراه أيضًا. وقد كان لدى معلِّمينا وصانعينا، السلف، تفسيرٌ لكل شيء. ومن ثَم كانت مهمتنا بوصفنا جنسًا من الكائناتِ بسيطةً تمامًا. فقد تعلَّمنا قدْرَ استطاعتنا من معلِّمينا. وبطبيعة الحال، لم يكن في معرفتنا مفهومُ التجربة والخطأ المستخدَم في العلوم. ومن ثَم، فلم تكن لدينا أدنى فكرةٍ على الإطلاق عن كيفية تكوُّن أيِّ عنصر من العناصر المشكِّلة لثقافة من الثقافات. لقد أتاحت لنا عبقريةُ السلف الهندسية تخطِّي مئات الملايين من السنين من التطوُّر.

ومما لا شك فيه أننا لم نكن مستعدين على الإطلاق للاعتناء بأنفسنا بعد أن وقعت الكارثة الكبرى. وطبقًا للأساطير التي تتناول الجوانبَ التاريخية بصورةٍ أعمق، كان نشاطنا الفكري الأساسي لمئات الأعوام التي تلت هو جمعَ كلِّ ما نستطيع العثور عليه أو تذكُّره من المعلومات الخاصة بالسلف وفهْمها. وفي الوقت نفسِه، مع غياب رُعاتنا عنَّا الذين يمنحوننا الخطوطَ الإرشادية فيما يختصُّ بالأخلاقيات، تعرَّضنا لانتكاسةٍ اجتماعية. وعِشنا فترةً طويلة جدًّا من التساؤلات عما إذا كانت كائنات الأوكتوسبايدر الجديدة العاقلة التي صنعَها السلف ستستمر في الحياة أم لا …»

كان ريتشارد مذهولًا بفكرةِ ما أطلق هو عليه «الجنس المستعير للتكنولوجيا». فقال لآرشي في صباح أحد الأيام بنبرة الإثارة التي دائمًا ما تميِّز صوتَه عند التوصُّل إلى اكتشاف: «لم أتخيَّل قط أنه من الممكن أن يكون هناك جنس من الكائنات يسافر عبْر الفضاء ولم يستنبط قوانينَ الجاذبية بمفرده، ولم يستنتج القوانين الأساسية للفيزياء بعد سلسلةٍ طويلة من التجارب، مثل: خصائص الطيف الكهرومغناطيسي. إنها فكرة تُشدِه العقل … ولكن الآن بعد أن فهمتُ ما أخبرتني به، يبدو هذا طبيعيًّا. فإذا قابل الجنس «أ»، وهو جنس متقدِّم يسافر عبْر الفضاء، الجنس «ب»، وهو جنسٌ ذكي ولكنه يأتي بعد الجنس الأول على سُلَّم التقدم التكنولوجي، يبدو من المنطقي تمامًا افتراضُ أنه بعد التواصل بين الجنسين، فإن الجنس «ب» سيتخطَّى درجات سُلَّم التقدُّم التي تفصِل بين الجنسين …»

ففسَّر له آرشي قائلًا: «بل إن حالتنا في تفردُّها تتجاوز ما تقول. فالنموذج الذي تصِفه يبدو طبيعيًّا إلى حدٍّ بعيد، وقد تكرَّر مراتٍ عديدة، وفقًا لتاريخنا والأساطير. فأكثريةُ الكائنات التي تسافر عبْر الفضاء قد «استعارت حضارتها»، على حدِّ تعبيرك، والقلة تطوَّرت تطورًا طبيعيًّا. وانظر على سبيل المثال المخلوقاتِ الطائرةَ والمخلوقات اللاسويقية. فنظامُها التكافلي، الذي اكتسبته دون أي تدخُّل خارجي، كان موجودًا بالفعل منذ آلاف السنوات في نظامٍ نجمي لا يبعُد كثيرًا عن كوكبنا الأم عندما زارهم السلفُ أولَ مرة في رحلة استكشافية. وعلى الأرجح لم تكن المخلوقات الطائرة والمخلوقات اللاسويقية لِتطوِّر إمكانياتِ السفر عبْر الفضاء وحدَها أبدًا. ولكن بعد لقاء السلف ورؤية أول مركبة فضائية في حياتهم، طلبوا منهم الحصولَ على التكنولوجيا اللازمة التي تمكِّنهم من السفر عبْر الفضاء وحصلوا عليها بالفعل …

موقفُنا يختلِف بصفةٍ عامة، وقَطعًا استعرْنا من علمِهم أكثرَ بكثير من هذه المخلوقات. فإذا كانت أساطيرنا صحيحة، فإن السلف كانوا يسافرون عبْر الفضاء عندما كنا نحن كائناتِ الأوكتوسبايدر دون وعي على الإطلاق. وفي تلك الحِقبة لم نكن حتى قادرين على استيعابِ فكرةِ الكوكب، فضلًا عن فكرةِ الفضاء المحيط به. وقد حدَّدت قدرَنا الكائناتُ المتقدمة التي شاركتنا عالَمَنا. فقد أدرك السلف القدرات الكامنة في تكويننا الجيني. وباستخدام مهارتهم في الهندسة الوراثية، أدخلوا على جنسنا تحسيناتٍ وجعلونا كائناتٍ عاقلة، وأشركونا في معلوماتهم، وخلقوا ثقافةً متقدمة على أرضٍ ربما لم يكن من الممكن أن تنشأ عليها ثقافة …»

تكوَّنت علاقةٌ قوية بين ريتشارد وآرشي نتيجةَ الأحاديث الصباحية الدائمة بينهما. فقد جمع بين الاثنين حبُّهما الجارف للمعرفة، مع عدمِ وجودِ ما يعكِّر صفوَ هذه العلاقة. وقد ساعد كلٌّ منهما الآخرَ على زيادةِ فهْمه له، ومن ثَم إثراء تقديرهما المتبادَل لعجائب الكون.

كانت نيكي تستيقظ في غالبيةِ الأيام قبل إيلي. وبعد أن تنتهي الفتاة من تناول طعام الإفطار، تنتقل المجموعة إلى المرحلة الثانية من جدولهم اليومي. ومع أن نيكي كانت تلعب من حينٍ لآخر بعضَ الألعاب مع آرشي، فقد كانت تقضي أغلبَ ما يمكن أن نطلِق عليه صباحها في حضورِ صفٍّ دراسي غير رسمي. وكان لديها ثلاثة معلِّمين. فكانت مع إيلي تقرأ قليلًا وتتدرَّب على بعض عمليات الجمع والطرح الأساسية. وكان جَدها يتحدَّث إليها عن العلوم والطبيعة، وكان آرشي يلقِّنها دروسًا عن السلوكيات الأخلاقية والآداب. كما تعلَّمت أيضًا الحروف الهجائية للغة كائنات الأوكتوسبايدر، وكذلك بعض العبارات البسيطة. وكانت أيضًا تستوعب لغةَ الألوان بسرعةٍ كبيرة، وهو ما عزاه الآخرون إلى جيناتها المعدَّلة وذكائها الفطري.

وقال آرشي لريتشارد وإيلي صباحَ أحد الأيام أثناء مناقشةٍ عن التعليم: «يقضي صغارنا وقتًا طويلًا من فترة دراستهم في مناقشة دراسات حالة تثير مشكلاتٍ أخلاقية مهمة ويقومون بتفسيرها. ويتم اختيارُ مواقفَ من الحياة كأمثلة، على الرغم من أنه يتم تعديل الوقائع الحقيقية تعديلًا طفيفًا لإبراز الموضوعات المهمة، ويُطلب من صغار الأوكتوسبايدر تقييمُ مدى إمكانية تقبُّل الاستجابات الممكنة المختلفة. ويقومون بهذا في مناقشاتٍ مفتوحة.»

فسأله ريتشارد: «وهل هذا يتم بعرضِ مفهومِ النمط الأمثل للحياة على الصِّغار في سنٍّ مبكرة؟»

فأجابه آرشي: «ليس بالضبط. فما نحاول القيام به هو إعداد الشباب للمهمة الفعلية للحياة، التي تتضمَّن التفاعل الدائم مع الآخرين، مع توفُّر كثير من الخيارات الأخلاقية. ويُشجَّع كلٌّ منهم بشدة لاستخدام دراسات الحالة لإكسابه منظومةَ قيمه. فجنسنا يؤمن بأن المعرفة لا توجد في الفراغ. فلا تكون هناك أهميةٌ حقيقية لهذه المعرفة إلا عندما تكون جزءًا لا يتجزأ من أسلوب الحياة …»

وقد كانت دراسات الحالة التي يعرضها آرشي على نيكي بسيطة، ولكنها تناقش مشكلاتٍ أخلاقية تهذِّب من الشخصية. وقد غطَّت أولَ ثمانية دروس الموضوعاتِ الأساسيةَ، مثل: الكذب والعدل والتحيُّز والأنانية. وقد كانت استجابات الفتاة للمواقف تستند في الغالب إلى أمثلةٍ من حياتها هي.

وقد قالت نيكي في أحدِ الدروس: «جاليليو دائمًا يقول أو يفعل أيَّ شيء يرى أنه سيجعله يحصل على ما يريد. فما يريده أكثرُ أهميةً له من أيِّ شيء آخر … أما كيبلر فيختلف عنه. إنه لا يدفعني إلى البكاء أبدًا.»

كانت نيكي تنام قليلًا بعد الظهيرة. وفي أثناءِ فترة نومها كان ريتشارد وإيلي وآرشي كثيرًا ما يتبادلون التعليقات والآراء التي تلقي ضوءًا على أوجهِ التشابه والاختلاف بين الجنسين. وقد قالت إيلي في أحدِ الأيام، بعد حوارٍ حيوي عن الكيفية المناسبة التي ينبغي أن تتعامل بها الكائناتُ الذكية الحسَّاسة مع الأعضاء من مجتمعها ذوي السلوكيات المعادية للمجتمع: «إذا كنتُ أفهم مجتمعكم فهمًا صحيحًا، فإنه أقلُّ تسامحًا بكثير من مجتمعنا … فمن الواضح أن هناك «أسلوبًا مفضَّلًا للحياة» يمليه مجتمعكم. ومَن لا يعتنقون هذا النموذج المفضَّل من كائنات الأوكتوسبايدر لا يُنبَذون في الحال فحسب، ولكن يُحرمون أيضًا من المشاركة في كثيرٍ من أنشطة الحياة، و«تُنهَى حياتهم» بحيث يقضون وقتًا أقصرَ من العمر الطبيعي …»

فأجابها آرشي قائلًا: «في مجتمعنا، الأشياءُ المقبولة دائمًا واضحة، لا مجالَ لِلَّبس كما هو الحال في مجتمعكم. ومن ثَم فإن الأفراد في مجتمعنا يحدِّدون اختياراتهم مع وعي كامل بالعواقب. وبالمناسبة، إن الموطن البديل ليس مثل السجون لديكم. إنه مكانٌ يمكن لكائنات الأوكتوسبايدر، وغيرها من الكائنات أيضًا، أن تعيش فيه دون التقيُّد بالنظام الصارم والنمط الأمثل للحياة الضروريان للتطوُّر المستمر للمستعمَرة واستمرار وجودها. وبعض سكان الموطن البديل يعيشون حتى يتقدَّم بهم العمر كثيرًا، ويحيون حياةً سعيدة إلى حدٍّ كبير …

ويبدو أن مجتمعكم، وهذا على حدِّ ملاحظتي، لا يفهم التعارضَ الجوهري بين الحرية الشخصية والمصلحة العامة. فيجب الموازنةُ بين الاثنين بحرص. فلا يمكن أن يُكتب لجماعةٍ الحياة، فضلًا عن الازدهار، إلا إذا كانت المصلحة العامة للمجتمع ككل أكثرَ أهميةً من الحرية الفردية … انظر إلى توزيع الموارد على سبيل المثال. كيف يمكن لأي شخص أيًّا كانت درجةُ ذكائه أن يبرِّر، بالنسبة للمجتمع ككل، أن يحشد عددٌ قليلٌ من الأشخاص ثرواتٍ مادية ضخمة ويدَّخرونها، في حين أن الباقي لا يملكون حتى الطعام أو الملبس أو ضروريات الحياة الأخرى؟»

وفي ذلك القبو، لم يكن آرشي متحفظًا في حديثه أو مراوغًا كما كان في بعض الأحيان في مدينة الزمرد. فقد تحدَّث بصراحة عن جميع جوانب حضارته، وكأن المهمةَ المشتركة التي كان ينفِّذها مع زملائه من البشر قد حرَّرته بطريقةٍ ما من جميع القيود. فهل كان آرشي يبعث برسالةٍ عن قصد إلى البشَر الآخرين الذين من المؤكد أنهم كانوا يراقبون ذلك الحوار؟ ربما. ولكن كم من الحديث فهمه رجال ناكامورا وهم لا يعرفون شيئًا عن لغةِ الألوان؟ كلا، لقد كان آرشي على الأرجح يعرف، أكثرَ من أيٍّ من البشر، أن موته وشيكٌ، وأراد أن تكون أيامُه الأخيرة مستنفرة للآخرين، وذات معنًى قدْرَ الإمكان.

وذات ليلة قبل أن يأويَ ريتشارد وإيلي إلى الفِراش، قال آرشي إن لديه أمرًا «شخصيًّا» يود أن يطلعهم عليه. فقال: «أنا لا أريد أن أفزعكم، ولكنني قد استهلكت تقريبًا جميعَ زادي من الباريكان الموجودِ في مخزني الداخلي المؤقت. فإذا بقينا هنا وقتًا أطولَ من هذا ونفد الباريكان، فسأبدأ، كما تعرفون، في النضوج جنسيًّا. ووفقًا لما ورد في ملفاتنا، سأصبح أكثرَ عدوانية وحبًّا للتملُّك في ذلك الوقت. أتمنى ألا أصبح …»

فقال ريتشارد ضاحكًا: «لا تقلق. لقد تعاملت مع مراهقين من قبل. ويمكنني أن أتعامل كما ينبغي مع أوكتوسبايدر متقلِّبِ المزاج.»

•••

في صباح أحدِ الأيام طلب الحارس الذي يُحضِر لهم الطعام والماء من إيلي أن تُعِدَّ نفسَها والفتاة للرحيل. فسألته إيلي: «متى؟»

فأجابها الحارس: «بعد عشر دقائق.»

فسألته إيلي: «إلى أين سنذهب؟»

ولكنَّ الحارس لم يُجِب عليها واعتلى درجات السُّلَّم حتى اختفى.

وبينما كانت إيلي تبذل قصارى جهدها لإنعاشِ نفسِها ونيكي، راجعت مع ريتشارد وآرشي ما ستقوله إذا تمكَّنت من مقابلة ناكامورا أو أي قائدٍ آخرَ من قادة عدن الجديدة.

وقد شدَّد عليها والدها وهو يهمس لها بسرعةٍ في أحد أركان الغرفة: «لا تنسي أنه لا بأس في أن نقول إن كائنات الأوكتوسبايدر كائناتٌ محبَّة للسلام، ولكننا لن نستطيع منْعَ قيام أي حرب إلا إذا أقنعنا ناكامورا أنه لا يستطيع الانتصارَ في أي صراع مسلَّح معها. ويجب أن تؤكدي أن تقنياتهم متقدِّمة أكثر منَّا بمراحل.»

«ولكن ماذا لو سألوا عن التفاصيل؟»

«لن يكون من المتوقَّع منك أن تكوني على علمٍ بأي تفاصيل. أخبريهم أنني يمكنني أن أمنحهم جميعَ التفاصيل.»

تم اصطحاب إيلي ونيكي في عربةٍ كهربية إلى مستشفى المستوطنة في المدينة الرئيسية. ثم أُدخلوا بسرعة عبْر مدخل الطوارئ إلى مكتبٍ صغير معقَّم به مقعدان وأريكة أو فِراش يُستخدم لفحص المرضى، وبعض الأجهزة الإلكترونية المعقَّدة. جلست إيلي ونيكي بمفردهما عشر دقائق قبل أن يدلِف الدكتور روبرت تيرنر إلى الغرفة.

كان التقدُّم الكبير في العمر باديًا عليه. قال وهو يبتسم وينحني إلى أسفلَ باسطًا ذراعيه: «مرحبًا يا نيكي. تعالي إلى حِضن والدك.»

تردَّدت الفتاة لحظةً ثم ركضت قاطعةً الغرفةَ إلى والدها. فالتقطها روبرت ورفعها إلى أعلى وأخذ يؤرجِحها وهي بين ذراعيه. وقال: «من الجيد أن أراك مرةً أخرى يا نيكي.»

وقفَت إيلي في مكانها وانتظرت. وبعد عدةِ ثوانٍ وضَع روبرت ابنتَه مرةً أخرى على الأرض ونظر إلى زوجته. وسألها: «كيف حالك يا إيلي؟»

فأجابته إيلي، وهي تشعر فجأةً بالارتباك: «بخير. كيف حالك أنت يا روبرت؟»

قال: «مثلك تقريبًا.»

ثم تقابلا في منتصفِ الغرفة وتعانقا. وحاولت إيلي أن تقبِّله قُبلة حانية، ولكن ما إن تقابلت شفاههما حتى أدار روبرت وجهه. وشعرت هي بالتوتر الذي يسري في جسده.

فسألته إيلي برفق: «ما الأمر يا روبرت؟ ماذا حدث؟»

فأجابها: «لقد أثقلت كاهلي بالعمل، كالمعتاد.» ثم تحرَّك إلى جوارِ فِراش الفحص. وقال: «هلَّا خلعتي ملابسك يا إيلي ورقدتي هنا من فضلك؟ أريد أن أتأكد أنك على ما يرام.»

سألته إيلي وهي لا تصدِّق نفسَها: «الآن يا روبرت؟ قبل حتى أن نتحدَّث عما حدَث لنا في الأشهر التي افترقنا فيها؟»

فقال روبرت وهو يحاول الابتسام: «أنا آسف يا إيلي. أنا مشغول جدًّا الليلة. هناك نقصٌ شديد في فريق العمل بالمستشفى. لقد طلبت منهم أن يفرجوا عنك بناءً على وعدٍ مني بأن …»

كانت إيلي قد دارت حول الفِراش لتقفَ بالقرب من زوجها. والتقطت يدَه وقالت برفق: «روبرت، أنا زوجتك. وأحبك. لم يرَ كلٌّ منَّا الآخرَ منذ أكثر من عام. فمن المؤكد أن بإمكانك إيجاد دقيقة …»

اغرورقت عينا روبرت بالدموع. فاجتاحها الخوفُ فجأة: «ما الأمر يا روبرت؟ أخبرني.» وفكَّرت في نفسِها في رعب: «لقد تزوَّج من أخرى.»

فقال هو فجأةً بصوتٍ عالٍ: «ما الذي حدَث لك يا إيلي؟ كيف تخبري أولئك الجنود أنك لم تُختطفي وأن كائنات الأوكتوسبايدر ليست عدوانية؟ لقد جعلتِ مني أضحوكة. لقد سمعني كلُّ مواطن في عدن الجديدة في التليفزيون وأنا أصِف تلك اللحظة الرهيبة التي اختُطِفتِ فيها … إنني أتذكَّر تمامًا كلَّ ما حدَث ذلك اليوم …»

تراجعت إيلي إلى الخلفِ في البداية عندما بدأ روبرت يصرُخ فيها. وكانت ترى بوضوحٍ الألمَ الذي يشعر به وهي تقف تستمع إليه ولا تزال ممسكة بيده. فقالت: «لقد قلت هذا يا روبرت لأني كنتُ، وما زلت، أحاول فِعلَ ما بوسعي لمنعِ أي صراع بيننا وبين كائنات الأوكتوسبايدر … وأنا آسفة إذا كان ما قلته قد سبَّب لك ألمًا.»

فقال روبرت بمرارة: «لقد أجرَت كائناتُ الأوكتوسبايدر عمليةَ غسيل مخٍّ لك يا إيلي. لقد تأكَّدت من هذا بمجرد أن أراني رجالُ ناكامورا التقارير. لقد تلاعبوا بعقلك بطريقةٍ ما، حتى إنك لم تعودي تعرفين الحقيقة.»

كانت نيكي قد بدأت تبكي بصوتٍ منخفض عندما رفع روبرت صوتَه للمرة الأولى. ولم تفهم سببَ الخلاف بين والديها، ولكنها عرفت أن الأمور بينهما ليست على ما يُرام. فبدأت تبكي وتلتصق بساق أمِّها.

فقالت إيلي محاوِلةً تهدئتها: «لا بأس يا نيكي. إنني أتحدَّث أنا ووالدك فحسب.»

عندما رفعت إيلي عينيها إلى أعلى، كان روبرت قد أخرج قلنسوةَ جمجمةٍ شفافة من أحد الأدراج وأمسكها بيده. فسألته بعصبية: «هل ستكشف عليَّ بمخطِّط كهربية الدماغ؛ كي تتأكَّد من أنني لم أصبح واحدةً منهم؟»

فأجابها روبرت: «إنه ليس أمرًا مضحكًا يا إيلي. لقد كانت جميعُ نتائج مخططات كهربية الدماغ الخاصة بي غريبة منذ أن عُدت إلى عدن الجديدة. ولا أستطيع أنا أو طبيبُ المخ والأعصاب في فريق عملي هنا معرفةَ السبب. بل ويقول إنه لم يرَ قط من قبلُ مثلَ هذه التغيرات الجذرية في نشاط مخٍّ بشري، فيما عدا في حالة الإصابة الشديدة بالمخ.»

فقالت إيلي وهي تعود لتمسك بيده: «روبرت. لقد زرعَت كائناتُ الأوكتوسبايدر كائنًا حيًّا دقيقًا ليمحوَ ذاكرتك عندما رحلت. وذلك لحماية أنفسهم. قد يكون هذا جزءًا من تفسير الموجات المخية الغريبة لديك.»

فنظر إليها روبرت وقتًا طويلًا دون أن يتحدَّث. ثم قال: «لقد اختطفوك. وتلاعبوا بمخي … يا تُرى ما الذي فعلوه بابنتنا؟ كيف تدافعين عنهم؟»

•••

خضعت إيلي لفحصِ كهربية الدماغ ولم تُظهِر النتائجُ أيَّ خلل أو اختلاف كبير عن فحوصات المخ العادية التي كانت تخضع لها في الأيام الأولى للمستوطنة. وكان يبدو الارتياحُ الصادق على وجهِ روبرت. ثم أخبر إيلي أن ناكامورا وحكومته مستعدُّون لإسقاط جميع التهم عنها، وسيتركونها تعود إلى منزلها مع نيكي إذا أمدَّتهم بمعلوماتٍ عن كائنات الأوكتوسبايدر، وبالطبع على أن تظلَّ تحت الإقامة الجبرية بمنزلها مؤقتًا. فكَّرت إيلي في الأمر بضع دقائق ثم وافقت.

فابتسم روبرت واحتضنها سريعًا ثم قال: «هذا جيد. ستبدئين غدًا … وسأخبرهم أنا بذلك على الفور.»

وكان ريتشارد قد حذَّر إيلي وهم على ظهرِ النعامصور أن ناكامورا قد يحاول استغلالَها بطريقةٍ ما؛ أغلب الظن لتبرير استمراره في الإعداد للحرب. وكانت إيلي تعرِف أنه بالموافقة ظاهريًّا على مساعدةِ حكومةِ عدن الجديدة، فإنها تسير في طريقٍ محفوف بالمخاطر. قالت في نفسِها وهي تسترخي في حوض استحمام دافئ: «لا بد أن أحرص على ألا أقولَ أيَّ شيء يمكن أن يؤذي ريتشارد أو آرشي. أو يمنح ناكامورا الأفضليةَ في حرب محتملة.»

في البداية لم تشعر نيكي بالألفة في غرفتها القديمة، ولكن بعد ساعة تقريبًا من اللهو بلُعَبها، بدا الرضا التامُّ عليها. فدلفت إلى الحمَّام، حيث كانت إيلي تستحم، ووقفت إلى جوار حوض الاستحمام. وسألت أمَّها: «متى سيعود أبي إلى المنزل؟»

فأجابتها إيلي: «إنه سيتأخر يا حبيبتي. سيعود بعد أن تأوي إلى الفِراش.»

فقالت الفتاة: «إنني أحبُّ غرفتي يا أمي. إنها أفضلُ كثيرًا من ذلك القبو القديم.»

فأجابت إيلي: «يسعدني هذا.» فابتسمت الفتاة الصغيرة وغادرت الحمَّام. فالتقطت إيلي نفسًا عميقًا. وفكَّرت في نفسها: «ما كان الأمر ليجدي أيَّ نفعٍ إذا رفضتُ التعاون وأعادونا إلى القبو.»

٤

لم تكن كيتي قد انتهت من زينتها عندما سمِعت صوتَ جرس الباب. فالتقطت نفسًا عميقًا من السيجارة المشتعلة في منفضة السجائر إلى جوارها ثم ضغطت على زر «التحدُّث». وقالت: «مَن الطارق؟»

فجاءها الجواب: «إنه أنا.»

«ماذا تفعل هنا في منتصف النهار؟»

فردَّ عليها النقيب فرانتس باور: «لديَّ بعض الأخبار الهامة. دعيني أدخل.»

فالتقطت نفَسًا عميقًا من سيجارتها ثم سحقتها في المنفضة. ووقفت تلقي نظرةً على نفسِها في المرآة الكبيرة التي تُظهِر جسدَها بالكامل. وعدَّلت من هيئة شعرها قليلًا قبل أن تعود الطَّرقات على الباب.

فقالت كيتي وهي تدعوه إلى دخول الغرفة: «من الأفضل أن يكون الأمر مهمًّا حقًّا يا فرانتس، وإلا فستنال عقابًا قاسيًا. فأنت تعلم أن لديَّ مجلسًا تأديبيًّا مع اثنتين من الفتيات في غضون دقائقَ قليلة، وأنا أكره أن أتأخَّر عن موعدي.»

علَت وجهَ فرانتس ابتسامةٌ عريضة. قال: «هل ضبطتهما تسرقان مرةً أخرى؟ يا إلهي يا كيتي! سأكره حقًّا أن تكوني أنت رئيستي في العمل.»

فنظرت كيتي إليه بنفادِ صبر. وقالت: «ما الأمر؟ ما هذا الشيء الأكثرُ أهميةً من أن تخبرني به عبْر الهاتف؟»

بدأ فرانتس يسير في أرجاء غرفة المعيشة. وقد كانت الغرفة مصمَّمة بأسلوبٍ ينِمُّ عن ذوق رفيع، وبها أريكة كبيرة لونها أبيض وأسود، وأريكة أخرى صغيرة تكفي شخصين، ومقعدان متشابهان، والعديد من التحف الفنية على كلٍّ من منضدة الغرفة الصغيرة ومنضدة القهوة. سألها: «شقتك لا تحوي أجهزةَ تنصُّت، أليس كذلك؟»

فقالت كيتي: «أخبرني أنت يا ضابط الشرطة.» ثم أضافت وهي تنظر إلى ساعتها: «والآن فرانتس، في الحقيقة ليس لديَّ …»

فقال فرانتس: «هناك معلوماتٌ موثوق بها تشير إلى أن والدك هنا في عدن الجديدة الآن.»

فقالت كيتي: «ماذا؟ كيف هذا؟» بدا عليها الذهول. جلست على الأريكة ومدَّت يدها لتلتقط سيجارةً أخرى من فوق منضدة القهوة.

«أحدُ الملازمين في فرقتي صديقٌ مقرَّب من أحد حراس والدك. وقد قال له إن ريتشارد وأحد كائنات الأوكتوسبايدر محتجزان في قبو منزل سري لا يبعُد كثيرًا عن هنا.»

فاجتازت كيتي الغرفةَ والتقطت سماعةَ الهاتف. وقالت عبْرها: «دارلا! أخبري لورين وأتسوكو أن موعد اليوم قد أُلغي … لقد طرأ شيء ملحٌّ … أخبريهما أنه سيكون في الساعة الثانية من ظهر الغد … نعم، هذا صحيح … لقد نسيت … اللعنة! … حسنًا، اجعليه في الحادية عشرة صباحًا … لا، بل الحادية عشرة والنصف. فلا أريد أن أستيقظ في وقتٍ مبكِّر للغاية.»

عادت كيتي إلى أريكتها والتقطت سيجارتها. وأخذت منها نفَسًا عميقًا ثم نفثت الدخان حلقاتٍ فوق رأسها. وقالت: «أريد أن أعرف كلَّ شيء سمِعته عن والدي.»

أخبر فرانتس كيتي أن والدها وشقيقتها إيلي وابنةَ شقيقتها وكائن أوكتوسبايدر، طبقًا لمصادره، ظهروا فجأةً وهم يحملون عَلمًا أبيضَ في معسكر الجنود عند الضفة الجنوبية للبحر الأسطواني منذ شهرين تقريبًا. وأخبرها أن الوضع كان هادئًا، بل إنهم أخذوا يمزحون مع الجنود، على حدِّ تعبير فرانتس. وقد قال والدها وشقيقتها للجنود إنهم جاءوا مع ممثلٍ عن كائنات الأوكتوسبايدر ليروا أيمكنُ تجنُّب نشوبِ صراع بين الجنسين من خلال المفاوضات أم لا. وقد أمر ناكامورا بأن يظلَّ الأمر برُمَّته طيَّ الكتمان واحتجزهم …

كانت كيتي تقطع الغرفةَ جَيئة وذهابًا بخطًى سريعة. ثم قالت في سعادة: «إن والدي ليس حيًّا يُرزق فحسب، بل هنا أيضًا في عدن الجديدة … هل أخبرتك من قبلُ يا فرانتس أن أبي أذكى إنسانٍ وُجِد على الإطلاق؟»

ضحِك فرانتس. وقال: «عشرات المرات. وأنا لا أتخيَّل كيف يمكن أن يكون هناك شخصٌ أكثرُ ذكاءً منك.»

لوَّحت كيتي بيدها. وقالت: «إنني مقارنةً به بلهاءُ. لطالما أحببته حبًّا جمًّا. كان بإمكاني الإفلاتُ بأي شيء أرتكبه دون عِقاب.» ثم توقَّفت عن خطاها السريعة والتقطت نفسًا عميقًا من سيجارتها. ولمعت عيناها وهي تنفُث الدخان. وقالت: «فرانتس. يجب أن أرى أبي … يجب أن أراه.»

فقال هو: «هذا مستحيلٌ يا كيتي. بل من المفترضِ ألا يعرف أحدٌ أنه هنا من الأساس. من الممكن أن أُفصل من عملي، أو يحدُث لي ما هو أسوأ، إذا ما اكتشف أحدٌ أنني أخبرتك …»

فقالت كيتي وهي تجتاز الغرفةَ وتجذِبه من كتفيه: «إنني أرجوك يا فرانتس. أنت تعلم أنني أكره أن أطلبَ معروفًا من أحد … ولكنَّ هذا الأمر شديد الأهمية لي.»

