الفصل الثامن عشر

رجوعه إلى العراق وقتله في الطريق

١

خرج أبو الطيب من شيراز لثمان خلون من شعبان قاصدًا بغداد فالكوفة.١
ويقول بعض الرواة: إن أبا الطيب لما قدم على عضد الدولة ومدحه وصله بثلاثة آلاف دينار وثلاثة أفراس محلاة ثم دس إليه من يسأله أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة؟ فقال: إن سيف الدولة كان يعطي طبعًا وعضد الدولة يعطي تطبعًا، فغضب عضد الدولة وأوصى إلى جماعة أن يقتلوه.٢ وروى صاحب الإيضاح أن عضد الدولة قال: إن المتنبي كان جيد الشعر بالغرب، فلما بلغت المتنبي قال: الشعر على قدر البقاع.٣

وهاتان روايتان لا تثبتان على النقد، فأبو الطيب قد أفرغ وسعه في مدح صاحبه ونال من جوائزه ما ملأه شكرًا فكيف يقول ما نسب إليه؟ وكيف وهو يعلم أن كلامه حري أن يبلغ عضد الدولة؟ وتدل أخباره في شيراز أنه كان حذرًا كل الحذر أن تنقل عنه كلمة تسخط عضد الدولة.

انظر الرواية الآتية:

قال صاحب الصبح المنبي: حكى عبد العزيز بن يوسف الجرجاني كاتب الإنشاء عند عضد الدولة، قال لما دخل أبو الطيب المتنبي مجلس عضد الدولة وانصرف عنه أتبعه بعض جلسائه وقال له: سله كيف شاهد مجلسنا وأين الأمراء الذين لقيهم منا، قال فامتثلت أمره وجاريت المتنبي في هذا الميدان، وأطلت معه عنان القول، فكان جوابه عن جميع ما سمع مني أن قال: ما خدمت عيناي قلبي كاليوم، ولقد اختصر اللفظ وأطال المعنى وأجاد فيه، وكان ذلك من أوكد الأسباب التي حظي بها عند عضد الدولة.

فهذه الرواية أشبه بحزم أبي الطيب، ولماذا يقول الشاعر في أمير أفاض عليه عطاءه، إن هذا عطاء متكلف وسيف الدولة كان يعطي طبعًا؟ أكان يبغي إرضاء سيف الدولة وهو في شيراز ولا يبالي إغضاب عضد الدولة، وقد قصده وبذل في مدحه وسعه ونال من عطاياه ما أثقله شكرًا؟ ورواية «الشعر على قدر البقاع» سبيلها في الرد والدحض سبيل أختها.

ثم ما الذي يغري عضد الدولة بقتل عظيم أشاد بذكره وآثره بالمدح على ابن عمه معز الدولة، ووعده أن يرجع إليه ليخلد مآثره. إن أعداء عضد الدولة أولى بهذه التهمة، وقد أدرك بعض المعاصرين أن قتل أبي الطيب إخفار لذمة عضد الدولة، فأنشأ أبياتًا يحرضه فيها على عقاب من أخفروا ذمته، وسيأتي هذا في رثائه.

سار الشاعر بمراكبه وأحماله وغلمانه حتى بلغ الأهواز، وبين الأهواز وشيراز واحد وخمسون فرسخًا، ثم سار خمسين فرسخًا حتى بلغ واسط، وهنا نقف لنعرض على القارئ روايتين؛ الأولى: مروية في الصبح المنبي عن الخالديين، والثانية: مروية في الخزانة عن الإيضاح.

قال الخالديان:

كنا قد كتبنا إلى أبي نصر محمد الجبلي نسأله عما صدر لأبي الطيب المتنبي بعد مفارقته عضد الدولة وكيف قُتل — وأبو نصر هذا من وجوه الناس في الناحية وله فضل وأدب جزل وحرمة وجاه — فأجابنا عن كتابنا جوابًا طويلًا يقول في أثنائه: وأما ما سألتما عنه من خبر مقتل أبي الطيب فأنا أسوقه وأشرحه شرحًا بينًا.

