وتشمل ميتافيزيقا الوجود أو «الأمور العامة» خمسة مباحث: الوجود والعدم،
والماهية، والوجوب والإمكان والاستحالة (الامتناع)، والوحدة والكثرة، والعلة
والمعلول. لبها مبحث الوجود والعدم، وأقلها مبحث الوحدة والكثرة. وتتساوى الأبحاث
الثلاثة الأخرى كمًّا.
٢ ولأول مرة في القرن السادس تظهر بناءاتٌ عقليةٌ جديدةٌ مستمدة من
الحكماء مثل الوحدة والكثرة والعلة والمعلول، وهي موضوعاتٌ ميتافيزيقية خالصة تجمع
بين الفكر والوجود، وتساعد على تطوير علم التوحيد من علمٍ معرفي إلى علمٍ وجوديٍّ
صوري بالرغم من أنها أبنيةٌ عقليةٌ تطهرية تسمح بظهور الفكر الديني التقليدي.
فالعلة هو «الله» والمعلول هو العالم، والوحدة هو «الله» والكثرة هو العالم. ويبدو
أن إسقاط هذا البعد الأوَّل من نظرية الوجود إنما كان نتيجة لتشخيص الفكر الديني
الذي استمر في الأشعرية السائدة والتي أصبحت حتى الآن مقياسًا للقراءة
والاختيار.
(١) الوجود والعدم
لما كانت نظرية العلم إجابةً على سؤال كيف أعلم؟ فإن نظرية الوجود إجابة على
سؤال: ماذا أعلم؟ وإذا كان السؤال الأوَّل قد أجاب عن سؤال ما العلم؟ فإن
السؤال الثاني يجيب عن سؤال ما المعلوم؟ موضوع العلم إذن هو المعلوم. وعلى هذا
النحو تتحول نظرية العلم إلى نظرية الوجود، وكأن نظرية العلم لم تكن إلا
تحليلًا للذات العارفة، في حين أن نظرية الوجود تحليل لموضوع المعرفة ولأقسام
المعلومات. وفي علم الكلام المتأخر يصبح لنظرية الوجود الصدارة المطلقة على
نظرية العلم، فينتقل المنطق كله من نظرية العلم إلى نظرية الوجود. فبعد أن كان
منطقًا نظريًّا أصبح منطقًا وجوديًّا، ويأخذ ذلك كله اسم «الممكنات»؛ فالممكن
هو الجامع للمنطق النظري وللمنطق الوجودي على السواء.
٣ المعلومات هي الموجودات، وتحليل الموجودات يأتي عن طريق الأحكام
العقلية؛ فالعقل وسيلة لتحليل الوجود.
(١-١) قسمة المعلوم
ويأتي تحليل المعلومات عن طريق القسمة عند المتكلمين والحكماء على
السواء؛ فالمعلوم عند المتكلمين إمَّا موجود أو معدوم؛ لأن المعلوم أعم من
الموجود لأنه قد يكون موجودًا أو معدومًا. وينقسم الموجود إلى قديم وحادث،
ثم ينقسم الحادث إلى جسم وجوهر وعرض. وهنا تبدو القسمة العقلية تعبيرًا عن
إيمانٍ دينيٍّ خالص؛ لأن مقولة «القديم» استباق لموضوع الصفات وافتراضٌ
دينيٌّ إيمانيٌّ مسبق؛ إذ لا يوجد إلا الحادث كوجودٍ عيني. أمَّا القديم
فهو افتراضٌ ذهنيٌّ خالص يأتي عن طريق القلب أو التضاد بالاقتران أو
التضايف. فالموجود القديم كالعلم القديم، كلاهما مطلوب إثباته، وبالتالي
فلا يدخلان في نظرية العلم أو في نظرية الوجود كبناءٍ أولانيٍّ نظريٍّ
خالص. فكما تداخلت الإلهيات في نظرية العلم في قسمته إلى قديم وحادث تدخلت
أيضًا في نظرية الوجود في قسمته إلى قديم وحادث، وهي القسمة المبدئية التي
لا مبرر حسيًّا لها، بل تعبر عن مجرد الإيمان الخالص وتتخلَّى عن التعقيل
من أجل تأسيس العلم وتأصيل الوجود. قسمة الوجود إلى قديم وحادث افتراضٌ
مسبق، وهو المطلوب إثباته، أي إنه استدراك على المطلوب، واعتباره مسلَّمة.
أمَّا قسمة الحادث إلى جسم وجوهر وعرَض، فإنها تقوم على مفهوم التحيُّز؛ أي
الوجود في المكان؛ فالحادث إمَّا أن يكون متحيزًا وهو الجوهر أو حالًا في
مُتحيِّز وهو العرض أو لا هذا ولا ذاك. فالجوهر والأعراض هما ببساطة الشيء
وصفاته. أمَّا الجسم فهي مقولةٌ ثالثة لإفساح المجال للأفلاك والأجرام
والكواكب طبقًا لعلم الفلك القديم. فإذا كانت القسمة الأولى الجوهر
والأعراض لها ما يبررها في علوم الطبيعة في الصفات الأولى والصفات الثانية،
فإن القسمة الثالثة وهو الجسم حكمٌ مسبقٌ مفروض على الطبيعة لخدمة غرضٍ
دينيٍّ خالص. كما أن الذي منع القسم الثالث من الوجود الذي لا يكون متحيزًا
أو حالًّا في متحيز هي عاطفة التأليه ورفض مشاركة الموجودات العينية في
صفات الموجود القديم وهو «الله». قسمة المتكلمين إذن في بدايتها علمية، وفي
مقصدها ليست علمية؛ لأنها تدخل المطلوب إثباته كأحد فرعَي القسمة، وهو
الموجود القديم، كما أنها تجعل القسمة الثالثة فارغة لإعطاء الفرصة للذهن
لنفيها خشية الشرك، وكأن وظيفة العقل هو إفساح المجال لتأسيس العقيدة.
٤ هذا بالإضافة إلى أن إعمال
العقل على هذا النحو لا يخدم العقل ولا الإيمان؛ لأنه يتنازل عن حق العقل
في التنظير الخالص ويضعف التنزيه. فلا العقل يقبل ولا الإيمان يرضى وضع
«الله» مع الأجسام والجواهر والأعراض، وأن يفسح له مكان لمزاحمة الأشياء،
وأن يكون طرفًا في قسمةٍ عقليةٍ محدودة. فهذا مضاد للعقل ولعواطف التنزيه
على السواء. وأن أقصى درجات التنزيه وضع «الله» في «قمة الكون» وفي أعلى
رتبة كملك للملوك، وهي إحدى صور التشبيه.
٥ فالتفكير في «الله» وإدخاله في قسمة الموجود هو قلب للوجود عن
طريق التشابه أو التضاد، فيكون الله موجودًا وليس جسمًا أو جوهرًا أو
عرضًا. وينتهي الأمر إلى أنه لا يمكن التفكير في «الله» إلا كطرف للعالم،
فيكون في مقابل الحادث لا في محل، ولا يحتاج إلى محل بفعل عواطف
التأليه.
والمعلوم عند الحكماء أيضًا هو الموجود. ولكن ينقسم الموجود إلى وجودٍ
ذهني يظل جزءًا من نظرية المعرفة وإلى وجودٍ عينيٍّ خارجي بناء على القسمة
المشهورة بين عالم الأذهان وعالم الأعيان. وينقسم الموجود العيني إلى واجب
وممكن وممتنع أو ضروري وجائز ومستحيل، وهنا تبدأ القسمة في الاضطراب.
فالموجود العيني الواجب لا وجود له لأن واجب الوجود ليس عينيًّا بل ذهنيٌّ
خالص، والوجود الممتنع أو المستحيل ليس وجودًا عينيًّا، فالمستحيل لا وجود
له، ولكنه افتراضٌ عقلي ثانٍ. ويبقى القسم الثالث الوحيد الممكن وهو الوجود
العيني الممكن. ويبدو أن الإيمان عاود الظهور من ثنايا العقل ففرض الوجود
والواجب أو الضروري وجعله وجودًا عينيًّا لإفساح المجال لإثبات «الله»، ثم
انقلب عن طريق الضد إلى الوجود الممتنع المستحيل دون أن يستلزم بذلك وجودًا
عينيًّا له إلا إذا كان «الشيطان» في الأذهان؛ فهو القادر على فعل
المستحيلات. والبداية كلها في كلتا الحالتين الواجب والممتنع، الضروري
والمستحيل هو الممكن أو الجائز، فهو الوسط الذي له وجود بين طرفَين لا وجود
لهما إلا افتراضًا بفعل الإيمان في العقل وزحزحته إياه عن وظيفته في العلم
لإفساح المجال للمعلوم الإيماني الخالص الذي استعصى على العقل وشرع بفرض
نفسه عليه قبل أن يتأسس فيه. تصحُّ القسمة عندما يعمل العقل في الحس ويدرك
الوجود العيني الممكن ثم تفسد عندما يتدخل الإيمان، فيدفع العقل إلى طرفين
فيوقعه في افتراضَين لا عقليَّين ولا وجوديين، وهما الواجب والممتنع أو
الضروري والمستحيل، فإذا كشفت هذه القسمة البداية بالوجود العيني أي العالم
الحسي، فإنها تكشف أيضًا على أن النهاية أي الواجب أو الضروري هو مجرد
يقينٍ إيماني أو أخلاقي أو معنوي أو مجرد افتراضٍ معرفي وليس وجودًا حسيًّا
مرئيًّا، نشأ عن طريق التضايف أو التضمُّن أو الالتزام كعلاقة الابن بالأب
أو الكبير بالصغير. واليقين الديني أو الأخلاقي أو المعرفي مطلبٌ حقيقي.
ولكن الإشكال هو هل يتحقق هذا المطلب من داخله فيكون فارغًا بلا مضمون،
ذاتًا بلا موضوع، متقوقِعًا على النفس، نرجسية، وانعكاسًا مجرَّدًا، أم أن
يكون له مضمون من العالم وفي العالم كبناء للشعور الفردي وكنظامٍ اجتماعي
وكقانون لحركة التاريخ؟
أمَّا قسمة الممكن إلى جوهر وعرض، فعلى الأقل لم تفترض قسمًا ثالثًا وهو
الجسم لإفساح المجال لعالم الأفلاك القريب من «الله» والمشارك له في
الصفات! ولكن يعود الإيمان ليقصي العقل، وذلك بقسمة الجوهر إلى قديم، وهو
ما لا أول لوجوده ومُحدَث وهو ما له أول. وفيها تظهر الغاية من هذه
التقسيمات المتتالية في نظرية الوجود والتي تبدو عقليةً طبيعية يخرج كلٌّ
منها من الآخر خروجًا طبيعيًّا منطقيًّا وهو إثبات وجود «الله» أو استنباطه
من تحليلٍ عقلي وجوديٍّ مسبق.
أمَّا قسمة الممكن إلى جوهر وعرض فهي قسمةٌ طبيعية تدل على وجود عنصرَي
الثبات والتغير في الطبيعة، الجوهر هو الثابت والعرض هو المتغير، ثم تتحول
هذه القسمة إلى تصورٍ عام للإنسان والمجتمع والتاريخ. وهو التصور القائم
على القلب والأطراف أو المركز والمحيط، والتي ارتكز عليها الفكر الديني وهو
في أعلى درجات التنزيه.