كان فرانتس سعيدًا أن كيتي تطلُب منه هذه المرة شيئًا. ولكنه مع ذلك أخبرها الحقيقة. قال: «كيتي، إنكِ ما زلت لا تفهمين. هناك مجموعة من الحرَّاس المسلَّحين مرابطةٌ حول المنزل طَوال الوقت. وثمَّة أجهزةُ تنصُّت مزروعة في القبو بالكامل تعرِض ما يجري فيه صوتًا وصورةً على شاشات. لا يوجد سبيل إلى ذلك.»

فقالت كيتي بنبرةٍ قوية: «هناك دائمًا سبيلٌ ما، إذا كان هناك شيءٌ على قدْر كبير من الأهمية.» ثم اتجهت إليه وداعبته. ثم قبَّلته بقوة وهي تقول: «إنك تحبني يا فرانتس. أليس كذلك؟»

فأجابها فرانتس وهي تبتعد عنه بعد أن نجحت في إثارة مشاعره: «بالطبع أحبك يا كيتي. ولكني لست مجنونًا.»

فسارت كيتي إلى غرفتها وعادت بعد أقلَّ من دقيقة تحمل رِزْمتين من النقود. وقالت وهي تلقي النقود على مائدة القهوة: «سأرى أبي يا فرانتس، وأنت ستساعدني … يمكنك رشوةُ أيِّ شخص تشاء بهذه النقود.»

سال لعابُ فرانك عندما رأى النقود، فقد كانت أكثرَ من كافيةٍ مقارنةً بما تطلبه كيتي. فقال مازحًا: «وماذا ستقدِّمين لي؟»

فقالت كيتي: «ماذا سأقدِّم لك؟ ماذا سأقدِّم لك؟» ثم اصطحبته من يده وقادته إلى غرفة النوم. وقالت بنبرةٍ حازمة: «الآن أيها النقيب باور، انزعُ ملابسك، وارقدْ على ظهرك. وسترى ما سأقدِّمه لك.»

كان في شقة كيتي غرفةُ ملابس ملحَقة بغرفة نومها. فدلفت هي إليها وأغلقت البابَ خلفها. واستخدمت مفتاحًا لتفتح صندوقًا كبيرًا مزخرفًا أعلى الرَّف، وسحبَت منه إحدى الحقن الممتلئة التي حضَّرتها في وقتٍ مبكر من ذلك اليوم. ورفعت كيتي رداءها وربطت عِصابةً محكَمة حول فخِذِها باستخدام أنبوب صغير أسود اللون. وانتظرت لحظةً حتى ميَّزت بوضوحٍ وعاءً دمويًّا بين الجروح العديدة في فخذها ثم غرست الحقنةَ بمهارة فيه. وبعد أن دفعت السائل بالكامل في مجرى دمِها، انتظرت ثواني قليلةً حتى يبدأ المفعول السحري للمخدِّر ثم أزاحت العِصابة.

«ماذا عساي أن أفعل وأنا أنتظر؟»

فقالت: «ستجد شِعر ريلكا في قارئي الإلكتروني بالألمانية والإنجليزية. وأنا سأوافيك في غضونِ دقائقَ قليلة.»

شعرت كيتي أنها تحلِّق في السماء. فبدأت تدندن لحنًا راقصًا وهي تلقي بالحقنة بعيدًا وتعيد العِصابة إلى الصندوق. ثم تجرَّدت من ملابسها ونظرت إلى نفسِها في المرآة، بعد أن وضعت ملابسَها على مقعدِ المزينة في كومةٍ صغيرة. وفتحت درجًا كبيرًا وأخرجت منه عِصابة للعين.

دلفت كيتي إلى غرفة النوم. فثبَّت فرانتس عينيه على جسدها الرشيق. قالت له كيتي: «متِّع عينيك، فهذا كلُّ ما ستراه اليوم.»

واقتربت منه بتلقائية وقبَّلته وهي تغطي عينيه. وتأكَّدت من أن العِصابة مُحكمة ثم نهضت عن الفراش. فسألها فرانتس: «ماذا سيحدُث الآن؟»

أجابته كيتي قائلة: «انتظر وسترى»، وهي تفتش في درجٍ كبير أسفل مزينتها. كان الدرج يضم مجموعةً من الممتلكات الشخصية، بما في ذلك أدوات إلكترونية من كل الأنواع ومستحضرات غسول وأقنعة وغيرها. فاختارت كيتي زجاجةً صغيرة بها سائل مرطِّب وعلبة بودرة بيضاء وسلسلة من بضع خرزات معلَّقة في خيط رفيع.

انضمت كيتي إلى فرانتس على الفِراش وهي تدندن وتضحك، وبدأت تمرِّر يديها على صدره. التصقت به وقبَّلته بقوة، ثم اعتدلت جالسة. وضعت السائل المرطِّب على يديها وفركتهما ثم باعدت بين ساقيه، وزحفت على بطنه وبدأت تدلِّك السائل المرطِّب على المواضع الحسَّاسة من جسده.

تنهَّد فرانتس وقال لها مستحسنًا بعد أن بدأ مفعولُ السائل المرطِّب: «هذا رائع.»

نثرت كيتي البودرةَ على الأجزاء الحسَّاسة من جسده. كان في غاية لذته. ظلَّت تداعبه برفق بضعَ دقائق. ثم توقَّفت فجأة. وبعد ذلك عادت تداعبه مجددًا، ثم توقَّفت مرة أخرى.

صاح بها فرانتس: «لا تتوقفي الآن.»

قالت له كيتي وهي تضحك: «كرِّر بعدي. أقسم …»

صرخ فرانتس قائلًا: «أقسم لك بأي شيء تطلبينه. لكن لا تتوقفي.»

فأكملت «أقسم أن ترى كيتي ويكفيلد والدها خلالَ الأيام القليلة القادمة.»

وحينما كرَّر فرانتس القَسم الذي لقَّنته إياه كافأته. حتى شعر أنه في قمة سعادته ونشوته.

•••

لم يرُق لإيلي المحقِّقان اللذان يستجوبانها. فقد كان كلاهما جافًّا، ولا يعرف المزاح، وتعاملا معها بازدراء شديد. وقد قالت لهما في نبرة ساخطة عندما طرحا عليها أحدَ الأسئلة في اليوم الأول من التحقيق: «إذا أصررتما على طرحِ الأسئلة نفسِها مرارًا وتكرارًا، فهذا لن يفلح أيها السادة … أعرف أنكم طلبتم مني إمدادكم بمعلوماتٍ عن كائنات الأوكتوسبايدر … ولكن حتى الآن جميعُ الأسئلة التي تكرِّرونها تخصُّ أمي وأبي؛ فهي بعيدة تمامًا عن الموضوع.»

فقال الرجل الأول: «سيدة إيلي، إن الحكومة تحاول جمْعَ كافة المعلومات عن هذه القضية. لقد كان والدك ووالدتك هاربَين عدة …»

فقاطعته إيلي: «اسمعني، لقد أخبرتكما من قبلُ أنني لا أعرف شيئًا على الإطلاق عن كيفيةِ تركِ أيٍّ من والديَّ لعدن الجديدة. أو توقيت ذلك أو سببه. وليست لديَّ أي معلومات عما إذا كانت كائنات الأوكتوسبايدر قد ساعدتهم على الهرب بأي طريقة. الآن، إذا لم تكونوا مستعدين لتغيير موضوع الأسئلة …»

فقال الرجل الثاني وعيناه تبرقان: «لستِ أنت، يا سيدتي الصغيرة، مَن يقرِّر الأسئلة المناسبة في هذا التحقيق. ربما أنتِ لا تدركين مدى خطورة موقفك. إننا سنعفيك من المحاكمة — بتهمةٍ خطيرة، إن توخَّيت الدقَّة — فقط إذا تعاونتِ معنا تعاونًا كاملًا.»

فسألته إيلي: «وهل لي بمعرفة التهمة الموجَّهة إليَّ؟ إنني أشعر بالفضول لمعرفة ذلك … فلم أكن مجرمةً من قبلُ.»

فقال الرجل الأول: «يمكن اتهامك بالخيانةِ العظمى. ومساعدة العدوِّ عمدًا في فترة إعلان الحرب.»

فأجابته إيلي وقد بدأت تشعر بالخوف: «هذه تهمة مضحكة. ليس لديَّ أدنى فكرة عمَّا تتحدَّث عنه.»

«هل تنكرين أنك في أثناء الفترة التي قضيتها مع الكائنات الفضائية، منحتِهم بمحض إرادتك معلوماتٍ عن عدن الجديدة قد تكون مفيدةً لهم في الحرب؟»

فأجابته إيلي وهي تضحك بعصبية: «طبعًا فعلتُ. لقد أخبرتهم بكلِّ ما يمكنني قوله عن المستوطنة. وقد بادلوني المعلومات. فأطلعوني على جميع المعلومات المشابهة الخاصة بهم.»

فكتب كلٌّ منهما بعضَ العبارات سريعًا على الأوراق أمامهما. تساءلت إيلي في داخلها: «كيف أصبحا هكذا؟ كيف يمكن أن يتحوَّل طفل فضولي يملأ الدنيا بالضَّحك إلى شخصٍ ناضج متجهِّم وعدواني على هذا النحو؟ أهي التنشئة أم الوراثة؟»

وقالت إيلي عندما طرحا عليها سؤالًا آخرَ: «انظرا أيها السيدين، هذا الأمر لا يسير على ما يرام بالنسبة إليَّ. وأود أن نأخذ استراحةً كي أنظِّم أفكاري. وقد أدوِّن بعضَ الملاحظات قبل أن نعودَ إلى التحقيق … لقد تصوَّرت تحقيقًا مختلفًا تمامًا، تحقيقًا أكثرَ هدوءًا …»

وافق الرجلان على الاستراحة. فسارت إيلي في الرواق إلى حيثُ كانت جليسةُ أطفال حكومية تعتني بنيكي. وقالت لها: «يمكنك الذهابُ الآن يا سيدة آدامز. لقد توقَّفنا لتناول الغداء.»

رأت نيكي القلقَ الذي يرتسم على وجهِ أمِّها فسألتها: «هل ضايقك هذان الرجلان يا أمي؟»

ابتسمت إيلي بعد صمت. وقالت: «يمكنك قولُ هذا يا نيكي. يمكنك قولُ هذا.»

•••

أنهى ريتشارد جولتَه الأخيرة وهو يمارس رياضةَ المشي في أرجاء القبو، واتجه إلى حوض الاستحمام في ركن الغرفة. ولكنه توقَّف أولًا عند المنضدة كي يحتسيَ جُرعة ماء سريعًا. أما آرشي، فقد كان لا يزال راقدًا بلا حَراك على الأرض وراء فراش ريتشارد. فقال له ريتشارد وهو يمسح العَرق بالمنشفة: «صباح الخير. هل أنت جاهزٌ لتناول طعام الإفطار؟»

فأجابه الأوكتوسبايدر بالألوان: «لستُ جائعًا.»

فقال ريتشارد بمرح: «لا بد أن تأكل شيئًا. أنا أتَّفق معك أن الطعام يبدو بشعًا، ولكنك لن تستطيع العيشَ على الماء وحدَه.»

لم يتحرَّك آرشي أو يقُل شيئًا. فمنذ أن نفدَ مخزونه من الباريكان قبل أيام عديدة، كان الأوكتوسبايدر يميل إلى العزلة. فلم يَعُد ريتشارد يستطيع إشراكَه معه في حواراتهما الشائقة المعتادة، وأصبح قلِقًا على صحة الأوكتوسبايدر. فوضع ريتشارد بعضَ الحبوب في وعاء، ونثر بعضَ الماء عليه وحمله إلى صديقه. وقال له برفق: «هاك طعامًا، حاوِل أن تأكل قليلًا منه.»

فرفع آرشي اثنتين من لوامسه وأمسك بالوعاء. وعندما بدأ يأكل، اندفع شريطٌ برتقالي برَّاق من الشِّق في رأسه وتحرَّك نصف المسافة التي تقطعها الأشرطة إلى إحدى لوامسه الأخرى قبل أن يختفيَ سريعًا.

فسأله ريتشارد: «ماذا كان هذا؟»

فأجابه آرشي: «تعبير عن المشاعر.» وقد صحِبت إجابته مجموعة أخرى من الألوان غير المنتظمة.

فابتسم ريتشارد. وقال: «حسنًا، أيُّ نوع من المشاعر؟»

بعد التوقُّف وقتًا طويلًا، أصبحت شرائط آرشي الملوَّنة أكثرَ تنظيمًا. وقال: «أظن أنكم تطلِقون على هذا الشعور اكتئابًا.»

فسأله ريتشارد: «هل هذا ما يحدُث عندما ينتهي مفعول الباريكان؟»

لم يُجِبه آرشي. فعاد ريتشارد إلى المائدة وأعدَّ لنفسه وعاءَ حبوب كبيرًا. ثم عاد ليجلس إلى جوار آرشي على الأرض. وقال برفق: «لن يضرك التحدُّث عن الأمر. فليس لدينا شيءٌ آخرُ لنفعله.»

أدرك ريتشارد من حركةِ عدسة آرشي أن الأوكتوسبايدر يفحصه جيدًا. فتناول ريتشارد عدةَ ملاعق ممتلئة من طعامه قبل أن يبدأ آرشي الحديثَ.

فقال الأوكتوسبايدر: «في مجتمعنا، يجري اصطحابُ الذكور والإناث الصِّغار الذين يمرُّون بالنضوج الجنسي بعيدًا عن أنشطةِ الحياة اليومية التي يقومون بها، ويُوضعون في بيئةٍ مناسبة تمامًا لهذه المرحلةِ مع أشخاصٍ مرُّوا بهذه العملية من قبل. ويُشجَّعون على الحديثِ عمَّا يشعرون به، كما نُطمئنهم أن هذه المشاعرَ المعقَّدة الجديدة التي يمرون بها طبيعيةٌ للغاية. وأنا الآن أفهمُ سببَ ضرورة برنامج الاعتناء المكثَّف هذا.»

توقَّف آرشي دقيقةً وابتسم له ريتشارد في تعاطف. ثم عاد الأوكتوسبايدر يستكمل حديثه قائلًا: «لأول مرة منذ أن كنتُ صغيرًا للغاية، لم تقبَل مشاعري سيطرةَ عقلي عليها في الأيام الأخيرة السابقة. في أثناء التدريب على نظام الأمثلية، تعلَّمنا مدى أهميةِ فحصِ جميع الأدلة المتاحة جيدًا، والتخلُّص من أي شعور بالمحاباة قد يكون سببُه استجاباتٍ عاطفية شخصية عند اتخاذ أي قرار. ولكن مع قوة المشاعر التي أمرُّ بها في الوقت الحالي، سيكون من المستحيل تقريبًا أن أتجاهلها وأضعها في مرتبةٍ دنيا.»

فضحِك ريتشارد. ثم قال: «رجاءً لا تُسئ فهْمي يا آرشي، أنا لا أضحك على ما تقوله، ولكنك وصفت الآن ما يشعر به معظمُ البشر طَوال الوقت، في عبارةٍ استخدمتَ فيها تحليل كائنات الأوكتوسبايدر. قليلون فقط منَّا استطاعوا التحكُّم في «الاستجابات العاطفية الشخصية» التي نريد الإقدامَ عليها. ولعل تلك هي المرةُ الأولى التي تستطيع فهْمَنا بحق، إذا كنت تفهم ما أعنيه.»

فقال آرشي: «إنه أمرٌ بشِع. فأنا ينتابني شعورٌ قوي بالخسارة، أفتقد الدكتورة بلو وجيمي، وفي الوقت نفسِه، شعور بغضبٍ هادر تجاه ناكامورا لأنه يحتجزنا سجناءَ … وأخشى أن غضبي قد يدفعني إلى إتيانِ بعضِ السلوكيات التي لا تتَّفق مع نمطنا الأمثل للحياة.»

فقال ريتشارد: «ولكنَّ المشاعر التي تصِفها لا ترتبط — على الأقل لدى البشر — بالنشاطِ الجنسي. فهل للباريكان مفعولٌ مهدِّئ يلطِّف من حِدة المشاعر كافة؟»

أنهى آرشي إفطارَه قبل أن يجيب. قال: «أنا وأنت كائنان مختلِفان تمامًا، وكما ذكرتُ من قبلُ، من الخطير أن تتصوَّر أن فكرةً في جنسٍ ما تنطبق على الجنس الآخر … إنني أتذكَّر مناقشاتنا الأولى عن البشرِ في لقاء القادة بعد أن هربتم من موطنكم … وفي منتصف الاجتماع، أكَّدت مسئولةُ الأمثلية أنه يجب ألا ننظر إلى جنسكم من منظورنا. بل يجب أن نراقبَكم بعنايةٍ ونجمع عنكم معلوماتٍ ونربط بين ما يتَّفق منها، دون أن نضفيَ عليها صِبغتنا …

وأظن أنَّ هذا كلَّه نوعٌ ما من التمهيد لِما أوشِك أن أخبرَك به الآن. ومع ذلك، في رأيي الشخصي، استنادًا إلى جميع ملاحظاتي للبشر، الرغبةُ الجنسية لديكم هي القوة المحرِّكة التي تقف وراء جميع الانفعالات العميقة لدى جنسكم … فنحن، كائنات الأوكتوسبايدر، نعاني فجوةً في مرحلةِ النضوج الجنسي. حيث نتحوَّل من كائناتٍ عديمة الجنس إلى كائناتٍ تمارس النشاطَ الجنسي في مدة قصيرة للغاية. أمَّا في البشر، فتكون هذه العمليةُ أبطأَ بكثير وأقلَّ وضوحًا. فالهرمونات الجنسية موجودةٌ لديكم بكميات مختلِفة منذ وقت مبكِّر من تطوُّركم وأنتم أجنة. وأنا أقول بأنه من الممكن أن نعزوَ انفعالاتكم اللاإرادية كافةً إلى هذه الهرمونات الجنسية، وقد أخبرتُ مسئولة الأمثلية بهذا. وأيُّ بشري لا يمارس أيَّ نشاط جنسي قد يكون قادرًا على اتباعِ نمطِ التفكير الأمثل مثل أي أوكتوسبايدر.»

فقال ريتشارد بحماسةٍ وهو يهبُّ على قدميه ويبدأ في السير بخطًى سريعة في الغرفة: «يا لها من فكرةٍ مثيرة للاهتمام! إذن فأنت تلمِّح إلى أنه حتى سلوكيات مثل رفضِ طفلٍ أن يلعب أحدٌ بلُعبته، على سبيل المثال، ترتبط بطريقةٍ ما بحياتنا الجنسية؟»

فأجابه آرشي: «ربما. ولعل جاليليو يمارس حُبَّ التملُّك الذي سيظهر مع نضوجه الجنسي في الكِبَر عندما يرفض أن يلعب كيبلر بإحدى لُعَبه … وبالتأكيد فإن حُبَّ الولد الصغير لأمِّه أو حُبَّ البنت الصغيرة لأبيها مؤشرٌ مبكِّر خاص بالسلوك بعد البلوغ …»

وهنا توقَّف آرشي عن الحديث؛ حيث إن ريتشارد قد أولاه ظهره وبدأ يزيد من سرعة خطاه في الغرفة. ثم عاد بعد بضع لحظات وجلس مرةً أخرى على الأرض إلى جوار الأوكتوسبايدر وقال: «أنا آسف. لقد كنتُ أفكِّر في أمرٍ ما الآن، أمرٍ فكَّرتُ فيه قليلًا في وقت مبكر من صباح اليوم عندما كنا نتحدَّث عن التحكم في انفعالاتنا … هل تتذكَّر حوارنا السابق الذي رفضتَ فيه أنتَ فكرةَ الإله التي يؤمن بها كلُّ شخص حسب معتقَدِه، على أنها «شذوذ مصاحِبٌ لعملية التطور»، وهو ضروري لجميع الأجناس الناشئة التي تمرُّ بمرحلة التطور كجسر مؤقَّت تعبُر منه من مرحلة الوعي الأوَّلي بالعالم إلى عصر المعلومات؟ هل غيَّرت التطوراتُ الأخيرة التي تمرُّ بها فكرتَك عن الإله؟»

اندفعت مجموعةٌ من الشرائط العريضة المتعددة الألوان لتغطي معظمَ الجزء العلوي من جسد الأوكتوسبايدر، التي يعرف ريتشارد أنها ضحِكات. ثم قال آرشي: «أنتم أيها البشرُ تشغَلون تفكيركم للغاية بفكرة الإله هذه. حتى مَن هم مثلك يا ريتشارد الذين يعترفون أنهم لا يؤمنون، لا يزالون يقضون وقتًا أكثرَ من اللازم يفكرون في هذا الموضوع أو يناقشونه … وكما شرحتُ لكم قبل أشهر مضت، نحن، كائناتِ الأوكتوسبايدر، نضع المعلوماتِ في المرتبة الأولى، كما علَّمنا السلف … ولا توجد معلوماتٌ مؤكَّدة تشير إلى وجودِ أي إله، ولا سيما إله يلعب دورًا في تنظيمِ ما يجري كلَّ يوم في الكون …»

فقاطعه ريتشارد قائلًا: «إنك لم تفهم سؤالي بالضبط، أو ربما لم أَصُغْه أنا بأسلوبٍ يجعله مفهومًا … ما أريد أن أعرفه هو هل تفهم، في حالتك الجديدةِ الأكثرِ انفعالًا هذه، السببَ الذي يجعل الكائناتِ العاقلةَ الأخرى تختلق وجودَ إله يؤمن به كلُّ فرد حسب عقيدته ويجد فيه سلواه، وأيضًا يفسِّر جميعَ الأمور الأخرى التي لا يفهمها؟»

فضحِك آرشي مرةً أخرى بدفعة من الألوان. وقال: «إنك شديدُ الذكاء يا ريتشارد. تريدني أن أؤكد ما تظنه، وهو أن الإله أيضًا مفهومٌ له علاقة بالانفعالات، وُلد نتيجةً لِتوقٍ لا يختلف عن الرغبة الجنسية. ومن ثَم يكون مفهوم الإله أيضًا مردُّه إلى الهرمونات الجنسية … ولكن لا يمكنني الإقرارُ بتلك الفكرة. فأنا لا أملِك ما يكفي من المعلومات. ولكن يمكنني القولُ بناءً على ذلك الاضطرابِ الذي أشعر به داخلي هذه الأيام أنني أفهم كلمةَ «توق» التي كانت لا تعني شيئًا لي من قبلُ …»

بدا آرشي ذلك الصباح كما كان يبدو من قبل، فابتسم ريتشارد. كان سعيدًا به. كان ذلك الحوارُ مثل تلك الحوارات التي كانت تدور بينهما يوميًّا قبل أن يفرَغ مخزونُ آرشي من الباريكان. قال ريتشارد فجأة: «إن كان لا يزال بإمكاننا التحدُّث مع جميع أصدقائنا في مدينة الزمرد، فإن هذا سيكون من الرائع، أليس كذلك؟»

أدرك آرشي ما كان ريتشارد يشير إليه بهذا السؤال. لقد كان كلاهما حريصًا من البدايةِ ألا يذكرَ وجودَ طفيليات التصوير أبدًا أو حتى يشير إلى أن كائنات الأوكتوسبايدر لديها نظامٌ استخباراتي لجمعِ المعلومات. فلم يريدا تحذيرَ ناكامورا وحرَّاسه. وعندها شاهد ريتشارد شرائطَ الألوان تخرج من الأوكتوسبايدر بغزارة وتلفُّ حول رأسه، فتابعه بصمت. ومع أن الأوكتوسبايدر لم يكن يستخدم اللغةَ التي اشتُقَّت خصوصًا للتواصل مع البشر، فقد كان ريتشارد يفهم لبَّ الرسالة التي كان ينقلها.

فبعد إلقاءِ التحيةِ الرسمية على مسئولة الأمثلية والاعتذار عن عدمِ نجاح المهمة، أرسل آرشي رسالتين شخصيتين؛ رسالةً قصيرة إلى جيمي وأخرى أطولَ إلى الدكتورة بلو. وفي الرسالة التي بثَّها إلى رفيقة عمره، تدفَّقت شرائطُ الألوان المتنوِّعة خارجةً عن النمط المحدَّد لرسالة آرشي. وقد كان ريتشارد، الذي أصبح يعرف رفيقه في القبو جيدًا في الشهرين اللذين قضاهما معًا، مذهولًا ومتأثرًا بالعرْض الجميل للمشاعر الذي لا تكبِّله أيُّ قيود.

وعندما انتهى آرشي، اقترب منه ريتشارد ووضع يدَه على ظهرِ الأوكتوسبايدر. وسأله: «هل تشعر بتحسُّن الآن؟»

فأجابه آرشي: «إلى حدٍّ ما. ولكني أشعر أنني أسوأ أيضًا في الوقت نفسِه. فقد أصبحت الآن أدركُ أكثرَ من أي وقت مضى أنني قد لا أرى الدكتورة بلو أو جيمي مرةً أخرى …»

فقاطعه ريتشارد قائلًا: «في بعضِ الأحيان أتخيَّل ما سأقوله لنيكول إذا كان باستطاعتي التحدُّث إليها عبْر الهاتف.» ثم أكمل بكلماتٍ نطقها بوضوح وهو يبالغ في حركاتِ فمه لإيضاح الكلمات: «أنا أفتقدُك بشدة يا نيكول، وأحبك من كل قلبي.»

•••

لم يكن ريتشارد يتمتَّع بخيالٍ خصب في أحلامه. ولهذا لم تكن الأصواتُ الخارجية على الأرجح تتداخل مع حُلم يراه. لذا، فعندما سمِع صوتًا ما، ظن أنه حركةُ أقدام تتسلل بالأعلى في منتصف الليل، فاستيقظ بسرعة.

كان آرشي نائمًا. فنظر ريتشارد حوله وأدرك أن الضوءَ الذي يُضاء ليلًا في الحمَّام قد أُطفئ. وعندما اشتعل قلقُه، أيقظ رفيقه الأوكتوسبايدر.

فسأله آرشي بالألوان: «ما الأمر؟»

فهمس ريتشارد: «لقد سمِعت صوتًا غريبًا بالأعلى.»

كان صوتُ الباب الذي يقود إلى سُلَّم القبو يُفتح ببطء. وسمِع ريتشارد صوتَ أقدامٍ تسير بخفة، ثم أخرى أعلى السُّلم. فحاول جاهدًا أن يشق الظلام بعينيه، ولكنه لم يرَ شيئًا في الظلام الحالك.

فقال آرشي وقد التقطت عدستُه الموجات الحرارية تحت الحمراء للقادمين: «إنهما امرأة وضابط شرطة. لقد توقَّفا في هذه اللحظة على الدرجة الثالثة من السُّلم.»

ففكر ريتشارد في نفسه: «سيقتلوننا.» واجتاحت موجةٌ عاتية من الخوف كِيانه، واقترب بجسده أكثرَ إلى آرشي. ثم سمِع صوتَ باب القبو وهو يُغلق ببطء، ثم صوتَ خطواتٍ تهبِط السُّلم.

فهمس: «أين هما الآن؟»

فقال آرشي: «لقد هبطا السُّلم. إنهما قادمان … أظن أن الفتاة هي …»

فسمِع ريتشارد صوتًا من ماضيه. نادى الصوت: «أبي. أين أنت يا أبي؟»

فقال: «يا إلهي! إنها كيتي!» ثم أضاف بصوتٍ مرتفع للغاية محاولًا أن يسيطرَ على سعادته: «أنا هنا.»

طاف شعاعُ ضوء صغير منبعِث من مصباح يدوي على الحائط خلف فراشه وانتهى به المطاف على وجهه المزيَّن بلحية. وبعد ثوانٍ قليلة تعثَّرت كيتي بآرشي وسقطت بكيانها كلِّه بين ذارعي أبيها.

أخذت تقبِّله وتحتضنه، والدموع تسيل أنهارًا على وجنتيها. وقد كان الموقفُ بأكمله يذهل ريتشارد حتى إنه لم يستطِع في البداية الإجابةَ عن أيٍّ من أسئلة كيتي. ثم قال في النهاية: «نعم … نعم، أنا بخير. لا أصدِّق أنه أنت … كيتي، يا إلهي! كيتي … آه، نعم، تلك الكتلة الرمادية هناك، تلك التي ركلتِها منذ لحظةٍ هي صديقي ورفيقي في السِّجن الأوكتوسبايدر آرشي …»

وبعد عدة ثوانٍ، صافح ريتشارد رجلًا بقوة في الظلام قدَّمته كيتي إليه على أنه «صديقها». ثم قالت كيتي على عُجالة بعد عدة دقائق من الحديث عن عائلتهما: «ليس لدينا كثيرٌ من الوقت. لقد أعطبنا شبكةَ الكهرباء التي تغذي هذه المنطقة السكنية بالكامل، وسيجري إصلاحُ العَطَب قبل وقتٍ ليس بالطويل.»

فسألها ريتشارد: «هل سنهرُب؟»

فقالت كيتي: «لا. فإنهم سيُلقون القبضَ عليك ولا شكَّ ويقتلونك … لقد أردت فقط أن أراك … عندما سمِعت إشاعةً تقول إنك محتجز في مكانٍ ما في عدن الجديدة … آه يا أبي، لَكَمِ اشتقت إليك! إنني أحبُّك حبًّا جمًّا …»

أحاط ريتشارد ابنتَه بذراعيه وضمَّها إليه وهي تبكي. قال في نفسِه: «لقد صارت نحيفةً للغاية، كادت تصير شبحًا.» قال لها: «وأنا أيضًا أحبُّك يا كيتي.» ثم أضاف وهو يبتعِد عنها قليلًا: «أمسكي بالمصباح، سلِّطي الضوءَ على وجهك … أريد أن أرى عينيك الجميلتين.»

فقالت كيتي وهي تعود لتدفنَ نفسَها في صدره: «كلا يا أبي. لقد أصبحتُ عجوزًا وَخَطَ الزمنُ صروفَه على وجهي … أريد أن تتذكَّرني كما كنت. لقد عشتُ حياةً عصيبة …»

قاطعها صوتُ الرجل في الظلام يقول: «إنهم لن يتركوك هنا أكثرَ من هذا على الأرجحِ يا سيد ويكفيلد. فكلُّ شخص تقريبًا في المستوطنة سمِع قصة ظهورك في معسكر الجنود.»

فقالت كيتي بعد صمتٍ لم يدُم طويلًا: «هل أنتَ بخير يا أبي؟ هل يحضُرون لك طعامًا مناسبًا؟»

«أنا بخير يا كيتي … لكننا لم نتحدَّث عنكِ أنت. في أيِّ مهنة تعملين؟ هل أنت سعيدة؟»

فقالت بسرعة: «لقد حصلت على ترقيةٍ أخرى. وشقَّتي الجديدة جميلة … يجب أن تراها … ولديَّ صديقٌ يعتني بي.»

فقال ريتشارد وفرانتس يذكِّر كيتي بأنهما يجب أن يرحلا: «أنا سعيد للغاية. لقد كنتِ دائمًا الأذكى بين أطفالي … وتستحقين قدْرًا من السعادة.»

ثم فجأةً أخذَت كيتي تجهش بالبكاء وهي تضع رأسَها على صدرِ أبيها. وقالت: «أبي، من فضلك ضُمَّني إلى صدرك يا أبي.»