وفي هذا الشرح يذكر أبو نصر قتل أبي الطيب وسببه ويبين تربص فاتك الأسدي في طريق الشاعر وعزمه على قتله فيقول:

وأما شرح الخبر فإن فاتكًا هذا صديق لي، وهو، كما سمي، فاتك لسفكه الدماء وإقدامه على الأهوال في مواقف القتال، فلما سمع الشعر الذي هجى به ضبة اشتد غضبه، ورجع على ضبة باللوم وقال له: كان يجب ألا تجعل لشاعر عليك سبيلًا، وأضمر غير ما أظهر.

واتصل به انصراف المتنبي من فارس وتوجهه إلى العراق وعلم أن اجتيازه بجَبُّل ودير العاقول. فلم يكن ينزل عن فرسه، ومعه جماعة من بني عمه رأيهم في المتنبي مثل رأيه، من طلبه واستعلام خبره من كل صادر ووارد.

وكان فاتك خائفًا أن يفوته، وكان كثيرًا ما ينزل عندي، فقلت له يومًا وقد جاءني وهو يسأل قومًا مجتازين عن المتنبي فقلت له: أكثرت المسألة عن هذا الرجل، فأي شيء تريد منه إذا لقيته؟ فقال: ما أريد إلا الجميل وعَذْله على هجاء ضبة. فقلت له: هذا لا يليق بأخلاقك. فتضاحك ثم قال: يا أبا نصر والله لئن اكتحلت عيني به أو جمعتني وإياه بقعة لأسفكن دمه، ولأمحقن حياته. قلت له: كف عافاك الله عن هذا القول، وأزل هذا الرأي من قلبك فإن الرجل شهير الاسم، بعيد الصيت، ولا يحسن منك قتله على شعر قاله، وقد هجت الشعراء الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام، فما سمعنا بشاعر قُتل بهجائه، وقد قال الشاعر:

هجوت زهيرًا ثم إني مدحته
وما زالت الأشراف تهجى وتمدح

ولم يبلغ جرمه ما يوجب قتله، فقال: يفعل الله ما يشاء. وانصرف.

ولم يمض لهذا القول غير ثلاثة أيام حتى وافاني المتنبي ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب والطيب والتجملات النفيسة والكتب الثمينة والآلات؛ لأنه كان إذا سافر لم يخلف في منزله درهمًا ولا شيئًا يساويه، وكان أكثر إشفاقه على دفاتره؛ لأنه كان قد انتخبها وأحكمها قراءة وتصحيحًا.

قال أبو نصر: «فتلقيته وأنزلته داري، وسألته عن أخباره وعمن لقي، فعرفني من ذلك ما سررت له، وأقبل يصف ابن العميد وعلمه وكرمه، وكرم عضد الدولة ورغبته في الأدب وميله إلى أهله.

فلما أمسينا قلت: يا أبا الطيب على أي شيء أنت مجمع؟ قال: على أن أتخذ الليل مركبًا فإن السير فيه يخف عليَّ، فقلت: هذا هو الصواب رجاء أن يخفيه الليل ولا يصبح إلا وقد قطع بلدًا بعيدًا، وقلت له: والرأي أن يكون معك من رجالة هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة جماعة يمشون بين يديك إلى بغداد، فقطب وجهه وقال: لِمَ قلت هذا القول؟ فقلت: لتستأنس بهم، فقال: أما والجُزار في عنقي فما بي حاجة إلى مؤنس غيره. قلت: الأمر إليك والرأي في الذي أشرت عليك. فقال: تلويحك ينبي عن تعريض وتعريضك ينبي عن تصريح، فعرفني وبين لي الخطب. قلت: إن الجاهل فاتكًا الأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام وهو غير راضٍ عنك؛ لأنك هجوت ابن أخته ضبة، وقد تكلم بأشياء توجب الاحتراز والتيقظ، ومعه أيضًا نحو العشرين من بني عمه قولهم مثل قوله.