٦ بل ويمكن أن يُقال إن قسمة الجسم إلى جوهر وأعراض قسمةٌ عقلية
افتراضية لا تأتي من طبيعة الجسم؛ فالجسم جسم، يتغير لونه وشكله، ثقله
وخفته، حرارته وبرودته، وضعه ومكانه، هيئته وملامحه، خشونته ونعومته. لماذا
افتراض أن هذه التغيرات أعراض تقوم على جوهر هو الثابت والحامل؟ إن افتراض
الجوهر نابع من إيمانٍ عقلي بوجود الثابت وراء المتغير، وأن هناك مركزًا
ثابتًا لكل المتغيرات تدور حوله كما تدور نقط المحيط حول مركز الدائرة. وهو
تصورٌ عقليٌّ خالص أو صورةٌ فنية تعبر عن نوعٍ معين من العلاقات الاجتماعية
أو الطبيعية من بين عددٍ آخر من التصورات الممكنة مثل أن الجسم يتغير شكله
ولونه ووضعه وهيئته طبقًا للاستعمال أو المجال؛ أي أن الجسم يدخل في علاقة
مع الإنسان كطرفٍ مقابل له، ومِنْ ثَمَّ فلا مكان للطبيعيات المجردة بل
الطبيعيات للاستعمال. وقد حاول القدماء إيجاد هذه العلاقة مع الطبيعيات
ولكنهم جعلوها رأسية لإثبات وجود «الله» في حين أن علاقات الطبيعيات
بالإنسان علاقةٌ أفقية تجعل الإنسان والطبيعيات معًا جزءًا من التاريخ
وبُعدًا للزمان. لما كانت علاقة الطبيعيات «بالله» بعد الخلود، ومِنْ ثَمَّ
لزم الجوهر الثابت فهو المؤشر لوجود «الله» الثابت في مقابل الأعراض
المتغيرة فهي المؤشر لوجود العالم المتغير.
وقد انحاز المتكلمون المتأخرون لموقف الحكماء بالرغم من إنكارهم الوجود
الذهني؛ فقسموا الوجود العيني إلى إمَّا ما لا أول له وهو القديم، أو ما له
أول وهو الحادث؛ لإفساح المجال لنظرية الخلق وإثبات قِدَم «الله». وقسموا
الحادث إلى متحيز وهو الجوهر؛ أي الجسم الحسي والحال في المتحيز وهو العرض،
ومنعوا قسمةً ثالثة لوجود لا متحيز ولا حال في متحيز؛ حتى لا يشارك «الله»
أحدًا في وجوده، فهذه القسمة تصدق على «الله» وحده. قبل المتكلمون قسمة
الحكماء في الجزء الذي يسمح لهم بإدخال مضمون الإيمان في القسمة العقلية
على نحوٍ متسرع دون انتظار للتأصيل النظري له على نحوٍ عقليٍّ طبيعي
خالص.
(١-٢) هل المعدوم معلوم أو موجود؟
إذا كان المعلوم إمَّا موجودًا أو معدومًا، وكان الموجود كما بان عند
المتكلِّمين والحكماء معلومًا، فهل المعدوم معلوم مثل الموجود؟ المعدوم
معلوم وتدل عليه نظريات المتكلمين واختلاف الحكماء فيه. فالشيء قد يكون
معلومًا من وجه، مجهولًا من وجهٍ آخر سواء كان ذلك في الطبيعيات أم في
الإلهيات. وبالتالي يكون الإنسان عالمًا جاهلًا في نفس الوقت وقد يكون علمه
وجهله في نفس المحل أو في محلَّين مختلفَين. وإن اختلاف مناهج التحليل
وتضارب وجهات النظر إنما يدل على أن العلم الإنساني تعبير عن مواقفَ
مختلفةٍ أكثر منه علمًا محايدًا. فالعلم منظورٌ اجتماعي بل علاقات أقوى،
وجدل بين الموجود والمعدوم، بين المعلوم والمجهول.
٧ قد يكون الموجود أو المعدوم كلاهما معلومًا من وجه ومجهولًا من
وجهٍ آخر، أمَّا من حيث الإجمال والتفصيل فيكون الإجمال علمًا بوجه وغياب
التفصيل جهلًا بوجهٍ آخر. والأَولى معرفة الشيء إجمالًا وتفصيلًا خاصةً في
مجتمعاتٍ يغلب على فكرها القومي العموميات دون التفصيلات مثل المجتمعات
النامية أو في مجتمعاتٍ أخرى يغلب على فكرها الجزئيات دون الكليات كما هو
الحال في المجتمعات الصناعية المتقدمة. وإمَّا من حيث مستوى التحليل ومنظور
البحث؛ وبالتالي يكون نفس الشيء موضوعًا لعدة علوم. الإنسان موضوع لعلم
وظائف الأعضاء من حيث هو وظائفُ بيولوجية وموضوع لعلم النفس من حيث هو
حياة، وموضوع لعلم الاجتماع من حيث هو في علاقة مع الآخرين، وموضوع لعلم
الاقتصاد من حيث هو كائنٌ منتج، وموضوع لعلم السياسة من حيث هو كائنٌ منظم.
وإنكار أن يكون الشيء موضوعًا لعلمين حرص على العلم «الإلهي» أن يشاركه
علمٌ آخر في نفس الموضوع، في حين أن نظرية العلم هي فقط نظرية في العلم
الإنساني، بما في ذلك الوحي بعد التنزيل، ومن ثَم فهو تخوُّف لا أساس له.
٨ ولا يعني ذلك أن يكون المعلوم بالضرورة شيئًا؛ فقد يكون شيئًا
وقد يكون معنى الشيء أو صفته أو دلالته. ولكن لا بد من حضور الشيء الدال أو
استنباط معانٍ جديدة من دلالات أشياءَ موجودة بالفعل حتى يكون للمعلوم وجود
وبالتالي يصح البحث في الأمور الذهنية وفي الموجودات في الخارج على حدٍّ
سواء. والنزاع في المعدوم الممكن لأن الممتنع منفي اتفاقًا.
٩ وهو معلوم عند جمهور المتكلمين بمعنى أن انتفاءه معلوم.
١٠ وهو ثلاثة أقسام: الأوَّل ما كان موجودًا، فعُدم ومعرفته ممكنة
مثل الآثار المندثرة والحوادث الماضية، والثاني ما لم يوجد وليس مما يوجد
وهو الممتنع وهذا لا يمكن معرفته لأنه ليس معلومًا أي موضوعًا للعلم،
والثالث ما لم يوجد وسيوجد وهذا يمكن معرفته، وهو ما نعنيه اليوم بالدراسات
«المستقبلية». معرفة المعدوم إذن ممكنة لأن عدم الوجود معلوم بالبديهة
ولأنه مقدور أي يمكن إحضاره ولأن المعارف الممكنة أشمل من المعارف الواقعة
ولأن معرفة النفي والسلب ممكنة، بل إن الموضوع كله من «الممكنات»، وإلا
وقعنا في الغياهب والأساطير والخرافات واتبعنا في ذلك سبل السحر والشعوذة والإلهام.
١١
فإذا كان المعدوم معلومًا فهل هو موجود؟ وإذا كان موجودًا فهل هو شيء؟
وإذا كان شيئًا، فماذا يعني الشيء؟ والحقيقة أن المعلوم قد يكون موجودًا
وقد يكون معدومًا، وقد يكون شيئًا وقد يكون لا شيئًا. فالمعلوم أعم من
الموجود ومن الشيء؛ إذ يمكن العلم بالصفر في الحساب وبالنقطة في الهندسة
وبالعدم في الفلسفة. كلها موضوعاتٌ صورية؛ إذ لا يعني الوجود بالضرورة
الوجود الحسي، بل قد يعني الوجود الصوري أو الوجود الشعوري. كما يمكن العلم
بالمستحيلات والمتناقضات والمتضادات وهي من المعدومات. فهناك منطق
للمستحيلات والمتناقضات والمتضادات وهي من المعدومات. فهناك منطق للمستحيل
ومنطق للتضاد ومنطق للتناقض. فإذا قيل العدم موجود، فقد يعني الوجود هنا
السلب أو الحرمان أو النقص أو الغياب أو الفراغ أو العدم الخالص، وهي كلها
أنماط وجود. هناك ميتافيزيقا للعدم، وحساب للمجهول في الرياضيات وحساب
الصفر. واعتبار المعدوم موجودًا وموضوعًا للعلم يجعل العلم صوريًّا خالصًا
كما يجعله مطلقًا لا حدود له (المعتزلة)، في حين جعل المعدوم عدمًا لا يكون
موضوعًا للعلم هو إيثار للعلم الموضوعي الذي لا يتناول إلا الموجود (الأشاعرة).
١٢ ويبدو أن المزايدة في الدين تؤدي إلى الوقوع في المادية، في
حين أن الفكر النزيه يؤدي إلى الصورية ويكون أكثر تنزيهًا من الفكر الديني
الصريح. والحقيقة أن موضوع العلم الذي يتفاوت بين المعدوم والموجود هو
أساسًا موضوعٌ شعوري. ففي الشعور وجود وعدم، حضور وغياب، ملاء وفراغ، عطاء
وأخذ، إرسال واستقبال، إيجاب وسلب. ويقارب موقف الحكماء موقف المعتزلة في
إثبات المعدوم لاعتمادهم عليه في قسمة الموجود إلى تحقق في الخارج وهو
الموجود الخارجي، والتحقق الذهني وهو الموجود الذهني. والموجود الخارجي إن
كان لا يقبل العدم لذاته فهو الواجب لذاته، وإن كان يقبله فهو الممكن
لذاته؛ فتعريف الموجود لذاته قائم على الضد وهو امتناع العدم لذاته، وتعريف
الممكن لذاته قائم على الشبيه وهو إمكان العدم لذاته؛
مما يدل على استحالة الحديث عن الوجود
لذاته دون قلبه من الضد أي العدم لذاته. فالوجود لذاته أو واجب الوجود من
المفاهيم المتضادة منشؤها العدم والتغير والإمكان؛ أي العالم الحسي
المتغير. ويرتبط إثبات المعدوم أو نفيه بمسألة تأثير الفاعل المختار ومسألة
جعل الماهيات بناءً على أن الجعل هو التأثير.
١٣ ولا يعني ذلك بالضرورة وجود إرادةٍ خارجيةٍ مشخَّصة، بل يمكن
أن يكون من إرادة الإنسان وفعله واختياره الذي يوجد من عدم ويُعدَم بعد
إيجاد. ويصعب الحديث عن المعدوم هل تتساوى ذواته وهل تتمايز لأنه نقص محض
لا وجود فيه، بل هو سلب وجود، ولا تمايز في السلب.
١٤
وقد تكون علاقة الموجود بالمعدوم علاقةً لغويةً منطقيةً صرفة يعبر عنها
بلغة الإثبات والنفي. فالمعلوم إمَّا أن يكون متحقِّقًا في الخارج وهو
الوجود أو غير المتحقق في الخارج وهو المعدوم. المعلوم متحقق في الخارج
وليس مجرد وجودٍ ذهني وإلا كان معدومًا. فالمعرفة والوجود متطابقان. وتدخل
في هذا التطابق نظرية الحكم. ومِنْ ثَمَّ يكون الوجود هو الثابت والمعدوم
هو المنفي، فالثابت أعم من الموجود والمنفي أعم من المعدوم. يدخل الوجود
والعدم إذن في نظرية أعم هي نظرية الإثبات والنفي. وبالتالي ترجع نظرية
الوجود إلى نظرية الحكم، وهي التي تجمع بين نظرية الوجود ونظرية المعرفة.
١٥ وتتفاوت درجات المعدوم من العدم المنطقي المطلق وهو التناقض
إلى العدم الناشئ عن غياب القدرة، ولكن يمكن أن يوجد إن وجدت. وقد ينشأ
العدم من الزمان كالأشياء التي وجدت في الماضي ثم لم تعد توجد في الحاضر،
أو من الأشياء التي لا توجد في الحاضر، ولكنها قد توجد في المستقبل؛ فالعدم
يحيل إلى القدرة والزمان؛ أي إلى البعد الشعوري في العدم باعتباره أحد
عناصر الموقف الإنساني في علاقاته بالأشياء وبالآخرين.