فأحاط ريتشارد ابنتَه بذراعيه. وسألها برفق: «ما الأمر يا كيتي؟»

فقالت: «أنا لا أريد الكذبَ عليك. فأنا أعمل لدى ناكامورا قوادةً للعاهرات. وأنا مدمنةُ مخدرات … مدمنة مخدرات بائسة لا أملَ في علاجي.»

أخذت كيتي تبكي وقتًا طويلًا. ضمَّها ريتشارد إلى صدره بقوةٍ وربَّت على ظهرها. قالت كيتي عندما رفعت رأسها في النهاية: «ولكني أحبك يا أبي. لقد أحببتك، وسأحبُّك دائمًا … أنا آسفة حقًّا لأني قد خيَّبت ظنَّك فيَّ.»

فقال فرانتس بحزم: «كيتي، يجب أن نذهبَ الآن. إذا عادت الكهرباء ونحن لا نزال في هذا المنزل، فسنكون في ورطة كبيرة.»

فقبَّلت كيتي والدها بسرعة على شفتيه وداعبت لحيته بحنانٍ بأصابعها مرةً أخيرة. وقالت: «اعتنِ بنفسك يا أبي. ولا تفقد الأملَ أبدًا.»

كان شعاع المصباح اليدوي عبارة عن خيط رفيع من الضوء يتقدَّم الزائرَين وهما يجتازان الغرفةَ سريعًا، حتى وصلا إلى درجات السُّلم. فقالت كيتي: «وداعًا يا أبي.»

فقال ريتشارد وهو يسمع صوتَ قدمَي ابنته تركضان معتليةً السُّلم: «وأنا أحبُّك أيضًا يا كيتي.»

٥

كان الأوكتوسبايدر الراقدُ على الفِراش فاقدًا الوعي. فناولت نيكول الدكتورة بلو الوعاءَ البلاستيكي الصغير الذي طلبته منها الطبيبة الفضائية، وشاهدتها وهي تضع الكائناتِ المتناهيةَ الصِّغر على السائل الأسود المائل للخضرة الذي يغطي الجُرح المفتوح. وفي أقلَّ من دقيقة اختفى السائل، وخيَّطت زميلتُها الأوكتوسبايدر الجُرح ببراعة باستخدام السنتيمترات الخمسة الأولى من ثلاث من لوامسها.

قالت الدكتورة بلو بالألوان: «هذا آخرُ مريض نراه اليوم، وشكرًا يا نيكول على مساعدتك كالعادة.»

سار الاثنان معًا خارجَ غرفة العمليات إلى الغرفة المتاخمة. ولم تكن نيكول قد اعتادت بعدُ عمليةَ التطهير. فالتقطت نفسًا عميقًا قبل أن تخلع رداءها الواقي وتضع ذراعيها في إناءٍ كبير مليء بالعشرات من الحيوانات التي تشبه الحشرةَ اللاحسةَ السُّكر. وقاومت نيكول اشمئزازها وهذه الأشياء المقزَّزة تتسلَّق ذراعيها ويديها.

قالت الدكتورة بلو: «أعلم أن هذه العملية ليست لطيفةً بالنسبة إليك، ولكننا في الوقت الحالي ليس لدينا خيارٌ آخر، حيث إن مخزون الماء بالشمال قد تلوَّث بسبب القصف … ولا يمكننا المخاطرةُ بتعريضك لأي شيء قد يكون سامًّا لك.»

فسألتها نيكول بينما كانت الدكتورة بلو تنتهي من تنظيف نفسِها: «هل تم تدميرُ كلِّ شيء في شمال الغابة؟»

أجابتها الأوكتوسبايدر: «تقريبًا. ويبدو أن المهندسين البشر قد انتهوا الآن من إدخال تعديلات على طائرات الهليكوبتر. وتخشى القائدة المُثلى من أنهم سيقومون بأولى طلعاتهم الجوية فوق الغابة خلال أسبوع أو اثنين.»

«ولم تصِلْكم أيُّ ردود على الرسائل التي أرسلتموها؟»

«ولا رد. إننا نعلم أن ناكامورا قد قرأها … ولكن البشر ألقَوا القبضَ على آخرِ رسول أرسلناه بالقرب من محطة الطاقة وقتلوه … مع أنه كان يحمل عَلمًا أبيض.»

تنهَّدت نيكول. وتذكَّرت شيئًا قاله لها ماكس الليلةَ السابقة عندما عبَّرت عن دهشتها من أن ناكامورا يتجاهل جميع الرسائل. فقد صرخ ماكس قائلًا بغضب: «بالطبع سيتجاهلها؛ إن ذلك الرجل لا يفهمُ سوى لغة القوة … وجميع هذه الرسائل الغبية تقول إن كائنات الأوكتوسبايدر ترغب في السلام وأنها ستكون مجبرةً على الدفاع عن نفسِها إذا لم يتوقَّف البشر … والتهديدات الأخرى بالرسائل ليس لها أي معنًى. ما الذي سيظنه ناكامورا وقوَّاته وطائراته تتحرَّك دون أن يعوقَها أيُّ شيء وتدمِّر كلَّ ما تقابله؟ ألم تفطِن مسئولة الأمثلية إلى أيِّ شيء عن البشر؟ يجب أن تجرَّ كائنات الأوكتوسبايدر جيشَ ناكامورا إلى معركة …»

فأجابته نيكول: «هذه ليست طريقتَهم. فهم لا يورِّطون أنفسَهم في مناوشاتٍ أو حروبٍ محدودة. إنهم يقاتلون فقط إذا تعرَّض وجودُهم للخطر … وقد أوضحت الرسائل هذا بدقةٍ متناهية، وطالبت ناكامورا مرارًا وتكرارًا بأن يتحدَّث إلى ريتشارد وآرشي …»

وفي المستشفى، كانت الدكتورة بلو تتحدَّث بالألوان إلى نيكول. فهزَّت الأخيرة رأسها لتعودَ إلى أرض الواقع. وكانت الأوكتوسبايدر تسألها: «هل ستنتظرين بينجي اليوم، أم ستذهبين مباشرةً إلى مركز المعلومات؟»

نظرت نيكول إلى ساعتها. وقالت: «أظن أني سأذهب الآن. فعادةً ما يستغرق استيعابُ جميع البيانات التي ترسلها طفيلياتُ التصوير عن اليومِ السابق ساعتين … فأمورٌ كثيرة تجري الآن … من فضلك، أخبري بينجي أن يقولَ للآخرين إنني سأعود إلى المنزل وقتَ تناوُل العشاء.»

سارت نيكول خارجةً من المستشفى بعد بضعِ دقائق واتَّجهت إلى مركزِ المعلومات. ومع أن النهارَ بمدينة الزمرد لم ينقضِ بعدُ، فقد كانت شوارعها مهجورة تقريبًا. مرَّت نيكول بثلاثة من كائنات الأوكتوسبايدر يُهرعون على الجانب الآخر من الشارع واثنين من السرطانات الآلية التي كانت تبدو غريبةً على المكان. وكانت الدكتورة بلو قد أخبرت نيكول أنهم يسندون أعمالَ جمعِ القُمامة في مدينة الزمرد إلى السرطانات الآلية.

فكَّرت نيكول في نفسها: «لقد تغيَّرت المدينة كثيرًا منذ إصدار مرسوم الإعداد للحرب. فقد تحوَّل معظم كائنات الأوكتوسبايدر البالغة إلى منطقة الحرب. ولم نرَ من قبلُ أيَّ كائن آلي بالمدينة منذ شهرٍ مضى، حيث إنه من المفترَض أن معظم الكائنات الخدمية نُقلت إلى مكانٍ آخر. ويظن ماكس أنهم أنهَوا حياةَ كثير منهم بسبب النقص في الموارد. إن ماكس يظن سوءًا بكائنات الأوكتوسبايدر دائمًا.»

وكانت نيكول عادةً ما تصحَب بينجي بعد العمل إلى محطة العربات. كما كان ابنها يساعد أيضًا في المستشفى بسبب نقص عدد العاملين به. ونظرًا لأن بينجي أصبح أكثرَ وعيًا بما يحدُث في مدينة الزمرد، أصبح من الصعب جدًّا على نيكول أن تخفي عليه مدى خطورة موقفهم.

وقد سألها بينجي الأسبوع السابق: «لماذا يحارب شعبنا ضد كائنات الأوكتوسبايدر، ألا يعلمون أنها لا تريد إيذاءَ أحد؟»

فأجابته نيكول: «إن سكان مستوطنة عدن الجديدة لا يفهمون كائناتِ الأوكتوسبايدر. ولم يسمحوا لآرشي وعمِّك ريتشارد أن يشرحا لهم أيَّ شيء.»

فقال بينجي بصوتٍ أجشَّ: «إذن فهم أكثرُ غباءً مني.»

كانت الدكتورة بلو وغيرها من كائنات الأوكتوسبايدر في فريق العمل بالمستشفى الذين لم يتولَّوا مهامَّ أخرى بسبب الحرب، كانوا معجبين جدًّا ببينجي. في البداية، عندما تطوَّع للمساعدة، كانت لديهم تحفُّظات عما يمكن أن يفعله بقدراته المحدودة، ولكن بمجرد أن تشرح له نيكول أيَّ مهمة بسيطة، ويعيد هو عليها ما يجب أن يفعله، فإنه لم يكن يرتكب خطأ البتة. وقد كان مصدرَ عونٍ ولا سيما في القيام بالمهام الشاقة، بفضل جسده القوي اليافع، وهي ميزةٌ مهمة جدًّا، حيث لم يَعُد كثيرٌ من الكائنات الأكبر حجمًا موجودًا بالجوار.

وبينما كانت نيكول تسير في اتجاهِ مركز المعلومات، وجدت نفسَها تفكِّر في كلٍّ من بينجي وكيتي. وفي خيالها، أخذت نيكول تتنقل جيئةً وذهابًا بين صور الاثنين. وقالت في نفسها: «إننا الآباء غالبًا ما نقضي وقتًا طويلًا نركِّز على الإمكانات العقلية لأطفالنا بدلًا من السِّمات الحقيقية لهم. فالمهم حقًّا ليس مدى ذكاء الطفل، وإنما ماذا قرَّر هو أن يفعل بهذا الذكاء. لقد حقَّق بينجي نجاحًا لم نكن حتى لنحلُم به، بسببِ ما هو عليه حقًّا في داخله. أما كيتي، فلم أكن أتخيَّل في أسوأ كوابيسي …»

قطعَت نيكول حبلَ أفكارها وهي تدلف إلى المبنى. ولوَّح لها أحدُ الحراس الأوكتوسبايدر بالسلام فابتسمت له. وعندما وصلت إلى غرفة العرْض المعتادة، فوجئت أن مسئولةَ الأمثلية كانت بانتظارها. فقالت الأوكتوسبايدر القائدة: «لقد أردتُ أن أستغلَّ هذه الفرصة لأشكركِ على الإسهامات التي تقدمينها في هذه الفترة الحرِجة، ولأطمئنكِ أننا سنعتني بجميع أفراد عائلتكِ وأصدقائكِ الموجودين هنا في مدينة الزمرد وكأنهم من أبناء جنسنا، بغض النظر عما سيحدُث في الأسابيع القليلة القادمة.»

اتَّجهت مسئولة الأمثلية لمغادرة الغرفة. فسألتها نيكول: «إذن فالموقف يتدهور، أليس كذلك؟»

فأجابتها الأوكتوسبايدر: «بلى. بمجرد أن يبدأ البشر في التحليق فوق الغابة، سنُضطر إلى الرد عليهم.»

عندما غادرت مسئولة الأمثلية الغرفة، جلست نيكول أمام لوحة التحكُّم لتتصفح بيانات طفيليات التصوير الخاصة باليوم السابق. لم يكن مسموحًا لنيكول أن تدخل إلى جميعِ المعلومات القادمة من عدن الجديدة، ولكن كان مسموحًا لها أن تستدعي الصورَ الخاصة بالأنشطة اليومية لجميع أفراد عائلتها. فكانت نيكول ترى كلَّ يوم ما يحدُث في القبو لريتشارد وآرشي، وكيف أن إيلي ونيكي بصدد التكيُّف مع الحياة في عدن الجديدة مرةً أخرى، وماذا كان يحدُث في عالم كيتي.

وبمرور الوقت، كانت نيكول تتوقَّف تدريجيًّا عن مشاهدة كلِّ ما يخُص كيتي؛ فقد كان الأمر شديدَ الإيلام لها. وعلى النقيض تمامًا، كانت رؤية حفيدتها نيكي مصدرَ سعادة كبيرة لها. وقد استمتعت نيكول بصورةٍ خاصة بمشاهدة نيكي في الأيام التي تذهب فيها الفتاة الصغيرة بعد الظهيرة إلى ملعبِ أطفال بوفوا للَّعِب مع الأطفال الآخرين في القرية. ومع أن الصور كانت دون صوت، كانت نيكول تسمع داخلها صيحاتِ سرور الأطفال وابتهاجهم ونيكي والأطفال الآخرون يقعون على الأرض بعضهم فوق بعض وهم يحاولون اللَّحاق بكرة القدم التي تُفلِت منهم.

وقد كان قلبُ نيكول ينفطِر ألمًا من أجل إيلي. وعلى الرغم من جهود ابنتها البطولية، فلم يحالفها الحظ في إنقاذ زواجها. لقد ظلَّ روبرت مستغرِقًا في إدمانه لعمله، متذرِّعًا بحاجة المستشفى إليه كي يبقى بعيدًا عن مواجهة المشاعر كافة، حتى مشاعره هو شخصيًّا. وكان روبرت أبًا صالحًا مع نيكي ولكنه كان يكبح مشاعره، ونادرًا ما يُظهِر أيَّ بهجة حقيقية. كما أنه لم يُقِم علاقةً حميمة مع إيلي، ولم يتحدَّث عن الأمر إلا مرة واحدة عندما قال إنه «ليس مستعدًّا» حين تحدَّثت هي إليه في هذا الأمر وهي تبكي بعد ثلاثة أسابيع من عودتها إليه.

أثناء جلسات العرْض الطويلة التي كانت تقضيها نيكول وحدَها، كثيرًا ما كانت تتساءل هل من الممكن للوالدين أن يراقبا أبناءهما وهم واقعون في مأزقٍ دون أن يسألا أنفسهما ماذا كان بوسعهما أن يفعلا كي يجنِّبوهم ذلك. وقالت في نفسها بأسًى وهي تستعرض صورةَ أيلي وهي تبكي بهدوء أثناء الليل: «تربية الأبناء مغامرةٌ غير مضمونة عواقبها. لكن ما أعرفه يقينًا هو أن المرء لن يقتنع أبدًا بأنه بذل أقصى وُسعه لأجل أبنائه.»

وكانت نيكول دائمًا ما تترك مشاهدةَ الجزء المتعلِّق بريتشارد حتى النهاية. ومع أنها لم تنفُض عن ذهنها قطُّ هاجس أنها لن تمسَّ زوجها مرةً أخرى، فإنها لم تترك تلك المشاعرَ تنتقص من السعادة اليومية التي تشعر بها وهي تطَّلع على حياته في القبو في عدن الجديدة. وكانت تستمتع بمناقشاته مع آرشي خاصة، مع أنه كان يصعُب عليها كثيرًا قراءةُ شفتيه. وقد ذكَّرتها نقاشاتهما بالأيام الخوالي، بعد فِرارها من سجن عدن الجديدة عندما كانت هي وريتشارد لا يتوقَّفان عن الحديث في كل شيء. وكانت رؤيةُ ريتشارد تترك نيكول دائمًا في حالةٍ معنوية مرتفعة وتجعلها أكثرَ قدرة على التغلُّب على وحدتها.

أما لقاء ريتشارد بكيتي بعد طول انفصال فقد كان مفاجأةً لنيكول. فهي لم تكن تتابعُ حياةَ كيتي عن قُرب بما يكفي لتعرفَ أن ابنتها وفرانتس قد نجحا في وضعِ خطةٍ لتأمين زيارة قصيرة لريتشارد. ونظرًا لأن طفيليات التصوير كانت تلتقط صورًا لما يمكن أن تراه عينُ الإنسان وما لا يمكن أن تراه، فقد رأت نيكول ذلك اللقاءَ بصورةٍ أوضح من المشاركين فيه. وقد أثَّر فيها كثيرًا سلوك كيتي في ذلك اللقاء، بل وتأثَّرت أكثرَ باعترافها المفاجئ لأبيها أنها مدمنة مخدرات (الذي شاهدته نيكول مرارًا وتكرارًا بعرْضٍ بطيء للغاية كي تتأكَّد من أنها تقرأ حركات شفتَي كيتي قراءةً صحيحة). وتذكَّرت نيكول أنها قد قرأت في مكانٍ ما أن الخطوة الأولى لتجاوُز أيِّ مشكلة هي الاعتراف لشخص تحبُّه بوجود هذه المشكلة.

وقد أغرقت دموعُ السعادة عينَي نيكول وهي تستقل العربةَ الخاوية تقريبًا عائدةً إلى الجزء المخصَّص للبشر في مدينة الزمرد. ومع أن العالم الغريب حولها كان يتداعى إلى حالةٍ من الفوضى، فقد كانت نيكول متفائلةً بشأن كيتي.

•••

كان باتريك والتوءمان بالخارج عندما ترجَّلت نيكول عن العربة في نهاية الشارع. وقد أدركت وهي تقترب منهم أن باتريك كان يحاول حلَّ واحدٍ من الخلافات التي لا تُحصى بين التوءمين.

وكان كيبلر يقول: «إنه يغشُّ دائمًا. وقد أخبرته أنني لن ألعبَ معه مرةً أخرى فضربني.»

فأجاب جاليليو: «إنه يكذب. لقد ضربته لأنه كان يلوي قسماتِ وجهه لإغاظتي … إن كيبلر فاشل تمامًا. إذا رأى أنه لن يربح، يظن أنه لا مشكلة في الانسحاب.»

فرَّق باتريك بين الولدين، وأجلسهما في ركنَين متقابلين من المنزل، ووجهُ كلٍّ منهما إلى الحائط، عقابًا لهما. ثم استقبل والدته بالعِناق والتقبيل.

فقالت نيكول وهي تبتسم لابنها: «لديَّ أخبارٌ عظيمة. لقد استقبل ريتشارد زائرًا مفاجئًا اليوم، إنها كيتي!»

بالطبع أراد باتريك أن يعرف كلَّ تفاصيل زيارة أخته لريتشارد. فلخَّصت له نيكول ما رأت، وأقرَّت أنها قد شجَّعها كثيرًا اعترافُ كيتي بأنها مدمنة للمخدرات. فحذَّرها باتريك قائلًا: «لا تحمِّلي سلوكها أكثرَ من حجمه. فكيتي التي أعرفها تفضِّل الموتَ على الحياة من دون مخدِّر الكوكومو.»

استدار باتريك وكان على وشْك أن يخبر التوءمين أنه بإمكانهما العودةُ لاستئناف لَعِبهما، عندما انطلق صاروخان يشقَّان السماء، وانفجرا ليحدِثا كرتَي ضوء حمراوين زاهيتين أسفلَ القبة مباشرة. وبعدها بلحظاتٍ غرقت المدينة في ظلامٍ دامس. فقال باتريك: «هيا يا أولاد. يجب أن ندلِف إلى الداخل.»

وقال لنيكول وهما يتبَعان كيبلر وجاليليو إلى داخل المنزل: «هذه هي المرة الثالثة اليوم.»

«لقد قالت الدكتورة بلو إنهم يطفئون أنوارَ المدينة في الوقت الذي تحلِّق فيه أي طائرة هليكوبتر في نطاق عشرين مترًا فوق قمم أشجار الغابة. إن كائنات الأوكتوسبايدر لا تريد تحت أي ظرفٍ أن تخاطر بكشف مكان مدينة الزمرد.»

فسألها باتريك: «هل تظنين أن آرشي وعمَّ ريتشارد ستُتاح لهما الفرصة للقاء ناكامورا؟»

فأجابته نيكول: «أشكُّ في هذا. فلو أنه سيقابلهما، لفعل من قبلُ.»

ألقَت إيبونين وناي التحيةَ على نيكول وعانقتاها. تحدَّثت السيدات الثلاث مدة قصيرة عن إطفاء الأنوار. كانت إيبونين تضع ماريوس الصغير على فخِذها. وقد كان الصبي سمينًا بشوشَ الوجه، ودائمًا ما يسيل لعابُه ليغرِق وجهَه. مسحت إيبونين وجهَه بمنشفة حتى تستطيع نيكول تقبيله.

ثم جاء صوت ماكس يقول من خلفها: «آه، ملِكةُ العبوس تقبِّل الآن أميرَ اللُّعاب.»

فالتفتت نيكول وعانقت ماكس. وسألته بمرح: «مَن تكون ملِكة العبوس هذه؟»

فأعطاها ماكس كوبًا يحتوي على سائل شفاف. وقال: «هاكِ يا نيكول، أريدك أن تحتسي هذا، إنه ليس شراب التكيلا، ولكنه أفضلُ بديلٍ تمكَّنت كائنات الأوكتوسبايدر من صنعِه بالاعتماد على طريقةِ التحضير التي منحتهم إياها … إننا جميعًا نأمُل أن تستعيدي روح الدعابة قبل أن تفرُغي من شرابك.»

فقالت إيبونين: «بربِّك يا ماكس. لا تجعل نيكول تظن أننا جميعًا نشترك معك في هذا … لقد كان الأمر برُمَّته فكرتك أنت. كلُّ ما قلناه أنا وباتريك وناي هو أن نيكول كانت جادة جدًّا مؤخرًا.»

فقال ماكس لنيكول وهو يرفع كوبَه ويصدِمه بكوبها: «الآن يا سيدتي، أود أن أقترح نَخبًا … نَخبَنا جميعًا، نحن مَن لا نملك أيَّ سيطرة على مستقبلنا. أتمنى أن نتحابَّ فيما بيننا، وتجمعنا الضحكات حتى النهاية، متى أتت وكيفما كانت.»

لم ترَ نيكول ماكس ثمِلًا من قبل أن تدخل السِّجن. وبعد إلحاحه احتست هي جُرعة بسيطة من الشراب. فشعرت بحرقةٍ في حلقِها ومريئها وملأت الدموع عينيها. فقد كان الشراب يحتوي على نسبةٍ عالية من الكحول.

ثم قال ماكس وهو يفتح ذراعيه وكأنه يتحدَّث على خشبة المسرح: «قبل عشاء الليلة، سنلقي نكاتٍ من نكاتِ المزرعة … فهذا سيوفِّر لنا جميعًا الجوَّ المرِح الذي نحتاج إليه بشدة. وستبدئين أنت يا نيكول دي جاردان ويكفيلد بإلقاء النِّكات، بوصفك قائدتَنا، لكونك المَثل الأعلى إن لم يكن بالانتخاب.»

فنجحت نيكول في رسمِ ابتسامة على شفتيها وقالت معترِضة: «ولكني لا أعرف أيًّا من نِكات المزرعة.»

فشعرت إيبونين بارتياحٍ عندما رأت أن سلوكَ ماكس لم يصدِم نيكول. فقالت: «لا بأسَ يا نيكول، فلا أحدَ منَّا يعرف أيًّا من نِكات المزرعة … ماكس يعرف من النِّكات ما يكفينا جميعًا.»

وبعد لحظاتٍ قليلة بدأ ماكس يروي: «ذاتَ مرة كان هناك فلاحٌ من أوكلاهوما له زوجةٌ سمينة اسمها صفَّارة. وقد أُطلق عليها هذا الاسم لأنها في ذُروة الجِماع مع زوجها كانت تغلِق عينيها، وتضم شفتيها وتصدِر صوتًا يشبه الصَّفير.»

تجشأ ماكس. فأخذ التوءمان يضحكان عليه. شعرَت نيكول بالقلق ورأت أنه قد لا يناسب الطفلين أن يسمعا قصةَ ماكس، ولكنها رأت ناي تجلس خلفهما وتضحك معهما. فقالت لنفسها: «اهدئي يا نيكول. لقد أصبحت فعلًا ملِكة العبوس.»

استكمل ماكس: «وفي إحدى الليالي، اندلع شجارٌ كبير بين المُزارعِ وزوجته، وأخلدَت صفَّارة إلى النوم مبكرًا وهي تستشيط غضبًا. فجلس المُزارع وحدَه إلى المائدة يحتسي بعض التكيلا الفاخرة. ومع مرور الأمسية، شعر المُزارع بالنَّدم لأنه كان وغدًا عنيدًا مع زوجته، وبدأ يعتذر إليها بصوتٍ عالٍ.

وفي ذلك الوقت، عرفَت العجوزُ صفَّارة التي ازداد غضبها لأنه أيقظها من نومها؛ أن زوجَها بعد أن ينتهيَ من شرابه سيدخل إلى غرفة النوم ويحاول أن يختتمَ اعتذاره بعلاقةٍ حميمة معها. وفي حين كان المُزارع ينتهي من احتساء زجاجة التكيلا، تسلَّلت هي خارج المنزل وذهبت إلى حظيرةِ الخنازير، وحملَت أصغرَ إناث الخنازير حجمًا وأحدثَها سنًّا وعادت بها إلى غرفة نومهما.

وعندما دخل المُزارع الثَّمِل بعد ذلك إلى غرفةِ النوم المظلِمة يترنَّح ويُنشِد أحدَ ترانيمه المفضَّلة، كانت زوجته تراقبه من زاوية الغرفة، وكانت أنثى الخنزير على الفراش. فخلع المُزارع ملابسه وقفز تحت الغطاء. وجذب أنثى الخنزير من أذنيها وقبَّلها في شفتيها. فأطلقت صوتًا حادًّا وابتعد المُزارع عنها على الفور. وقال: «ما هذا يا حبيبتي؟! هل نسيتِ أن تنظفي أسنانك الليلة؟»

فاندفعت زوجته من ركنِ الغرفة وبدأت تضربه بالمقشة على رأسه …»

انفجر الجميع ضحِكًا. وكان ماكس مستمتعًا بشدةٍ بنكتته حتى إنه لم يكن يستطيع أن يتمالك نفسَه. نظرت نيكول حولها. وقالت في نفسِها: «ماكس محقٌّ. نحن بحاجة إلى الضحك. لقد كنا متوترين طوال الوقت مؤخرًا.»

قال ماكس: «… كان أخي كلايد يعرف من نِكات المزرعة أكثرَ من أي شخص آخر قابلته في حياتي. وقد كانت هذه النِّكات هي سبيله إلى التقرُّب من وانونا، أو هكذا قال. وقد اعتاد كلايد أن يخبرني أن المرأة وهي تضحك تكون أقربَ ما يكون إلى الوقوع في غرام الرجل … وعندما كنا نذهب لاصطياد البط مع الفتيان الآخرين، كنا نفشل في اصطياد ولو بطةً واحدة لعينة. حينها كان كلايد يقصُّ علينا هذه النِّكات، وكنا نحن نضحك ونحتسي الخمر … وبعد قليل ننسى لماذا استيقظنا من نومنا في الخامسة صباحًا لنخرج في البرد ونجلس هكذا …»

توقَّف ماكس عن الحديث وخيَّم صمتٌ لم يستمر طويلًا على الغرفة. ثم عاد هو ليقول بعد توقُّفه القصير: «اللعنة. لوهلة تخيَّلت أنني عُدت إلى آركنسو.» ثم وقف. وقال: «أنا حتى لا أعرف الآن أيُّ طريقٍ يقود إلى آركنسو من هنا، أو كم مليار كيلومتر تبعُد عن هنا …» ثم هزَّ رأسه في أسًى. واستكمل: «في بعض الأحيان، عندما أحلُم، ويكون الحُلم نابضًا بالحياة، أظن أن الحُلم هو الحقيقة. وأصدِّق أنني قد عُدت إلى آركنسو. ثم عندما أستيقظ أشعر أني تائه، وأظن لثوانٍ أن هذه الحياة التي نحياها هنا في مدينة الزمرد هي الحُلم.»

فقالت ناي: «الأمرُ نفسه يحدُث معي. فمنذ يومين حلَمت أنني أؤدي تأمُّلات الصباح في هاونج برو في منزل عائلتي في لامفون. وبينما كنت أتلو صلواتي، أيقظني باتريك. وأخبرني أنني كنتُ أتحدَّث وأنا نائمة. ولبضع ثوانٍ، لم أكن أعلم مَن هو … كان أمرًا مخيفًا حقًّا.»

وبعد صمتٍ طويل قال ماكس: «حسنًا.» ثم التفَت إلى نيكول وقال: «أظن أننا مستعدون لسماعِ أخبار اليوم. فماذا لديكِ لتخبرينا به؟»

فأجابته نيكول وهي تبتسم: «لقد كانت مقاطعُ الفيديو التي التقطَتها طفيلياتُ التصوير غريبةً للغاية. للدقائق القليلة الأولى، كنت واثقةً من أنني دخلت إلى قاعدةِ البيانات الخطأ … فقد كانت كلُّ صورة تلو الأخرى تعرِض خنزيرًا أو دجاجةً أو شابًّا ثمِلًا من أبناء مَزارع أوكلاهوما يحاول أن يتقرَّب من فتاة صغيرة جميلة … وفي مجموعةِ الصور الأخيرة، رأيت مزارعًا يحاول أن يشرب التكيلا ويأكل الدجاج المقلي، ويضاجع حبيبته، كل هذا في الوقت نفسه … وهو ما جعلني أعتقد أن الدجاج كان لذيذًا جدًّا. هل هناك أحدٌ غيري يشعر بالجوع؟»

٦

قالت نيكول للدكتورة بلو: «أظن أنهم اطمأنوا بعضَ الاطمئنان بعد ما أخبرتني به مسئولةُ الأمثلية. وبالطبع كان لدى ماكس شكوكه … فهو لا يصدِّق أن الاعتناء بنا سيكون على قائمةِ أولوياتكم إذا ما تأزَّم الموقف.»

فأجابتها الأوكتوسبايدر: «هذا غيرُ محتمَل مطلقًا. فأي تصعيد للأعمال العدائية سيُقابل بردٍّ لا قِبلَ لهم به … هناك كثيرٌ من كائنات الأوكتوسبايدر يضعون خططَ الحرب منذ شهرين تقريبًا.»

فسألتها نيكول: «إذن، فكلُّ فردٍ من جنسكم شارك في التخطيط للحرب أو شنِّها سيتم إنهاءُ حياته عندما تنتهي الحرب؟ هل فهمتُ أنا ما قيل فهمًا صحيحًا؟»

فأجابتها الدكتورة بلو: «نعم، ولكنهم لن يموتوا جميعًا على الفور … سوف يُخطَرون بأنهم أدرجوا في قائمة إنهاء الحياة … وسيضع القائد الأمثل الجديد جدولًا دقيقًا بذلك بناءً على احتياجات المستوطنة ومعدَّل إمدادها بعناصرَ جديدة.»

كانت نيكول وزميلتها الأوكتوسبايدر تتناولان طعامَ الغداء معًا في المستشفى. وقد قضَتا الصباحَ تحاولان دون جدوى إنقاذَ حياة اثنين من الكائنات ذات الأذرع الست، تعرَّضا لانفجارٍ عنيف نفَّذته القوات البشرية، عندما كانا يعملان في أحد حقول الحبوب القليلة المتبقية في الجانب الشمالي من الغابة.