فقال غلام أبي الطيب، وكان عاقلًا: الصواب ما رآه أبو نصر، خذ معك عشرين رجلًا يسيرون بين يديك إلى بغداد، فاغتاظ وشتمه شتمًا قبيحًا، وقال: والله لا أرضى أن يتحدث عني الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي.

قال أبو نصر: فقلت: يا هذا أنا أوجه قومًا من قبلي يسيرون بمسيرك وهم في خفارتك. فقال: والله لا فعلت شيئًا من هذا.

ثم قال: يا أبا نصر! أبخرء الطير تخوفني، ومن عبيد العصا تخاف عليَّ؟ والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد معطشون بخمس، وقد نظروا إلى الماء كبطون الحيات ما جسر لهم خف ولا ظلف أن يرده، معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة عين. فقلت له: قل إن شاء الله تعالى. فقال: هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيًّا ولا تستجلب آتيًا.

ثم ركب فكان آخر العهد به.» ا.ﻫ.

نقف هنا لنتأمل في هذه الرواية المطولة قبل أن نقيسها إلى رواية أخرى:

يقول الخالديان: إنهما كتبا إلى أبي نصر محمد الجبلي ثم يقولان: «وأبو نصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية.» وليس في الرواية تصريح باسم ناحية؛ ولكن ذكرت ضمنًا في نسبة أبي نصر «الجَبُّلي». والذي أراه أنها نسبة إلى جَبْل، وهي بلدة بين النعمانية وواسط على دجلة تبعد عن النعمانية خمسة فراسخ إلى الشرق والجنوب، وعن دير العاقول ثلاثة عشر فرسخًا فهذا الراوي من بلدة تبعد عن مقتل أبي الطيب نحو أحد عشر فرسخًا وهو يزعم أنه صديق للشاعر وقاتله وكلاهما نزل في داره قبل القتل بأيام قليلة، وخلاصة روايته:
  • (١)

    أن فاتكًا الأسدي خال ضبة العيني الذي هجاه أبو الطيب كان يكثر السؤال عن الشاعر ليقتله انتقامًا لأخته التي هجاها، وقد صرح بهذا لأبي نصر.

  • (٢)

    وأن أبا الطيب نزل على أبي نصر بجبل فأخبره ونصحه بالحذر فلم يقبل واحتقر فاتكًا وقومه احتقارًا شديدًا، وغلا في كلامه غلوًّا لا يليق برجل عاقل.

وفي خزانة الأدب عن الإيضاح رواية أخرى نصها:

وأخبرنا أبو الحسن السوسي في دار الوقف بين السورين، قال: كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي وورد علينا المتنبي ونزل عن فرسه ومقوده بيده، وفتح عيابه وصناديقه لبلل مسها في الطريق وصارت الأرض كأنها مطارف منشورة، فحضرته أنا وقلت قد أقمت للشيخ نزلًا، فقال المتنبي: إن كان ثم فهاته، ثم جاء فاتك الأسدي بجمع، وقال: قدم الشيخ هذه الديار وشرفها بشعره والطريق بينه وبين دير قنة موحش، قد احتوشته الصعاليك، وبنو أسد يسيرون في خدمته، إلى أن يقطع هذه المسافة، ويبر كل واحد منهم بثوب بياض، فقال المتنبي: ما أبقى الله بيدي هذا الأدهم وذباب الجراز الذي أنا متقلده، فإني لا أفكر في مخلوق، فقام فاتك ونفض ثوبه، وجمع من رتوت الأعاريب الذين يشربون دماء الحجيج حسوًا، سبعين رجلًا ورصدوا له: فلما توسط المتنبي الطريق خرجوا عليه … إلخ.