١٦ أمَّا أحكام العدم فيقع فيها الاختلاف طبقًا لتصور العدم؛ فعند
البعض المعدوم ليس بثابت وعند البعض الآخر المعدوم ثابت. في الحكم الأوَّل
الذات هي الماهية، إذا عدمت الذات عدمت الماهية. وفي الحكم الثاني الذات
زائدة على الماهية، إذا عدمت الذات بقيت الماهية.
١٧ الحكم الأوَّل أقرب إلى نفي العدم كشيء، والثاني أقرب إلى
إثباته. أمَّا الأحكام المنطقية الأخرى فهي ذاتها أحكام الوجود ولكن بصيغة
النفي مثل: عدم المعلول يؤدي إلى عدم العلة، وعدم المشروط يؤدي إلى عدم
الشرط، وعدم الضد يؤدي إلى صحة الضد الآخر.
١٨ والحقيقة أنه لا يمكن إدخال الوجود والعدم كمادة للحكم في
قضايا محلية دون تجاربَ شعوريةٍ للوجود والعدم. حينئذٍ لا تكون أحكام
الوجود والعدم أحكامًا عقليةً صورية بل أحكامٌ شعورية. ولا يكون صدق الحكم
مطابقة عالم الأذهان مع عالم الأعيان، بل مطابقة الحكم مع مضمون الشعور.
الوجود والعدم تجربتان شعوريتان وليسا موضوعَين صوريَّين أو منطقيَّين.
١٩ وقد يكون الخلاف بين الإنكار والإثبات لا يصدق على نفس المعنى،
فالإنكار يتصور العدم سلب إيجاب، والإثبات يتصوره عدم ملكة. فقد يكون
النزاع في نهاية الأمر لفظيًّا.
٢٠
(١-٣) هل المعدوم شيء؟
عند المعتزلة المعدوم الممكن شيء؛ لأن الماهية غير الوجود. ومنعه
الأشاعرة لأن الوجود عندهم نفس الحقيقة. وعند الحكماء الشيئية تساوق الوجود
فالمعدوم في الذهن معدوم في الخارج، فهم أقرب إلى الأشاعرة.
٢١ ويعتمد إثبات العدم على سببين. الأوَّل: أن المعدوم متميز وأن
كل متميز ثابت. والحقيقة أن العدم نفي كالممتنعات والخيالات وليس ثابتًا.
والثاني: أن المعدوم مُتَّصف بالإمكان وأنه صفة ثبوتية. والحقيقة أن
الإمكان ليس ثبوتًا، بل مجرد إمكانية وجود. كما يعتمد على حجةٍ دينيةٍ
خالصة مؤدَّاها أن المعدوم في الأزل ليس «الله» وهو غيره، والغيران شيئان!
والحقيقة أن ذلك كله من عمل الخيال فلا يوجد أزل كواقع وشيء، ولا يوجد
«إله» مغاير له؛ فهذه كله افتراضاتٌ مسبقة وتمريناتٌ عقلية لتأصيل العواطف
الدينية التي تعبر عن نقص في التعقيل وعن ضعف في الوعي الاجتماعي، وعن قصور
في رؤية الواقع. ويعتمد نفي العدم على حججٍ صوريةٍ منطقية مثل أن الثبوت
أمرٌ زائد على الذات والعدم ليس كذلك أو أن العدم أقل تناهيًا من الوجود أو
أن العدم قبل الوجود صفة نفي أو أن العدم صفة نفي أو أن العدم زوال
للتمايز، وكلها تنزع العدم من مجرد موقفٍ شعوري إلى إثبات وجودٍ موضوعي له.
فالإثبات والنفي حكمان منطقيان، والعدم غياب وجود وليس أقل منه تناهيًا.
الإثبات أعم من الوجود والنفي أعم من العدم. في الإثبات والنفي صدق وكذب
واتساق وتناقض لا وجود لهما في الوجود والعدم؛ لذلك انتهى جمهور المتكلمين
إلى أن القول بثبوت المعدوم ينفي المقدورية؛ أي قدرة الفعل على التغير
وعجزه أمام العدم وافتراض العدم أساس الوجود، والوجود قائمًا عليه. ولو كان
العدم ثابتًا لانتفت القدرة التي تريد تحويل العدم إلى وجود ولكان العدم
واجبًا لا يمكن تغييره وتحويله إلى وجودٍ ممكن أو إمكان وجود. ولو ثبت
المعدوم لكان أعم من النفي وأقوى منه؛ وبالتالي استحال رفضه أو تحويله إلى
وجود أي إلى أساس. المعدوم ليس شيئًا وإلا خشي منه الناس وأثبتوه عجزًا عن
مقاومته، وسلموا به ضعفًا وخورًا، يأسًا واشمئزازًا، كرهًا للنفس وللآخرين،
وبصاقًا على العالم. لا يمكن أن تكون للمعدومات الممكنة قبل وجودها ذوات
وأعيان وحقائق، فهذا إيهام للناس بوجود المعدومات كحقائق، بل هو غياب
الوجود ونقص الهبة وضعف الفعل وتخاذل الناس على تحقيق الوجود. الذوات في
العدم معرَّاة من الصفات ولا توصف بصفات الأجناس لأنها ليست وجودًا مثل
الحياة أو الجواهر أو الأعراض.
٢٢
إن خطورة إثبات المعدوم هو العدم
على نفس درجة الوجود كالوجود، وبالتالي إعطاء العدم وجودًا يصعب نفيه، وهو
نوع من التشاؤم والاعتراف بالأمر الواقع والاستسلام للهزائم كما هو الحال
في «الوعي الأوروبي» المعاصر وفي فلسفات القدماء عند المانوية خاصةً، بل
وفي الديانة المسيحية بفعل الخطيئة الأولى.
٢٣ العدم ليس وجودًا، بل هو مجرد غياب أو نقص، الأصل هو الوجود،
والعدم طارئ عليه، الوجود حضور والعدم غياب. الوجود ملاء والعدم خلاء،
الوجود عطاء والعدم غثيان، الوجود انفتاح والعدم انغلاق، الوجود حياة
والعدم موت؛ ومِنْ ثَمَّ يستحيل وجود العدم. «وإنما بقاء الباطل في غيبة
الحق عنه.»
٢٤ وإذا كان الدافع عند قدماء الأشاعرة لنفي كون العدم شيئًا هو
وجود «الله» القادر على كل شيء، على نفي الوجود والعدم على السواء، فلا
الوجود ولا العدم ثابتان، فإن الدافع لدينا هو القدرة المتولِّدة عن نفي
كون العدم شيئًا على تحريك الشعوب والثقة بالنفس وتغيير الواقع ورفض
الاستسلام وما يبعثه في الروح من تفاؤل وأمل، وما يثيره في النفس من خيال
على الإتيان بالمستحيلات. إن إثبات كون العدم شيئًا يحول الغياب إلى حضور،
والعدم إلى وجود، والاستثناء إلى قانون. المعدوم ما لا تحقق له في نفسه وهو
المنفي، أو له تحقُّق وهو الثابت؛ فالعدم أخص من النفي، العدم مجرد نفي ولا
يوجد نفي له تحقُّق يكون عدمًا ثابتًا. الاحتلال غياب للاستقلال، والطغيان
غياب للحرية، والرأسمالية غياب للاشتراكية، وسلبية الجماهير غياب لنشاطها،
والتخلف غياب للتقدم، والتجزئة غياب للوحدة، والتغريب غياب للهوية، فالوجود
استقلال وحرية واشتراكية وتقدم ووحدة وهوية وتجنيد للجماهير، وما دون ذلك
مجرد طارئ عرض حادث أي مجرد عدم. هناك وجود ولا وجود. والعدم هو اللاوجود،
أي إنه ليس وجود عدم بل عدم وجود. العدم طارئ نتيجة لغياب الوجود. الأصل هو
الوجود وغيابه عدم. العدم غياب وجود وليس وجود غياب.
ولكن هل المعدوم شيء؟ وماذا يعني الشيء؟ لقد استطرد القدماء في وجود
العدم ومعرفة نوعية وجوده صوريًّا منطقيًّا أو ماديًّا حسيًّا.
٢٥ والحقيقة أن هذه إطالة في موضوعٍ فلسفيٍّ صرف دون أن تكون له
دلالةٌ مباشرة في موضوع الوجود والعدم الذي هو أحد موضوعات «الأمور العامة»
في نظرية الوجود. قد يوجد الشيء صوريًّا، وقد يوجد ماديًّا، وقد يوجد
شعوريًّا. فالمعدوم إن لم يكن له وجودٌ صوري أو مادي فله على الأقل وجودٌ
شعوري، وهو الشعور بالعدم وما يولده في النفس من غثيان وقرف في موقفٍ
اجتماعي وسياسي محدَّد، في حالة ضعف وعجز أو هزيمة واستسلام. وهو موقف طارئ
في حياة الشعوب.
٢٦
(١-٤) هل هناك واسطة بين الوجود والعدم (الحال)؟
وضع القدماء التقابل بين الوجود والعدم، وجعلوا الواسطة بينهما هو الحال
بين منكر ومثبت.
٢٧ والحال انتقال وحركة من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى
الوجود؛ أي أن الصلة بين الوجود والعدم هي الصيرورة. فالحال صيرورة
والصيرورة حال. ولكن خلط القدماء بين موضوع ثبوت العدم والحال كواسطة في
موضوعٍ واحد، مع أنهما موضوعان متمايزان.
٢٨ ويثبته الحكماء لأنه لما كان الشيء موجودًا في الخارج
ومعدومًا، فإن هناك واسطة بينهما، والتي هي الوجود في الذهن بين الوجود
والعدم أو الإمكانية أو الحال أو الوجود في حالة مشروع أو تضمن أو قوة،
وجود بالقوة يتحول إلى وجود بالفعل عن طريق الخلق والإبداع والتحقق الذاتي.
ولما كان موضوع العلم عند القدماء هو المعلوم، فإن المعلوم إمَّا الموجود
أو المعدوم أو الحال.
٢٩
وينكر جمهور الأشاعرة الحال لإنكارهم الوسط بين الوجود والعدم. ليست هناك
حاجة إلى الانتقال من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى الوجود؛ لأن «الله»
قادر على كل شيء. ومِنْ ثَمَّ انتهوا إلى إنكار الصيرورة، ووقعوا في
الثنائية المتعارضة بين الوجود والعدم. ويشاركهم في ذلك جمهور المعتزلة
بالرغم من إثباتهم العدم ونفي الأشاعرة له. وبالتالي أصبح نفي الحال هو
الرافد الأساسي والمكوِّن الرئيسي لوعينا القومي. ويؤدي نفي الحال أوَّلًا
إلى إنكار الواسطة بين الوجود والعدم والانتقال من طرف إلى آخر عن طريق
القلب والعنف والتحول من الشيء إلى ضده وعدم الثبات على شيء والوقوع في جدل
الكل ولا شيء وقسمة الناس إلى مؤمنين وكافرين والزعماء إلى خونة وأبطال،
كما هو الحال في وجداننا المعاصر. كما يؤدي ثانيًا إلى إنكار الصيرورة
والحدوث والتغير والزمان والحركة والتاريخ ودور الفعل الإنساني فيه. ويؤدي
ثالثًا إلى إعطاء الأولوية للفعل الخارجي على الفعل الداخلي لتفسير الحركة
والتغير بعد أن تخلَّى الإنسان عن دوره في التاريخ، وتخلت الأمة عن فعلها
ووجودها فيه. ويخشى المنكرون للأحوال من أن إثبات الحال قد يؤدي إلى
التسلسل، والتسلسل «يسد باب إثبات الصانع» مع أنه يجوز امتناع التسلسل في
الموجودات وعدم امتناعه في الأحوال. كما أن إثبات الصانع ليس هدفًا مسبقًا
يحدد نتائج العلم؛ مما يدل على أن علم الأشعرية خصوصًا ليس علمًا، بل هو
تكييف للمادة العلمية وللنتائج العلمية وللمواقف العلمية طبقًا لأهدافٍ
معروفة سلفًا وعلى رأسها إثبات الصانع.