وفي أثناء تناولهما الغداء، مرَّ كائن آلي متعدِّد الأرجل ببطء في القاعة إلى جانبهم. ولاحظت الدكتورة بلو أن نيكول تتبَّعت الكائن بعينيها ثواني. فقالت الأوكتوسبايدر: «عندما أتينا إلى راما أولَ مرة وقبل أن نشكِّل فريق كائنات الخدمات بالكامل، استخدمنا الكائناتِ الآلية المتاحة للأعمال الروتينية مثل الصيانة … والآن نحن بحاجةٍ إلى مساعدتهم مرةً أخرى.»

فسألتها نيكول: «ولكن كيف تعطونهم الأوامر؟ إننا لم نتمكَّن من التواصل معهم قط.»

«تمَّت البرمجة في البرنامج الثابت، في مرحلة التصنيع، ومن ثمَّ فهي تؤدي مهامَّ معينةً لا تتغيَّر. وما كان منَّا في الأيام الأولى إلا أن طلبنا من سكان راما تغييرَ برمجتِهم طبقًا لاستخداماتنا الخاصة … وذلك باستخدامِ لوحة مفاتيح تشبه تلك التي كنتم تستخدمونها في مخبئكم … هذا هو الهدف من وجود كافة الكائنات الآلية هنا … تحويلها إلى خدَم مفيدين للمسافرين على متن راما.»

ففكَّرت نيكول في نفسِها: «حسنًا يا ريتشارد، لقد أخفقنا في فهْم شيءٍ ما على الأقل تمامًا. وفي الواقع، أظن أن الفكرةَ لم ترِد إلى أذهاننا من قبل …»

استأنفت الدكتورة بلو حديثها: «… لقد أردنا ألا تختلِف مستوطنتنا هنا على متن راما على الإطلاق عن أيٍّ من مستوطناتنا الأخرى؛ لذا فبمجرد أن وجدنا أنه لا حاجةَ إلى الكائنات الآلية، طلبنا التخلُّص منها من موطننا في راما.»

«ومنذ ذلك الوقت لم يكن هناك أيُّ اتصال مباشر على الإطلاق بينكم وبين سكان راما؟»

فأجابتها الدكتورة بلو: «ليس كثيرًا. ولكننا حافظنا على قدرتنا على الاتصال بالمصانع الفائقة التكنولوجيا أسفلَ السطح، وبذلك يمكننا طلبُ تصنيع بعض المواد الخام التي لا توجد في مخازننا …»

فُتِح بابٌ يُطِلُّ على رواق ودخل منه أوكتوسبايدر. ودار بينه وبين الدكتورة بلو حوارٌ سريع بلغتهم الأصلية باستخدام شرائط ألوان رفيعة للغاية. فهمت نيكول من الحوار كلمتَي «تصريح» و«بعد قليل»، ولم تفهم شيئًا عدا ذلك.

بعد أن رحل الزائر، قالت الدكتورة بلو لنيكول إن لديها مفاجأةً لها. فقالت: «اليوم ستضع إحدى الملِكات بيضها. وقد قدَّر القائمون على خدمتها أن هذا سيحدُث في غضونِ نصفِ تيرت. وقد وافقت مسئولةُ الأمثلية على طلبي بأن تشاهدي أنتِ هذا الحدث … وطبقًا لمعلوماتي، فأنتِ الكائن الوحيد الذي لا ينتمي إلى جنسنا، فيما عدا السلف بالطبع، الذي سيحظى بامتيازِ مشاهدة وضعِ الملكةِ للبيض … وأظن أنك ستجدينه ممتعًا جدًّا.»

وفي أثناء انتقالهم بالعربة إلى «موطن الملِكات» الذي كان في جزءٍ من مدينة الزمرد لم تزُرْه نيكول من قبل، ذكَّرتها الدكتورة بلو ببعض الجوانب الاستثنائية في عملية التكاثر لدى كائنات الأوكتوسبايدر. فقالت: «في الظروف العادية، يتم إخصابُ كل ملِكة من الملِكات الثلاث في موطننا مرةً واحدة، من ثلاث إلى خمس سنوات؛ ويُسمح لنسبةٍ ضئيلة فقط من البَيض المخصَّب بالنمو حتى مرحلة النضج. ولكن بسبب الاستعدادات للحرب، أعلنت مسئولة الأمثلية مؤخرًا عن الحاجة إلى تزويد المستوطنة بعناصرَ جديدة. والآن تقوم الملِكات الثلاث جميعها بوضع مجموعة كاملة من البَيض. وقد قام الذكور المحاربون الجدد بتخصيبهن، وهم كائنات الأوكتوسبايدر الذين اختيروا للمشاركة في جهود الحرب، والذين مرُّوا مؤخرًا بمرحلة نموٍّ جنسي. وهذا العمل مهمٌّ للغاية؛ إذ إنه يضمن أن كلًّا من كائنات الأوكتوسبايدر المحاربةِ سيستمر وجوده في الوعاء الجيني بالمستوطنة، ولو بصورة رمزية على الأقل … وتذكَّري أنهم يعرفون، فورَ اختيارهم جنودًا، أن وقتَ إنهاء حياتهم قد أوشك.»

ففكَّرت نيكول في نفسها: «كلما أظن أن هناك كثيرًا من القواسم المشترَكة بيننا وبين كائنات الأوكتوسبايدر، يحدُث شيء غريب للغاية يذكِّرني بمدى الاختلاف بيننا. ولكن، كما كان ريتشارد يقول: كيف يمكن أن يكون الأمر غيرَ ذلك؟ إنهم نتاجُ عملية غريبة تمامًا عنا.

واستأنفت الدكتورة بلو: «لا تنزعجي لحجم الملِكة … ورجاءً! يجب ألا تعبِّري عن أيِّ شيء سوى البهجة لما ترينه. فعندما اقترحتُ في البداية أن تشاهدي وضعَ البَيض، اعترض أحدُ أعضاء مجلس مسئولة الأمثلية، وقال إنه من المستحيل أن تقدِّري ما سترينه حقَّ قدْره. وبعض أعضاء المجلس الآخرين أبدَوا قلقَهم من أنه قد يظهر عليك الانزعاجُ أو حتى الاشمئزاز، ومن ثَم تنتقصين من قيمةِ التجربة للحضور من كائنات الأوكتوسبايدر الأخرى …»

طمأنت نيكول الدكتورة بلو أنها لن تُقدِم على أي فعلٍ غير مناسب أثناء المراسم. وقد شعرَت هي أن كائنات الأوكتوسبايدر قد أغدقتها بمجاملة كبيرة لأنها أشركتها في هذا الحدث، وكانت تشعر بسعادةٍ كبيرة عندما استقرَّت بهم العربة خارج الجدران المحصَّنة لموطن الملِكات.

كان المبنى الذي دلفَت إليه نيكول بصحبة الدكتورة بلو يشبه القبَّة، وشُيِّد من كتلٍ من الأحجار البيضاء. ويبلغ ارتفاعه من الداخل عشرة أمتار تقريبًا، ويحتل مساحةً تربو على ثلاثة آلاف وخمسمائة متر مربع تقريبًا. وكانت هناك خريطةٌ كبيرة بعد الباب مباشرة في المنطقة أسفل القبَّة، وأيضًا رسالةٌ مكتوبة بالألوان تشير إلى المكانِ الذي سيحدُث فيه وضعُ البَيض. تبِعت نيكول الدكتورة بلو والعديد من كائنات الأوكتوسبايدر الآخرين، وهم يعتلون درجاتِ سُلَّم تبِعه سُلَّم آخر، ثم عبْر ممرٍّ طويل. وفي نهايته انعطفوا يمينًا ودلفوا إلى مدرَّج يُطِلُّ على مساحةٍ مستطيلة الشكل يبلغ طولها خمسة عشر مترًا وعرْضها خمسة أو ستة أمتار.

اصطحبت الدكتورة بلو نيكول إلى الصفِّ الأمامي حيث كان هناك حاجزٌ ارتفاعه متر يحمي المشاهدين من السقوط على الأرض التي يرتفعون عنها بأربعة أمتار. وسريعًا ما امتلأت الصفوفُ الخمسة المرتفعة من خلفهم. وكان أمامهم على الجهة الأخرى مدرج مشابه يتَّسع لستين أوكتوسبايدر تقريبًا.

وفي الأسفل، كانت نيكول ترى بِركة من الماء تشبه قناةً تجري بطول الساحة ثم تختفي أسفل مدخل مقوَّس إلى اليمين. وكان هناك ممشًى ضيِّق على كل جانب من جانبي البِركة. وعلى الجانب المقابل، كان الممشى يتَّسع ليتحوَّل إلى مِنصَّة يبلغ عرْضها ثلاثة أمتار تقريبًا، قبل أن تلتقي بالحائط الصخري الذي يشكِّل الجانب الأيسر بالكامل من الغرفة الضخمة. وكان ذلك الحائط، المطلي بكثير من الألوان والتصميمات المختلفة، يحمل ما يقرُب من مائة قضيب أو مسمار فضي بارز، كلٌّ منها يبرُز مسافة متر من المكان الذي وُضع فيه في الحائط. وقد لاحظت نيكول على الفور التشابه بين الحائط والممرِّ العمودي الذي يشبه ماسورةَ البندقية الذي هبطَت عبْره هي وأصدقاؤها داخل مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر أسفل نيويورك.

وفي أقلَّ من عشر دقائق، وبعد أن امتلأ المدرجان، دلفت مسئولة الأمثلية ببطء عبْر باب يُطِلُّ على الساحة ووقفت على الممشى بجانب البِركة، وألقت كلمةً قصيرة. وساعدت الدكتورة بلو نيكول على ترجمةِ حديثِ القائدة المُثلى، وهي تذكِّر المشاهدين أنه على الرغم من أن موعدَ وضعِ البيض لم يحدُث أن عُرف تحديدًا من قبل، فإن الملِكة على الأرجح ستكون مستعدة لدخول الغرفة في غضون عدة فينجات. ثم غادرت مسئولة الأمثلية بعد أن أدلت ببعض التعليقات عن الأهمية الكبيرة للتكاثُر من أجل استمرار المستوطنة.

بدأ الانتظار. كانت نيكول تسلِّي وقتها بمراقبة كائنات الأوكتوسبايدر الواقفةِ في الشرفة المقابلة لها ومحاولة التنصُّت على أحاديثها. لم تفهم إلا قليلًا مما يقال. ذكَّرت نفسها أن الطريق ما زال طويلًا أمامها لإتقان لغتهم الطبيعية.

وبعد فترةٍ طويلة من الانتظار، فتحَت الأبواب الكبرى إلى الطرَف الأيسر من الممشى المقابل، ودلفت الملِكة العملاقة وهي تسير بتثاقُل. وقد كانت ضخمة بالفعل؛ حيث بلغ طولها ستة أمتار على الأقل، ولها جسدٌ هائل منتفِخ يرتفع فوق لوامسها الثماني الطويلة. وتوقَّفت على المنصة وقالت شيئًا ما للحضور. تدفَّقت شرائطُ ألوان كثيرة تدور حول جسدها بالكامل في مشهدٍ بهيج. لم تستطِع نيكول فهْم ما تقوله الملِكة؛ لأنها لم تتمكَّن من متابعة تسلسل شرائط الألوان وهي تندفع من الشق.

استدارت الملِكة ببطء باتجاه الحائط، ومدَّت لوامسها وبدأت عمليةَ التسلُّق الشاقة أعلى القضبان. وطَوال فترة صعودها، كانت دفعات من شرائط الألوان غير المنتظمة تزيِّن جسدَها. افترضت نيكول أنها تعبيراتٌ عن مشاعرها، ربما مشاعر الألم والإجهاد. وعندما نظرَت نيكول حولها، لاحظت أن كائنات الأوكتوسبايدر التي تشاهد الحدَث صامتة، ورءوسهم معتِمة وخاوية من الألوان.

عندما استقرَّت الملِكة في النهاية في منتصف الحائط، لفَّت لوامسها الثماني جميعها حول القضبان وكشفت عن أسفل بطنها ذات اللون الكريمي. في المدة التي عمِلت فيها نيكول في المستشفى أصبح تشريح أعضاء كائنات الأوكتوسبايدر مألوفًا إلى حدٍّ كبير لها، ولكنها لم تتخيَّل قط أن ذلك النسيج الرقيق أسفل بطنها يمكن أن يتمدَّد إلى هذا الحد. وشاهدت نيكول الملِكةَ وهي تهتز قليلًا؛ فتتحرك إلى الأمام وإلى الخلف، وتثِب رويدًا على الحائط الصخري في كل حركة. استمرَّ تعبيرها عن انفعالاتها بالألوان. ووصلت الألوان إلى درجةٍ كبيرة من الكثافة عندما انبثق ما يشبه ينبوعًا من سائلٍ أسود يميل إلى الخضرة من أسفل جسد الملِكة، تبِعه على الفور تدفُّق غزير لأجسام بيضاء مختلفة الأحجام في سائلٍ لزج غليظ القوام.

ذُهلت نيكول أمام ذلك المشهد. وكان هناك بالأسفل ما يقرُب من اثني عشر من كائنات الأوكتوسبايدر على جانبي البِركة يدفعون بسرعةٍ البَيضَ والسائل الذي هبط على الممشيَين إلى الماء. وكان هناك أيضًا ثمانية آخرون من كائنات الأوكتوسبايدر يَسكبون محتويات لم تعرفها لأوعية ضخمة في البِركة. كانت البِركة الآن مليئة بدماء الملِكة الأوكتوسبايدر وبيضها والسائل الشديد اللزوجة الذي خرج مع البَيض. وفي أقلَّ من دقيقة، تحرَّك المزيج الموجود في البَركة ليجريَ إلى أسفل المدخل المقوَّس إلى اليمين.

لم تكن الملِكة قد غيَّرت موضعها بعدُ. وحالما عادت المياه في البِركة تجري نظيفة، توجَّهت العدسات كلُّها صوب الملِكة. وقد صُعقت نيكول عندما رأت حجم ملِكة الأوكتوسبايدر الجديد وكيف تقلَّص عن ذي قبل. وقدَّرت أن الملِكة قد فقدت نصف وزنها في الجزء من الثانية الذي استغرقه تدفُّق البيض والسوائل المصاحبة له من جسدها. كانت الملِكة لا تزال تنزف، فتسلَّق اثنان من كائنات الأوكتوسبايدر الطبيعية الحجم القضبانَ ليمدا لها يدَ العون. وعندها، ربَّتت الدكتورة بلو على كتفِ نيكول مشيرةً إلى أنه قد حان وقتُ الرحيل.

•••

جلست نيكول وحدَها في إحدى الغرف الصغيرة في مستشفى كائنات الأوكتوسبايدر تسترجع مشهدَ وضْع البيض في ذهنها مرةً بعد أخرى. لم تكن تتوقَّع أن يترك ذلك الحدَث في مشاعرها أثرًا إلى هذا الحد. وقد كانت نيكول تُتابِع الدكتورة بلو بنصف تركيزها فقط، والأخيرة تشرح لها بعد عودتهما إلى المستشفى أن تلك الأوعية التي أُفرغت على البَيض والسوائل بالبِركة كانت مليئة بحيوانات ضئيلة الحجم تبحث عن أجنة معيَّنة وتقتلها. وقالت إن كائنات الأوكتوسبايدر بتلك الطريقة تتحكَّم في عدد الكائنات المشكِّلة للجيل القادم، بما في ذلك عددُ الملِكات والخَزَنة والأقزام والكائنات المختلفة الأخرى.

وكانت الأم داخل نيكول تجاهد لكي تستنتج كيف سيكون شعورها إذا كانت ملِكة أوكتوسبايدر في أثناء وضع البَيض. شعرت نيكول شعورًا لم تجِد له تفسيرًا أنه تربطها علاقةٌ قوية بذلك المخلوق الضخم الذي زحف متسلقًا القضبان. ففي أثناء الاندفاع السريع للبيض، انقبض رحم نيكول وتذكَّرت الألم والبهجة اللذين شعرت بهما في المرَّات الست التي وضعت فيها. وتساءلت في نفسها: «تُرى ما السرُّ الكامن في عملية الولادة الذي يجمع بين كل الكائنات الحية التي مرَّت بها؟»

تذكَّرت حوارًا دار بينها وبين مايكل أودونل في راما الثانية بعد ولادة سيمون وكيتي، حين كانت تحاول أن تشرح له شعور ولادة طفل. استنتجت في النهاية بعد ساعاتٍ من الحديث أن تلك تجربةٌ لا يمكن نقْلها نقلًا وافيًا من شخص لآخر. قالت حينها: «العالَم منقسم إلى جماعتين. أولئك الذين مروا بتجربة الولادة وأولئك الذين لم يخوضوها.» والآن بعد عشرات السنين ومليارات الكيلومترات، أرادت أن تضيف لملاحظتها. «القواسم المشترَكة بين الأمهات من البشر والأمهات من غيرهن من الكائنات أكثرُ مما بينهن وبين غير الأمهات من بني جنسهن.»

بينما كانت تفكِّر فيما شهدته، اجتاحت نيكول رغبةٌ قوية في الاتصال بالأوكتوسبايدر الملِكة كي تعرف فيمَ كانت تفكِّر الأم من جنسٍ عاقل آخر، وبمَ كانت تشعر قبل وضع البيض وأثناء وضعه. هل شعرت الملِكة، وسط الألم ودهشة الموقف، بطمأنينةٍ قوية غمرتها؟ هل تخيَّلت صورة أولادها ونسلهم يعمر الدنيا في المستقبل البعيد، دورة الحياة المعجزة؟ هل شعرت بسَكينةٍ عميقة لا تُوصف في الثواني التي تلَت وضْع البيض مباشرة، سَكينةٍ ليست كأي سَكينة عرفتها في حياتها إلا بعد الولادة مباشرة؟

وكانت نيكول تعلم أن ذلك الحوارَ التخيُّلي بينها وبين الملِكة لم يكن من الممكن أن يحدُث. فأغلقت عينيها مرةً أخرى وهي تحاول تذكُّر ترتيب تدفُّقات شرائط الألوان التي رأتها على جسد الملِكة قبل الولادة مباشرة وبعدها. هل كانت تلك الألوان تُطلِع كائناتِ الأوكتوسبايدر الأخرى على شعور الملِكة آنذاك؟ وتساءلت نيكول في نفسها عما إذا كانت كائنات الأوكتوسبايدر قادرةً بصورةٍ ما على التعبير عن مشاعرَ معقَّدة، مثل النشوة بلغة الألوان الثرية أفضل من البشر بلغتهم المحدودة المفردات؟

ولكنها لم تجِد إجابة. وأدركت نيكول أنها تحتاج إلى الحديث إلى صديق مقرَّب، حبذا لو كان ريتشارد. أرادت أن تشارك ما شهدته وشعرت به في موطن ملِكات الأوكتوسبايدر مع أحد. وفي وحشتها تذكَّرت فجأةً بعض أبيات كتبتها بينيتا جارسيا عن ذلك الأمر. ففتحت جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بها، وبعد بحث فيه لم يدُم طويلًا، وجدَت القصيدة كاملة:

في أوقاتِ الشك العميق أو الألم المبرِّح،
عندما تقهرني صروفُ الحياة وتطرحني،
أبحث حولي في كل مكان تقع عليه عيني.
أبحث عمَّن مثلي ويعرف ما لا أعي،
أبحث عمَّن يقدِر على أن يهوِّن عليَّ
ما يخيفني ويبكيني ويؤرقني.
قالوا لي لن تُكتب لك النجاةُ على طريقي
إن استمرَّت مشاعري تحكُم أفكاري.
يجب أن أسيطر على مشاعري قبل أن أتخذَ قراري،
وإلا سيكون عليَّ أن أقبَل بما قاسيته في حياتي،
فزمن الأحاسيس ولَّى لا يدركه الرائي.

•••

كانت هناك أوقاتٌ مضت، لم تكثُر ولكنها قلَّت.
وجدتُ فيها مَن يطيِّب جُرحي ببلسمه الشافي،
ويُنهي ألمي ورهبتي.
إلا أن السنين زادت من علمي.
لآلامي يجب أن أكون أنا الحاوي،
ما يجيش بصدري لن يتجاوز صدري.
وسأعي الدرسَ طَوال حياتي.
وها نحن وحدَنا إلى الرحلة الأخيرة نمضي.
لن يساعدك أحدٌ في يومٍ تكون الفاني،
فلمَ لا تتعلَّم قبل أن تكون من الموت دانيًا،
أن تثق بنفسك ولا تكون على نفسك باغيًا.

قرأت نيكول كلماتِ القصيدة عدةَ مرات. ثم عندما أدركت أن الإنهاك قد نال منها، وضعت رأسها على المنضدة الوحيدة في الغرفة وغطَّت في سبات عميق.

•••

ربَّتت الدكتورة بلو على كتفِ نيكول برفقٍ بإحدى لوامسها. انتبهت نيكول وفتحت عينيها. فقالت الأوكتوسبايدر: «إنك نائمة منذ ساعتين تقريبًا. إنهم ينتظرونك الآن في مركز المعلومات.»

فسألتها نيكول وهي تفرُك عينيها: «ما الذي يحدُث؟ ولماذا هناك مَن ينتظرني؟»

«لقد ألقى ناكامورا خطابًا مهمًّا في عدن الجديدة. وتودُّ مسئولةُ الأمثلية مناقشته معك.»

هبَّت نيكول من مكانها بسرعة، ولكنها مدَّت يدها بعدها لتمسك بالمكتب. وفي غضونِ ثوانٍ قليلة، زال شعورها بالدُّوار. وقالت: «شكرًا لك مرةً أخرى على كل شيء يا دكتورة بلو. سأذهب إلى هناك في غضون دقيقة.»

٧

قال روبرت: «لا أعتقد أنه ينبغي أن نسمح لنيكي بمشاهدةِ هذا الخطاب. سيخيفها بلا شك.»

فأجابته إيلي: «ما سيقوله ناكامورا سيؤثِّر على حياتها بالقدْر نفسه الذي سيؤثِّر به على حياتنا نحن. فإذا كانت تريد المشاهدة، أظن أننا يجب أن نتركها … ومع كلٍّ، لقد عاشت مع كائنات الأوكتوسبايدر …»

فقال روبرت محاولًا إقناعها: «ولكنها لن تفهم معنى شيء مما يحدُث. إنها حتى لم تبلغ الرابعة من عمرها بعد.»

ظلا يناقشان الأمرَ دون الوصول إلى حل، حتى قبل دقائق قليلة من الموعد المحدَّد لظهور ديكتاتور عدن الجديدة على شاشة التلفاز. وفي ذلك الوقت، اقتربت نيكي من والدتها في غرفة المعيشة، وقالت الفتاة الصغيرة: «أنا لن أشاهد حتى لا تتشاجري مع أبي.» وهو ما ينِمُّ عن فطنة مدهشة.

كانت إحدى الغرف في قصر ناكامورا قد تحوَّلت إلى استوديو بثٍّ تليفزيوني. وكان ذلك الطاغية عادةً ما يخاطب سكان عدن الجديدة من ذلك الاستوديو. وقد كان خطابه السابق منذ ثلاثة أشهر، وأعلن فيه أن قواته ستنتشر في نصف الأسطوانة الجنوبي لمواجهة «التهديد الفضائي». ومع أن التليفزيون والصحف الخاضعة للحكومة كانت تذيع باستمرار أخبارًا من الجبهة، فإن كثيرًا منها كان ملفَّقًا ويتحدَّث عن «المقاومة الشديدة» من جانب كائنات الأوكتوسبايدر، فقد كان ذلك البثُّ أولَ تصريح علني لناكامورا عن تقدُّم الحرب الدائرة في الجنوب واتجاهها.

وبمناسبة هذه الخُطبة، أمر ناكامورا خيَّاطيه أن يحيكوا له زيًّا عسكريًّا يابانيًّا جديدًا بكامل زينته من السيف والخنجر. وقد أخبر معاونيه أنه يظهر بالزي العسكري الياباني ليؤكِّد على دوره بوصفه «المحارب والحارس الأول» لمواطنيه. وفي يوم البث، ساعده خدمُه في ارتداء حزامين ثقيلين مشدودين حتى يبدوَ في صورة المحارب «الجبار الذي لا يشقُّ له غبار».

وكان السيد ناكامورا يلقي خُطبته وهو واقف يحدِّق مباشرة في الكاميرا. ولم يتغيَّر تجهُّم وجهه قطُّ على مدار الخُطبة بأكملها.

وقد بدأ حديثه قائلًا: «لقد قدَّمنا جميعًا تضحيات في الأشهر الأخيرة؛ كي ندعم جنودنا البواسل في خوضهم الحربَ جنوب البحر الأسطواني ضد عدوٍّ فضائي بغيض لا يعرف الرحمة. وقد أطلعَنا جهاز مخابراتنا أن كائنات الأوكتوسبايدر، التي وصفها لكم بالتفصيل الدكتور روبرت تيرنر بعد هروبه الشجاع، يخطِّطون لشن هجوم كبير على عدن الجديدة في المستقبل القريب. وفي هذه اللحظة الحرِجة من تاريخنا، يجب أن نشحذَ عزْمَنا ونقف متحدين ضد المعتدي الفضائي.

وينصح قادتنا على الجبهة أن نخترقَ أرضهم إلى خلف حاجز الغابة الذي يحمي الجزءَ الأكبر من موطن كائنات الأوكتوسبايدر، ونحرمهم من الوصول إلى إمداداتهم وعتاد الحرب قبل أن يشنُّوا هجومهم. وقد أدخل مهندسونا، الذين يصِلون الليلَ بالنهار في العمل من أجل بقاء المستوطنة؛ تعديلات على سربِ طائرات الهليكوبتر ستسمح لنا بتنفيذ هذه المهمة. وسنضربهم في المستقبل القريب. وسنُقنِع الفضائيِّين أنهم لا يستطيعون أن يهاجمونا ويفلتوا بفَعلتهم.

وفي غضون ذلك، انتهى محاربونا من تأمين المنطقة من راما الواقعة بين البحر الأسطواني وحاجز الغابة بالكامل. وفي أثناء المعارك العنيفة، دمَّرنا المئات من قوات العدوِّ، بالإضافة إلى محطات المياه والطاقة لديهم. أما خسائرنا نحن فكانت طفيفة؛ ويرجع ذلك في المقام الأول إلى خطط المعارك المتقنة واستبسال قواتنا. ولكن يجب ألا ندَع الإفراط في الثقة بالنفس ينال منَّا. ففي المقابل، إن لدينا كلَّ الأسباب التي تجعلنا نتأكد من أننا لم نخُض بعدُ معركةً مع «قوات الموت» الخاصة التي سمِع عنها الدكتور روبرت عندما كان أسيرًا. ونحن واثقون أن قوات الموت هذه ستكون في طليعةِ جيش العدوِّ إذا لم نتحرك بسرعةٍ لمنع هجومهم على عدن الجديدة. وتذكَّروا، أن الوقت ليس في مصلحتنا. يجب أن نهاجمَ الآن ونقضي تمامًا على قدراتهم الحربية.

هناك أمرٌ آخرُ موجز أودُّ أن أخبركم به الليلة. منذ وقت قريب استسلم لقواتنا في الجنوب الخائنُ ريتشارد ويكفيلد ومعه أوكتوسبايدر. ويقولان إنهما يمثلان القيادةَ العسكرية للكائنات الفضائية، وقد تقدَّموا للتحدُّث معنا عن السلام. وأنا أشكُّ في وجود خدعة هنا، خدعة مثل حصان طروادة، ولكن دوري بوصفي قائدكم هو أن أجريَ محاكمة في هذا الشأن في غضون الأيام القليلة القادمة. واطمئنوا أنني لن أتفاوض على حساب أمننا. وسأطلعكم على نتائجِ هذه المحاكمة قريبًا فور الانتهاء منها مباشرة.»

•••

قالت إيلي: «ولكنك يا روبرت تعرف أن جزءًا كبيرًا مما يقوله ما هو إلا كذب … فلا وجودَ لقوات الموت، وكائنات الأوكتوسبايدر لم تقاومهم على الإطلاق. كيف تسكت عن هذا الأمر؟ كيف تتركه يَنسب إليك كلامًا لم تَقُله؟»

فأجابها روبرت: «إنها السياسة يا إيلي. الجميع يعرف هذا. ولا أحدَ يصدِّق حقًّا أن …»

«ولكن هذا يزيد الطينَ بِلة. ألا ترى ما يحدُث؟»

اتجه روبرت ليغادر المنزل. فسألته إيلي: «إلى أين تذهب الآن؟»

فأجابها روبرت: «سأعود إلى المستشفى. فلديَّ زيارات للمرضى.»

لم تستطِع إيلي أن تصدِّق ما تسمعه أذناها. فأخذت تحدِّق في زوجها ثواني قليلة. ثم انفجرت في وجهه. قالت صارخة: «أهذا هو جوابك؟ العمل كما هي العادة. رجل مجنون يعلِن عن خطةٍ أغلبُ الظن أنها ستؤدي إلى قتلنا جميعًا، والأمر في نظرك هو العمل كالعادة … مَن أنت يا روبرت؟ ألا تأبه لشيء؟»

تحرَّك روبرت باتجاهها في غضب. وقال: «لا تتصرَّفي كما لو كنتِ أكثرَ براءةً مني. إنكِ لستِ دائمًا على صواب يا إيلي، ولا تعرفين عن يقين أننا جميعًا سنُقتل. فلربما تنجح خطة ناكامورا.»

«إنك تخدع نفسَك يا روبرت. إنك تولي كلَّ شيء ظهرَك وتقول لنفسك ما دام عالَمي الصغير لم يتأثَّر، فكل شيء على ما يرام … ولكنك مخطئ يا روبرت. مخطئ تمامًا. وإذا لم تفعل أيَّ شيء حيال هذا الأمر، فسأفعل أنا.»

فقال روبرت وصوته يرتفع: «وماذا ستفعلين؟ هل ستخبرين العالَم أن زوجك كاذب؟ هل ستحاولين أن تقنعي الجميع أن تلك الكائنات القذرة كائنات مسالِمة؟ لن يصدِّقك أحد يا إيلي … وسأخبرك أنا بشيء آخر: حالما تفتحين شفتيك للحديث، سيُلقون القبضَ عليكِ ويحاكمونك بتهمة الخيانة. سيقتلونك يا إيلي كما سيقتلون أباك … هل هذا ما تريدين؟ ألَّا تري ابنتك مرةً أخرى؟»

رأت نيكول في عينَي روبرت مزيجًا من الألم والغضب. خاطبها عقلها سريعًا: «أنا لا أعرف هذا الشخص؛ كيف يمكن أن يكون هذا هو الرجل نفسه الذي قضى آلاف الساعات يرعى المرضى المحتضرين؟ هذا أمرٌ لا يُعقل.»

فآثرت إيلي ألا تقول شيئًا لزوجها في تلك اللحظة. فقال هو بعد صمت: «سأذهب الآن. سأعود إلى المنزل في منتصف الليل تقريبًا.»