هذه الرواية تؤيد الأولى في أن أبا الطيب أبى أن يسير في خفارة أحد وتخالفها في أن فاتكًا هو الذي عرض على الشاعر أن يخفره، ومعنى هذا أنه ما كان مبيتًا شرًّا له وأنه لو قبلت خفارته ما قتله، وفي الرواية مطاعن:

فقول أبي الحسن السوسي: «كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي إلخ»، يؤخذ منه أن مرور أبي الطيب بالأهواز كان في عهد المهلبي، والمهلبي تُوفِيَ سنة ٣٥٢ كما تقدم.

ومطعن آخر: لو أن فاتكًا لقي أبي الطيب في الأهواز فعرض عليه خفارته فأبى فعزم على قتله أو سلبه، ما صبر عليه حتى قطع المسافة من الأهواز إلى واسط وهي خمسون فرسخًا ثم سار من واسط حتى جاوز النعمانية، كما سيأتي. ثم قول فاتك: إن الطريق إلى دير قنة موحش بعيد أن يقال في الأهواز وبينها وبين دير قنة مراحل كثيرة وبلدان عامرة، وإنما يقال مثل هذا في موضع قريب من دير قنة مثل النعمانية أو جَبل.

ثم عرض فاتك خفارته على أبي الطيب وفي نفسه منه ما فيها مستبعد كذلك.

فرواية أبي نصر أجدر بالقبول بعد حساب المبالغة فيها كقول أبي الطيب عن بني أسد: «أبخرء الطير تخوفني إلخ.» فالرجل مهما تكبر وتهور كان أعقل من أن يقول مثل هذا القول، وأحسب أبا نصر حينما سئل عن مقتل أبي الطيب أراد أن يبين عن نصيبه في هذه القصة التي يتشوف الناس إلى سماعها فأدخل فيها شيئًا من الصنعة، ومبالغة القصاص، وبالغ في دعواه نصيحة أبي الطيب وفي إباء هذا قبول النصيحة.

٢

سار أبو الطيب من الأهواز إلى واسط فنزل بها، قال علي بن حمزة البصري عن القصيدة الكافية التي ودع بها الشاعر عضد الدولة: «هذه القصيدة آخر شعر قاله أبو الطيب، وكتبتها والتي قبلها عنه بواسط يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.»٤

بين واسط وبغداد زهاء أربعين فرسخًا، وعلى الطريق بلاد نذكر منها ما ذكر في روايات مقتل أبي الطيب، وهي النعمانية ودير قُنَّى ودير العاقول والصافية.

النعمانية في نصف الطريق بين واسط وبغداد غربي دجلة وهي قائمة اليوم، وكانت تسمى بغيلة فأعيد اسمها القديم. ودير العاقول كان على شاطئ دجلة الشرقي، وكان عنده مدينة مسماة باسمه، وكان على ميل من النهر أيام ياقوت، وبينه وبين بغداد خمسة عشر فرسخًا، وبينه وبين النعمانية زهاء خمسة فراسخ.

وإلى الجنوب الشرقي من دير العاقول على مقربة منه دير مرماري الذي يسمى دير قُنَّى أو (قنة) وهو على ستة عشر فرسخًا من بغداد يبعد عن الشاطئ قليلًا.

وأما دير قنى على الشاطئ الصافية إلى الجنوب والشرق من دير العاقول، وكانت على الشاطئ في زمن ياقوت (تنظر الخارطة).

وعلى نحو ثمانين كيلًا من بغداد إلى الجنوب والشرق توجد اليوم أرض تسمى أرض الدير، ذهبت إليها يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وألف٥ فإذا تلال كثيرة متقاربة قليلة الارتفاع عليها حطام من الآجر والخزف تبعد عن شاطئ دجلة الشرقي نحو كيل واحد.