٣٠
أمَّا إثبات الحال، فإن القدماء قد اعتمدوا فيه على بعض الحجج الصورية،
منها أن الوجود ليس موجودًا وإلا زاد وجوده وتسلسل، ولا معدومًا وإلا اتصف
بنقيضه؛ مِنْ ثَمَّ فهو أقرب إلى الواسطة بين الوجود والعدم وهو الحال.
ومنها أن السواد مركب من اللونية وفصل يمتاز به وهو قابضية البصر فرضًا،
ومِنْ ثَمَّ يكون اللون حالًا للذات بمناسبة الموضوع أو حالًا للموضوع
بمناسبة الذات. والحقيقة أنه ليس المهم إعطاء حججٍ صورية لإثبات الحال، بل
تكفي التجارب الشعورية التي تكشف عن الوجودات في حالة انتقال من وجود إلى
عدم أو المعدومات في حالة انتقال من عدم إلى وجود. يكفي ملاحظة حركتي
الإعدام أو الإيجاد مثل الحالات المتوسطة بين الصحة والمرض وهي النقاهة، أو
بين الحياة والموت وهو الاحتضار، أو بين الطفولة والرجولة وهي المراهقة، أو
بين الاحتلال والاستقلال وهي الحماية والوصاية والتبعية والأحلاف ومناطق
النفوذ والانحياز. قد يكون الحال أقرب إلى الوجود منه إلى العدم، أو أقرب
إلى العدم منه إلى الوجود؛ إذ يصعب إيجاد الحال كوسطٍ متناسب بين طرفين.
فالحال انتقال وحركة وليس حسابًا ونقطة. كما تتمايز الذوات الإنسانية
المتساوية بالأحوال. الوجود الإنساني واحد، ولكن الأحوال هي التي تختلف.
٣١ ويؤدي إثبات الحال إلى عكس ما يؤدي إليه نفيه؛ يؤدي أوَّلًا
إلى إثبات الصيرورة والحركة والفعل والزمان والتاريخ والتحقق والإبداع
والخلق، ويؤدي ثانيًا إلى التدرج دون الوقوع في جدل الكل ولا شيء وإدراك
المراحل وإعداد الخطط، ويؤدي ثالثًا إلى إفساح المجال للفعل الإنساني في
العالم ودور الأمة في التاريخ. وقد قسم القدماء الحال إلى نوعَين: الأوَّل
مُعلَّل بصفةٍ موجودة كتعليل القادرية بالقدرة، أو غير مُعلَّل مثل اللونية
للسواد؛ مما يجعل الحال ليس مجرد عَرَض بل علة؛ أي إنه حال مؤثر وفعَّال.
وقد يكون الحال علة وجود وعدم؛ وبالتالي تكون الأحوال موجِدة وعامة،
والثاني عندما تتساوى الذوات وتتمايز بالأحوال. فالحال هو الذي يميز الذات
عن الأخرى؛ مما يدل على أن الذات هي أحوالها. وتوصف الأحوال بالتماثل
والاختلاف كصفات وكأحوال، وتكون أقرب إلى الأحوال النفسية أو الوجودية منها
إلى «أحوال» الأشياء.
٣٢
(١-٥) ماذا يعني «الوجود»؟
تصور الوجود بديهي، والدليل على ذلك أني موجود، وأن الوجود تصور وتصديق
في آنٍ واحد. كما أن قسمة الوجود إلى وجود وعدم قسمةٌ بديهية. ولا يمكن أن
يكتسب بالحد لأن الوجود بسيط لا أجزاء له أو بالرسم لأن الرسم ليس تعريفًا
بالمهية وأنه لا أعرف ما الوجود. وإذا كان الوجود لا يتصور، فإن ذلك لأنه
إحساسٌ بديهي وإن لم يتحول إلى تصورٍ عقلي. وقد صاغ القدماء حجتَين
صوريتَين ضد تصور الوجود: الأولى أن يكون التصور بتميزه عن غيره، وهو ما لا
يُعقل إلا بعد الوجود، فيلزم الدور. والثانية أن التصور حصول الماهية في
النفس وهو حدوث وجود في وجود، فيجتمع المثلان. والحقيقة أن بداهة الوجود لا
تحتاج إلى حججٍ صوريةٍ منطقيةٍ جدلية، فالوجود تجربةٌ حية وليس تصوُّرًا.
٣٣ ويبدو أن مبحث الوجود والعدم عند القدماء ليس نظريةً مستقلة
للوجود، بل جزء من مبحث التصورات ويطغى أحيانًا عليه. وهنا يكون الوجود
جزءًا من المعرفة لم يستقل عنها، ولكنها المعرفة المنطقية، وكأن المنطق هو
الوسط بين المعرفة والوجود، وهو الذي يضمهما معًا. فتصور الوجود بديهي لأنه
جزء من الوجود الشخصي المتصوَّر بداهةً، ولأن التصديق البديهي بأن النفي
والإثبات لا يجتمعان قائم على تصور الوجود والعدم. فتصورهما أوَّلًا
بالبداهة، وبداهة التصديق متوقفة على العلم بالجزء؛ لذلك تحتاج إلى دليل.
٣٤ وإذا كان الوجود مبحثًا من مباحث التصور، وكان تصورًا
بديهيًّا، فإن الحكم عليه يكون كسبيًّا استدلاليًّا.
٣٥ ولا يمنع كون الوجود بديهيًّا ثم الاختلاف في كونه جزئيًّا أم
كليًّا، واجبًا أو ممكنًا، عرَضًا أو لا عرضًا، جوهرًا أو لا جوهرًا،
موجودًا أو اعتباريًّا، لا تحقق له في الأعيان أو واسطة، وأفراده عين
الماهيات أو زائدة؛ لأن هذه الاختلافات تحليل العقل لتجربة الوجود البديهي.
ويمكن تجاوز هذه الاختلافات بتحليل العقل للموضوعات ذاتها واتفاق نتائج هذا
التحليل مع تجارب عديد من الأفراد. وهداية «الله» لا تحل هذه الاختلافات؛
لأنها ليست خطأً أو صوابًا، بل تتناول مستوياتٍ مختلفة من الوجود.
٣٦ ومعظم الأحكام المنطقية على الوجود كتصورٍ بديهي تقوم على
إسقاط مقولاتٍ أخرى مثل الكل والجزء والبسيط والمركب على الوجود لتحديده،
وهي طريقة لا تؤدي إلى شيء بل إلى وضع أشياء ثم نفيها أو إثباتها أو خلق
مشاكل لفظية من نفس النوع المثالي القائم على القسمة العقلية ثم تمرين
العقل المتطهر عليها. ويكون الحكم في النهاية هو اختيارًا لما تقتضيه درجة
الطهارة! الوجود ليس صفة في الشيء بل هو الشيء الذي يحياه الإنسان، يراه
ويحميه، يراه ويحسُّه ويلمسه. والصفة مجرد تجريدٍ عقلي للاستعمال والتعبير.
٣٧ والوجود أيضًا رابطة في القضية تتكون من ثلاثة عناصر، الموضوع
والمحمول والرابطة. ولا تحتاج القضية في اللغة العربية إلى ظهور الرابطة
لأن الوجود متضمن في الموضوع؛ إذ يثبت الوجود بمجرد ثبوت الموضوع، لا يوجد
موضوع إلا وهو موجود، الوجود بداهة وجود لا تحتاج إلى إثبات بفعل الكينونة.
٣٨
ومع ذلك قيل في تعريف الوجود عدة تعريفات منها أنه الثابت بالعين؛
فالوجود رؤيةٌ حسية ومشاهدةٌ عيانية. ومنها: أنه المنقسم إلى فاعل ومنفعل،
أو إلى حادث وقديم، والفاعل والمنفعل غير الحادث والقديم، الأولى: طبيعية،
والثانية: تعتمد على الأولى لإثبات فاعلٍ قديم كما يقتضي بذلك الإيمان.
ومنها: أنه ما يُعلَم ويُخبَر عنه، فالوجود هو المعلوم الذي يأتي علمه عن
طريق الخبر، فالوجود لا يوجد إلا من خلال المعرفة، وهي مرحلة التعبير
والإيصال للآخرين عن طريق اللغة.
وفي حقيقة الأمر أن الوجود لفظٌ مشترك بين عديد من الموجودات، الإنسان
والأشياء والعالم وما يفترضه على أنه «الله»، وذلك لعدة أسباب، منها التردد
في وصف الموجودات به وعدم الجزم في الاستعمال؛ مما يوحي بأنه يفيدها
جميعًا. كما يُقال على الواجب والممكن والجوهر والعرض لاشتراك في صفةٍ
واحدة هي الوجود أكثر من اشتراك لفظ العين للعين والبئر. وكما أن العدم
مفهومٌ واحد لا تمايز فيه فكذلك الوجود. والاشتراك قضيةٌ ضرورية إذ إننا
نعلم بالضرورة الشركة بين الموجودات، وأن نفي الاشتراك يثبت الاشتراك لأن
تصور مفهوم واحد غير مشترك يلزم إثبات ذلك في كل موجود، ولا يجوز إثبات
دعوى عامة في كل موجود على حدة ولو لم يكن مشتركًا لما تميز الواجب عن
الممكن؛ فالتمايز يعني الاشتراك بقدر ما يعني الاختلاف.
٣٩ وبالتالي فالإنسان موجود، والشيء موجود، والعالم موجود،
و«الله» موجود باشتراك الاسم. ويكون السؤال: كيف تبدأ تجربة الوجود وتصوره؟
لا ريب أن الأشياء لا تعي الوجود. و«الله» لا يتحدث عن نفسه إلا من خلال
الوحي؛ أي اللغة وبالتالي لزم فهمه وتفسيره ابتداءً من الوعي الإنساني.
الإنسان وحده إذن هو الموجود حقيقة وكل ما سواه موجود بالمجاز. وهو
المعنيُّ الأوَّل باللفظ ثم يطلق الوجود على كل شيءٍ آخر سواء العالم أم
«الله» قياسًا على وجود الإنسان.
وقد انتبه لذلك القدماء عندما قرروا أن الوجود أيضًا لفظٌ مشترك أو
متواطئ أو مُشكِّك. فالوجود قد يكون عينيًّا أو ذهنيًّا، خطيًّا أو
لفظيًّا. الوجود العيني وجود مُتأصِّل وهو حقيقة الشيء، والثاني غير متأصل
بمنزلة الظل من الجسم؛ أي صورة الشيء. والآخران مجازيان يكون الوجود بهما
اسم الشيء وصورة اسمه والكل لاحق على السابق. فالوجود يطلق على الشيء وعلى
الصورة الذهنية. وهو لفظٌ منطوق وكلمةٌ مكتوبة؛ فالاشتراك واضح في هذه
المعاني الأربعة للفظ الوجود.