سارت إيلي إلى الجانب الخلفي من المنزل وفتحت غرفةَ نيكي. ومن حسن الحظ أن الفتاة كانت قد نامت أثناء جدالهما. وعندما عادت إيلي إلى غرفة المعيشة، كانت مكتئبة بشدة وتمنَّت أكثرَ من أي وقت مضى لو أنها مكثَت في مدينة الزمرد. ولكنها لم تمكُث هناك، فماذا عساها أن تفعل الآن؟ وقالت لنفسها: «كان الأمر سيكون يسيرًا للغاية، لو لم يكن عليَّ التفكير في نيكي.» ثم هزَّت رأسها في نفي ببطء، وأخيرًا سمحت لعينيها أن تذرف الدموع التي طالما حبستها.

•••

قالت كيتي وهي تدور بجسدها كراقصة الباليه أمام فرانتس: «كيف أبدو؟»

فأجابها: «فاتنة، ساحرة. أجملُ من أي مرة رأيتك فيها من قبل.»

كانت كيتي ترتدي فستانًا بسيطًا أسودَ اللون ملتصقًا بجسدها النحيف. وكان على كلٍّ من جانبي الفستان شريط أبيض واضح. وقد كان مفتوح الرقبة بحيث يظهر عِقدها الذهبي المرصَّع بالماس الذي ترتديه، ولكنه لم يكن مفتوحًا بصورة تجعله غيرَ لائق.

ألقت كيتي نظرةً سريعة على ساعتها. وقالت: «جيد. لأول مرة أنتهي مبكرًا.» واجتازت الغرفة إلى المنضدة وأشعلت سيجارة.

كان الزي الرسمي الذي يرتديه فرانتس مكويًّا وحذاؤه لامعًا. فقال وهو يتبَع كيتي إلى الأريكة: «إذن أعتقد أن لدينا وقتًا لمفاجأتي.» ثم أعطاها عُلبة مُخْملية صغيرة.

فسألته كيتي: «ما هذا؟»

فقال فرانتس: «افتحيها.»

وداخل العُلبة وجدت كيتي خاتم سوليتير. وقال فرانتس بارتباك: «كيتي، هل تقبلين الزواج مني؟»

فرمقت كيتي فرانتس بنظرة سريعة، ثم أشاحت بوجهها بعيدًا عنه. والتقطت نفسًا عميقًا من سيجارتها وأطلقت الدخان في الهواء فوقها. وقالت وهي تقف وتطبع قُبلة على وجنته: «أشعر بالإطراء حقًّا يا فرانتس … ولكن هذا الأمر لن يفلح.» ثم أغلقت العُلبة وردَّت إليه الخاتم.

فسألها فرانتس: «ولمَ لا؟ ألا تحبينني؟»

«بلى أحبُّك … أظن هذا … إذا كنت ما زلتِ قادرةً على الحب. ولكننا تحدَّثنا في هذا الأمر من قبلُ يا فرانتس. إنني لست المرأة التي ينبغي أن تتزوجها.»

فقال فرانتس: «ولمَ لا تتركينني أقرِّر هذا الأمر بنفسي يا كيتي؟ كيف تعرفين «نوع المرأة» التي أحتاج إليها؟»

فقالت كيتي وقد بدأت تثور: «انظر يا فرانتس، أفضِّل ألا نتحدَّث عن هذا الأمر الآن. وكما قلت إني شعرت بالإطراء … ولكني متوترة بالفعل بسبب المحكمة التي ستُعقد من أجل أبي، وأنت تعلم أنني لا أجيد التعامُل مع الكثير من المواقف العصيبة في آنٍ واحد.»

فقال فرانتس بغضب: «دائمًا ما يكون لديك سببٌ لعدم رغبتك في الحديث عن هذا الموضوع. إذا كنتِ تحبينني، أظن أنني أستحق تفسيرًا. الآن …»

فبرقت عينا كيتي. وقالت: «تريد تفسيرًا الآن أيها النقيب … حسنًا، سأمنحك التفسير … اتبعني من فضلك …» وقادته كيتي إلى غرفة ملابسها وقالت: «الآن، قفْ هناك وأمعِن النظر جيدًا.»

اتجهت يدُ كيتي إلى خزانة الملابس وجذبت منها حقنةً وقطعة من أنبوب أسود، ورفعت ساقها اليمنى على مقعد المزينة، ورفعت فستانها لتكشف عن مواضع الحقن الواضحة على فخذها، فأشاح فرانتس بوجهه عنها بحركة غريزية.

فقالت كيتي وهي تمدُّ إحدى يديها لتعيد وجهه ليواجهها: «كلا، لا يمكنك أن تشيح بوجهك يا فرانتس … يجب أن تراني كما أنا حقًّا.»

أرخَت ملابسها السفلية وربطت الأنبوب حول فخذها. ثم ألقت نظرةً سريعة لأعلى كي تتأكدَ أن فرانتس ما زال يشاهدها. كان الألم واضحًا في عينيها. قالت: «ألا ترى يا فرانتس؟ أنا لا أستطيع الزواجَ بك لأني متزوجة بالفعل … من هذا المخدِّر السحري الذي لا يخيِّب ظني أبدًا … ألا تفهم؟ لا يمكنك أبدًا أن تنافس كوكومو على قلبي.»

غرست كيتي الحقنةَ في أحد أوردتها وانتظرت عدة ثوانٍ حتى يبدأ مفعول العقَّار. ثم قالت وهي تتحدَّث أسرع: «ستكون زوجًا صالحًا معي لأسابيع قليلة أو حتى لشهور، ولكن عاجلًا أو آجلًا ستصبح فظًّا معي … وسأستبدلك حينها في قلبي بحبيبي القديم الذي لا يخيِّب ظني.»

ثم مسحَت نقطتي دماء سالتا بمنديل ورقي وتخلَّصت من الحقنة. كان فرانتس يبدو ذاهلًا. فقالت له كيتي وهي تربِّت على وجنته برفق: «ابتهج فإنك لم تخسِر شريكتك في الفراش … سأكون موجودةً هنا لأشاركك أي متعة جامحة نتمناها …»

استدار فرانتس ووضع العُلبة المُخملية في أحد جيوب زيه. فسارت كيتي إلى المنضدة لتلتقط نفسًا أخيرًا من السيجارة التي تركتها مشتعلة في المنفضة. وقالت: «والآن أيها النقيب باور، لدينا محاكمة لنَحضُرها.»

•••

عُقدت المحاكمة بقاعة الاحتفالات في الطابق الأرضي من قصر ناكامورا. وقد وُضع ما يقرُب من ستين مقعدًا في أربعة صفوف على طول جدران القاعة من أجل «الضيوف المميزين». وكان ناكامورا يرتدي الزي العسكري الياباني نفسَه الذي ظهر به على شاشة التلفاز قبل يومين، ويجلس على مقعد ضخم مزيَّن على منصة مرتفعة عن الأرض في إحدى أطراف الغرفة. وإلى جواره كان حارسان يرتديان زي الساموراي أيضًا. وكانت قاعة الاحتفالات نفسُها مزخرفةً بالكامل على الطراز الياباني في القرن السادس عشر، تعزيزًا للصورة التي يحاول ناكامورا خلْقَها لنفسه؛ بصفته الإمبراطورَ الجبار لعدن الجديدة.

وقد أحضر ثلاثةٌ من رجال الشرطة ريتشارد وآرشي اللذين لم يعرفا بأمرِ المحاكمة سوى قبل خروجهما من القبو بأربع ساعات، وأمروهما أن يجلسا على وساداتٍ صغيرة على الأرض على مسافة عشرين مترًا من ناكامورا. وقد لاحظت كيتي أن والدها يبدو تعِبًا، والتقدُّم في السن واضح على ملامحه. فقاومت رغبتها الملحَّة في أن تُهرع إليه وتتحدَّث معه.

أعلن الحاجب المسئول بدءَ المحاكمة، وذكَّر جميعَ الحاضرين أنهم يجب ألا يقولوا أيَّ شيء أو يتدخَّلوا بأي طريقة في إجراءات المحاكمة. وبمجرد أن انتهى الحاجب، وقف ناكامورا واختال في مِشيته وهو يهبط الدرجتين الكبيرتين أسفل مقعده إلى المنصة.

وقال بصوتٍ أجشَّ وهو يسير جيئةً وذهابًا: «لقد عقَدت حكومة عدن الجديدة هذه المحاكمة لتقرِّر ما إذا كان ممثل الأعداء الفضائيِّين مستعد، نيابةً عن جنسه، أن يقبل الاستسلام غير المشروط الذي طلبناه شرطًا ملزِمًا لوقف الأعمال العدائية بين الطرفين. وإذا كان المواطن السابق ريتشارد ويكفيلد، الذي يستطيع التواصلَ مع العدوِّ الفضائي، قادرًا على إقناع المخلوق الفضائي بالقبول بمطالبنا، ومنها التنازل عن جميع عتاد الحرب، والكفُّ عن الإعداد لاحتلالنا، والتنحي عن حُكم أراضيهم كافة؛ فإننا سنكون مستعدين لنكون رحماءَ معه. وفي مقابل خدماته هذه في إنهاء هذا الصراع المرير، لن يكون لدينا اعتراض على تخفيض حُكم الإعدام على السيد ويكفيلد إلى السِّجن مدى الحياة.

ثم رفع ناكامورا صوتَه وهو يقول: «ولكن، إذا كان الخائن المُدان وشريكه الفضائي قد استسلما لقواتنا المنتصرة كجزء من مخطَّطٍ غادرٍ لتقويض رغبتنا الجماعية في عقاب المخلوقات الفضائية لهجماتها العدوانية ضدنا، فإننا حينها سنجعل من هذين الاثنين عبرةً كرسالة واضحة لأعدائنا. إننا نريد أن يعرف قادةُ المخلوقات الفضائية أن مواطني عدن الجديدة يقفون صامدين ضد أهدافهم التوسعية.»

حتى تلك اللحظة كان ناكامورا يخاطب الحضورَ جميعًا. لكنه استدار ليواجه السجينين الجالسين وحدَهما في منتصف قاعة الاحتفالات. وقال: «سيد ويكفيلد، هل الكائن الفضائي الذي يجلس إلى جوارك لديه سلطةُ التحدُّث بالنيابة عن بني جنسه؟»

وقف ريتشارد. وأجاب: «على حدِّ علمي، نعم.»

«إذن، هل الكائن الفضائي جاهزٌ للتوقيع على وثيقة الاستسلام غير المشروط التي اطلعتم عليها؟»

«لقد استلمنا الوثيقةَ قبل بضع ساعات ولم يُتَح لنا وقتٌ لنتحدَّث عن جميع محتوياتها. شرحت أهم الأجزاء بها لآرشي، ولكني لا أعرف إن كان مستعدًّا للتوقيع أم لا.»

فدوَّى صوتُ ناكامورا وهو يقول مخاطبًا الحضورَ ويلوِّح بورقة في الهواء: «إنهما يماطلان. شروط الاستسلام مكتوبة كلها في تلك الورقة الواحدة.» ثم استدار ليواجه ريتشارد وآرشي مرةً أخرى. وقال: «السؤال يتطلب إجابةً بسيطة. نعم أم لا؟»

تدفَّقت شرائط الألوان حول رأس آرشي وسادت همهمةٌ بين الحضور. انتبه ريتشارد لآرشي، ثم همس بسؤال لزميله الأوكتوسبايدر، وقام بعدها بترجمة إجابة آرشي. نظر إلى ناكامورا. وقال: «إن الأوكتوسبايدر يريد أن يعرف بالضبط ماذا سيحدُث إذا وقَّع على تلك الوثيقة. ما الإجراءات التي ستحدُث وما هو ترتيبها؟ فإن أيًّا من هذا غيرُ مذكور بوضوح في الاتفاقية.»

صمت ناكامورا وقتًا قصيرًا. ثم قال: «في البداية، يجب أن يتقدَّم إلينا جميع جنود الكائنات الفضائية ويسلِّموا أسلحتهم، ويستسلموا لقواتنا الموجودة الآن في الجنوب. ثانيًا، يجب أن تسلِّم حكومة الكائنات الفضائية، أو أيًّا كان نظامُ حكمهم، قائمةً تفصيلية بكل شيء يوجد في موطنهم. ثالثًا، يجب أن يعلنوا لجميع أفراد جنسهم أننا سنحتل موطنَهم، وأنهم جميعًا سيتعاونون مع جنودنا ومواطنينا بكل الطرق.»

دار بين ريتشارد وآرشي حوارٌ قصير آخر. ثم سأل ريتشارد: «وماذا سيحدُث لجميع كائنات الأوكتوسبايدر والحيوانات الأخرى التي تعيش معهم في موطنهم؟»

«سيُسمح لهم باستئناف حياتهم العادية، بالطبْع مع فرضِ بعض القيود عليهم. وستُطبَّق قوانيننا وسيشغَل مواطنونا مناصبَ الحكم في الأراضي المحتلَّة.»

قال ريتشارد: «وستُدخِلون حينها تعديلًا على وثيقة الاستسلام أو ستصوغون لها ملحقًا يضمن حياةَ كائنات الأوكتوسبايدر وأمنَها، وكذلك الحيوانات الأخرى، شريطةَ ألا يخرقوا أيًّا من القوانين المعلَنة في المنطقة المحتلة؟»

ضاقت عينا ناكامورا. وقال: «فيما عدا الكائنات الفضائية التي سنجد أنها مسئولة عن الحرب العدوانية التي شُنت ضدنا، سأضمن شخصيًّا سلامة كائنات الأوكتوسبايدر التي تطيع قوانينَ الاحتلال … ولكن ما هذه إلا تفاصيل. ولا حاجة لكتابتها في وثيقة الاستسلام.»

هذه المرة دار حوارٌ طويل بين ريتشارد وآرشي. ومن جانب الغرفة رأت كيتي وجهَ أبيها عن قُرب. وفي البداية ظنَّت أنه مختلف مع الأوكتوسبايدر ولكن فيما بعدُ بدا ريتشارد كأنه قد انصاع لكلام الأوكتوسبايدر، وأذعن له تقريبًا. وكان الأمر وكأن والدها يحاول حفظ شيء …

وقد كان ذلك التوقُّف الطويل في إجراءات المحاكمة يستثير حَنَق ناكامورا. وبدأ الضيوف المميزون يتهامسون فيما بينهم. وفي النهاية تحدَّث ناكامورا قائلًا: «حسنًا هذا يكفي. ما إجابتك؟»

كانت الألوان لا تزال تتدفَّق حول رأس آرشي. وبعد برهةٍ توقَّفت ألوانه، فتقدَّم ريتشارد خطوةً للأمام باتجاه ناكامورا. وتردَّد وهلةً قبل أن يتحدَّث.

فقال ببطء: «إن كائنات الأوكتوسبايدر تريد السلام، وتود أن تجد سبيلًا لإنهاء هذا الصراع. وإن لم يكونوا جنسًا يتمتَّع بحسٍّ أخلاقي، لكان من الممكن أن يوافق الأوكتوسبايدر على توقيع وثيقة الاستسلام لكسبِ المزيد من الوقت فحسب. ولكن هذا ليس من شيَمِها. إن صديقي الفضائي، واسمه آرشي، لن يعقِد اتفاقيةً نيابةً عن جنسه إلا إذا كان واثقًا من أنها مناسِبة لمستوطنته وأن بني جنسه سيقبلونها.»

سكتَ ريتشارد. فقال ناكامورا بنفاد صبر: «إننا لا نريد خُطَبًا، أجب عن السؤال فقط.»

فقال ريتشارد بصوتٍ أعلى: «لقد أرسلتني كائنات الأوكتوسبايدر أنا وآرشي لنتفاوض على إحلال سلام مشرِّف، وليس للاستسلام دون شرط. فإذا كانت عدن الجديدة لا ترغب في التفاوض وعقدِ اتفاقية تحترم وحدةَ أراضي موطن كائنات الأوكتوسبايدر، فلن يكون لديهم خيار.» ثم صرخ ريتشارد وهو ينظر أمامه وخلفه إلى الضيوف الجالسين على جانبي القاعة: «رجاءً، افهموا أنكم لن تتمكنوا من النَّصر إذا حاربتكم كائناتُ الأوكتوسبايدر بالفعل. إنهم حتى الآن لم يقاوموا على الإطلاق. يجب أن تقنعوا قادتَكم بأن يَعقدوا مباحثات يضعون فيها النقاطَ كافة في اعتبارهم …»

فصرخ ناكامورا آمرًا: «أقبضوا على السجينين.»

«… أو إنهم سيقضون عليكم عن بكرةِ أبيكم. كائنات الأوكتوسبايدر أكثرُ تقدُّمًا منَّا بمراحل. صدِّقوني. أنا أعلم هذا. لقد عشتُ معهم أكثرَ من …»

فضرب أحدُ رجال الشرطة ريتشارد على مؤخرة رأسه فسقط على الأرض مدرجًا في دمائه. هبَّت كيتي من مكانها ولكن فرانتس منعَها بكلتا ذراعيه. وعندما أُخرج ريتشارد وآرشي من القاعة كان الأول يمسك بجانب رأسه.

•••

كان ريتشارد وآرشي في زنزانةٍ صغيرة في قِسم شرطة هاكون، على بُعد مسافة ليست بالكبيرة من قصر ناكامورا. سأله آرشي بالألوان: «هل رأسك على ما يُرام؟»

فأجابه ريتشارد: «أظن هذا، مع أنه لا يزال متورِّمًا.»

فسأله آرشي: «سيقتلوننا الآن، أليس كذلك؟»

فأجابه ريتشارد وهو متجهِّم: «على الأرجح.»

فقال آرشي بعد صمتٍ قصير: «شكرًا على المحاولة.»

فهزَّ ريتشارد كتفيه. وقال: «إنني لم أُبلِ بلاءً حسنًا … على أي حال، أنت مَن يستحق الشكر. فلولا أنك تطوَّعت لهذه المهمة، لكنتَ الآن سالمًا غانمًا في مدينة الزمرد.»

ثم سار ريتشارد إلى الحوضِ في زاوية الزنزانة وغسل قطعةَ القماش التي كان يضعها على جُرح رأسه. وسأله آرشي بعد أن عاد لينضم إليه في مقدمة الزنزانة: «ألم تخبرني أن معظمَ البشر يؤمنون بالحياة الآخرة؟»

فأجابه ريتشارد: «بلى. بعض الناس يؤمنون أن الأرواح تتناسخ وتعود إلى الحياة مرةً أخرى في صورة إنسان آخر أو حتى حيوانٍ ما. والبعض الآخر يؤمن أنه إذا عشتَ حياةً صالحة، فستكون هناك مكافأة، حياة خالدة في مكان جميل يخلو من أي شيء قد يعكِّر صفوهم يسمَّى الجنة …»

فقاطعه آرشي بألوانه: «وأنت يا ريتشارد، بمَ تؤمن؟»

فابتسم ريتشارد وفكَّر عدة ثوانٍ قبل أن يجيب. «لقد كنت دائمًا أُومن أنه أيًّا كان ما بنا، ذلك الشيء المميز الذي يحدِّد الشخصية الخاصة بكل فرد، فإنه يختفي لحظةَ الموت. وبالطبع فإن المواد الكيميائية المشكِّلة لأجسادنا تدور في الطبيعة لتأخذ أشكالَ كائنات حية أخرى، ولكن لا يوجد استمرار حقيقي، ليس في هيئةِ ما يُطلِق عليه بعضُ البشر الرُّوح …»

ثم ضحِك. وقال: «أما الآن، عندما يملي عليَّ المنطِق أنني لا أملك أن أعيش وقتًا طويلًا، أسمع صوتًا بداخلي يترجَّاني أن أعتنق واحدًا من تلك القصص الخيالية عن الحياة الآخرة … وأنا أعترف أنه أمرٌ سهل … ولكن مثل هذا الاعتناق في اللحظات الأخيرة لن يتماشى مع الطريقة التي عشتُ بها هذه السنوات كلَّها …»

سارَ ريتشارد ببطء إلى مقدمة الزنزانة. ووضع يديه على القضبان وحدَّق في الرواق عدة ثوانٍ دون أن يقول شيئًا. ثم استدار ليواجه صاحبه بالسِّجن وسأله برفق: «وماذا تظن كائناتُ الأوكتوسبايدر سيحدُث بعد الموت؟»

«لقد علَّمنا السلفُ أن كل حياة تمتد فترةً زمنية معينة، لها بداية ولها نهاية. وأيُّ مخلوق، على الرغم من أن وجوده معجزة، ليس مهمًّا في الإطار العام لمجريات الأشياء. ما يهم حقًّا طِبقًا لما يقوله السلف هو الاستمرارية والتجدُّد. ومن منظورهم، فإن كل شخص خالد ليس بسبب أي شيء يرتبط بالحياة للأبد، ولكن بسبب أن كل حياة تكون حلقة ربط هامة، إما على المستوى الثقافي أو الجيني أو الاثنين معًا، في ديمومة الحياة التي لا تنتهي أبدًا. عندما أدخل علينا السلف تعديلاتٍ باستخدام الهندسة الوراثية للخروج بنا من الجهل، علَّمونا ألا نهابَ الموت، بل أن نذهب إليه طوعًا تأييدًا منَّا للتجديد الذي سيتبعه.»

«إذن فأنت لا تشعر بالغم أو الخوف وهلاكك وشيكٌ؟»

أجابه آرشي: «نظريًّا. هذه هي الطريقة المقبولة التي يقابل بها مجتمعُنا الموت. ولكن الأمر سيكون أسهلَ بكثير إذا كان الفرد محاطًا وقتَ إنهاء حياته بأصدقائه وبالآخرين الذين يمثِّلون التجديدَ الذي سيبدؤه بموته.»

فسار ريتشارد إليه وأحاطه بذراعه. وقال: «لم يَعُد لدى كلٍّ منَّا الآن سوى الآخر يا صديقي. إلى جانب معرفة الآخرين أننا حاولنا معًا وقْفَ حربٍ ستنتهي على الأرجح بمقتل الآلاف. ليس ثَمة سببٌ أكثر …»

ثم توقَّف عندما سمِع صوت باب رواق الزنازين يُفتح. وكان هناك ضابط الشرطة بالقِسم ومعه أحد رجاله يقفان بعيدًا في الوقت الذي تقدَّمت فيه أربعة كائنات آلية عبْر الرواق إلى زنزانتهم — اثنان منهما جارسيا والآخران لينكولن — وكانوا جميعهم يرتدون قفازات. لم ينطِق أيٌّ من الآليَّين بكلمة. وفتح أحدُ آليي الجارسيا البابَ ودلفوا جميعًا إلى الزنزانة مع ريتشارد وآرشي. وأغلق النقيب بابَ رواق الزنازين. وبعد لحظاتٍ انطفأت الأنوار، ولعدة ثوانٍ كان هناك صوتُ شجار، ثم صرخ ريتشارد وارتطمَت جثةٌ بقضبان الزنزانة. ثم ساد بعدها هدوءٌ مطبِق.

•••

قالت كيتي وهي تفتح بابَ قِسم الشرطة: «لا تخَف الآن يا فرانتس من أن تستغل رتبتك مع مَن هو أقلُّ منك. إنه مجرد ضابط بقسم شرطة. ولن يخبرك أنك لا يمكنك أن ترى السجناء.»

دخلا إلى القِسم بعد ثانية واحدة أو اثنتين من إغلاق باب رواق الزنازين خلف الآليين. وقال فرانتس في أقوى نبرة رسمية عنده: «أيها النقيب ميازاوا، أنا النقيب فرانتس باور من مركز القيادة … لقد أتيت لزيارة السجينين.»

فأجابه ضابط الشرطة: «لدي أوامرُ مشدَّدة من أعلى سلطة ألا أسمح لأي شخص بالدخول إلى الزنازين أيها النقيب باور.»

غرقت الغرفة فجأةً في ظلام دامس. فقال فرانتس: «ما الذي يحدُث؟»

فأجابه ميازاوا: «لا بد أن صمَّامًا كهربيًّا قد انصهر. ويسترمارك، اذهب إلى الخارج وتفحَّص مفاتيح الكهرباء.»

سمِع فرانتس وكيتي صرخة. وبعد ما بدا أنه دهر، سمِعا صوت باب رواق الزنازين يُفتح ثم خطَى أقدام. خرج ثلاثة كائنات آلية من الباب الأمامي للقِسم في الوقت الذي بدأت فيه الأنوار تضيء بصورة متقطعة.»

فركضَت كيتي إلى الباب. وصرخت: «انظر يا فرانتس. إنها دماء، هناك دماء على ملابسهم.» ثم استدارت وهي ثائرة للغاية. وقالت: «يجب أن نرى أبي.»

ركضت كيتي أسرعَ من ضبَّاط الشرطة الثلاثة عبْر الرواق. وصرخت عندما اقتربت من الزنزانة ورأت أباها راقدًا على الأرض أمام القضبان: «يا إلهي.» كانت الدماء في كل مكان. ثم أجهشت كيتي بالبكاء وهي تقول: «لقد مات يا فرانتس. مات أبي!»

٨

كانت نيكول قد شاهدت شريطَ الفيديو مرتين قبل ذلك. وعلى الرغم من عينيها المتورمتين وإنهاكها العاطفي التام، فقد طلبت رؤيةَ الشريط مرة أخرى. فناولتها الدكتورة بلو التي كانت بجوارها كوبًا من الماء. وسألتها: «هل أنت متأكدة من طلبك؟»

أومأت نيكول برأسها إيجابًا. قالت في نفسها: «مرة واحدة أخرى فقط. أريد أن أحفظ كلَّ لقطة مهما كانت مريعة في ذاكرتي.»

قالت: «من فضلك ابدئي العَرض من مشهد المحاكمة. بالسرعة العادية حتى تدخل الكائنات الآلية رواقَ الزنازين. ثم أبطئي السرعة إلى الثُّمن.»

كانت نيكول تفكِّر في نفسها وشريط الفيديو يعرض مشهدَ المحاكمة: «لم يشأ ريتشارد البتة أن يلعب دورَ البطل. فهذا لم يكن طبْعه. لقد أراد فقط أن يكون مع آرشي حتى لا أُضطر أنا إلى الذهاب معه.» أجفلت عندما ضرب الحارس ريتشارد وسقط الأخيرُ على الأرض. ثم قالت لنفسها بينما كان رجال شرطة عدن الجديدة يقودون ريتشارد وآرشي إلى خارج قصر ناكامورا: «لقد كانت هذه الخطة فاشلةً من البداية. وقد عرفت كائناتُ الأوكتوسبايدر هذا. وأنا كنت أعرِف هذا. لمَ لمْ أتحدَّث بعد أن انتابتني تلك الهواجس؟»

طلبت نيكول من الدكتورة بلو أن تقدِّم شريط الفيديو حتى الدقائق الأخيرة. وفكَّرت عندما كان ريتشارد وآرشي يتجاذبان أطرافَ الحديث للمرة الأخيرة: «على الأقل كان كلٌّ منهما إلى جوار الآخر في النهاية. وقد حاول آرشي حمايته …» ظهرت الكائنات الآلية الأربعة على الشاشة فبدأ العرض يبطئ. ورأت نيكول المباغتةَ المرتسِمة في عيني ريتشارد وهي تتحوَّل إلى الخوف، والآليون يدخلون إلى الزنزانة.

وعندما انطفأت الأنوار، تغيَّرت جودة الصور. فقد كانت الصور التي التقطتها طفيلياتُ التصوير بالأشعة تحت الحمراء تشبه الصورَ السلبية، حيث كانت توضِّح المواضعَ العالية الحرارة في كل إطار من صور مقطع الفيديو. وبدا الآليون مخيفين. بدت عيونهم بارزةً من رءوسهم في الصور بالأشعة تحت الحمراء.

وفي اللحظة التي خيَّم فيها الظلام على الغرفة، جذب أحدُ الآليين الجارسيا ريتشارد من عنقه. ونزع الثلاثة الآخرون قفازاتهم ليكشفوا عن أصابعهم الحادة المسنَّنة وأيديهم التي تشبه حوافَّ السكاكين. فلفَّ آرشي أربعًا من لوامسه القوية حول الجارسيا الآلي الذي يحاول خنْقَ ريتشارد. وعندما انهار جسدُ الجارسيا الآلي وتكوَّم على أرض الزنزانة، هاجم الآليون الثلاثة آرشي بغضب شديد. فحاول ريتشارد أن يساعده في المعركة. ولكن لينكولن آلي أصاب عنقَ آرشي بضربة قاسية من يده كادت تفصل رأس الأوكتوسبايدر. فصرخ ريتشارد عندما أغرقه السائل الداخلي في جسد آرشي. وبخروج آرشي من العَرْكة، فتك الآليون الباقون بريتشارد، وأخذوا يطعنون جسده مِرارًا وتكرارًا بطعنات من أصابعهم. وسقطت جثة ريتشارد لتصطدم بقضبان الزنزانة وانزلقت على الأرض. وسارَ دمُه ودمُ وآرشي، اللذان ظهرا بلونين مختلفين في صور الأشعة تحت الحمراء، سارا معًا مكوِّنين بِركةً من الدماء على أرض الزنزانة.

استمر شريط الفيديو، ولكن نيكول لم تكن تستطيع رؤيةَ شيء أمامها. وفي تلك اللحظة فقط أدركت للمرة الأولى أن زوجَها ريتشارد، الصديقَ المقرَّب الحقيقي والوحيد الذي حظيت به في كِبَرها، قد مات. وعلى الشاشة، كان فرانتس يقود كيتي التي تبكي خارج الزنزانة، ثم أظلمت الشاشة. ولم تتحرَّك نيكول. ظلَّت ساكنة في مكانها بلا حَراك تحدِّق أمامها في المكان الذي كانت الصور تُعرض فيه قبل ثوانٍ قليلة. ولم تكن هناك دموعٌ في عينيها، ولم يكن جسدها يرتعش، وبدَت مسيطرة تمامًا على نفسها. ولكنها لم تستطِع أن تتحرَّك بعدُ.

أُضيئت غرفةُ العَرض بضوء خفيض. وكانت الدكتورة بلو لا تزال جالسةً إلى جوارها. فقالت نيكول ببطء وقد فوجئت بأن صوتها يبدو وكأنه يأتي من بعيد: «لا أظن أنني قد استوعبت الأمرَ في المرتين الأوليين … أعني — لا بد أني كنت مصدومة … وربما ما زلتُ كذلك.» لم تستطِع نيكول أن تستمرَّ في الحديث، وكانت تواجه صعوبةً في التقاط أنفاسها.

فقالت الدكتورة بلو: «أنتِ في حاجة إلى جرعة ماء وقسط من الراحة؟»

فقالت نيكول بوهنٍ وصوتها يتداخل مع صوت أفكارها: «نعم، من فضلك.» وقالت في نفسها: «لقد قُتل ريتشارد. مات ريتشارد. لن أراه مجددًا. لن أتحدَّث إليه أبدًا.» «ماء بارد، إذا كان ذلك ممكنًا.» «لقد رأيته يموت. مرة. مرتين. ثلاث مرات. لقد مات ريتشارد.»