وقد سألت أعرابًا نازلين هناك من قبيلة شمر عن أرض أخرى تسمى أرض الدير في هذه الناحية فنفوا هذا، وسألت عن أسماء العاقول وقنى والصافية أتعرف اليوم هي أو ما يقرب منها فنفوا جازمين …

وإذا نظرنا إلى المسافة بين هذه الأرض وبغداد فهي تقارب خمسة عشر فرسخًا، وهي تقارب المسافة المقدرة بين بغداد ودير العاقول في معجم البلدان وغيره.

figure
المؤلف وصديقه علي المليجي المهندس، على أطلال دير العاقول المعروفة اليوم بأرض الدير.
figure
المؤلف في أطلال دير العاقول يسائل أعرابًا من شمر عن بعض الأسماء التاريخية.
figure

ومهما يكن فأكبر الظن أن هذه التلال بقايا دير قنى أو دير العاقول، وكانا متقاربين، وهذا يدل على أن دجلة لم تغير مجراها كثيرًا في هذه الناحية.

وأما الصافية فأحسب موضعها الآن في مجرى النهر، فقد كانت أيام ياقوت على ميل من دير قنى وعلى الشاطئ، ويؤيد هذا قول صاحب مراصد الاطلاع عن الصافية: «وقيل: موضع دجلة.»

٣

الروايات في مقتل أبي الطيب متفقة في جملتها، ولكن بعضها أبين وأكثر تحديدًا من بعض، وهي في التحديد قسمان:
  • (١)

    روايات تجعل مقتله قرب النعمانية أو قرب دير العاقول دون ذكر الموضع الذي قتل به. انظر رواية أبي نصر الجبلي في الصبح ورواية الخطيب البغدادي.

  • (٢)
    روايات تذكر الصافية على أنها موضع القتل أو قريبة منه، وهي على مقربة من دير العاقول، بينه وبين النعمانية، فليست تناقض الروايات الأولى بل تزيد عليها تحديدًا.٦
  • (٣)

    رواية ابن خلكان التي تحاول الجمع بين الروايات فقول: «بالقرب من النعمانية في موضع يقال له الصافية من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول بينهما مسافة ميلين.»

    وحق أن الصافية قريبة من دير العاقول ولكنها ليست قريبة من النعمانية إلا قربًا نسبيًّا.

  • (٤)
    رواية ابن جني ونسخة بغداد ونسخة في الموصل٧ تذكر مكانًا محرفًا مضطربًا بين فرع ونيزع وشرع. والصواب أنها نيزع كما يأتي في الكلام على المعركة، ونيزع قريبة من الصافية.

يستطيع الباحث بعد هذا أن يقول: إن أبا الطيب قتل على مقربة من الصافية، ولكن ابن خلكان وابن الأنباري يقولان: «من الجانب الغربي من سواد بغداد.» والصافية على الشاطئ الشرقي، فكيف هذا؟

رواية ابن خلكان متناقضة بلا ريب؛ فهو يقول في موضع يقال له: «الصافية من الجانب الغربي» وهذا خطأ، وأحسبه اتبع ابن الأنباري فالعبارتان متقاربتان، فهل عبارة ابن الأنباري مقبولة؟

هو يقول: «حيال الصافية من الجانب الغربي» فيمكن أن يقال: إن مقتل الشاعر في الجانب الغربي حيال الصافية على الضفة الشرقية. وكلمة حيال هذه صحفت في بعض الروايات إلى جبال وليس عند الصافية جبال.

كان جائزًا قبول رواية ابن الأنباري بهذا التفسير لو لم نعرف الطريق بين واسط وبغداد أتساير الضفة الشرقية أم الغربية من دجلة، ولكننا نعرف من كتب المسالك أن الطريق شرقي دجلة، وقد عرفنا أنه مر بجبل وليس لنا أن نفرض أنه سار شرقي النهر من واسط إلى جبل حيث نزل على أبي نصر ثم عبر إلى النعمانية ليعبر إلى الشرق مرة أخرى، فكلمة الجانب الغربي ينبغي أن تكون محرفة عن الجانب الشرقي.