٤٠ ثم تأتي بعد ذلك عاطفة التأليه لتجعل وجود الله سابقًا على كل
هذه الموجودات دون تحديدٍ مسبق لمعنى اللفظ هل حصل الوجود العيني أم الذهني
أم الخطي أم اللفظي. أي إن المتكلم بعد أن ميَّز الاشتراك في اللفظ تمييزًا
علميًّا دقيقًا عاد واستعمل علمه من أجل المزايدة «بالله» على العلم،
واعتبار «الله» فوق قسمة العلماء لا يدخل في أحدها. وتحدث هذه المزايدة
عادةً في الشروح على المتون وفي الحواشي على الشروح؛ لأن صاحب المتن يضع
العلم عن طريق القسمة العقلية، والشارح أو صاحب الحاشية ليس أمامه إلا
المزايدة عليها بعواطف التأليه التي تظهر في غياب العلم والتحليل والقسمة
العقلية المحكمة.
٤١ ولا يعني الاشتراك الاتحاد في الوجود كما هو الحال في نظريات
الحلول والاتحاد ووحدة الوجود عند الصوفية، بل يعني مجرد الاشتراك في اللفظ
ثم حدوث الخلط في المعنى ثم دخول عواطف التأليه للفصل في هذا الخلط وإعطاء
الأدنى للإنسان وللعالم وتشخيص الأعلى في «الله».
٤٢ ومع ذلك فإن ظهور الوجود كمفهوم مشترك هو بداية لإدخال تحليلات
اللغة مع الفكر والوجود، وأن معظم الخلط يقع بسبب هذا الاشتراك اللفظي في
الماهية؛ فالوجود يحكم عليه بالإثبات والنفي ويمكن تقسيمه إلى واجب وممكن
أو جوهر وعرض. ويخشى من ذلك على الماهية التي هي أساس الحكمة والقسمة وعلى
زحزحتها عن الوجود.
٤٣ ويصعب حينئذٍ التفرقة بين الاشتراك اللفظي والاشتراك المعنوي
لأن الاستعمال والجدل يجعلان الاشتراك اللفظي يقود حتمًا إلى الاشتراك المعنوي.
٤٤ ويصعب جعل الوجود حقيقة واحدة تختلف بالإضافات والقيود
والاعتماد على تمايز الماهيات لأن اللغة قادرة على إحداث هذا الاشتراك؛ فلا
سبيل لنا إلى المعاني المتميزة إلا من خلال اللغة المشتركة. ولما كان
الموجود معنًى زائدًا على الماهية كان الاتفاق بالوجود والاختلاف بالماهية.
الوجود أعم وأشمل وأقرب إلى الأذهان وفهم الناس عن الماهية؛ ومِنْ ثَمَّ
فلا مناص من اشتراك اللفظ، ولا يقدر على التمييز إلا الحكماء!
(١-٦) هل الوجود في الذهن أم في الواقع؟
أثبت الحكماء الوجود الذهني؛ لأنهم فلاسفة يجعلون العقل هو الوجود
ويعتمدون في ذلك على عدة حجج، منها أننا نتصور ما لا وجود له في الخارج
ونحكم عليه بأحكامٍ ثبوتية مثل الاستحالة والعدم، وأن المفهومات كلية
والموجودات في الخارج شخصيةٌ جزئية، ومِنْ ثَمَّ فالكليات تتعلق
بالموجودات، وأنه لولا الوجود الذهني لما أمكن أخذ القضية الحقيقية للموضوع
وهي الكلية الموجبة أو إعطاؤها أية أهمية. وقد نفى المتكلمون الوجود الذهني
لسببين: الأوَّل أن الوجود الذهني يجعل الدهن قابلًا للحرارة وللبرودة،
والثاني أن حصول حقائق في الذهن مما لا يُعقل؛ فهي كلها اعتبارات ذاتية
خالصة لا تصف الوجود في شيء.
٤٥ وكثيرًا ما نتصوَّر ما لا وجود له.
٤٦ كان الهدف من التمييز بين الوجود العيني والوجود الذهني عند
المتكلمين نفي الوجود الذهني والاعتراف بالوجود العيني وحده على أنه الوجود
الحقيقي. ويشارك الفقهاءُ المتكلمين في هذا الإنكار وأنه لا يوجد متحقِّقًا
في الخارج إلا الأشياء، وأن التصورات والمبادئ والكليات لا توجد إلا في
الأذهان دون العيان. كما يدل على أن البناء العقلي الكلامي أو الفلسفي كله
لا وجود له؛ إذ لا يوجد إلا الأشياء المتحققة في الخارج. بل إن نظرية العلم
كلها أو نظرية الوجود هما بحثان في المبادئ العامة والأمور الكلية وهي
بحوثٌ منهجية صرفة وليست إثباتًا لوجودٍ عيني.
٤٧
كيف يتم إذن الانتقال من المعرفة إلى الوجود، كيف يتم الخروج من عالم
الأذهان إلى عالم الأعيان؟ إذا كان هناك دليل على حدث العالم، فهل المدلول
حدث العالم بالفعل أم العلم بحدث العالم؟ والذي لا يخرج من العلم بالحدث
إلى المحدث نفسه لا تنقسم المدلولات لديه إلى وجود وعدم أو حدوث وقدم.
٤٨ والحقيقة أن هذه هي قضية المثال والواقع. المثال في الذهن
كتصور ونموذج وكبناءٍ مثالي للعالم، ولا يوجد في الواقع إلا بعد تغيير
الواقع بالفعل، وتحويل المثال إلى بناء في العالم. فهي ليست مشكلة
«الكليات»، المشكلة الأفلاطونية القديمة، في الذهن أم في الواقع ولكنها
مشكلة النظام المثالي للعالم قبل التحقق أو بعده. الخلاف إذن بين المتكلمين
والحكماء لا معنى له، ومخاطر إثبات الوجود الذهني لا خوف منها. فلا يعني
ذلك الشرك، بل يعني إثبات المثال فارغًا من أي مضمون، والإبقاء عليه في
الذهن دون عملية التحقُّق. ليس الخوف على التوحيد من الشرك بل الخوف عليه
من العجز والموت والصورية، بقاء المثال بلا تحقق، وبقاء الوضع القائم بلا
تغيير.
(٢) الماهية
لم يَضعِ القدماء الماهيةَ في مقابل الوجود، بل وضعوها مستقلَّةً بمفردها
وكأنها مثال. وقد غلب على البحث طابعُ التجريد، وكأننا في علوم الحكمة الخالصة
وليس مجرَّد مقدمة نظرية في علم أصول الدين.
٤٩ وماهية الشيء حقيقتُه، هي أصله وجوهره وأساسه وما به قوامُه وما
يقوم عليه وجودُه. الوجودُ بلا ماهية عدمٌ، وجودٌ هشٌّ لا أساسَ له. باعتبار
التحقُّق تُسَمَّى ذاتًا وحقيقة، وباعتبار التشخُّص تُسَمَّى هُوية. تغاير
عوارضها اللازمة والمفارقة وتتمايز عمَّا عداها. وإن كانت معانٍ في الشعور فهي
متمايزة فيه. إن كانت مطْلَقة تُسَمَّى مجردًا، وإن كانت مشخصة تُسَمَّى مخلوطة
أو مشخصة. تكون مجرَّدة إن لم تكن متحقَّقة في الخارج وغير متعيَّنة، وتكون
مخلوطة إذا زِيد عليها شيء. وبالتالي فهناك إمكانيةُ التمييز بين الصوري
والمادي في الماهيات.
٥٠ ومِنْ ثَمَّ تُخطئ «نظرية المُثُل» في اعتبار الماهيات المجرَّدة
موجودة في العالم الخارجي.
٥١
(٢-١) الماهية البسيطة والماهية المركَّبة
والماهية إمَّا بسيطة، أو مركَّبة؛ وذلك لأن الأشياء إمَّا عقلية لا
يتمايز أجزاؤها في الخارج أو خارجية يتمايز أجزاؤها في الخارج؛ فالماهيات
العقلية بسيطة، والماهيات الخارجية مركَّبة. وينتهي المركَّب إلى البسيط؛
فالبسيط أصل المركَّب. الماهيات البسيطة هي المعاني البديهية والمركَّبة هي
الاستدلالات والقياسات والإحصائيات. وهنا تبدو الماهيات معرفيةً خالصة،
ماهيات عقلية ذات وجود معرفي.
٥٢ ولكن تنقسم الماهيات أيضًا على نحوٍ كميٍّ مادي. فإذا كانت
الماهية المركَّبة من أجزاء فتنقسم الأجزاء إلى متداخلة في العقل كالأجناس
والفصول إن صدقت الأجزاء بعضها مع بعض، وإلا تكون متباينة في الخارج.
والمتداخلة إذا صدق كلٌّ منها على الآخر فهما متساويان، وإلا فبينهما عموم
وخصوص، إمَّا مطلقًا وإمَّا من وجهٍ دون وجه. وأمَّا المتباينة فإمَّا أن
يتبيَّن الشيء مع علةٍ أو معلول أو ما ليس كذلك. والأول إمَّا مع الفاعل أو
القابل أو الصورة أو الغاية. والثاني مثل الخالق، والثالث إمَّا متشابهة أو
متخالفة إمَّا عقلًا أو خارجًا! فالأشياء بعضها بديهيٌّ وبعضها وجوديٌّ.
وهذه كلها أبحاثٌ رياضية هندسية منطقية وجودية أصولية صورية خالصة دون أن
تصدق على مادة معينة، ولا هدف لها إلا تحليل العقل البسيط ودون أن تكون
هناك خصوصية كمدخلٍ خاصٍّ لعلم أصول الدين وموضوع العلم فيه. وكل مقولتين
متعارضتان؛ فالتداخل عكس التباين في الأجزاء. والتساوي؛ أي وضع الجزأين على
مستوًى أفقيٍّ واحدٍ عكس العموم والخصوص؛ أي وضع الجزأين على مستوًى رأسيٍّ
بين الأعلى والأدنى. والتباين يؤدي إلى العلل الأربع المعروفة في الطبيعيات
عند الحكماء. أمَّا التشابه، فإنه يكون في الذهن أو في الواقع. وقد تنقسم
الماهية المركَّبة على نحوٍ وجوديٍّ خالصٍ فتكون إمَّا وجودية أو لا
وجودية، وتكون الوجودية إمَّا حقيقية أو إضافية ممتزجة. والثاني مثل القديم
فهو موجودٌ لا أوَّلَ له. وهنا يتضح أن القسمة تُفسِح المجالَ إلى وجود
«الله» كموضوع للعلم. وبالتالي تكون أقربَ إلى التمرينات العقلية أو
القوالب الذهنية التي ستتحكَّم في الفكر الديني.
٥٣ والمركَّب إمَّا ذاتٌ أو صفة، وتكون الماهية مركَّبة من أجزاء
إذا كانت مشارِكةً لغيرها في ذاتيٍّ ومخالفةً لذاتيٍّ آخرَ وليس لعارض؛
فالماهية تَقْبل الشركة دون التعيين. الماهية لا تأبى الشركة، في حين أن
الشخص يأباها، فهي فيه زائد وهو التشخُّص. ونسبة الماهية إلى الشخصيات
كنسبة الجنس إلى الفصول. والتعيين وجودٌ في الخارج، والماهية لا تتحقَّق
عيانيًّا في الخارج، ولكنها تظل غيرَ معيَّنة في الذهن عند الحكماء. أمَّا
المتكلِّمون فيجعلون التعيُّن أمرًا عدميًّا؛ لأن الماهيات لا تتعيَّن في
الخارج حفاظًا على التوحيد ولإنكار الكليَّات في الخارج، وبالتالي يَفصل
المتكلمون بين الصوري والمادي، في حين يجعل الحكماء بينهما واسطةً هو التحقُّق.