كان هناك كائن أوكتوسبايدر آخرُ في غرفة العَرض. وكان يتحدَّث إلى الدكتورة بلو، ولكن نيكول لم تستطِع متابعةَ ألوانهما. كانت نيكول تفكر: «لقد رحل ريتشارد إلى الأبد. أنا وحيدة.» رفعت الدكتورة بلو كوبَ الماء إلى شفتَي نيكول، ولكنها لم تستطِع أن تشرب. «لقد قُتل ريتشارد.» لم تَعُد ترى شيئًا سوى ظلام دامس.

•••

كان هناك شخصٌ يمسك بيدها. وكانت يده دافئة لطيفة، أخذت تُربِّت على يدها برفق. ففتحت عينيها.

قال لها باتريك بحنان: «مرحبًا يا أمي. هل تشعرين بتحسُّن؟»

أغلقت نيكول عينيها مرةً أخرى. وفكَّرت في نفسها: «أين أنا؟» ثم تذكَّرت. «مات ريتشارد. لا بد أني قد فقدت الوعي.»

فأخذت نيكول تئن دون أن تتحدَّث.

سألها باتريك: «هل تودين احتساء بعضَ الماء؟»

فهمست: «نعم. من فضلك.» كان صوتها يبدو غريبًا.

حاولت نيكول أن تعتدِل جالسةً وتشرب الماء. ولكنها لم تستطِع.

فقال باتريك: «على مهل. لا داعيَ للعجلة.»

بدأ عقل نيكول يعمل: «يجب أن أُخبرَهم. أخبرهم أن ريتشارد وآرشي قد ماتا. وأن طائرات الهليكوبتر قادمة. يجب أن نتوخَّى الحذَر ونحمي الأطفال.» فاستطاعت أن تقول: «ريتشارد.»

فردَّ عليها باتريك: «إننا نعلم يا أمي.»

ففكَّرت نيكول في نفسها: «كيف يعلمون؟ إنني الشخص الوحيد المتبقي هنا ويستطيع أن يقرأ لغةَ الألوان …»

«لقد تكبَّدت كائنات الأوكتوسبايدر مشقةً كبيرة ليدوِّنوا كلَّ شيء لنا. ولم تكن لغتهم الإنجليزية ممتازة، ولكننا فهِمنا قَطعًا ما كانوا يخبروننا به … وقد أخبرونا عن الحرب أيضًا.»

فكَّرت نيكول: «جيد. إنهم يعلمون. يمكنني النوم.» وكان هناك صوتٌ لا يزال يتردَّد في عقلها: «لقد مات ريتشارد.»

•••

جاءها صوت ماكس يقول: «من حينٍ لآخر أسمع صوتَ القنابل، ولكن إلى حدِّ علمي فإن أيًّا منها لم يضرب القبَّة. ربما لم يكتشفوا بعدُ مكانَ المدينة.»

فقال باتريك: «ستبدو مظلِمة تمامًا من الخارج. لقد زادوا من سُمك المِظلة الواقية ولا توجد إنارةٌ في الشوارع.»

قال ماكس: «لا بد أن القنابل تسقط على الموطن البديل. لا يمكن أن تخفيَ كائنات الأوكتوسبايدر وجودَه.»

فسأل باتريك: «ماذا تفعل كائناتُ الأوكتوسبايدر؟ هل نعرف حتى ما إذا كانوا يشنُّون هجومًا مضادًّا؟»

فأجابه ماكس: «لا نعرف يقينًا. ولكني لا أستطيع أن أصدِّق أنهم ما زالوا جالسين هنا لا يفعلون شيئًا.»

سمِعَت نيكول وقْعَ خُطًى رقيقة في الرواق. قبل أن تقول ناي: «لقد بدأ الأولاد يعانون حالةً مزعِجة من رُهاب الأماكن المغلقة. هل تظنون أنه لا بأسَ في أن أدَعَهم يلعبون في الخارج؟ لقد رأيت الإشارةَ الضوئية التي تقول إن كل شيء على ما يرام منذ نصف ساعة.»

فقال باتريك: «لا أرى ما يمنع. ولكن أخبريهما أن يدخلا إذا رأيا إشارةً ضوئية أو سمِعا صوتَ أي قنابل.»

فقالت ناي: «سأكون في الخارج معهم.»

فسألها ماكس: «ماذا تفعل زوجتي؟»

فأجابته: «إنها تلقِّن بينجي القراءة. وماريوس نائم.»

«هلا تطلبين منها أن تأتيني بضع دقائق؟»

تقلَّبت نيكول لتنام على جانبها الآخر. وفكَّرت في أن تحاول الاعتدالَ جالسةً، ولكنها شعرَت أنها متعَبة بشدة. ثم بدأت تستغرق في أحلامِ اليقظة وتتذكَّر طفولتها. كانت نيكول الصغيرة تسأل والدها: «كيف يمكن أن أصبح أميرة؟» فأجابها والدها: «إما أن يكون والدك ملِكًا، أو تتخذين من أميرٍ زوجًا لك.» ثم ابتسم وقبَّلها. فقالت: «إذن فأنا أميرة، لأنك بمنزلة ملِك عندي.»

سألت إيبونين: «كيف حال نيكول؟»

فأجابها باتريك: «لقد تقلَّبت في الفراش مرةً أخرى هذا الصباح. وقد أشارت الدكتورة بلو إلى أنها قد تتمكَّن من الجلوس الليلة أو غدًا. وقالت أيضًا إنهم قد تأكَّدوا من أن الأزمة لم تكن شديدة، وأن القلب لم يتضرَّر ضررًا مزمنًا، وأنها تستجيب للعلاج.»

فسأل بينجي: «هل يمكنني رؤيتها الآن؟»

فقالت إيبونين: «كلَّا يا بينجي، ليس بعدُ، إنها ما زالت نائمة.»

قال باتريك: «لقد كانت كائنات الأوكتوسبايدر رائعةً فعلًا، أليس كذلك؟ حتى في خِضَم هذه الحرب، اقتطعوا من وقتهم لكتابة هذه الرسائل الكاملة لنا …»

قال ماكس: «لقد نجحوا فعلًا في جعْلي أُدرك أنهم كائناتٌ صالحة. لم أكن أظنُّ قط أن هذا ممكن.»

ففكَّرت نيكول في نفسها: «إذن فقد تعرَّضتُ لأزمة قلبية. فلم أفقد وعيي فحسب لأن ريتشارد …» في البداية لم تستطِع إنهاء الجملة، ثم تواصلت أفكارها: «ﻟ…أنه قد رحل.»

حلَّقت نيكول بين النوم واليقظة حتى سمِعت صوتًا مألوفًا ينادي اسمَها. فقالت نيكول بسعادة: «أهذا أنت يا ريتشارد؟» فأجابها «نعم يا نيكول.» فقالت: «أين أنت؟ أريد أن أراك» وظهر وجهه يزيِّن سحابةً في منتصف الصورة في حلمها، فقالت هي: «إنك تبدو بحالة رائعة، هل أنت بخير؟» فأجابها ريتشارد: «نعم، ولكن يجب أن أتحدَّث إليك.»

فسألته نيكول: «ما الأمر يا حبيبي؟» فقال هو: «يجب أن تواصلي حياتك بدوني. يجب أن تكوني مثالًا يحذو الآخرون حذوَه.» ثم بدأ وجهه يتغير وأشكال السُّحب تتبدل حول وجهه. فقالت نيكول: «طبعًا، ولكن إلى أين أنت ذاهب؟» لم تَعُد تراه. فجاءها صوته يقول: «وداعًا.» فأجابته: «وداعًا يا ريتشارد.»

•••

عندما استيقظت نيكول المرة التالية، كان ذهنها صافيًا. فجلست على الفراش ونظرت حولها. كان الظلام مخيِّمًا على المكان، ولكنها أدركت أنها في غرفتها في المنزل بمدينة الزمرد.

لم تسمع نيكول أيَّ أصوات. فخمَّنت أن الليل مسدِلٌ أستاره. ورفعت الغطاء عن جسدها ودلَّت ساقيها على حافة الفراش. قالت في نفسها: «حتى الآن، هذا جيد.» رفعت نيكول جسدَها من فوق الفراش لتقف على قدميها ببطء شديد. كانت ساقاها ترتعدان.

كان هناك كوب من العصير على طرَف المنضدة إلى جانب فراشها. فخطَت نيكول خطوتين حذِرتين وهي تتمسك بالفِراش بيدها اليمنى، والتقطت الكوب. كان العصير لذيذًا. وعندما شعرت بالرضا عن نفسها لِما فعلته، بدأت تتجه إلى خزانة الملابس لتحصُل على بعض الملابس. ولكنها شعرت بدُوار خفيف بعد بضع خطوات فاتجهت عائدة إلى الفِراش.

سمِعت صوتَ باتريك يقول: «أمي، أهذه أنت؟» ورأته عند باب الغرفة، ولم تكن ملامحه واضحة لها.

فأجابته: «نعم يا باتريك.»

فقال: «لمَ لا نضيء الغرفة؟» وطَرق على الحائط فطارت يراعةٌ إلى منتصف الغرفة لتنيرها. فقال: «يا إلهي! ما الذي تفعلينه وقد غادرتِ فِراشك؟»

فأجابته نيكول: «لا يمكن أن أظل راقدةً في الفِراش إلى الأبد.»

فقال باتريك وهو يتَّجه إلى جوارها ويساعدها في قطعِ المسافة التي تفصلها عن الفِراش: «ولكن يجب ألا تُجهِدي نفسَك في البداية.»

أمسكت نيكول بذراعه. وقالت: «اسمعني يا بني. ليست لديَّ نية أن أكون عاجزة، ولا أريد أن أُعامل على هذا الأساس. وآمُل أن أعود كما كنت في غضون بضعة أيام، أو أسبوع على الأكثر.»

فقال باتريك وابتسامةٌ قلِقة تعلو وجهه: «حسنًا، يا أمي.»

•••

كانت الدكتورة بلو سعيدةً لشفاء نيكول. وبعد أربعة أيام أخرى تمكَّنت نيكول من قطعِ المسافةِ التي تفصل بين المنزل وموقف العربات سيرًا، والعودةِ مرةً أخرى، وإن كانت تسير ببطء وبمساعدةٍ قليلة من جانب بينجي.

قالت الدكتورة بلو لنيكول في أثناء فحصِها مساء أحد الأيام: «لا تُحمِّلي نفسَك أكثرَ من طاقتها يا نيكول. إنك تُبلين بلاءً رائعًا، ولكنني قلقةٌ عليك …»

وعندما انتهَت الأوكتوسبايدر وكانت تستعد لمغادرة الغرفة. دخل ماكس عليها وقال إن اثنين من كائنات الأوكتوسبايدر ينتظران عند باب المنزل. فأسرعت الدكتورة بلو خارجةً، وعادت بعد بضع دقائق ومعها مسئولةُ الأمثلية وأحدُ أفراد مجلسها.

في البداية، اعتذرت مسئولةُ الأمثلية لزيارتها المفاجئة ولعدم انتظارها حتى تتعافى نيكول تمامًا. ثم قالت قائدة الأوكتوسبايدر بعدها: «ولكننا في موقفٍ طارئ الآن، ورأينا أننا نحتاج إلى الاتصال بك على الفور.»

شعرَت نيكول بخفقات قلبها تتسارع وحاولت أن تهدئ نفسَها. فقالت: «ماذا حدَث؟»

فقالت مسئولة الأمثلية: «لعلك لاحظت أنه لم يكن هناك أيُّ قصفٍ في الأيام السابقة. فقد أوقف البشر مؤقتًا هجمات طائرات الهليكوبتر في الوقت الذي يدرُسون فيه الإنذار النهائي الذي وجَّهناه إليهم … فقبْل خمسةِ أيام نقلنا الرسالةَ المكتوبة نفسَها إلى جميع معسكرات البشر الثلاثة. وكانت الرسالة تقول إننا لن نقبَل قصفهم أكثرَ من هذا، وإننا سنستخدم تقنياتنا الأكثرَ تقدُّمًا لشن هجومٍ يحسِم الحرب لمصلحتنا، إذا لم تتوقَّف الأعمال العدائية على الفور … وتوضيحًا لإمكاناتنا التكنولوجية، فقد ألحقنا بالرسالة وصفًا زمنيًّا مفصَّلًا نيليت بنيليت لكلِّ ما فعله ناكامورا وماكميلان في خلال يومين من أيام عملهما الأسبوعَ المنصرم.

وقد جُن جنون قادة البشر. وساورتهم شكوكٌ أننا قد رشونا بطريقةٍ ما مسئولًا رفيعَ المستوى في الحكومة، وأننا نعرف الآن جميعَ خططهم الحربية. وقد نصح ماكميلان ناكامورا بقبول وقف إطلاق النار والانسحاب من موطننا. ولكن ناكامورا استشاط غضبًا. وطرد ماكميلان وأعاد هيكلة قادته. وقد أسرَّ إلى قائد حراسته أن أي انسحابٍ سيقضي على مكانته في المستوطَنة.

وأول من أمس قال أحدُهم لناكامورا إنَّ ابنتك إيلي قد تعرِف كيفيةَ حصولنا على المعلومات. فاصطحبوها إلى القصر وحقَّق معها ناكامورا بنفسه. في البداية كانت متعاونةً معهم بعض التعاون، وأقرَّت لهم بأننا أكثرُ تقدُّمًا من البشر في مجالاتٍ بعينها. وقالت أيضًا إنها تعتقد أننا بإمكاننا تمامًا الحصول على معلومات عمَّا يحدُث في عدن الجديدة دون أن نستعين بأي جواسيس أو أي من الطُّرق التقليدية التي تستخدمها المخابرات في جمع المعلومات.

ولأنها كانت مباشِرةً للغاية، تكوَّنت لدى ناكامورا قناعة بأنها تعرف أكثرَ مما كانت تخبِره به. فأخذ يطرح عليها الأسئلة عدة ساعات، أسئلة عن عدة موضوعات، بما في ذلك إمكاناتنا العسكرية وجغرافية موطننا. وقد تجنَّبت إيلي بدهاءٍ ذكْرَ أي معلومات خطيرة — فلم تذكر مدينةَ الزمرد قط على سبيل المثال — وأجابته مرارًا وتكرارًا أنها لم ترَ قط أيَّ أسلحة أو حتى أي جنود. ولكن ناكامورا لم يصدِّقها. وفي النهاية، أمر بإلقائها في السِّجن وتعذيبها. ومنذ ذلك الوقت ظلَّت إيلي صامتةً متحديةً إياهم، مع أنها قد لاقت معاملةً أكثرَ قسوة.»

توقَّفت مسئولة الأمثلية عن الحديث. حيث شحَب وجهُ نيكول والأولى تصف لها سوءَ المعاملة الذي لاقته إيلي. فالتفتت الأوكتوسبايدر القائدة إلى الدكتورة بلو. وقالت: «هل أستكمل حديثي؟»

كان ماكس وباتريك يقفان عند باب الغرفة. لكنهما لم يفهما بالطبع ماذا كانت مسئولة الأمثلية تقول. ولكنهما رأيا امتقاعَ وجهِ نيكول. فدخل باتريك إلى الغرفة. وقال: «إن أمي مريضة بشدة …»

فقاطعته نيكول وهي تشير إليه أن يبتعد: «لا بأس.» ثم التقطت نفَسًا عميقًا. وقالت لمسئولة الأمثلية: «من فضلك، واصلي.»

استأنفت مسئولة الأمثلية حديثها: «وقد أقنع ناكامورا نفسَه وكِبار قادته في الوقت الحالي أنَّ تهديدنا ما هو إلا خديعة. ويعتقد أنه حتى إذا كانت تقنياتنا متقدِّمة للغاية عنهم في مجالات محدَّدة، فإنه ليست لدينا أيُّ إمكانات عسكرية. وفي اجتماعه الأخير مع مجلسه قبل بضع تيرات، وافق على خطةٍ تقوم على قصفنا باستخدامِ جميع القوى العسكرية المتاحة حتى نستسلم. وستبدأ أولى الغارات المكثَّفة في الصباح.

ولهذا، فقد خلَصْنا على كرهٍ إلى أنه يجب أن نردَّ على هجماتهم. حيث إن التقصير في الرد عليهم قد يعرِّض بقاء المستوطنة للخطر. وقبل أن آتيَ لرؤيتك، أصدرتُ أوامري بتنفيذ «خطة الحرب رقم واحد وأربعين»، وهي واحدة من ردودنا المتوسطة القوة. ولن تؤديَ هذه الخطة إلى الإفناء الشامل لجميع سكان عدن الجديدة، ولكنها ستكون مدمِّرة لهم بما يكفي بحيث تضع الحربُ أوزارها بسرعة. ويقدِّر محلِّلونا أن ما بين عشرين إلى ثلاثين بالمائة من البشر سيَلقون حتفَهم …»

سكتَت مسئولة الأمثلية حين رأت الألمَ المرتسِم على ملامح نيكول. وطلبَت نيكول شيئًا لتشربه. ثم قالت ببطء بعد أن انتهَت من احتساء كوب الماء: «هل مسموح لنا معرفةُ مزيد من التفاصيل عن الهجوم الذي ستشنُّونه؟»

«لقد اخترنا كائنًا ميكروبيولجيًّا، يشبه كيميائيًّا الإنزيمَ إلى حدٍّ بعيد، الذي يعيق تكاثُر الخلايا في جنسكم. ويمتلك شبابُ البشر الأصحاء دون الأربعين عامًا مناعةً طبيعية قوية بما يكفي للصمود أمام هجوم الكائن عليهم. أما البشر الأكبر سنًّا أو غير الأصحاء فسيَلقون حتفَهم سريعًا. فخلايا أجسادهم لن تستطيع التجدُّد بالصورة السليمة وستتوقَّف أجسادُهم ببساطةٍ عن تأدية وظائفها … وقد استخدمنا الدَّم والجِلد وغيرها من الخلايا التي حصلنا عليها منكم جميعًا في مدينةِ الزمرد كي نتحقَّق من صحةِ توقُّعاتنا النظرية. ونحن واثقون إلى حدٍّ بعيد من أن الصغار لن يتعرَّضوا لأي أذًى.»

فقالت نيكول بعد صمتٍ قصير: «إن جنسنا يَعُدُّ الحرب البيولوجية أمرًا غير أخلاقي.»

فعقَّبت مسئولة الأمثلية: «إننا ندرك أن هناك بعضَ أشكال الحروب المقبولة أكثرَ من غيرها. ولكن في منظورنا، جميعُ أشكال الحروب غير مقبولة. إننا نحارب فقط إذا أجبرتنا ضرورةٌ ملحَّة على هذا. ولا يمكننا أن نرى أن مصرع أحدهم بسلاح ناري أو قنبلة أو سلاح نووي أو سلاح بيولوجي سيصنع فارقًا له. إلى جانبِ أننا يجب أن نردَّ العدوان بأي سلاح نملكه.»

خيَّم على الغرفة صمتٌ طويل. ثم تنهَّدت نيكول وهزَّت رأسها في استنكار وقالت في النهاية: «أعتقد أنني يجب أن أشكرك لأنك أخبرتني بما سيحدُث في هذه الحرب الغبية، مع أن شبح سقوط كثير من القتلى يخيفني. كنت أتمنَّى أن يكون هناك سبيلٌ آخر يسفر عن نتيجة مختلفة.»

استعدَّت كائنات الأوكتوسبايدر الثلاثة لمغادرة الغرفة. وكان ماكس وباتريك يطرحان الأسئلةَ على نيكول حتى قبل أن يرحل الزائرون من المنزل، ولكن نيكول قالت بضجر: «انتظرا. استدعيا الآخرين إلى هنا أولًا. فأنا أريد أن أشرح ما أخبرتني به كائناتُ الأوكتوسبايدر مرةً واحدة.»

•••

لم يَغمض لنيكول جَفن. لم تستطِع أن تمنع نفسها من التفكير في الأشخاص الذين سيموتون في عدن الجديدة على الرغم من أنها حاولت جاهدةً أن تصرِف ذهنَها عنهم. كانت تجول في مخيِّلتها وجوهٌ، وجوهٌ لعجائزَ، معظمها لأناسٍ عرفتهم نيكول وعملت معهم في أثناء فترة نشاطها في المستعمَرة.

ثم تساءلت نيكول في نفسها: «وماذا عن كيتي وإيلي؟ ماذا لو أن كائنات الأوكتوسبايدر قد ارتكبت خطأً؟» وارتسمت في ذهنها صورةُ إيلي كما رأتها آخرَ مرة في منزلها مع زوجها وابنتها. ومرَّ على خاطر نيكول خلافاتُ الرأي التي شاهدتها بين إيلي وروبرت. وظل وجه روبرت المتعَب المنهَك ثابتًا في ذهنها. ففكَّرت في نفسها: «وروبرت، يا إلهي. لقد كبُر في السن ولا يعتني بنفسه مطلقًا.»

تقلَّبت نيكول في فِراشها أكثرَ من مرة، وهي تشعر بالإحباط لأنها لا تستطيع أن تفعل شيئًا. وفي النهاية قرَّرت أن تعتدل جالسةً في الظلام. وسألت نفسها وهي تفكِّر في روبرت مرةً أخرى: «تُرى هل فات الأوان؟» فكَّرت في روبرت مرةً أخرى. قالت في نفسها: «إنني لا أتفق معه. ولست واثقة حتى من أنه نِعم الزوج لإيلي. ولكنه لا يزال والد نيكي.»

وبدأت بذور خطةٍ تنمو في ذهنها. فانزلقت من فوق فراشها بحذرٍ واجتازت الغرفة إلى خزانة الملابس. ارتدَت ملابسها. قالت في نفسها: «قد لا أتمكَّن من المساعدة. لكني على الأقل سأكون قد حاولت.»

سارت على أطرافِ أصابعها إلى الرَّدهة. فلم تشأ أن توقظ باتريك أو ناي، اللذين كانا ينامان في غرفة إيلي منذ تعرُّضها للأزمة القلبية. وقالت لنفسها: «إنهما سيجعلانني أعود إلى الفِراش.»

وفي الخارج، كان الظلام يخيِّم على مدينة الزمرد كما كان مخيِّمًا على المنزل بالداخل. وقفت نيكول عند باب المنزل وهي تأمُل أن تتكيف عيناها بصورة كافية مع الإضاءة الخافتة حتى ترى المنزلَ المجاور لهم. وفي النهاية تمكَّنت من تحديد بعض الظلال، فخرجت من مقدِّمة المنزل متجهةً إلى اليمين.

كانت تتقدَّم ببطء. تقطع بضع خطوات ثم تتوقَّف لتنظر حولها. استغرق وصولها إلى رَدهة منزل الدكتورة بلو عدة دقائق.

قالت في نفسها: «لو حالفني الحظُّ فستكون نائمةً في الغرفة الثانية على اليسار.» عندما دخلت إلى غرفة نوم الأوكتوسبايدر، طرقَت نيكول برفق على الحائط. فألقت يراعةٌ بضوءٍ خافتٍ على اثنين من كائنات الأوكتوسبايدر ينامان مقترِبَين. كانت الدكتورة بلو وجيمي ينامان وجسداهما ملتصقان معًا، ولوامسهما متشابكة على نحوٍ غير منتظم. فسارت نيكول ووضعت يدَها على أعلى رأس الدكتورة بلو. ولكنها لم تستجِب. فربَّتت عليها بقوةٍ أكبرَ في مرة ثانية، فبدأت عدسة الدكتورة بلو تتحرَّك.

ثم قالت لنيكول بالألوان بعد بضع ثوانٍ: «ماذا تفعلين هنا؟»

فأجابتها: «إنني أحتاج إلى مساعدتك. إنه أمرٌ مهم.»

تحركت الأوكتوسبايدر بحذرٍ شديد محاوِلةً تخليص لوامسها دون إزعاج جيمي. ولكنها لم تنجح؛ إذ استيقظ الأوكتوسبايدر الصغير. فطلبت منه الدكتورة بلو أن يعودَ إلى نومه، وسارت إلى الرَّدهة مع نيكول.

قالت الدكتورة بلو: «يجب أن تكوني في فِراشك الآن.»

فأجابتها نيكول: «أعلم. ولكنها حالةٌ طارئة. أحتاج إلى التحدُّث إلى مسئولة الأمثلية. وأريد منك أن تأتي معي.»

«في هذا الوقت من الليل؟»

فقالت نيكول: «أنا لا أدري كم تبقَّى من الوقت. يجب أن أرى مسئولة الأمثلية قبل أن تبدأ الأسلحة البيولوجية في قتل الناس في عدن الجديدة … إنني قلِقة على كيتي، وأسرة إيلي أيضًا.»

«نيكي وإيلي لن تتعرَّضا لأي أذًى. وكيتي ليست كبيرة السن حسبما فهمت …»

فقاطعت نيكول ألوانها: «ولكن أجهزة كيتي تالفةٌ بسبب ذلك الكَم من المخدرات التي تتعاطاها. وعلى الأرجح سيستجيب جسدُها كما لو كان جسد عجوز … وروبرت منهَك تمامًا من العمل طوال الوقت.»

قالت الدكتورة بلو: «أنا لست واثقةً من أنني أفهم ما تخبرينني به. لماذا تودِّين أن تقابلي القائدة المُثلى؟»

«كي أناشدَها أن تكون هناك معاملةٌ خاصة لكيتي وروبرت، بالطبع على افتراض أن إيلي ونيكي ستكونان بخير. يجب أن تكون هناك طريقةٌ ما بقدراتكم البيولوجية المتقدِّمة تمكِّنكم من استثنائهم وعدم المساس بهما. ولهذا أريدك أن تأتي معي … كي تقفي إلى صفي.»

لم تقُل الأوكتوسبايدر شيئًا لعدة ثوانٍ. ثم قالت في النهاية: «حسنًا يا نيكول، سأذهب معك. مع أني أظن أنه يجب أن تكوني مُلازمة لفِراشك … وأشكُّ أن في أيدينا شيئًا لنفعله.»

قالت نيكول وقد نسيت نفسَها لحظةً وعانقت الدكتورة بلو: «شكرًا جزيلًا لك.»

قالت الدكتورة بلو وهما تسيران معًا إلى خارج الباب الأمامي للمنزل: «يجب أن تعديني بشيء. يجب ألا تحمِّلي نفسك ما يفوق طاقتها الليلة … أخبريني إذا كنتِ تشعرين بالتعب.»

قالت نيكول وهي تبتسم: «بل وسأستند عليك ونحن نسير.»

سارت الاثنتان ببطء في الشارع، وكان الاختلاف بينهما واضحًا. كانت الدكتورة بلو تسند نيكول طَوال سيرهما باثنتين من لوامسها. ومع ذلك فقد نالت أنشطةُ وانفعالات نيكول اليومية من مخزونِ الطاقة الضئيل في جسدها. فشعرت بالإجهاد قبل أن يصلوا إلى موقف العربات.

توقَّفت نيكول للراحة. كانت تسمعها ولكن لم تستطِع تمييزها، ثم بدأت تتضح. فقالت نيكول للدكتورة بلو: «إنها قنابل. الكثير من القنابل.»

قالت الأوكتوسبايدر: «بلغَنا أن نتوقَّع غارات طائرات الهليكوبتر. ولكني أتعجَّب من عدم وجود إشارات تحذير ضوئية …»

وفجأةً انفجر جزءٌ من القبَّة الواقية فوق رأسيهما متحولًا إلى كرة نارية ضخمة. وبعد لحظات سمِعت نيكول صوتًا يُصِمُّ الآذان. فتعلَّقت بالدكتورة بلو بقوة وحدَّقت في الجحيم المشتعل فوق رأسها. وفي ألسنةِ اللهب حسِبت أنها رأت حطام طائرة هليكوبتر. وكانت أجزاء محترِقة من القبَّة تسقط من السماء، وسقط بعضها على مسافةٍ لا تزيد عن كيلومتر من مكانهما.

لم تستطِع نيكول التقاطَ أنفاسها. ورأت الدكتورة بلو الإجهادَ على وجهها. فقالت نيكول: «لن أتمكَّن من المواصلة إلى مسئولة الأمثلية أبدًا.» ثم تشبَّثت بالأوكتوسبايدر بكلِّ ما تبقَّى لديها من قوة، وقالت لها: «يجب أن تذهبي وتقابلي مسئولة الأمثلية بدوني. بوصفك صديقتي. واطلبي منها — كلا، ترجَّيها — أن تفعل شيئًا من أجل كيتي وروبرت. أخبريها أنه معروف شخصي … من أجلي.»

فأجابتها الدكتورة بلو: «سأفعل ما بوسعي. ولكن يجب أن أعيدك أولًا …»

سمِعت نيكول صوتَ باتريك يصرخ من خلفها: «أماه!» وكان يقطع الشارع راكضًا باتجاههما. وعندما وصل إليهما، استقلَّت الدكتورة بلو العربة. فرفعت نيكول عينيها إلى القبَّة في الوقت الذي كانت فيه ريشةٌ من مروحة الهليكوبتر محاطةً بأوراق الشجر المحترقة تسقط من السماء وتتحطَّم بعيدًا.

٩

ألقت كيتي بالحقنة ونظرت إلى نفسِها في المرآة. ثم قالت بصوتٍ مسموع: «هذا أفضلُ كثيرًا … فلم أعُد أرتجف.» كانت ترتدي الفستان نفسَه الذي ارتدته يوم المحاكمة التي عُقدت لوالدها. وقد اتخذت كيتي ذلك القرارَ أيضًا في الأسبوع الماضي عندما أخبرت فرانتس بما تعتزم فِعله.

أخذت كيتي تدور وتشاهد صورتها في المرآة لتتأكد من زينتها. تساءلت في نفسها: «ما هذا التورُّم في ساعدي؟» فهي لم تلحظ وجودَه من قبل. فعلى ذراعها اليمنى في المنتصف، ما بين مرْفَقها ورُسغها، كان هناك تورُّم في حجم كرة الجولف. فرَكَته كيتي. ووجدته غضًّا عندما ضغطت عليه، ولكنه لم يؤلمها أو يدعوها إلى الحكِّ إلا إذا مسَّته مباشرة.

هزَّت كيتي كتفَيها وسارت إلى غرفة المعيشة. وعلى منضدة القهوة كانت تستقر الأوراق التي أعدَّتها. فأشعلت سيجارة وهي تنظِّم الأوراق. ثم وضعتها في ظرف كبير.

وكانت قد جاءت في صباح ذلك اليوم مكالمةٌ هاتفية من مكتب ناكامورا. وقال الصوتُ الأنثوي الرقيق لكيتي إن ناكامورا يمكن أن يقابلها في الخامسة من بعد ظهرِ ذلك اليوم. وعندما وضعَت كيتي سماعةَ الهاتف، تمالكت نفسها بالكاد. إذ كانت قد فقدَت الأمل في أن تقابله على الإطلاق. قبل ثلاثة أيام، عندما اتصلت كي تحدِّد موعدًا معه «للحديث عن أعمالهما المشتركة»، أخبرها موظَّف الاستقبال أن ناكامورا مشغولٌ للغاية في الإعداد للحرب، ولا يحدِّد مواعيدَ لأي لقاءات لا ترتبط بهذا الأمر.

نظرت كيتي إلى ساعتها مرةً أخرى، فكان لا يزال أمامها خمس عشرة دقيقة قبل أن تصل عقاربُ الساعة إلى الخامسة. وكان السير من شقَّتها إلى القصر يستغرق عشر دقائق فقط. فالتقطت الظرفَ وفتحت باب شقَّتها.