وخلاصة هذه الكلمة أن جمع هذه الروايات ونقدها وتعرف مواقع البلاد التي ذكرت في الروايات، والطريق بين واسط ودار الخلافة — كل أولئك يبين لنا أن مقتل أبي الطيب كان عند الصافية شرقي نهر دجلة على نحو ستة عشر فرسخًا من بغداد.

٤

الواقعة

سار أبو الطيب من واسط يؤم بغداد، وكان مسيره يوم السبت سابع عشر رمضان، وفي هذا اليوم كتب عنه روايته علي بن حمزة البصري القصيدتين الأخيرتين من شعره.

وبلغ جبل بعد أن سار زهاء سبعة عشر فرسخًا فنزل عند أبي نصر الجبلي كما تقدم.

ثم أخذ طريقه حتى حاذى النعمانية، وهي في نصف الطريق بين واسط وبغداد، وواصل سيره فمر بجر جرابًا على أربعة فراسخ إلى الجنوب والشرق من دير العاقول، وتقدم حتى جاوز الصافية، وبينها وبين بغداد ستة عشر فرسخًا، متوجهًا إلى دير العاقول.

وهناك كانت الموقعة التي قتل فيها الشاعر العظيم، وهذه روايات مختصرة عن هذه الوقعة، في آخر شرح ابن جني:

وقتل يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وقت منصرفه من شيراز، بنيزع بين الكيل والرصافة والصافية، وابنه وغلام له يعرف بمفلح، قتلهم فاتك بن أبي جهل الأسدي وفراس بن بداد، وقيل: إنه قال له: يا قاذف المحصنات يا سباب! قبحًا لهذه اللحية.

وفي شرح المعري:

وخرج من عند عضد الدولة حتى إذا قارب بغداد وخرج من دير العاقول، خرج عليه فرسان ورجال من أسد وشيبان، فقُتل بين الصافية ودير العاقول، وذلك يوم الاثنين لست ليال بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وقتل معه عبده، وقتل ابنه بعده.

وفي النسخة البغدادية:٨ قال علي بن حمزة البصري:
هذه القصيدة (يعني الكافية التي ودع بها عضد الدولة) آخر شعر قاله أبو الطيب، وكتبتها والتي قبلها منه بواسط يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وسار منها فقُتل بنيزع، قتله بنو أسد وابنَه وغلمانَه، وأخذوا ماله يوم الأربعاء لليلتين بقيتا منه، والذي تولى قتله منهم فاتك بن أبي الجهل بن فراس بن بداد.٩ ومن قوله له: قبحًا لهذه اللحية يا سباب. وذلك أن فاتكًا هذا ذو قرابة لضبة بن يزيد العيني الذي هجاه المتنبي بقوله:

ما أنصف القوم ضبة إلخ، وهي من سخيف شعره، وكانت سبب قتله، وذهب دمه.

وفي النسخة التي طبعت عليها الديوان، بعد القصيدة الكافية التي مدح بها عضد الدولة وودعه:

هذا آخر ما قاله أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي، ورحل من شيراز بعد ذلك في شعبان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة يريد الكوفة، فاعترضه فوارس بين دير العاقول والصافية، وكان التُمس منه خفارة لبعض الرجالة ليسلكوا به الطريق ويحموا عنه فلم يفعل.

وقال: معي سيفي ورمحي، أخفر!

ويقال: إن الذين خرجوا عليه من بني كلاب مع ضبة بن محمد العيني لما هجاه به:

ما أنصف القوم ضبة … إلخ

وكان الفرسان نحو خمسين فارسًا، فقتل منهم جماعة وجرح جماعة فيهم عدة، وقُدِّرت الحرب من ضحوة إلى الأولى، ثم كلَّ أبو الطيب وولده ومملوكه، فلما تطاول الأمر استرسل وظفروا به، فقتلوه وولده والمملوك وأخذ جميع ما كان معه، ودفنوه في الموضع، وكان له قيمة كثيرة، ولم يكن طلبهم ما معه، سوى نفسه.