٥٤ والحقيقة أن كل هذه التقسيمات لا تشير إلى أية تجربةٍ حيَّةٍ
خرجت منها يمكن التحقُّق من هدفها بالرجوع إليها، وبالتالي ظلَّت صوريةً
خالصةً أقربَ إلى المنطق الوجودي الصوري الخالص. قسمةُ الماهية إذن أقربُ
إلى الخطاب القائم على نفسه، يضعُ مسائلَ ثم يَحُلُّها بالقسمة، فِكرٌ يقوم
على نفسه لا على وقائعَ أو تجارِب، فكرٌ صوريٌّ بلا مضمون، وتحليلٌ عقليٌّ
لروح التطهُّر التي تُسيِّر الخطاب وتحدِّد مشاكله وتختار حلولها. الماهية
أطهرُ من الوجود؛ ولذلك فهي الكلي وهو الجزئي، هي البسيط وهو المركَّب، هي
العام وهو الخاص، هي الأوَّل وهو الثاني. ولكن أحيانًا تظهر المقولات
الإنسانية من ثنايا الخطاب الصوري، مثل لفظ: «حاجة كل ماهية إلى أجزائها أو
كل نوع إلى أجناسه.» فهذه لغةٌ وجدانية تدل على أن المقدمات النظرية بالرغم
من بلوغها مستوًى عاليًا من التجريد، إلا أنها ما زالت تكشف عن الأساس
الوجداني في الإنسان، وهو الأساس الذي يقوم عليه الفكر الديني عامةً
والأشعرية خاصة.
(٢-٢) هل الوجود نفس الماهية أم جزؤها أم زائد عليها؟
وهنا يظهر التقابل بين الوجود
والماهية بعد أن كان كلٌّ منهما معروضًا بمفرده. وتظهر علاقة التقابل في
صورتي الهُوية والاختلاف أو الكل والجزء، والأولى هي الأغلب. وقد طرح
القدماء إجاباتٍ ثلاثة: الأولى أن الوجود نفس الماهية في الكل؛ لأنه لو كان
زائدًا لكانت الماهية غيرَ موجودة نظرًا لعلاقة الهوية بينهما. والحقيقة أن
ذلك قائم على افتراض أن الماهية قائمة بالوجود وهو المطلوب إثباته، كما أن
الدليل يقوم على برهان الخلف، وهو دليل سلبي خالص. أمَّا قيام الصفة
الثبوتية بالشيء كفرعٍ لوجوده في نفسه ضرورة، وبالتالي لو كان الوجود
زائدًا على الماهية لسبقه وجودٌ آخرُ ولزم التسلسل، فتلك حُجَّة تقوم على
نفس الافتراض السابق، وعلى برهان الخلف، وعلى افتراضِ أن كل وجودٍ لا بد له
من علَّةٍ لوجوده، وهو طابع الفكر الديني الإيماني الذي يريد التقهقر إلى
الوراء لإثباتِ علةٍ أولى لا تسبقها علةٌ أخرى حتى يستريح الضمير الديني
ويرتكن إلى بدايةٍ يقينية تعطيه الثقة بالبداية الأولى التي عليها يقوم كل
شيء بعد ذلك كالبنيان الراسخ. لا يعني ضَعفُ هاتين الحُجَّتين رفضَ
الافتراضِ الأوَّل، بل يعني أن التدليل عليه لا يُثبِت شيئًا، ويظل
الافتراض قائمًا بلا حُجَّة أو دليل.
٥٥ والثاني أن الوجود نفس الماهية في الواجب وإن زاد في الممكن؛
لأنه لو كان الوجود زائدًا على الماهية في الواجب لكان محتاجًا، والمحتاج
إلى الغير ممكنٌ ويكون معلولًا لغيره، ولا يكون واجبًا. والحقيقة أن هذه
حُجَّةٌ وجدانيةٌ خالصةٌ بقدْرِ ما كانت الحُجج الأولى جدليةً صِرْفة؛ فلفظ
«الاحتياج» لفظٌ ديني يعبِّر عن عاطفة دينية هي الإحساس بالنقص والعوز أمام
الكامل الغني، ثم إبعاد هذا الوضع النفسي المؤلم رغبةً في التنزيه وبُعدًا
عن الاحتياج؛ لأن الاحتياج نقصٌ والإنسان يبغي الكمال، فيقتطع الكمال من
نفسه ويجرِّده ثم يشخِّصه في الواجب الذي يمتد فيه الوجود بالماهية في
مقابل الممكِن الذي هو نحن في عالم الاحتياج للأغيار؛ فبقدْرِ ما نحط من
النفس نُعلي من الآخر، وبقدْرِ ما نتَّهم الذات نبرِّئ الغير.
٥٦ والثالث أن الوجود زائدٌ على الماهية في الواجب وفي الممكن.
الوجود زائد في الممكن؛ لأن الوجود يتمايز عن الماهية في الإنسان؛ فالمثال
لم يتحقَّق بعدُ، والواقع لم يتحوَّل بعدُ مثالًا. الماهية بمفردها تَقبل
العدمَ ومع الوجود تأباه، مما يدل على بقاء المثال حتى ولو لم يكن هناك
واقع. وهناك ماهيات معقولة مجرَّدة مثل المعقولات الرياضية لا وجودَ لها في
الواقع ويستحيل التعريف في حالة التوحيد بينهما، وإلا كان المحمول والموضوع
شيئًا واحدًا. وإن لم يكن الوجود زائدًا على الماهية لكان نفسها أو جزءها.
والأول باطل لأنه مشترك دونها والثاني باطل لأن الجزء ليس أعمَّ من
الذاتيات. والوجود زائد على الماهية في الواجب؛ فلو لم يكن الوجود زائدًا
على الماهية فيه لكان مجرَّدًا بلا وجود. ولو كان مجرَّدًا لكان علَّة نفسه
ويلزم التسلسل، ويستحيل التجرُّد أن يكون مبدأ الممكنات. والحقيقة أن هذه
الحُجج الصورية كلها إنما تقوم اعتمادًا على قياس الغائب على الشاهد؛ أي
قياس الواجب على الممكن عن طريق القلب؛ أي إنها مواقفُ إنسانية خالصة تبدأ
بتحليل الممكن الحسي المادي، ثم تقبله فينتج وصف الواجب عن طريق الضد؛
فبالرغم من هذه الصورية في التحليل إلا أن هناك تجارِبَ شعوريةً قائمةً
وراءها أسقطها التحليل من الحساب. فإذا كان الوجود تجربةً حيةً فالماهية هي
جوهر الوجود وأساسه. وجوهرُ الوجودِ رسالتُه ودعوتُه التي يحقِّقها. وهي
متميزة عن الوجود في البداية هذا التمايز بين المثال والواقع. هي سبب
الحياة والباعث ودفعُ الواقعِ إلى اللحاق بالمثال، وتحقيق المثال في
الواقع. الوجود هو الماهية بمعنى أن الوجود ليس هو الجسم أو الأعراض بل
جوهره؛ أي الرسالة. الماهية هي النطق والفكر والوعي والرسالة والحركة
والإمكانية والحرية والتحقُّق، يمكن أن تتوحَّد مع الوجود. ولكن هذا
التوحيد بين الوجود والماهية توحيد مشروع أو مشروع توحيد، توحيد مستقبلي
يتحوَّل إلى توحيدٍ بالفعل في الحاضر بعملية التحقُّق وفي مسار التاريخ.
وحدة الوجود والماهية غايةٌ تتحقق في المستقبل ابتداء من الحاضر كإمكانية
ومشروع. أمَّا التمييز بين الواجب والممكن، فالممكن هو وجودي، والواجب هو
ما ينبغي أن أكون عليه، وبالتالي يكون الممكن والواجب مرحلتين من الوجود
الإنساني وحالتين له. في الممكن يتمايز الوجود عن الماهية كواقع. وفي
الواجب يتَّحد الوجود بالماهية كمثال، الأوَّل في البداية والثاني في
النهاية. ولكن الواجب والممكن ليسا موجودَين مستقلَّين أحدهما من الآخر،
الأوَّل نسبي والثاني مطلق، وبلغة القدماء الأوَّل «حادث» والثاني «قديم»
بمعنى «جديد»؛ أي ما سيحدث في المستقبل وما سيقع في التاريخ. الماهية زائدة
على الوجود، والوجود زائد على الماهية في البداية كنوعٍ من الفصام في
الوجود الإنساني بين المثال والواقع، ولكن يتحوَّل هذا الرتق إلى عملية
توحيد، فتتحول الماهية إلى وجودٍ بالفعل، ويتحوَّل الوجود إلى ماهيةٍ
بالفعل. الماهية نفسها عملية تخلق لوجودها. والوجود نفسه عملية إيجاد
لماهيته وإظهار لمكمونه، وبالتالي يمكن تجاوز الطرفَين المتقابلَين
والحلَّين المتعارضَين، بل والحلول الوسط، بالرجوع إلى تجربة الوجود
الإنساني الحية السابقة على القسمة. ليست مذاهب القدماء إذن متعارضة
متضاربة متناقضة، بل تصف مراحل مختلفة لعملية التحقُّق، وحالات وجدانية
متباينة لهذه العملية كما يقول الصوفية. فلا يوجد خطأ مذهب وصحة آخر. كل
مذهب يصف مرحلة تحقق وحالتها الوجدانية. وبالتالي لا يمكن إثبات الصواب
والخطأ النظريين في المذاهب القديمة بحجج صورية منطقية جدلية، بل بتحديد
لحظتها في التجارب الشعورية.
٥٧
(٢-٣) هل الماهيات مجعولة يحتاج بعضها البعض؟
وإحساسًا من القدماء بهذه العملية طرحوا سؤالين: الأوَّل هل الماهيات
مجعولة؟ والثاني هل تحتاج الماهيات أو أجزاء الماهيات بعضها إلى البعض
الآخر؟ والسؤال الأوَّل يقوم على افتراض الجعل؛ أي النشأة والخلق والتحقُّق
والجهد والفاعلية. و«الجعولية» تعني عند القدماء الاحتياج إلى الفاعل وإلى
الغير. والمذاهب القديمة ثلاثة: الأوَّل الماهيات غير مجعولة مطلقًا كرد
فعل على النشأة والمجعولية حرصًا على المثال واستقلاله كإمكانيةٍ خالصة
وكهدفٍ أسمى، وكغاية قصوى، وهو المذهب الذي يعطي الأولوية للتأمُّل على
الفعل، وللنظر على العمل. والثاني الماهيات مجعولة مطلقًا وقد كان الدافع
عند القدماء أن «الله» هو خالق كل شيء، الوجود والماهية على السواء، في حين
أن المجعولية هو انكشاف الماهيات في الشعور أو تحقيقها كإمكانيةٍ وكمطلب
ومثال. فالماهية طيِّعة للفاعلية والتأثير، بمعنى صيرورتها من حال الإمكان
إلى حال التحقُّق، من حال الماهية إلى حال الوجود. وهذا هو أيضًا معنى
الاحتياج؛ فالاحتياج من لوازم الوجود. والمذهب الثالث يجعل الماهيات
المركَّبة مجعولة بخلاف الماهيات البسيطة بدافع التوسُّط بين المذهبين
السابقين. ولكن حتى إذا كانت البسيطة مثل البديهيات لا جهد فيها ولا صنعة
فإن انكشافها في الشعور أيضًا يجعلها معطاة منها؛ ففيها قدْرٌ من
المجعولية، وإن كان أقل من الماهيات المركَّبة.
