الفصل العشرون

بيت أبي الطيب

يقول أبو الطيب في قصيدة يمدح بها أبا أيوب أحمد بن عمران، وهو أحد ممدوحيه في الشام قبل اتصاله ببني حمدان:

في الناس أمثلة تدور حياتها
كمماتها، ومماتُها كحياتها
هبتُ النكاح حذار نسل مثلها
حتى وفرت على النساء بناتها

وهذا يدل على أنه لم يتزوج إلى ذلك الوقت، وإذا أخذنا بترتيب الديوان فقد أنشأ هذه القصيدة بعد مفارقته بدر بن عمار؛ أي: بعد سنة ٣٢٩ﻫ، وسن أبي الطيب حينئذ زهاء ستة وعشرين عامًا.

ولا ندري متى تزوج، ولكن دلنا على أن له عيالًا حين قال لسيف الدولة سنة ٣٣٧، وقد أزمع المسير لنصرة أخيه ناصر الدولة وسأله أن يسير معه، قال:

يا من يعز على الأعزة جاره
ويذل عن سطواته الجبار
كن حيث شئت فما تحول تنوفة
دون اللقاء، ولا يشط مزار
وبدون ما أنا من ودادك مضمر
يُنضَى المطي ويقرب المستار
إن الذي خلفت خلفي ضائع
ما لي على قلقي إليه خيار
وإذا صحبت فكل ماء مشرب
لولا العيال، وكل أرض دار
إذن الأمير بأن أعود إليهم
صلة تسير بذكرها الأشعار

فقد أعلمنا أن له عيالًا يشفق عليهم، وقد نزح من العراق وحده فيما نعلم، فهؤلاء العيال زوجه وأولاده أو زوجه وحدها، وقد كنى عنها، تزوج الشاعر إذن قبل سنة ٣٣٧. وإن صح ترتيب الديوان في القصيدة التائية كما قلت آنفًا، فزواجه بين سنتي ٣٢٩ و٣٣٧ﻫ.

ويقول في رثاء ابن سيف الدولة (في بعض نسخ الديوان):

وقد ذقت حلواء البنين على الصبي
فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل

لا نجد في شعر أبي الطيب ذكرًا لأهله من بعد إلا في مصر حين يقول في قصيدة مدح بها كافورًا في شوال سنة سبع وأربعين وثلاثمائة:

يُضاحك في ذا العيد كلٌّ حبيبه
حذائي وأبكى من أحب وأندب
أحن إلى أهلي وأهوى لقاءهم
وأين من المشتاق عنقاء مُغرب
فإن لم يكن إلا أبو المسك أوهم
فإنك أحلى في فؤادي وأعذب

ويقول في قصيدة الخروج من مصر:

عيدٌ بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيدًا دونها بيد

وفي النسخة (١٥٣٠) ونسخة الشرواني أبيات عنوانها في النسخة الأولى: «وله بعد ما هرب من مصر يذكر شوقه إلى ابنه وإلى شيخ كان له محبًّا يُسمى الحسين.»

والأبيات مضطربة ومنها:

لولا محمد بل لولا الحسين لما
رأيت رأيي بوهن العزم مختلطًا

وأحسب محمدًا هنا محرفة عن محسد وهو مشهور في أخبار أبي الطيب. وفي هذا بيان أن ابنه لم يكن معه في مصر، وأحسبه ترك أهله بالشام ثم لحقوه بالكوفة أو سبقوه إليها.

ونجد أبا الطيب يذكر أهله من بعد في توديع ابن العميد، يقول:

وقد كنت أدركت المنى غير أنني
يعيرني أهلي بإدراكها وحدي
وكل شريك في السرور بمُصبحي
أرى بعده من لا يرى مثله بعدي

ويذكرهم كذلك في توديع عضد الدولة:

وكم دون الثوية١ من حزين
يقول له قدومي: ذا بذاكا
ومن عَذْب الرضاب إذا أنخنا
يُقبل رحل تُروَك٢ والوراكا
يحرم أن يمس الطيب بعدي
وقد عبق العبير به وصاكا
ويمنع ثغره من كل صب
ويمنحه اليشامة والأراكا
يحدث مقلتيه النومُ عني
فليت النوم حدث عن نداكا

ولسنا نعرف عن زوجه شيئًا، وأكبر ظني أنها شامية، فقد تزوج بالشام، ولعل هذا يسر له ترك عياله هناك حين سار إلى مصر.

ولا نعرف من أولاده إلا محسدًا، ولم يذكره في شعره عدا الأبيات الطائية التي قدمتها، وهي ملحقة ببعض النسخ.

وعندنا من أخبار محسد مع أبيه نتف:

ذكر الحاتمي في حديثه عن لقاء أبي الطيب في بغداد أن الشاعر غضب على رجل كان حاضرًا مجلسه فقال: «يا محسد خذ بيده وأخرجه.»٣

وفي طبقات الأدباء عن أبي زكريا التبريزي أن المتنبي كان بواسط جالسًا وعنده ابنه محسد قائمًا، وجماعة يقرءون عليه فورد إليه بعض الناس فقال أريد أن تجيز لنا هذا البيت وهو:

زارنا في الظلام يطلب سترًا
فافتضحنا بنوره في الظلام

فرفع رأسه وقال: يا محسد قد جاءك بالشمال فأته باليمين فقال:

فالتجأنا إلى حنادس شَعر
سترتنا عن أعين اللوام
وروى صاحب الإيضاح: «وكان أبو جعفر وزير بهاء الدولة٤ مأمورًا بالاختلاف إليه، وحفظ المنازل والمناهل من مصر إلى الكوفة وتعرفها منه، فقال: كنت حاضره وقام ابنه يلتمس أجرة الغسال، فأحد المتنبي إليه النظر بتحديق فقال: ما للصعلوك والغسال؟ يحتاج الصعلوك إلى أن يعمل بيده ثلاثة أشياء، يطبخ قدره، وينعل فرسه، ويغسل ثيابه، ثم ملأ يده قطيعات بلغت درهمين أو ثلاثة.»

ليس عندي من أخبار الرجل في بيته وأخبار أولاده إلا هذه الشذرات، ولعل البحث يكشف عن غيرها فيما بعد.

١  مكان قرب الكوفة.
٢  اسم ناقة أعطاه إياها عضد الدولة.
٣  معجم الأدباء ج٦ ص٥١٢.
٤  أظنها عضد الدولة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