والذي قتله منهم فاتك بن فراس بن بداد، وكان قرابة لضبة.

ويقال: إنه لما قرب منه فاتك كان معه عبد يقال له: سراج، فقال له: يا سراج أخرج إليَّ الدرع. فأخرجها ولبسها وتهيأ للقتال ثم قال:

أفرغ الدرع يا سراج وأبصر
ما ترى اليوم ها هنا من قتال
فلئن رحتُ في المكر صريعًا
فانعَ للعالَمِين كلَّ الرجال

ثم قال فاتك: قبحًا لهذه اللحية يا سباب … فقال فاتك: ألست الذي تقول:

الخيل والليل والبيداء تعرفني
والطعن والضرب والقرطاس والقلم

فقال: أنا عند ذاك يا بن اللخناء العفلاء، ثم قاتل وبطح نفسًا أو نفسين، فخانته قوائم فرسه فغاصت إحداها في ثقبة كانت في الأرض، فتمكن منه الفرسان وأحاطوا به وقتلوه واقتسموا ماله ورحله، وأخذوا ابنه المحسد وأرادوا أن يستبقوه، فقال أحدهما: لا تفعلوا واقتلوه، فقتلوه.

وحكى الشريف ناصر قال: عبرت على بدنه، وكان مفروقًا بينه وبين رأسه، ورأيت الزنانير تدخل في فيه وتخرج من حلقه.

أعاذنا الله من كل سوء ومكروه بمنه وطوله.

وفي نسخة بغداد أن فاتكًا كان في نيف وثلاثين فارسًا رامحين وناشبين.

وفي الخزانة، عن الإيضاح، أن فاتكًا كان معه سبعون فارسًا، وأنهم قتلوا كل من كان مع أبي الطيب، وأن فاتكًا حمل عليه وطعنه في يساره ونكسه عن فرسه، وأن ابنه أفلت إلا أنه رجع يطلب دفاتر أبيه، فقنع خلفه الفرس أحدهم وحز رأسه.

وقال صاحب الإيضاح:

كان المتنبي يحفظ ديواني الطائيين ويستصحبهما في أسفاره ويجحدهما. فلما قتل توزعت دفاتره، فوقع ديوان البحتري إلى بعض من درس علي، وذكر أنه رأى خط المتنبي وتصحيحه فيه.

ويقول أبو نصر الجبلي الذي أثبت روايته آنفًا:

ولما صح خبر قتله وجهت من دفنه ودفن ابنه وغلمانه، وذهبت دماؤهم هدرًا.

٥

نظرات في هذه الروايات
ندع جانبًا تفصيلًا تختلف فيه الروايات وهو غير ذي خطر، فنجد الروايات التي ذكرتها وروايات أخرى لم أجد حاجة إلى ذكرها تجمع على ما يأتي:
  • (أ)

    أن أبا الطيب قُتل وهو راجع من شيراز إلى بلده.

  • (ب)

    وأن قتله كان في مكان قريب من الصافية ودير العاقول.

  • (جـ)

    وأن الذي رصد له وخرج عليه هو فاتك الأسدي قريب ضبة العيني الذي هجاه الشاعر بالقصيدة المقذعة: ما أنصف القوم ضبة، القصيدة المشئومة التي يقول ابن جني: إنه كان يرى في وجه الشاعر الاشمئزاز وهو يقرؤها عليه.

  • (د)

    وأن معركة ثارت بين أبي الطيب ومن معه وبين فاتك ومن معه.

  • (هـ)

    وأن الشاعر وابنه محسدًا وبعض غلمانه قتلوا في المعركة وبعدها.