٥٨
أمَّا السؤال الثاني عن حاجة الماهيات أو أجزائها بعضها البعض الآخر،
فإنما هو ناتج عن المجعولية وكأنها المذهب السائد بين نفي الحكماء
والمعتزلة وإثبات الأشعرية. ولكن دوافع المجعولية والاحتياج في علم
الأشعرية تقوم على استبعاد الدور وعلى ضرورة الانتهاء إلى حاجةٍ من غير
محتاج، فتكون العلاقة بين الماهيات علاقة علةٍ بمعلول، وكامل بناقص،
واستقلال وتبعية، مما يخفي في ثناياه علاقةَ الفكر الديني بين الأعلى
والأدنى أو بين «الله» والعالم، حتى ولو تمَّت صياغتها على نحوٍ منطقيٍّ
بالكليات الخمس، حاجة الفصل إلى الجنس، وعدم حاجة الجنس إلى الفصل،
واستحالة أن يكون الجنس جنسًا للفصل، واستحالة تعدُّد الفصل القريب،
واستحالة أن يقوم فصلٌ إلا بنوع واحد أو جنس واحد. وفي حقيقة الأمر تنشأ
هذه العلاقة من الموقف الإنساني ومن طبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة
التي يسودها الأعلى والأدنى، الرئيس والمرءوس، الحاكم والمحكوم.
٥٩
(٣) الوجوب والإمكان والاستحالة
والقسمة هنا ثلاثية صريحة: الوجوب،
والإمكان، والاستحالة؛ فقد كان الوجود والعدم قسمة ثنائية صريحة وثلاثية مقنعة
نظرًا لتوسُّط الحال. وكانت الماهية مفهومًا واحدًا صريحًا وقسمة ثنائية مقنعة؛
فقد كانت طرفًا في ثنائية الوجود والماهية. والبنية الثلاثية واحدة. فإذا كان
الحال هو الانتقال من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى الوجود، فإن الإمكان هو
الانتقال من الوجوب إلى الاستحالة أو من الاستحالة إلى الوجوب؛ فالوجوب في
مقابل الاستحالة والإمكان وسط. وكثيرًا ما تُوصف باسم الفعل: الوجوب والإمكان
والاستحالة أو اسم الفاعل: الواجب والممكن والمستحيل. والاختيار الأوَّل أكثر
تجريدًا وصوريةً من الثاني؛ لأنه يضم مناطقَ عامة ولا يشير إلى موجوداتٍ
بعينها. كما تختلف الألفاظ وتترادف؛ فالواجب هو الضروري، والممكن هو الجائز،
والمستحيل هو الممتنع، ولكن الثلاثي الأوَّل أكثرُ تجريدًا، ومِن ثَمَّ فهو عند
الحكماء أظهر. أمَّا الثلاثي الثاني: الضروري والجائز والممتنع، فهو أكثر
حسيةً، ومِن ثَمَّ فهو عند المتكلمين أظهر باستثناء علم الكلام المتأخر الذي
تبنَّى مفاهيم الحكماء. أمَّا من حيث ترتيب المفاهيم الثلاثة، فعادةً ما يأتي
الطرف المثبت أوَّلًا، ثم الوسط ثانيًا، ثم الطرف المنفي ثالثًا. الطرفان في
الطرفين، والوسط في الوسط، مما يدل على هذا الانتقال من الوسط إلى الطرفين
انتقالًا تدريجيًّا طبيعيًّا. وبقدْرِ ما أفاض القدماء في الوجوب والإمكان،
فإنهم لم يتكلموا في الاستحالة إلا قياسًا على المفهومين الآخرين الوجوب
والإمكان على عكس إفاضتهم في العدم وهو على نفس المستوى مع الاستحالة. مع أن
الاستحالة يمكن أن تكون مناسبة لتحدي القدرة الإنسانية على الفعل وتجاوز
العقبات وإعطاء الثقة بالنفس على أنه لا مستحيل أمام العزم والإرادة والدوافع
والبواعث وعلى قدرة الإنسان على الإيجاب؛ أي تحويل الإمكان إلى وجوب، وتحويل
الاستحالة إلى إمكان.
(٣-١) أحكام العقل الثلاثة
وقد بدأت أحكام العقل الثلاثة في
نظرية العلم كأحكامٍ للعقل الخالص.
٦٠ ثم انتقلت من العقل إلى الوجود مع التوحيد بينهما، حتى إنه
ليصعب معرفة هل هي أحكام عقلية كما كانت في البداية أم مناطق وجود. ثم رقيت
ثالثًا في علم الكلام المتأخر في مرحلة العقائد الإيمانية إلى أحكامٍ عقلية
كما بدأت، وهو السائد حتى الآن؛ أي نظرية في الحكم العقلي على الوجود.
وتدخل مادة التوحيد كلها في هذه النظرية، ما يجب وما يمكن وما يستحيل في حق
«مولانا»، وما يجب وما يستحيل وما يجوز في حق الرسل، وأصبحت
تُستعمل من أجل عدِّ الصفات وسهولة
إحصائها. واستمر الأمر كذلك في الحركات الإصلاحية مع التركيز على القطب
الأوَّل «الله» دون القطب الثاني «الرسول» الذي تحوَّل إلى نظريةٍ عامةٍ في النبوة.
٦١ ثم تضاءلت أحكام العقل الثلاثة أكثرَ فأكثر، وتحوَّلت إلى
مجرَّد دليل عقلي ضِمن مجموعةٍ أخرى من الأدلة الشرعية والعادية. يظهر
الدليل السمعي من جديد كأحد مصادر المعرفة في مواجهة الدليل العقلي،
ويتحوَّل التقابل بين الوجوب والاستحالة إلى التقابل التقليدي القديم بين
العقل والسَّمع كما يتحوَّل الإمكان أو الجواز العقلي إلى تردُّدٍ بين
الدليل العقلي والدليل السمعي.
٦٢ وتدخل نظرية أحكام العقل الثلاثة ضِمن نظريةٍ أعمَّ وهي أقسام
الحكم؛ فالحكم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شرعي وعادي وعقلي. الشرعي
موضوع علم أصول الفقه، والعادي يُعرف
بالتجربة وتَكرارها، والعقلي يُفهم بالعقل المجرَّد من غيرِ تجربةٍ ولا
وضع. ويُسارع الشارح المتأخِّر في الحكم العادي بإعلان الإيمان الأشعري
وجعْل الحكم العادي من فعل إرادةٍ خارجية مباشرة بأن يخلق «الله» الاحتراق
في النار دون أن يكون هناك تأثيرٌ للنار كعلة مباشرة. والحكم العقلي نابعٌ
من العقل، وهو العقل الصوفي وليس العقل الفلسفي، نورٌ يقذفه «الله» تعالى
في القلب، تُدرِك به النفس العلومَ الضرورية والنظرية، محلُّه القلب.
وبالتالي يُنكِر الشُرَّاح المتأخرون عمل العقل التحليلي الاستدلالي نظرًا
لازدواج الأشعرية مع التصوُّف. أمَّا الحكم الشرعي فخطابُ «الله» تعالى
المكلَّف بأفعال المكلَّفين بالطلب أو الإباحة أو الوضع؛ ﻓ «الله» أيضًا
واضعُ الحكم الشرعي. وتعود نظرية الحكم إلى نظرية العلم عند الشرح، فيسقط
الوجود من الحساب. وتعود بعض أقسام العلم مثل الضروري والنظري. فينقسم كلٌّ
من الواجب والممكن والمستحيل إلى ضروري ونظري، وبالتالي تكون الأقسام ستة
وتتفاوت الأمثلة بين الأجرام السماوية والمفاهيم الرياضية.
٦٣ كما ينقسم كلُّ حكمٍ إلى لِذَاتِه ولغيره. هناك واجب لِذَاته
وواجب لغيره. والواجب لِذَاته ينقسم إلى مطلَق ومقيَّد؛ فالواجب الذاتي
المطلق مثل ذات «الله» وصفاته، والمقيَّد، مثل التحيُّز للجِرم. والواجب
لغيره كوجود شيء من الممكنات في زمن علم «الله» ووقوعه فيه. كما ينقسم
المستحيل إلى لِذَاته ولغيره. والمستحيل لِذَاته إلى مطلَق ومقيَّد.
فالمستحيل لِذَاته المطلق كالشريك «لله» تعالى، والمقيَّد كعدم تحيُّز
الجِرم. والمستحيل لغيره كوجود شيء من الممكنات في زمن علم «الله» وعدم
وقوعه. وظيفة هاتين القسمتين لِذَاته ولغيره، والمطلَق والمقيَّد، لإفساح
المجال لذات «الله» وصفاته، وهو الموضوع الأوَّل بعد نظرية الوجود. وواضح
فيها دخولُ تحيُّز الجِرم مع «الله» على نفس مستوى التحليل والتماثل
مشابهةً واختلافًا، وإن كان الله في المطلَق وتحيُّز الجِرم في المقيَّد
وكأن الطبيعيات تأبى إلا أن تفرض نفسها على الإلهيات، وكأن الإلهيات تظل
خاوية أو معلَّقة في الهواء دون ارتكازها على الطبيعيات.
٦٤
والأحكام الثلاثة أمورٌ اعتبارية صِرْفة لا وجودَ لها إلا في الذهن،
مقولات للشعور، ومفاهيم للعقل، وعلى أقصى تقدير مناطقُ صورية يضعها الشعور
لتحليل الوجود. وقد حاول البعض جعْلها أمورًا وجوديةً والقفز من فوق العقل
إلى الطبيعة، ومن داخل الشعور إلى العالم الخارجي؛ لأن الوجوب واجب بنفسه
وليس باعتبار العقل؛ ولأن نقيضه اللاوجوب وهو عدمي، وبالتالي فهو وجودي
وأنه لو كان إمكانه عدميًّا لم يكن الممكن ممكنًا. والحقيقة أنها أمورٌ
اعتبارية صِرْفة لا وجودَ لها في الخارج إلا من حيث افتراض الدليل
الأنطولوجي وهو افتراض إيماني صرْف، وانتقالٌ من الفكر إلى الوجود قفزًا
وافتراضًا بناءً على معطيات الإيمان ومطلب النفس وحديث الروح ومناجاة «الله».
٦٥ وبالتالي فهي لا تُثبِت شيئًا بالفعل، ومحاولة استعمالها بعد
ذلك لإثبات وجود «الله» لا تُثبِت شيئًا بالفعل، ولا تُثبِت إلا موجوداتٍ
ذهنيةً خالصة. ولا سبيل إلى تحقُّقها في الخارج إلا كمشروعٍ يتحقَّق بالفعل
من خلال الجهد. والخارج قابلٌ للتشكُّل طبقًا لهذه المقولات الذهنية الأربع
حتى يتحد معها تمامًا عندما تتحقق هي بالفعل، وبالتالي يتم التوحيد بين
العقل والوجود. هي أقرب إلى المطلب النفسي أو الأخلاقي أو النزوع النفسي
منها إلى التصوُّر البديهي أو المقولة المنطقية. وبهذا المعنى تكون أقرب
إلى الوجود كقصد أو اتجاه أو حالة دون أن تكون وجودًا بالفعل إلا بعد
التحقُّق. كما أنها تدل على أحكامٍ قيمة؛ فالواجب أشرفُ من الممكن،
والمستحيل مجرَّدُ سلبٍ للواجب عن طريق القلب وليس له وجودٌ أصلي. ويظهر
ذلك بوضوحٍ في الشروح المتأخرة عندما يخف تحليل العقل وتظهر شدة الانفعال،
وكذلك في الحواشي عندما تخف حدة العقل وتظهر وطأة الانفعال.