•••

كان الانتظار يدمِّر ثقتَها بنفسها. فقد دقَّت الساعة السادسة ولم يُسمح لكيتي بعدُ بالدخول إلى المكان الخاص بناكامورا في الداخل، وهو الجزء الياباني من القصر حيث يعمل ناكامورا ويعيش. وقد ذهبت إلى الحمَّام مرتين وفي كل مرة تسأل وهي في طريقها عائدة إلى مقعدها إن كانت ستنتظر وقتًا أطول. أجابتها الفتاة الجالسة على المكتب إلى جوار الباب في المرتين بإيماءاتٍ غامضة توحي أنها لا تعلم.

كانت كيتي تجاهد من أجل أن تسيطر على نفسِها. كان مفعول الكوكومو قد بدأ يزول، وكانت تساورها شكوك. وبينما كانت تدخِّن سيجارة في الحمَّام، حاولت أن تنسى قلقَها بالتفكير في فرانتس. وتذكَّرت المرة الأخيرة التي أقاما فيها علاقةً حميمة معًا. كانت عيناه تفيضان حزنًا عندما رحل. فقالت لنفسها: «إنه حقًّا يحبني، يحبني بطريقته الخاصة …»

وقفت الفتاة اليابانية عند الباب. وقالت لها: «يمكنك الدخول الآن.» فخرجت كيتي من غرفة الانتظار ودلفت إلى الجزء الرئيسي من القصر. وخلعت حذاءها ووضعته على رفٍّ ثم سارت على السجادة اليابانية وهي ترتدي جَوربًا. وألقت عليها ضابطة شرطة تُدعى مارج التحيةَ، وأخبرتها أن تتبَعها.

سارت كيتي خلفَ ضابطة الشرطة وهي تقبِض بيدها على ظرف الأوراق مسافةَ عشرة أمتار أو خمسة عشر مترًا، حتى أُزيح ستارٌ عن يمينهما. وقالت مارج: «تفضَّلي بالدخول.»

كانت هناك ضابطةُ شرطة أخرى، آسيوية ولكن ليست يابانية، تنتظر في الغرفة. وكانت تضع مسدَّسًا في جِراب معلَّقٍ إلى خَصرها. أوضحت لها مارج قائلة: «إن الحراسة حول ناكامورا سان مكثَّفة خاصةً في الوقت الحالي. فمن فضلك اخلعي جميعَ ملابسِك وحليِّك.»

فسألتها كيتي: «جميع ملابسي؟! حتى الداخلية؟»

فأجابتها السيدة الأخرى: «كل شيء.»

طُويت جميعُ ملابس كيتي بشكلٍ أنيق ووُضعت في سلةٍ تحمل اسمها. واستقرَّت الحُلي في صندوق خاص. وبينما كانت كيتي عارية، تفحَّصت مارج جسدها جيدًا، وفي ذلك مواضع عِفَّتها. بل إنها فحصت فمَها من الداخل وهي تخفض لسانها ثلاثين ثانية تقريبًا. ثم سلَّما كيتي زيَّ كيمونو ملوَّنًا باللونين الأزرق والأبيض، وزوجَين من الأحذية اليابانية الخفيفة. ثم قالت مارج: «يمكنك الآن الذهابُ مع بانجورن إلى غرفة الانتظار الأخيرة.»

فالتقطت كيتي الظرفَ وهمَّت بالمغادرة، ولكن ضابطة الشرطة الآسيوية استوقفتها. وقالت: «سيظل كل شيء هنا.»

فقالت كيتي معترِضة: «ولكنَّ هذا اجتماع عمل. وما أريد مناقشته مع السيد ناكامورا يوجد في هذا الظرف.»

فتحت السيدتان الظرفَ وأخرجتا الأوراق. ثم رفعتا كلَّ ورقة على حدةٍ إلى أعلى لتتفحَّصاها، ثم مرَّرتا الأوراق ورقة ورقة عبْر آلة من آلات الفحص. وفي النهاية أعادتا وضْع الأوراق في الظرف، وأشارت إليها المرأة التي تُدعى بانجورن أن تتبَعها.

سارتا إلى غرفة الانتظار الأخيرة خمسة عشر مترًا أخرى عبْر الرواق. وللمرة الثانية كان على كيتي أن تجلس وتنتظر. وكانت تشعر أنها بدأت ترتجف. قالت لنفسها: «كيف ظننتُ أن الأمر سينجح؟ يا لي من غبية!»

وبينما هي جالسة، كانت تتوقُ بشدة إلى جُرعة من مخدِّر الكوكومو. ولم تتذكر أنها أرادت شيئًا من قبلُ إلى هذه الدرجة. طلبت كيتي من بانجورن أن تسمح لها بالذهاب إلى الحمَّام مرةً أخرى، خوفًا من أن تبدأ في البكاء. فاصطحبتها الضابطة إلى الحمَّام. واستطاعت كيتي على الأقل أن تغسل وجهها.

وعندما عادتا كان ناكامورا يقف بنفسه في غرفة الانتظار. قالت في نفسها: «تلك فرصتي.» شعرت أن قلبها سيقفز من صدرها. كان ناكامورا يرتدي زيَّ كيمونو باللونين الأصفر والأسود، منقوشًا بزهور زاهية الألوان. قال وهو يبتسم ابتسامةً حملت رغبته فيها: «مرحبًا يا كيتي. إنني لم أرَك منذ وقت طويل.»

فأجابته بصوتٍ متهدِّج: «مرحبًا يا توشيو سان!»

تبِعته كيتي إلى مكتبه وجلست متربِّعة أمام منضدة منخفضة. كان ناكامورا يجلس أمامها. ظلَّت بانجورن في الغرفة واقفةً بعيدًا في زاوية من الغرفة. فقالت كيتي لنفسها عندما لم تغادِر ضابطة الشرطة: «يا إلهي! ماذا أفعل الآن؟»

قالت كيتي لناكامورا بعد لحظةٍ واحدة وهي تحاول أن تبدوَ طبيعية: «أعتقد أنني تأخَّرت كثيرًا على تقديم تقرير عن العمل.» ثم أخرجت الأوراق من الظرف. وقالت وهي تعطي ناكامورا ورقة: «رغم الحالة الاقتصادية السيئة، فقد تمكَّننا من زيادة أرباحنا بنسبة عشرة بالمائة. وفي هذا الملخَّص سترى أنه برغم انخفاض عائدات فيجاس، فإن الربح من المناطق الصغيرة، حيث تكون الأسعار أقلَّ، قد ازداد زيادةً كبيرة. حتى في سان ميجيل …»

ألقى ناكامورا نظرةً سريعة على الورقة ثم وضعها على المنضدة. وقال: «لست في حاجة لتريني أي بيانات. فالجميع يعرف أنك سيدةُ أعمال بارعة.» ثم مدَّ يده إلى يساره والتقط علبة سوداء لامعة كبيرة الحجم. وقال: «لقد كان أداؤك رائعًا. ولولا هذه الأوقات العصيبة، لكنتِ حصلتِ بلا شك على علاوة كبيرة … وفي الوقت الحالي، أودُّ أن أمنحك هذه الهدية تعبيرًا عن تقديري.»

دفع ناكامورا العلبة عبْر المنضدة نحو كيتي.

قالت وهي تتأمَّل بإعجاب رسوماتِ الجبال والجليد المرصَّعة لغطاء: «شكرًا لك.» كانت العلبة جميلةً للغاية.

فقال وهو يمدُّ يده ويلتقط واحدة من الحلوى المغلَّفة في الوعاء على المنضدة: «افتحيها.»

فتحت كيتي العلبة. كانت مليئة بالكوكومو. فارتسمت على وجهها ابتسامةُ سعادة حقيقية. وقالت: «شكرًا لك يا توشيو سان. إنك لشديد الكرَم.»

فقال وابتسامةٌ عريضة تعلو وجهه: «يمكنك أن تجربيه. لن أعُدَّ ذلك إهانةً لي.»

تذوَّقت كيتي كميةً صغيرة من المسحوق على لسانها. فوجدت أنه عالي الجودة. ودون تردُّد أخذت بعض المسحوق من العلبة بإصبعها الخنصر ورفعته أمام ثقب أنفها الأيسر. وأغلقت الثقب الأيمن واستنشقت المسحوقَ بقوة. ثم التقطت أنفاسها بطيئةً عميقة في حين كان المسحوق يبدأ تأثيره. ثم ضحِكت. وقالت بخلاعة: «واو! إنه عالي الجودة.»

فقال ناكامورا: «كنت أعلم أنك ستحبينه.» ثم ألقى بغلاف الحلوى بكسل إلى سلة المهمَلات الصغيرة بجوار المنضدة. وتذكَّرت كيتي فرانتس وهو يقول لها: «إنه سيكون موجودًا في مكانٍ ما. مكان غير واضح. ابحثي في سلال المهملات. أو خلف الستائر.»

كان ديكتاتور عدن الجديدة يبتسم لها من الجانب المقابل من المنضدة. وسألها: «هل كان هناك شيء آخر؟»

التقطت كيتي نفسًا عميقًا وهي تبتسم. وقالت: «هذا فقط.» ومدَّت جسدها إلى الأمام ووضعت مِرفقيها على المنضدة وقبَّلته في شفتيه. شعرَت كيتي بعد ثوانٍ بيدِ الضابطة الخشنة على كتفيها. فقالت: «هذا تعبير بسيط عن شكري من أجل الكوكومو.»

لم تخطئ كيتي في حكمِها على ناكامورا. فقد كانت نظرةُ الرغبة في عينيه جليةً واضحة. لوَّح مشيرًا لبانجورن أن تبتعد. وقال لها وهو ينهض من جِلسته: «اتركينا وحدَنا.» وقال لكيتي: «تعالي إلى هنا يا كيتي. وامنحيني قُبلة حقيقية.»

تفحَّصت كيتي سلةَ المهملات الصغيرة وهي ترقص حول المنضدة. ولكن لم يكن بها سوى أغلفة الحلوى. ففكَّرت في نفسها: «بالطبع، كان هذا سيبدو واضحًا للغاية. الآن يجب أن أستغلَّ الموقف جيدًا.» وأخذت تثير ناكامورا بقُبلة تليها أخرى. داعبته بلسانها. ثم ابتعدت عنه بسرعة، وهي لا تزال تضحك. فبدأ ناكامورا يتبَعها.

فقالت وهي تتراجع باتجاه الباب: «كلا. ليس بعدُ … لقد بدأنا لتونا.»

وقف ناكامورا في مكانه وارتسمت على وجهه ابتسامةٌ عريضة. وقال: «لقد نسيتُ كم أنت بارعة. إن هؤلاء الفتيات محظوظات حقًّا لأنك معلِّمتهن.»

قالت كيتي وهي تغلق الباب: «يحتاج الأمر إلى رجلٍ غير عادي كي يُخرِج أفضلَ ما عندي.» ودارت عيناها بسرعة في أرجاء المكتب ووقعتا على سلة مهملات صغيرة أخرى في الركن القصي من الغرفة. فقالت لنفسها بسعادة: «سيكون هذا هو المكان الأمثل.»

فقالت كيتي: «هل ستكتفي بالوقوف هناك يا توشيو أم ستُحضِر لي شيئًا لأشربه؟»

قال ناكامورا وهو يتَّجه إلى خزانة الخمر المصنوعة يدويًّا أسفل النافذة الوحيدة في الغرفة: «طبعًا. ويسكي دون أي إضافات، ألم يكن كذلك؟»

قالت كيتي: «إن ذاكرتك فولاذية.»

فقال ناكامورا وهو يُعِدُّ الشرابَين: «إنني أتذكرك جيدًا. كيف يمكنني أن أنسى في تلك الأيام الألعابَ كلها، خاصة لعبة الأميرة والعبد؛ فقد كانت المفضَّلة لديَّ … لقد حظينا بوقت ممتع معًا.»

فقالت كيتي في نفسها: «حتى أصررت على أن تُحضِر أخريات. بل وفعلت أشياءَ مثيرة للاشمئزاز أكثر. لقد أعلنتها صريحةً أنني لست كافية.» ثم صاحت فجأةً بلهجة متعجرفة: «أيها العبد! إنني ظمآنة أين مشروبي؟»

انعقد حاجبا ناكامورا بسرعةٍ قبل أن يحمل وجهه ابتسامة عريضة. وقال: «حسنًا يا سمو الأميرة.» ثم أحضر لها الشراب مُطأطئ الرأس. ثم انحنى. وقال بخنوع: «هل تأمرين بشيء آخر يا سمو الأميرة؟»

فأجابته كيتي وهي تأخذ الشراب بيدها اليسرى وتداعبه باليمنى: «نعم.» ورأته يغمض عينيه. فقبَّلته بعنف وهي تستمر في مداعبته.

ثم ابتعدت عنه فجأة. وخلعت رداءها الكيمونو ببطء وهو يراقبها. دنا منها. لكنها أشارت إليه بذراعيها ليقف. وقالت بلهجةٍ آمرة: «الآن أيها العبد، أطفئ هذه الأنوار، وارقُد هناك على ظهرك على السجادة إلى جوار المنضدة.»

أطاع ناكامورا الأمر. فسارت كيتي إلى حيث رقد. وقالت بلهجةٍ ألطف: «الآن، إنك تتذكَّر ما تحتاج إليه أميرتك أليس كذلك؟ ببطء، ببطء شديد، دون أي عجلة.» ثم داعبته وقالت: «أعتقد أنك جاهز …»

قبَّلت كيتي ناكامورا وهي تداعب وجهه ورقبَته بأصابعها. وهمست في أذنه: «الآن أغلق عينيك وعُدَّ حتى عشرة، ببطء شديد.»

فبدأ هو يَعُد باليابانية وهو يجاهد لالتقاط أنفاسه: «واحد، اثنان، ثلاثة …»

وبسرعة مذهلة، اجتازت كيتي الغرفةَ إلى سلة المهملات البعيدة. ودفعت جانبًا بعض الأوراق فوجدت مسدسًا.

«… أربعة، خمسة، ستة …»

كان قلبها يخفِق بعنف، فالتقطت المسدس واستدارت عائدة إلى ناكامورا.

«سبعة، ثمانية، تسعة …»

قالت كيتي وهي تلصق فوَّهة المسدس بجبهته: «هذا من أجل ما فعلته بأبي.» ثم جذبت الزناد وناكامورا المذهول يفتح عينيه.

ثم قالت وهي تطلق ثلاث طلقات متتالية بسرعة على أعضائه التناسلية: «وهذا من أجل ما فعلته بي.»

اقتحم الحراسُ باب الغرفة في ثوانٍ. ولكنها كانت سريعة للغاية. فقالت بصوتٍ عالٍ وهي تقحم المسدس في فمِها: «وهذا من أجل ما فعلتِه بنفسك يا كيتي ويكفيلد.»

•••

استيقظت إيلي عندما سمِعت صوت مفاتيح تدور في قُفل زنزانتها. ومسحت عينيها. وسألت: «أهذا أنت يا روبرت؟»

فأجابها: «نعم، يا إيلي.» ودلف إلى الزنزانة وهي تقف على قدميها. أحاط روبرت إيلي بذراعيه واحتضنها بقوة. وقال: «أنا سعيد جدًّا لرؤيتك. لقد أتيت بمجرد أن أخبرني هيربرت أن الحراس تركوا قِسم الشرطة.»

قبَّل روبرت زوجتَه الحيرى. وهو يقول: «أنا آسف جدًّا يا إيلي. لقد كنت مخطئًا، مخطئًا خطأ كبيرًا.»

استغرقت إيلي بضع ثوانٍ حتى تتمالك نفسَها. وسألت: «تركوا القِسم؟! لماذا يا روبرت؟ ماذا يحدُث؟»

قال بأسًى: «فوضى شاملة وعارمة.» بدت عليه الهزيمة بشدة.

فقالت إيلي وقد شعرت بالخوف فجأة: «ماذا تعني يا روبرت؟ نيكي بخير، أليس كذلك؟»

«إنها بخير يا إيلي … ولكن الناس يموتون جماعات … ونحن لا نعرف السبب. لقد تدهورت صحةُ إد ستافورد منذ ساعة ومات حتى قبل أن أفحصه … إنه وباء رهيب من نوعٍ ما.»

ففكَّرت إيلي على الفور: «كائنات الأوكتوسبايدر. لقد بدءوا أخيرًا يردُّون على الهجوم.» واحتضنت زوجَها بقوة وهو يبكي. وبعد عدة ثوانٍ تراجع وقال: «أنا آسف يا إيلي … لقد عمَّت البلبلة … هل أنت بخير؟»

«أنا بخير يا روبرت … فلم يأتِ أحد للتحقيق معي أو لتعذيبي منذ عدة أيام. ولكن أين نيكي؟»

«إنها مع بريان وولش في منزلنا. هل تذكرين بريان، صديقَ باتريك الذي تعرَّفه من خلال الكمبيوتر؟ لقد كان يساعدني في الاعتناء بنيكي منذ أن رحلت … وجد المسكين والديه جثتَين أول من أمس عندما استيقظ من النوم.»

خرجت إيلي مع روبرت من قسم الشرطة. كان لا يتوقَّف عن الحديث وينتقل من موضوعٍ إلى آخر، ولكن إيلي استطاعت أن تفهم بعض الأشياء من حديثه غيرِ المترابط. ووفقًا لما قاله روبرت، هناك أكثرُ من ثلاثمائة حالة وفاة غامضة في عدن الجديدة في اليومين الماضيين فقط. ولا يبدو أن الأمر قد يتوقف. ثم تمتم هو: «إنه لأمرٌ غريب. لم يمُت سوى طفل واحد … معظم الضحايا من كبار السن.»

وأمام قسم شرطة بوفوا، كان هناك سيدةٌ في منتصف الثلاثينيات من عمرها تعرَّفت روبرت فتشبَّثت به. وصاحت بصوتٍ حادٍّ قائلة: «يجب أن تأتيَ معي أيها الطبيب على الفور. لقد فقد زوجي وعيه … لقد كان جالسًا يتناول طعام الغداء وبدأ يشتكي من صداع. وعندما عُدت من المطبخ، كان قد خرَّ ساقطًا على الأرض … أخشى أنه قد مات.»

فاستدار روبرت إلى إيلي قائلًا: «أرأيت؟»

فقالت إيلي: «اذهب معها، ثم اذهب إلى المستشفى إذا اضطُررت … سأذهب إلى المنزل وأعتني بنيكي. وسننتظرك.» ثم مالت عليه وقبَّلته. وكانت على وشْك أن تخبره شيئًا ما عن كائنات الأوكتوسبايدر، ولكن قرَّرت ألا تفعل.

•••

صاحت نيكي: «أمي، أمي!» ثم ركضت مجتازةً الرَّدهة، وقفزت بين ذراعي إيلي. وقالت: «لقد افتقدتك كثيرًا يا أمي.»

فقالت إيلي: «وأنا أيضًا افتقدتك يا ملاكي. ماذا كنت تفعلين؟»

أجابت نيكي: «كنت ألعب مع بريان. إنه رجلٌ لطيف للغاية. إنه يقرأ لي ويعلِّمني جميع العمليات الحسابية.»

ظهر براين وولش الذي كان في بداية العشرينيات من عمره من زاوية الغرفة وهو يحمل كتابًا للأطفال وقال: «مرحبًا يا سيدة إليانور. أنا لا أعرف إن كنتِ تتذكرينني …»

«بالطبع أتذكَّرك يا بريان. ويمكنك أن تناديني بإيلي فقط … وأنا أودُّ حقًّا أن أشكرك لأنك ساعدت في الاعتناء بنيكي …»

«هذا من دواعي سروري يا إيلي. إنها طفلةٌ رائعة … وقد صرفت ذهني عن التفكير في الكثير من الأمور المؤلمة …»

قاطعَته إيلي: «لقد أخبرني روبرت عن والديك. وأنا آسفة بشدة لِما حدَث لهما.»

هزَّ بريان رأسه في أسًى. وقال: «لقد كان أمرًا غريبًا للغاية. فقد كانا بصحةٍ ممتازة الليلة السابقة عندما أويا إلى الفراش.» ثم اغرورقت عيناه بالدموع. وقال: «بدت عليهما السَّكينة البالغة …»

ثم استدار مبتعِدًا وسحبَ منديلًا ليمسح عينيه وقال: «العديد من أصدقائي يقولون إن هذا الوباء، أو أيًّا كان هذا الشيء، بسبب كائنات الأوكتوسبايدر. هل تظنين أنها قد تكون …؟»

قالت إيلي: «هذا محتمَل. ربما نكون قد ضغطنا عليهم كثيرًا.»

فسألها بريان: «وهل سنموت جميعًا؟»

أجابته إيلي: «لا أعلم. حقًّا لا أعلم.»

وقفا يخيِّم عليهما صمتٌ مطبِق عدة ثوانٍ. ثم قال بريان فجأة: «على الأقل تخلَّصَت شقيقتك من ناكامورا.»

لم تكن إيلي واثقةً من أنها سمِعت ما قيل على نحوٍ صحيح. فسألته: «ما الذي تتحدَّث عنه يا بريان؟»

«ألم تسمعي عمَّا حدَث؟ منذ أربعة أيام اغتالت كيتي ناكامورا … ثم قتلت نفسَها.»

صُعقت إيلي لما سمِعت. فأخذت تحدِّق في بريان في استنكار تامٍّ. قالت نيكي لوالدتها: «لقد أخبرني أبي عما حدَث لخالتي كيتي أمس. وقال إنه يودُّ أن يكون مَن ينبئني بالخبر.»

لم تستطِع إيلي التفوُّه بكلمة. وكان رأسها يدور. ولكنها تمكَّنت من توديع بريان وشكره مرةً أخرى. ثم جلست على الأريكة. فاعتلتها نيكي إلى جوار والدتها ووضعت رأسها على فخِذها. وجلستا معًا في صمت وقتًا طويلًا.

وفي النهاية سألت إيلي ابنتها: «وكيف كان والدك طَوال المدة التي كنت فيها بعيدًا؟»

فأجابت الفتاة الصغيرة: «بخير. فيما عدا ذلك الورم.»

فسألتها إيلي: «أيُّ ورم؟»

فقالت نيكي: «ذلك الورم على كتفه. إنه بحجم قبضة يدي. لقد رأيته عندما كان يحلِق ذقنه منذ ثلاثة أيام. فقال إنها من المؤكَّد لدغة عنكبوت أو شيء من هذا القبيل.»

١٠

قالت نيكول: «سأذهب أنا وبينجي إلى المستشفى.»

لم يكن الآخرون قد انتهَوا بعدُ من إفطارهم. فقالت إيبونين: «رجاءً اجلسي يا نيكول. على الأقل اشربي قهوتك.»

أجابتها: «شكرًا. لكني وعدتُ الدكتورة بلو بأننا سنذهب مبكرًا اليوم. فهناك كثيرٌ من الإصابات جرَّاء غارة أمس.»

قال باتريك: «ولكنك تثقلين كاهلك بالعمل يا أمي؟ ولا تنالين ما يكفي من النوم.»

قالت نيكول: «هذا يساعدني كي أظلَّ مشغولة. فبهذه الطريقة لا يكون لدي أيُّ وقت للتفكير …»

قال بينجي وهو يدلِف إلى الغرفة ويعطي نيكول معطفِها: «هيا بنا يا أمي.» وبينما كان يقف إلى جوار أمِّه ابتسم للتوءمين اللذين كانا هادئين على غير عادتهما ولوَّح لهما. فتلاعب جاليليو بملامح وجهه، مما أضحك بينجي وكيبلر.

فور أن غادرت نيكول قالت ناي بحنان: «إنها لم تسمح لنفسها بعدُ بالحزن على موت كيتي. وهذا يقلقني. فعاجلًا أو آجلًا …»

قالت إيبونين: «إنها خائفة يا ناي. ربما من التعرُّض لأزمة قلبية أخرى. وربما خائفة من أن تفقد صوابها … إن نيكول ترفض تصديقَ ما حدَث.»

قال ماكس: «ها أنت ذي يا فرنسيتي تعودين إلى التحليل النفسي اللعين مرةً أخرى. لا تقلقوا على نيكول … إنها أقوى من أيٍّ منا. وستبكي على موت كيتي عندما تكون مستعدة لذلك.»

«لم تذهب والدتي إلى غرفةِ العَرض منذ أن تعرَّضت للأزمة القلبية. وعندما أخبرتها الدكتورة بلو باغتيال كيتي لناكامورا وانتحارها، كنت واثقًا من أن أمي ستود أن ترى بعض شرائط الفيديو … لترى كيتي للمرة الأخيرة … أو على الأقل لتطمئن على إيلي …»

قال ماكس معلِّقًا: «إن أفضل شيء فعلَته أختك في حياتها هو قتْلُها لذلك الوغد. ومهما يكن ما يقوله أي شخص عنها فقد كانت شُجاعة.»

قال باتريك بحزن: «امتلكت كيتي كثيرًا من الصفات الرائعة. لقد كانت عبقرية، وكانت فاتنة … ولكن كان لديها ذلك الجانب الآخر في حياتها.»

خيَّم صمتٌ قصير على الجلوس إلى مائدة الإفطار. وكانت إيبونين على وشْك أن تقول شيئًا ما عندما بدا ضوء ساطع عند باب المنزل الأمامي، فقالت وهي تهبُّ واقفة: «آه! سأنقل ماريوس إلى المنزل المجاور. ستبدأ الغارات من جديد.»

التفتت ناي إلى جاليليو وكيبلر. وقالت: «انتهيا من طعامكما بسرعةٍ يا أولاد … سنذهب إلى المنزل الخاص الذي أعدَّه لنا عمُّكم ماكس.»

عبس جاليليو. وقال متذمرًا: «ليس مرة أخرى.»

•••

لم تكن نيكول وبينجي قد وصلا بعدُ إلى المستشفى عندما بدأت أولى القنابل تسقط عبْر القبَّة التي طالها الدمار. وكان البشر يشنُّون غارات مكثفة يوميًّا. وقد دُمِّرَ حتى ذلك الوقت أكثرُ من نصف سقف مدينة الزمرد. وسقطت القنابل على كل جزء من المدينة تقريبًا.

ألقت عليهما الدكتورة بلو التحية، وأرسلت بينجي على الفور إلى منطقة الاستقبال. وقالت لنيكول: «الوضع مريع. لقد توفي أكثرُ من مائتين جرَّاء غارات أمس فقط.»

سألتها نيكول: «وماذا يحدُث في عدن الجديدة؟ كنت أظن أنه الآن …»

أجابتها الدكتورة بلو: «إن الكائنات الدقيقة تعمل بأبطأ مما توقعنا إلى حدٍّ ما. ولكن ظهر تأثيرها أخيرًا. وتقول مسئولة الأمثلية إن الغارات ستتوقف خلال يوم أو اثنين على الأكثر. وتضع هي ومجلسها الآن خططًا للمرحلة القادمة …»

قالت نيكول وهي تجبر نفسَها على عدم التفكير كثيرًا فيما يحدُث في عدن الجديدة: «من المؤكد أن سكان عدن الجديدة لن يستمروا في الحرب، ولا سيما بعد موت ناكامورا.»

قالت الدكتورة بلو: «نرى أنه يجب أن نستعد لأي احتمالات. ولكني بالطبع آمُل أن تكوني محقة.»

وفي طريقهما وهما تجتازان الرواق اقتربت منهما أوكتوسبايدر طبيبة أخرى، تلك التي يطلق عليها بينجي اسم بيني، بسبب العلامة الدائرية التي تشبه عملةَ عدن الجديدة الموجودة إلى يمين شقِّ رأسها مباشرة. وصفت بيني للدكتورة بلو المناظر البشعة التي رأتها صباح ذلك اليوم في الموطن البديل. استطاعت نيكول أن تفهم معظمَ ما كانت بيني تقول، ليس لأن الأوكتوسبايدر أعادت ما قالته عدة مرات فحسب، بل لأنها استخدمت عباراتٍ بسيطة للغاية في لغتهم أيضًا.

وأخبرت بيني الدكتورة بلو أن هناك حاجةً شديدة وفورية للأطباء والتجهيزات لمساعدة الجرحى في الموطن البديل. فحاولت الدكتورة بلو أن تشرح لبيني أنه لا يوجد ما يكفي من الأطباء والممرضين لرعاية كل المرضى في المستشفى نفسِه.

قالت نيكول: «يمكنني أن أذهب مع بيني بضع ساعات هذا الصباح، إذا كان ذلك سيساعدكم.»

نظرت الدكتورة بلو نظرةً سريعة إلى صديقتها البشرية. وسألتها: «هل أنتِ واثقة من أنك تستطيعين فِعل هذا يا نيكول؟ إنني أعلم أن الأمر شنيع هناك.»

أجابت نيكول: «إنني أزداد قوةً في كل يوم يمر عليَّ. وأريد أن أكون حيثما تكون الحاجة إليَّ أشد.»

قالت الدكتورة بلو لبيني إن نيكول ستكون قادرةً على مساعدتها في الموطن البديل مدةَ تيرت على الأكثر، على أن تتحمَّل بيني مسئوليةَ إعادة نيكول إلى المستشفى مرةً أخرى. فوافقت بيني وشكرَت نيكول على تطوُّعها للمساعدة.

وما إن استقلَّتا العربةَ حتى شرحت بيني لنيكول ما يحدُث في الموطن البديل.

قالت: «يُنقل الجرحى إلى أي مبنًى لم يُدمر بحيث يُجرى فحصهم ومعالجتهم بأدوية الطوارئ إذا لزم الأمر، ثم يحدَّد موعد لنقلهم إلى المستشفى … إن الموقف يزداد سوءًا يومًا بعد يوم. العديد من سكان الموطن البديل فقدوا الأمل بالفعل.»

ولعل ما شاهدتاه أثناء رحلتهما بالعربة حملَ القدْر نفسَه من الإحباط. فعلى الضوء الذي تشعه اليراعات القليلة المتناثرة، رأت نيكول الخراب في كل مكان. وكان على الحراس أن يدفعوا جانبًا دستتين من سكان الموطن البديل الذين يثيرون جلبة لدخول المدينة لفتح البوابة الجنوبية، وكان بعضهم مصابين. وبعد أن عبَرت عربتهم البوابة ازدادت مشاهدُ الدمار من حولهما. وكان المسرح الذي شاهدت فيه نيكول وأصدقاؤها المسرحيةَ الأخلاقية قد انهار. وأكثر من نصف المباني بالقُرب من حي الفن قد سُويت بالأرض. بدأت نيكول تشعر بالغثيان. وفجأة أصابت قنبلةٌ أعلى عربتهم مباشرةً.

دفع الانفجار نيكول خارج العربة إلى الشارع. وجاهدت لتقف على قدميها ببطء وهي تشعر بدُوار. وتحطَّمت العربة إلى جزأين منبعجين. ودفنت بيني والأوكتوسبايدر الطبيبة الأخرى تحت الحُطام. حاولت نيكول في عدة دقائق أن تصل إلى بيني، لكنها أدركت في النهاية أنه لا فائدةَ من ذلك. وانفجرت قنبلة أخرى بالقرب منها. فجذبت نيكول حقيبتَها الطبية الصغيرة التي قذف بها الانفجار إلى الشارع بجوارها، وسارت وهي تترنَّح إلى ممر جانبي صغير بحثًا عن مأوًى.