وأقول: إن أبا الطيب كان يستصحب غلمانه في أسفاره وقد وصفهم في قصيدة رثى بها أبا شجاع فاتكًا:

في غلمة أخطروا أرواحهم ورضوا
بما رضيت رضا الأيسار بالزلم
تبدو لنا كلما ألقوا عمائمهم
عمائم خلقت سودًا بلا لثم
بيض العوارض طعانون من لحقوا
من الفوارس شلالون للنعم
قد بلغوا بقناهم فوق طاقته
وليس يبلغ ما فيهم من الهمم
في الجاهلية إلا أن أنفسهم
من طيبهن به في الأشهر الحرم

وذكرهم مرة أخرى في القصيدة التي ودع بها ابن العميد:

تبدل أيامي وعيشي ومنزلي
نجائب لا يُفكرن في النحس والسعد
وأوجه فتيان حياء تلثموا
عليهن لا خوفًا من الحر والبرد
وليس حياء الوجه في الذئب شيمة
ولكنه من شيمة الأسد الورد
إذا لم تُجزهم دار قوم مودة
أجاز القنا، والخوف خير من الود

ومثل أبي الطيب في أسفاره البعيدة التي يحمل فيها هبات الممدوحين لا يسير بغير أعوان.

وقد ذكر الرواة أن غلامه مفلحًا قتل معه، وذكروا أن بعض غلمانه قُتل.

وأكبر الظن أن الغلمان لم يثبتوا بعد قتل سيدهم، فمن لم يقتل قبله أو معه حين الوقعة نجا بنفسه بعد قتل سيده.

والبيتان المرويان في نسختي من الديوان:

أفرغ الدرع يا سراج وأبصر … إلخ.

إن لم يكونا للشاعر فهما جديران به، ومثل أبي الطيب من يحسب نعيه نعي الرجال كلهم إلى الناس جميعًا.

٦

بقي تعيين اليوم الذي قُتل فيه.

رواية ابن جني أن القتل كان يوم الأربعاء التاسع عشر من رمضان.

ورواية علي بن حمزة البصري الأربعاء لثمان وعشرين من رمضان.

ورواية شرح المعري: الاثنين لأربع وعشرين من رمضان، وروايات أخرى تذكر ٢٢ و٢٥ و٢٧ وإذا أخذنا بقول علي بن حمزة البصري أنه كتب القصيدتين الأخيرتين عن الشاعر يوم السبت السابع عشر من رمضان فيوم الاثنين يوافق ١٩ و٢٦، فرواية شرح المعري أن الاثنين يوافق ٢٤ غلط.

والأربعاء المذكور في رواية علي بن حمزة وابن جني يوافق ٢١ و٢٨؛ فقول ابن جني يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان غلط.

وتبقى رواية علي بن حمزة الذي كتب عن الشاعر يوم السبت ١٧، وقال: إن مقتله كان الأربعاء ٢٨، وهي أصح الروايات فيما أرى.

ويؤيدها أن المسافة بين واسط ودير العاقول وهي خمسة وعشرون فرسخًا لا تقطع في يومين فلا تصح رواية يوم ١٩، ويبعد أن تقطع في ثلاثة أيام فتبعد رواية ٢١.

فالظاهر بعد كل هذا، أن الرجل قتل يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، كما يقول راويته علي بن حمزة البصري.

رحم الله أبا الطيب الذي يقول:

ردي حياض الردى يا نفس واتركي
حياض خوف الردى للشاء والنعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة
فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
١  ابن خلكان.
٢  الصبح ص٩٩.
٣  الخزانة ج١.
٤  نسخة بغداد.
٥  ١٢ حزيران (يونيه) سنة ١٩٢٦.
٦  ابن الأنباري ونسخة الأوقاف والمعري.
٧  مكتبة يحيى باشا الجليلي.
٨  انظر المقدمة في وصف نسخ الديوان التي رجعت إليها في تاريخ أبي الطيب.
٩  يقرن هذا بما تقدم عن شرح ابن جني أن القاتل فاتك بن أبي جهل الأسدي وفراس بن بداد، والظاهر أن الواو زائدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