كان هناك أوكتوسبايدر وحيدٌ يرقد دون حَراك في منتصف الممر الجانبي. فانحنت نيكول نحوه وأخرجت مصباحها اليدوي من حقيبتها لتفحصه. ولم يكن هناك أيُّ نشاط في عدسة الأوكتوسبايدر. فأدارت الأوكتوسبايدر على جانبه ورأت على الفور الجرح في مؤخرة رأسه. وكانت كتلة ضخمة من مادة متغضنة قد تسرَّبت من الجُرح إلى الشارع. فارتعد جسدُ نيكول للمشهد، وكادت أن تتقيأ. ونظرت حولها سريعًا بحثًا عن شيء تغطي به الأوكتوسبايدر الميت. إلا أن قنبلةً ضربت مبنًى لا يبعُد أكثرَ من مائتي متر عنها. فنهضت نيكول واستكملت سيرها.

وجدت نيكول بناءً صغيرًا على الجانب الأيمن من الممر، ولكن كان يشغله خمسة أو ستة من الحيوانات الشبيهة بالنقانق البولندية. فطاردتها الحيوانات لتبعدها، وأخذ أحدها يطاردها محاولًا أن يعَضَّ كعبها لمسافة عشرين أو خمسة وعشرين مترًا. وفي النهاية عاد الحيوان وتوقَّفت نيكول كي تلتقط أنفاسها. وقضت بضع دقائق تفحص نفسها، فاكتشفت أنها لم تُصب بجروح خطيرة، ليس إلا بضع كدمات متفرقة، وهو ما أثار دهشتها.

توقَّف القصف فترةً. ساد فيها الموطنَ البديل هدوءٌ مخيف. وأمام نيكول على بُعد مائة متر من مكانها بالشارع يراعة ترف حول مبنًى لم يصبه الدمار. رأت نيكول اثنين من كائنات الأوكتوسبايدر أحدهما مصاب بوضوح يدخلان المبنى. فقالت في نفسها: «لا بد أن هذا أحد المستشفيات المؤقتة.» وبدأت تسير في اتجاه ذلك المبنى.

وبعد بضع ثوانٍ سمِعت نيكول صوتًا لا تخطئه الأذن، صوتًا خفيضًا جدًّا بالكاد سمِعته. في البداية لم تتعرَّف ماهيةَ الصوت، ولكن في المرة الثانية سمِعت نيكول صوت البكاء، فتوقفت في الشارع فجأة. سرَت قشعريرة باردة في جسدها. وفكَّرت في نفسها وقد تسمَّرت قدماها: «إنه صوتُ بكاء طفل.» ولم تسمع نيكول شيئًا لعدة ثوانٍ. فسألت نفسها: «هل من الممكن أن أكون قد تخيلته.»

جاهدت نيكول لتخترق بعينيها الظلامَ شبه الدامس إلى يمينها، إلى حيث تظن أنه مصدرُ البكاء. واستطاعت أن ترى سياجًا من الأسلاك، سقط أغلبه على الأرض، على بُعد أربعين مترًا في ممرٍّ آخرَ يقطع الممر الذي تقف فيه. نظرت سريعًا مرةً أخرى إلى المبنى المجاور. قالت في نفسها: «الأوكتوسبايدر بالداخل بحاجةٍ لمساعدتي. لكن كيف لي ألا …» عاد صوت البكاء يدوي في الظلام مرةً أخرى بصوتٍ أوضح هذه المرة، وهو يعلو وينخفض مثل بكاء طفل بشري بائس.

هُرعت نيكول إلى السياج المتداعي. فوجدت لافتةً مهشَّمة مكتوبةً بالألوان ملقاة على الأرض أمامها. انحنت نيكول على ركبتيها والتقطت جزءًا من اللافتة، كُتب عليه بألوانِ كائنات الأوكتوسبايدر «حديقة الحيوانات»، أخذ قلبها يدقُّ بعنف. وتذكَّرت: «لقد سمِع ريتشارد بكاءَ الطفل عندما كان في حديقة الحيوانات.»

وقع انفجارٌ آخرُ على بُعد كيلومتر إلى يسارها ثم آخرُ أقرب إليها. لقد عادت طائرات الهليكوبتر إلى غارةٍ أخرى. وأصبح بكاء الطفل متواصلًا. حاولت نيكول أن تستمر في التحرُّك في اتجاه البكاء، ولكن كانت تتقدَّم ببطء. فقد كان من الصعب عليها تمييزُ صوت البكاء من صوت ضوضاء الانفجارات.

انفجرت قنبلةٌ أخرى أمامها على بُعد أقل من مائة متر. وفي الهدوء الذي تبِع ذلك لم تسمع نيكول شيئًا. فصرخ قلبها: «لا! ليس الآن. ليس بعد أن اقتربت لهذه الدرجة.» ثم دوَّى انفجارٌ آخرُ بعيدًا، تبِعته فترةٌ أخرى من الصمت. وتذكَّرت أنها قالت لريتشارد: «قد يكون نوعًا ما من الحيوانات. فربما هناك في مكانٍ ما من الكون كائنٌ صوته يبدو مثل صوت الطفل البشري.»

لم تسمع نيكول إلا صوت أنفاسها. سألت نفسَها: «ماذا أفعل الآن؟ هل أتابع البحثَ وآمُل بطريقةٍ ما أن … أم أعود أدراجي …»

عاد صوت البكاء يشقُّ السكون ليقطع حبلَ أفكارها. فتحرَّكت نيكول بأقصى سرعة جَرؤت عليها. وظلت تقول لنفسها وقلب الأم بداخلها ينفطر من ذلك البكاء اليائس: «كلا! لا مجال للخطأ. لا يمكن أن يكون هناك أيُّ صوت آخر يشبه بكاء الأطفال هكذا.» كان هناك سياج مهدَّم يمر بطول الجانب الأيمن من الممر الضيق. عبَرته نيكول، وفي الظلال أمامها رأت حركةً ما.

كان الطفل الباكي يجلس على الأرض بجوار جسد بشري يخلو من الحياة، على الأرجح والدته. كانت المرأة ترقد ووجهها لأسفل في الوحل. وكانت الدماء تغطي النصفَ السفلي من جسدها. وبعد أن تأكَّدت نيكول سريعًا من أن الأم تُوفيت بالفعل، انحنت بحرص والتقطت الطفلة الصغيرة ذات الشعر الأسود. فاندهشت الطفلة من ذلك التصرُّف، وقاومتها وشقَّت صيحتُها العالية سكون الليل. فوضعتها نيكول على كتفها وأخذت تربِّت برفق على ظهرها. وقالت والطفلة مستمرة في الصراخ: «لا بأس، لا بأس، سيكون كل شيء على ما يرام.»

وفي الضوء الخافت استطاعت نيكول أن ترى ملابسَ الطفلة الغريبة، التي لا تتعدى كيسين من الخيش الثقيل بهما فتحاتٌ في الأماكن المناسبة، وقد كانت ملطَّخة بالدماء. فحصَت نيكول الطفلة سريعًا رغم اعتراضها وضرباتها. بدَت الطفلة الصغيرة بخير، فيما عدا جُرح في ساقها والقاذورات التي تغطي جسدَها بالكامل. وقدَّرت نيكول عمر الطفلة بعام.

وبرفقٍ شديد وضعت نيكول الطفلةَ على قطعة قماش نظيفة أخرجتها من حقيبتها الطبية. وبينما كانت نيكول تنظِّف جسدَ الطفلة شعرت بأنها ترتعش وترتجف في كل مرة تنفجر فيها قنبلة بجوارهما. فحاولت أن تهدئ الطفلة فأخذت تغنِّي لها بعض أغاني هدهدة الأطفال. وبينما كانت نيكول تضمِّد جُرح ساقها توقَّفت الفتاة عن البكاء مؤقتًا وحدَّقت في نيكول بعينيها الزرقاوين الواسعتين في دهشة. ولم تعترض حتى عندما أخذت نيكول قطعةَ تنظيف رطبة وبدأت تمسح الوحل عن جِلدها. وبعدها بقليل عندما كانت نيكول تنظِّف أسفل قميص الفتاة الخيشي وجدت على صدر الفتاة الضئيل عِقدًا صغيرًا مربوطًا بحبل حول رقبتها، مما أثار دهشتها، وبدأت الفتاة تبكي مرةً أخرى.

ضمَّت نيكول الفتاة الباكية بين ذراعيها ونهضت. وأخذت تنظر حولها بحثًا عن كوخٍ أو أي مأوًى وفكَّرت في نفسها: «إنها جائعة ولا شك. لا بد أن هناك بعض الطعام في مكانٍ قريب من هنا.» وكان على بُعد خمسة عشر مترًا صخرةٌ بارزة داكنة اللون، من الواضح أنها كانت تشرف على منطقةٍ مغلقة قبل أن تبدأ غارات القصف، وجدت نيكول أسفلها وعاءَ ماء كبيرًا وبعضَ الأغراض الصغيرة التي لم تعرف استخدامها، وحاشية نوم رقيقة وأكياس خيش عديدة صُنعت منها ملابس الطفلة والمرأة. لم تجِد أيَّ طعام. حاولت نيكول أن تجعل الفتاة تشرب من الوعاء. ولكن محاولاتها لم تنجح، فطرأت فكرة أخرى على ذهنها.

عادت إلى جثةِ الأم الميتة، وفحصتها لتنتهي إلى أنه لا يزال بعض اللبن موجودًا في ثدي الأم. فمن الواضح أنها قد ماتت لتوها. رفعت نيكول جذع الأم وجلست خلفها على الأرض لتسند جسد الأم على جسدها، ورفعت الطفلة إلى ثدي أمها وشاهدتها وهي تَرضع.

رضعت الطفلة بنهمٍ. وفي منتصف الرَّضاعة أضاء انفجار قنبلة لترى نيكول ملامح وجه الأم. كان الوجه نفسه الذي رأته في الرسم في ميدان الفنانين. فقالت في نفسها: «إذن فإنني لم أكن أتخيل.»

أخلدت الفتاة إلى النوم عندما انتهت من الرَّضاعة. فلفَّت نيكول جسدَها في أحدِ أكياس الخيش المتبقية ووضعتها برفقٍ على الأرض. وبعدها فحصت نيكول الأم الميتة بدقةٍ للمرة الأولى؛ وبناءً على الجروح الغائرة في أسفل وسط المرأة وفخذها الأيمن، استنتجت نيكول أن شظيتين كبيرتين من قنبلة واحدة قد اخترقتا جسدَ المرأة وأنها نزفت حتى الموت نتيجةً لذلك. وفي حين كانت تفحص جُرح الفخذ شعَرت نيكول بنتوء غريب في رِدْف المرأة الأيمن. فدفعها فضولها إلى رفعِ جسد المرأة قليلًا عن الأرض ومرَّرت أصابعها فوق النتوء وحوله. فبدا كأنه جسمٌ صلب زُرع أسفل جلدها.

أحضرت نيكول حقيبتها الطبية واستخدمت مقصَّها الصغير لتُحدِث فتحًا في أحد جوانب النتوء. وجذبت جسمًا بدا في الضوء الخافت فضي اللون. كان له حجم السيجار الصغير وشكله ويصل طوله إلى اثني عشر أو خمسة عشر سنتيمترًا وقطره سنتيمترين تقريبًا. أدارت نيكول الحائرةُ الجسمَ في يدها اليمنى وحاولت أن تتخيَّل ماهيته. كان أملسَ للغاية ويخلو تمامًا من أي كسور مرئية. قالت نيكول: «إنه على الأرجح جهازُ تمييز من نوعٍ ما لحديقة الحيوانات»، في تلك اللحظةِ انفجرت قنبلةٌ بالقرب منها استيقظت الطفلة النائمة.

كانت القنابل تنهال بكثافةٍ متزايدة من السماء في اتجاه مدينة الزمرد. وبينما كانت نيكول تهدئ الطفلة فكَّرت فيما ينبغي أن تفعله في الخطوة التالية. ارتفعت كرةٌ ضخمة من النار إلى السماء بسرعةٍ عندما أحدثَت واحدة من القنابل المتساقطة انفجارًا أكبرَ على الأرض. وعلى الضوء المؤقت للانفجار تمكَّنت نيكول من أن ترى أنها والطفلة أعلى تلٍّ صغير، قريب للغاية من مشارف الجزء المتحضِّر من الموطن البديل. وكان السهل الرئيسي يبدأ على بُعد لا يزيد عن مائة متر إلى الغرب.

وقفت نيكول والفتاة على كتفِها. وقد أوشك الإنهاك أن ينال منها تمامًا. فقالت بصوتٍ عالٍ للطفلة وهي تشير في اتجاه السهل الرئيسي: «سنذهب إلى هناك، بعيدًا عن القنابل.» وألقت نيكول ذلك الجسمَ الأسطواني في حقيبتها الطبية. وجذبت كيسين من أكياس الخيش النظيفة وفكَّرت وهي تلقي بهما على كتفيها قائلة لنفسها: «قد يكون لهما نفعٌ في البرد.»

استغرقت نيكول ساعةً وهي تسير مجهَدة بالطفلة وأكياس الخيش حتى تصل إلى بقعة من السهل الرئيسي ظنَّت أنها بعيدة بما يكفي عن القنابل. فرقدت على الأرض على ظهرها وهي تحتضن الطفلة ولفَّت أكياس الخيش حولهما. وسريعًا ما ذهبت في سبات عميق.

•••

استيقظت نيكول على حركة الفتاة. وقد كانت تحلُم أنها تتحاور مع كيتي، ولكنها لم تستطِع تذكُّر ماذا كانتا تقولان. فاعتدلت جالسة وغيَّرت ملابس الطفلة باستخدام قطعة قماش نظيفة من حقيبتها الطبية. حدَّقت الطفلة بفضول في نيكول بعينيها الزرقاوين الواسعتين. فقالت نيكول بابتهاج: «صباح الخير أيتها الفتاة الصغيرة، أيًّا كان اسمك.» فابتسمت الفتاة للمرة الأولى.

لم يعُد الظلام يخيِّم على المكان. فقد كانت أسراب اليراعات تضيء مدينةَ الزمرد من بعيد، وسمحت الفتحات الكبيرة في القبة بنفاذ الضوء لينير المناطق المحيطة من راما. ففكَّرت نيكول عندما رأت الضوء: «لا بد أن الحرب انتهت، أو على الأقل توقَّفت الغارات مؤقتًا. وإلا لما استنارت المدينة إلى هذا الحد.»

قالت نيكول وهي تقف وتمدِّد جسدها بعد أن وضعت الطفلة بحرص على أحد الأكياس النظيفة: «حسنًا يا أجدد أصدقائي، لنرَ المغامرات التي تنتظرنا اليوم.»

بدأت الفتاة تزحف بسرعة على الكيس إلى وحلِ السهل الرئيسي. فالتقطتها نيكول ووضعتها مرةً أخرى على منتصف الكيس. ومرةً أخرى عادت الفتاة لتزحف باتجاه الوحل. فقالت نيكول وهي تضحك وتلتقط الفتاة مرةً أخرى: «توقفي! ها قد أمسكت بك أيتها الصغيرة.»

كان من الصعب على نيكول أن تجمع أغراضهما وهي تحمل الطفلةَ بين ذراعيها. ولكنها نجحت في النهاية وبدأت تسير ببطء في اتجاه العمار. كانوا على بُعد ثلاثمائة متر تقريبًا من أقرب المباني إليهما في الموطن البديل. وفي أثناء سيرها قرَّرت نيكول أن تذهب إلى المستشفى أولًا لتلتقي بالدكتورة بلو. وعلى افتراض صحة استنتاجها بأن الحرب قد انتهت أو على الأقل توقَّفت مؤقتًا، قرَّرت نيكول أن تقضي الصباح في محاولةِ اكتشاف كل شيء عن الطفلة. أخذت نيكول تضع الأسئلةَ في عقلها: «مَن هما أبواها؟ ومنذ متى اخْتُطِفا من عدن الجديدة؟» كانت غاضبة من كائنات الأوكتوسبايدر. قالت في نفسها: «لمَ لمْ تخبروني أن هناك بشرًا آخرين في مدينة الزمرد؟» وكانت تعتزم أن تسأل مسئولةَ الأمثلية: «كيف يمكنكم الدفاعُ عن الطريقة التي عاملتم بها هذه الطفلةَ ووالدتها؟»

كانت الفتاة، التي استيقظت، تأبى أن تستكين بين ذراعي نيكول. فتعبت نيكول. وقرَّرت أن تتوقف للراحة. وبينما كانت الطفلة تلعب في الوحل، حدَّقت نيكول في الدمار أمامها في الموطن البديل وفي الجزء الذي تراه من بعيد من مدينة الزمرد. وشعرت فجأةً بحزن شديد. وسألت نفسها: «لمَ كل هذا؟» وتكوَّنت في ذهنها صورةُ كيتي ولكنها نحَّتها جانبًا واختارت أن تجلس وتلاعب الطفلة. وبعد خمس دقائق سمِعتا صوت صافرة.

كان الصوت يأتي من السماء، من راما نفسِها. فهبَّت نيكول واقفة على قدميها وخفقات قلبها تتزايد بسرعة رهيبة. شعرت نيكول بألمٍ خفيف في صدرها ولكن ما كان شيء ليقلل من سعادتها. وصاحت للطفلة: «انظري! انظري إلى هناك! في الجنوب!»

في التجويف الجنوبي البعيد كانت هناك شرائط من الضوء الملوَّن تدور حول قمة قرن الكبير؛ ذلك البرج الحلزوني الشاهق الذي يرتفع على طول محور دوران السفينة الفضائية الأسطوانية. اندمجت الشرائط وكوَّنت حلقة حمراء بالقرب من قمة البرج. وبعد لحظات حامت الحلقة الحمراء الضخمة ببطء إلى الشمال على طول محور راما. وأخذ مزيدٌ من الألوان يتراقص حول القرن الكبير حتى كوَّنت الألوان حلقةً ثانية برتقالية اللون تبِعت بدورها الحلقةَ الحمراء إلى الشمال في سماء راما.

استمرَّ صوت الصافرة. ولم يكن الصوت حادًّا أو مزعجًا. وبدا لنيكول كالموسيقى. فقالت للفتاة بابتهاج: «شيء ما سيحدُث، شيء جيد!»

لم يكن لدى الفتاة الصغيرة أدنى فكرة عما يحدُث ولكنها ضحِكت من قلبِها عندما التقطتها نيكول وأخذت تداعبها بقذفها إلى الأعلى. وكانت تلك الحلقات تأسِر عينَ الفتاة. وتكوَّنتا حلقتان إحداهما صفراء والأخرى خضراء لتطوفا سماء راما المظلِمة، ووصلت الحلقة الحمراء في مقدِّمة الحلقات لتوها إلى البحر الأسطواني.

ومرةً أخرى قذفت نيكول الطفلةَ مسافة قدم أو اثنين في الهواء. ولكن هذه المرة خرج عِقد الفتاة من أسفل قميصها وكاد أن يُفلِت من رأسها. فالتقطت نيكول الفتاةَ واحتضنتها. وقالت: «لقد كدتُ أنسى أمر عِقدك. والآن في هذا الضوء اللطيف، هل لي أن ألقيَ نظرة؟»

ضحِكت الفتاة ونيكول تسحب حبلَ العِقد فوق رأسها. كان في نهاية العِقد قطعةٌ خشب دائرية قطرها أربعة سنتيمترات منحوت عليها رسمٌ لرجل رافع ذراعيه ومحاط من جميع الجوانب بما يبدو أنه نيران. تذكَّرت نيكول أنها رأت نحتًا خشبيًّا مماثلًا قبل عدة سنوات مضت، على مكتب مايكل أوتول في غرفته داخل المركبة نيوتن. فقالت لنفسها وهي تدير النحتَ في يدها: «إنه القديس مايكل قديس سيينا.»

وعلى ظهرِ القطعة الخشبية وجدت الاسم ماريا مكتوبًا بعنايةٍ بحروفٍ صغيرة. فقالت نيكول للفتاة: «لا بد أنه اسمك. ماريا … ماريا.» ولم تكن هناك أيُّ إشارة تدُل على أن الفتاة قد انتبهت للاسم. وبدأت الفتاة تعبس، فضحكت نيكول وعادت لتقذفها إلى الهواء مرةً أخرى.

وبعد بضع دقائق وضعت نيكول الفتاةَ التي تململت أرضًا مرةً أخرى. فعادت ماريا تزحف على الفور إلى الوحل. أبقت نيكول إحدى عينيها على ماريا والأخرى على الحلقات الملوَّنة في سماء راما. أصبح عدد الحلقات ثمانيَ: الزرقاء والبنية والقَرنْفُلية والأرجوانية فوق نصف الأسطوانة الجنوبي، واصطفَّت الأربع الأوليات في السماء فوق الشمال. وعندما اختفت الحلقة الحمراء في التجويف الشمالي تكوَّنت حلقة حمراء أخرى حول قمة القرن الكبير.

فكَّرت نيكول: «مثلما حدَث منذ تلك السنوات الطويلة.» ولكن لم يكن عقلها يركِّز فعليًّا على الحلقات. بل كانت تبحث في ذاكرتها محاوِلةً تذكُّر كل تقرير قُدِّم عن كل الأشخاص المفقودين في عدن الجديدة. وتذكَّرت وقوعَ بعض حوادث للقوارب في بحيرة شكسبير، ومن حين لآخر كان أحد مرضى مستشفى الأمراض العقلية في أفالون يختفي … وفكَّرت: «ولكن كيف من الممكن أن يختفيَ شخصان بهذه الصورة؟ وأين كان والد ماريا؟» كان لديها كثيرٌ من الأسئلة التي أرادت أن تطرحها على كائنات الأوكتوسبايدر.

استمرَّت الحلقات المبهرة تسبح فوق رأسها. فتذكَّرت نيكول ذلك اليوم منذ أمدٍ بعيد، عندما كانت كيتي وهي لا تزال في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرها مفتونةً بالحلقات الضخمة في السماء حتى إنها صاحت من فرطِ السعادة. وفكَّرت وهي لا تستطيع كبْح جِماح تفكيرها: «لقد كانت دائمًا أكثرَ أولادي انطلاقًا. وكانت ضحكتها رائعة جدًّا وصادقة جدًّا … لقد كانت لديها إمكاناتٌ رائعة.»

اغرورقَت عينا نيكول بالدموع. مسحتها وأجبرت نفسَها بجهد جهيد على التركيز على ماريا. وكانت الطفلة تجلس على الأرض وتأكل بسعادةٍ من وحل السهل الرئيسي. فقالت نيكول وهي تمس يدَ الفتاة برفق: «كلا يا ماريا. هذا قذر.»

عبس وجه الفتاة الجميل وبدأت تبكي. فكَّرت نيكول على الفور: «مثل كيتي. لم تحتمل قط أن أقول لها لا.» وأخذت ذكرياتها مع كيتي تتدفَّق إلى ذهنها. فرأت نيكول ابنتها أولًا وهي طفلة، ثم مراهقة في وقتٍ مبكر من عمرها في النود، وأخيرًا شابة في عدن الجديدة. وصاحبَ صورَ ابنتها المفقودة ألمٌ شديد اعتصر قلبها وسيطر عليها. وانهمرت الدموع على وجنتيها وبدأ جسدها يرتجف وهي تبكي. وصاحت بصوتٍ عالٍ: «آه يا كيتي! لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟»

ودفنت وجهها بين يديها. فتوقَّفت ماريا عن البكاء ونظرت إلى نيكول نظرةً حيرى. فجاءها صوتٌ من خلفها يقول: «لا بأس يا نيكول. سينتهي كل هذا قريبًا.»

ظنَّت نيكول أنها توهَّمت هذا الصوت. استدارت إلى الخلف ببطء. فوجدت الرجل النسر يقترب منها مادًّا ذراعيه.

•••

وصلت الحلقة الحمراء الثالثة إلى التجويف الجنوبي ولم تَعُد هناك أي شرائط ضوئية ملوَّنة حول القرن الكبير. فسألت نيكول الرجل النسر: «هل سيسطع الضوءُ عندما تنتهي الحلقات؟»

فقال: «إن ذاكرتك قوية حقًّا! أنت على حق.»

حملت نيكول ماريا مرةً أخرى بين ذراعيها. وقبَّلت الفتاة برفق على وجنتها، فابتسمت لها. قالت نيكول: «شكرًا على الفتاة. إنها رائعة … وأنا أفهم ما تخبرني به.»

استدار الرجل النسر ليواجه نيكول. وقال: «ما الذي تتحدثين عنه؟ ليس لنا أيُّ علاقة بالطفلة.»

نظرت نيكول بإمعانٍ في عيني الكائن الفضائي الزرقاوين الغامضتين. إنها لم ترَ قط في حياتها عينين تبثَّان كل هذا الكم من التعبيرات. ولكن نيكول لم تقرأ مؤخرًا ما يقوله الرجل النسر بعينيه. هل يخدعها بشأنِ ماريا؟ هل هو جادٌّ؟ إنها بالطبع ليست مجرد مصادفة أن تكتشف وجود الطفلة بعد وقت قصير من انتحار كيتي …

تذكَّرت نيكول ريتشارد حين قال لها عندما كانوا في النود: «إنك متعنِّتة للغاية في تفكيرك. صحيح أن الرجل النسر ليس كائنًا بيولوجيًّا مثلك ومثلي لكن هذا لا يعني أنه ليس حيًّا. أوافقك أنه آلي، ولكنه أكثرُ ذكاءً منا … وأكثر حُنكة بكثير …»

سألت نيكول الرجل النسر بعد عدة ثوانٍ: «هل كنت تختبئ في راما طوال هذا الوقت؟»

أجابها: «لا.» دون أن يسترسل موضحًا.

ابتسمت نيكول. وقالت: «لقد أخبرتني بالفعل أننا لم نصل إلى النود أو أي مكان مساوٍ له، وأنا واثقة من أنك لم تمرَّ بنا لتلقيَ علينا التحية فحسب … هل ستخبرني لمَ أنت هنا؟»

قال الرجل النسر: «إنه تدخُّل المرحلة الثانية. لقد قرَّرنا أن نوقف عمليةَ المراقبة.»

قالت نيكول وهي تعود لتضعَ ماريا على الأرض: «حسنًا، لقد فهمت الفكرة. ولكن ماذا سيحدُث الآن بالضبط؟»

قال الرجل النسر: «سيخلد الجميع إلى النوم.»

سألته نيكول: «وبعد أن يستيقظوا …؟»

«كلُّ ما يمكنني أن أخبرك به هو أن الجميع سينامون.»

خطَت نيكول مبتعدةً باتجاه مدينة الزمرد، ورفعت ذراعيها إلى السماء. لم يَعُد هناك سوى ثلاث حلقات ملوَّنة وجميعها بعيدة فوق نصف الأسطوانة الشمالي. قالت نيكول ولمحة من السخرية تظهر في صوتها: «بدافع الفضول فحسب، وأنا لا أشتكي، أنت تفهم …» ثم سكتت والتفتت لتواجه الرجلَ النسر. وتابعت: «لمَ لمْ تتدخلوا قبل وقت طويل؟ قبل أن يحدُث كل هذا؟ قبل أن يسقط هؤلاء القتلى كلهم؟» ولوَّحت بيدها باتجاه مدينة الزمرد.

لم يُجِب الرجل النسر على الفور. قال بعد صمت: «لا يمكن أن يكون لديك إرادةٌ حرة وفي الوقت نفسه قوة عليا خيِّرة تحميك من نفسك. لا يمكن أن يملك المرء الاثنين معًا يا نيكول.»

قالت نيكول ونظرةٌ حيرى تعلو وجهها: «عفوًا. هل طرحت سؤالًا دينيًّا على وجه الخطأ؟»

أجابها الرجل النسر: «لم تفعلي. ما يجب أن تفهميه هو أن هدفنا هو أن نضع قائمةً كاملة بجميع الكائنات التي تسافر عبْر الفضاء في هذه المنطقة من المجرة. إننا لسنا قضاة. نحن علماء. لا يعنينا إذا ما كنتم تنزعون بالفطرة إلى إهلاكِ أنفسكم. إنما ما يعنينا هو أن العائد المستقبلي المحتمَل من مشروعنا ذلك لم يَعُد يبرِّر المصادر الهائلة التي خصَّصناها له.»

قالت نيكول: «ماذا؟! هل تقول لي إنكم لا تتدخلون لإيقاف سفك الدماء، ولكن لسبب آخر؟»

قال الرجل النسر: «نعم. ولكنني مضطر إلى تغيير الموضوع لأن وقتنا محدود للغاية. ستسطع الأضواء في غضون دقيقة أو اثنتين. وستنامين بعد ذلك بدقيقة … فإذا كان لديك شيء تودين أن تخبري الطفلة به …»

قالت نيكول وقد دبَّ الخوف فجأة في قلبها: «هل سنموت؟»

قال الرجل النسر: «ليس على الفور. ولكني لا أستطيع أن أضمن أن الجميع سيجتازون فترةَ النوم أحياء.»

ألقَت نيكول بجسدها على الوحل إلى جانب الطفلة. كان في فم ماريا كتلة أخرى من الطين، وكان الوحل المبلل يلطخ شفتيها. فمسحت نيكول وجهها برفق شديد وعرضت على الطفلة أن تشرب ماءً من الكوب. ولدهشتها ارتشفت ماريا من الماء ووقع على ذقنها.

ابتسمت نيكول وضحكت ماريا. فوضعت نيكول أصبعَها أسفل ذقن الطفلة ودغدغتها. فتحولت ضحكات ماريا إلى قهقهة، تلك القهقهة النقية العذبة الساحرة التي تميز الأطفال الصغار. كان صوتها غايةً في الجمال ولمس نفْس نيكول بعمق فامتلأت عينا نيكول بالدموع. قالت في نفسها: «لو أن هذا آخر صوت أسمعه فسأكون راضية …»

فجأة غمر الضوء راما بأسْرها. وكان مشهدًا يوقِع الرهبةَ في النفوس. فقد استحوذ البوق الكبير على السماء فوقهم، ومعه أتباعه الستة المحيطة به، بالإضافة إلى ألواح طائرة ضخمة. فقالت نيكول للرجل النسر: «خمس وأربعون ثانية، أليس كذلك؟»

أومأ الرجل الطائر الفضائي برأسه بالإيجاب. فاتَّجهت نيكول للطفلة والتقطتها. ثم وضعتها على فخذها وقالت: «أعلم أنه لا يوجد أيُّ شيء يُعقل مما حدَث لكِ مؤخرًا يا ماريا، ولكني أريدكِ أن تعرفي أنك كنت مهمةً للغاية في حياتي، وإنني أحبُّك كثيرًا.»

ارتسمت في عينَي الفتاة نظرةُ حكمة مدهشة. وانحنت إلى الأمام وأراحت رأسها على كتف نيكول. ولبضع ثوانٍ لم تعرف نيكول ماذا تفعل. ثم بدأت تُربِّت على ظهرها. وتغني لها بحنان: «نامي يا صغيرتي نامي … نامي الآن وارتاحي …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