٦٦ وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليه كأساسٍ ميتافيزيقي لدليل
الحدوث. وليبقَ دليلُ الحدوث دليلًا بعديًّا خالصًا يعتمد على مقدمات حسية
صرفة. وفي نهاية الأمر تكشف هذه الأحكام الثلاثة إلى علاقة الاستقلال
بالتبعية، وهي علاقة الوجوب بالإمكان؛ فالوجوب استقلال والإمكان تبعية، وهي
بنية العلاقة الاجتماعية على مستوى التجريد والتبرير العقلي الذي يأخذ صيغة الإيمان.
٦٧
(٣-٢) أحكام الوجوب
يصعُب إصدارُ أحكامٍ على الوجوب كمقولةٍ مجرَّدة؛ ومِنْ ثَمَّ كانت معظم
الأحكام على الواجب؛ فالواجب واجبٌ لِذَاته ولا يكون واجبًا بغيره؛ إذ إن
الواجب إمَّا أن يكون ذاتيًّا أو غيريًّا أو وضعيًّا أو وقتيًّا. والواجب
لِذَاته ينافي الواجب لغيره؛ فهو الوجود المستقل الذي لا يحتاج في وجوده
إلى غيره، وهو «واجب الوجود» الذي لا يحتاج في وجوده إلى سببٍ أو مرجَّح
كما يقول الحكماء؛ وبالتالي فهو يمثِّل أعلى درجة من درجات الاستقلال
والاكتفاء الذاتيَّين، كما أنه بسيط ليس مركَّبًا لا في الذهن ولا في
الخارج؛ فالبساطة من صفات المثال؛ لأن الوجود في الخارج محتاج، والمحتاج
ممكن. لا يتركَّب عن غيره، واجبٌ من جميع جهاته؛ لأنه بسيط لا تركيب فيه.
لا يصح عليه العدم. لا يزيد وجوده على ماهيته، بل وجوده عينُ ماهيته
وماهيته عين وجوده؛ لأن الوحدة أكملُ من الكثرة، والهوية أشرفُ من الاختلاف
فليس وجوبه زائدًا على وجوده. ولا يكون مشتركًا بين اثنين لأنه نفس
الماهية، واحد لا يقبل الشركة. يجوز أن تَعرض له صفاتٌ تستلزمها ذاته فيكون
الوجوب الذاتي صفةً لتلك الهوية فقط، وسائرُ النعوتِ واجبة لوجوب تلك
الهُوية، وتكون الوحدةُ صفةً لتلك الهوية. وتبدو هنا إرهاصات الإلهيات
وموضوع العلة بين الذات والصفات والوحدة بينها الاختيار الاعتزالي ابتداءً
من مقدِّمات نظرية أشعرية في نظرية الوجود. وقد برز ذلك في الحركات
الإصلاحية المعاصرة عندما تمَّت المزاوجة بين أحكام الموجودات وصفات
«الله»، وبالتالي لم يَعُد هناك فصل بين نظرية الوجود وموضوع الذات
والصفات. وبعد أن كان واجب الوجود تحليلًا للوجود أصبح حكمًا عقليًّا من
أحكام الذهن ثم واجبًا شرعيًّا وانتقل بذلك التوحيد من الوجود إلى العقل ثم
من العقل إلى الفعل.
٦٨
واجب الوجود هي نقطة البداية في نظرية الوجود وقمَّتها في آنٍ واحد،
والركن الأساسي في التوحيد كما يبدو في موضوع الذات والصفات؛ فهو أقصى ما
وصل إليه علم الكلام من تجريد. يعبر عن التصوُّر المثالي للعالم، وريث
التصور الديني التقليدي، وآخر ما وصل إليه تحوُّل «الثيولوجيا» إلى
«أنطولوجيا». وعلى هذا النحو يُعد بحثًا عقليًّا خالصًا أو تحليلًا
أنطولوجيًّا صوريًّا تعبيرًا عن الطهارة الدينية تعبيرًا عقليًّا مجرَّدًا.
اكتمل الخطاب العقلي المثالي ولم يَعُد يعطي جديدًا أو يتغيَّر تغيُّرًا
نوعيًّا، بل ظل يعبِّر عن التصوُّر الديني للعالم. وبالتالي يمكن الإضافة
في وصف أحكام واجب الوجود كلما اشتد التوتر الديني وازدهرت العواطف دون
خروج على أوصاف الاستقلال الذاتي والبساطة والهُوية والوحدة وكأنها إرهاصات
الوعي الخالص قد بدأت. تقلَّص الفكر الموضوعي وضمُر، وأصبح مرتكنًا كليةً
على الفكر الذاتي الخالص في صورة عقلية مجردة. لم يَعُد هناك موضوعٌ بل
مجرَّد قوالب ذهنية صورية تعبيرًا عن الطهارة العقلية، وبمجموعة من الألفاظ
المختارة القابلة للقسمة الثنائية التي تساعد على التعبير عن هذه الطهارة
بحركةٍ من الأعلى إلى الأدنى أو من الأدنى إلى الأعلى.
٦٩
وفي حقيقة الأمر إن أوصاف واجب الوجود، الاستقلال، والبساطة، والوحدة،
والهُوية، كلها أوصاف المثال الذي يفرض واقعه، ويعبِّر عن مطلب واقتضاء.
وليس افتراضًا أو ملجأً أو ملاذًا أو عونًا أو نصرًا ناتجًا عن ضَعفٍ وعجز
أو كراهية وعدوانية كما هو الحال في الفكر الديني. هو الواجب الذاتي
والإحساس بالأمانة والرسالة والتضحية،
لا يقبل المساومة أو النسبية، وهو لفظ مشترك مما يدل على أنه ليس متفرِّدًا
بالوصف؛ فواجب الوجود في نفس الوقت يعبِّر عن عواطفَ دينيةٍ وأحكام عقلية
ومناطق وجودية وأهداف إنسانية وقوانين تاريخ. ليس واجب الوجود كائنًا
مشخَّصًا يحس ويشعر، يسمع ويرى، يتكلم ويريد، بل هو المثل الإنساني الأعلى
وغاية الإنسانية القصوى، موجود دائمًا كإمكانية ويتحقَّق بالفعل من خلال
الجهد الإنساني؛ فهو موجود في النَّفْس كدافع وباعث واتجاه وقصد، وموجود في
الذهن كتعالٍ وتجاوز ومفارقة، وموجود في الواقع كبناء اجتماعي مثالي
متوحِّد في أمةٍ، وموجود في التاريخ كقانون حركة وتقدُّم.
واجب الوجود تصوُّر أخلاقي اجتماعي سياسي تاريخي، وما الذهن أو الوجود
إلا وسائل تعبير وصياغة أو إطار مرجع وإحالة. الواجب هو الواجب الأخلاقي،
والواجب الأخلاقي هو الواجب العقلي والواجب الأنطولوجي؛ فنظرية القيم هي
أساس نظرية المعرفة ونظرية الوجود. «الإبستمولوجيا» و«الأنطولوجيا» كلاهما
تعبير عن «الأكسيولوجيا». الوجود هو الوجود الخلقي؛ أي نزوع النفس نحو مطلب
وغاية ومثال. كل أحكام واجب الوجود هي في الحقيقة تعبيرٌ عن ضرورة الخير
الأقصى والنفع العام ومصالح أمة وأهدافها القومية المعبِّرة عن الأهداف
الإنسانية جمعاء. هو تعبير عن مطلب نفسي أكثر منه وصفًا لواقعٍ حاضر من أجل
تطويع الواقع للمطلب وتوجيهه بالمثال. ولما كان المطلب قد يتحقق وقد لا
يتحقق فإنه يصبح مشروطًا بالفعل، ويتحوَّل الوجوب إلى إمكانيةٍ محضة ولا
تتحوَّل إلى وجوب إلا بالفعل؛ فالوجود الحقيقي هو الممكن الذي يتحوَّل إلى
واجب. الواجب في البداية ممكن، وفي النهاية واجب وأمام العاجز مستحيل.
الواجب ممكن قد تحقق والمستحيل ممكن امتنع. ولما كان الفعل لا حدودَ له،
فالمستحيل غير واقع.
٧٠
(٣-٣) أحكام الإمكان
وكما كانت أحكام الوجوب هي أحكام الواجب فإن أحكام الإمكان هي أيضًا
أحكام الممكن. والممكن لِذَاته هو الذي لا يلزم من فرض وجوده ولا من فرض
عدمه من حيث هو محال؛ أي أن تعريفه بالإضافة إلى الاستحالة وليس تعريفًا
للممكن لِذَاته؛ فالممكن إحدى لحظات الانتقال إلى الواجب نافيًا المستحيل.
وتقوم أحكامه كلها على لغة الاحتياج؛ فالممكن هو المحتاج إلى سبب. وتصوُّره
ضروري؛ لأن الممكن هو الذي يستوي طرفاه ولا يترجَّح أحدهما إلا بسبب. ويمكن
أن يكون تصوُّره استدلاليًّا؛ إذ إنه يقوم على الترجيح بين المتساويين أو
ابتداءً من الوجود والعدم بلغة الحكماء. والاحتياج هو الحدوث بلغة
المتكلمين أو الإمكان مع الحدوث أو الإمكان بشرط الحدوث. الممكن مفهوم
ميتافيزيقي والحدوث مفهوم طبيعي. لذلك آثر المتكلِّمون بعد ذلك الحديثَ عن
أحكام القديم، وهو الواجب عند الحكماء، وأحكام الحادث وهو الممكن عند
الحكماء، وكأن الفرق بينهم هو فقط في درجة التجريد بين الميتافيزيقا
والفيزيقا، بين ما وراء الطبيعة والطبيعة. ليس أحد طرفي الممكن بأولى من
الآخر لِذَاته نظرًا لضرورة المرجح. يحتاج الممكن إلى علَّة تكون سبب
وجوده. والإمكان لازم للماهية وإلا أصبح ممتنعًا وهو ذو ماهية وأن ماهيته
تحدث من خلال التحقُّق. لا يستغني الممكن في حال بقائه عن المؤثِّر. ولما
كان الممكن أساسًا هو الذي لا يوجد بِذَاته، بل يحتاج في وجوده إلى علَّة
أو سبب فهو تابع غير مستقل، مركَّب غير بسيط، تختلف أجزاؤه ولا يتمتع بهوية
مع ذاته، متعدِّد وليس واحدًا، صفاته إذن مقابِلة لصفات الواجب. لا يتحقق
إلا لعلة أو سبب أو باعث. تحرِّكه الدوافع. تصوَّر القدماء أن علَّته وسببَ
وجودِه من خارجه، وهي من داخله، من طبيعة الفصم فيه وليست مفروضة عليه،
يتحقق بفعله الطبيعي وبتلقائيته وبإرادة حرة كامنة فيه، وليس بفعل الآخر
فيه. بل إن الحركات الإصلاحية الحديثة لم تتخلَّ عن لغة الاحتياج؛ فالممكن
يقتضي الواجب ويحتاج إليه، ولكن الواجب لا يحتاج إلى الممكن ولا يقتضيه.
والرجحان مقولة إنسانية خالصة تعبِّر عن وجود الاحتمال في السلوك وعن حرية
الاختيار ووجوب البواعث على الترجيح. كما أن الحاجة مقولة إنسانية تعبِّر
عن موقفٍ إنساني خالص لأن الطبيعة لا تحتاج.
٧١ والاستغناء مقولة إنسانية؛ فالطبيعة لا تستغني عن شيء ولا
تفتقر إلى شيء. الوجود الإنساني الهش في لحظات الضَّعف والخور وفي أوقات
الهزيمة والعجز هو الذي يحتاج ويفتقر إلى غيره لا إلى ذاته. إن أهم صفة في
الممكن هي الزمان والحركة؛ فالممكن في الحاضر والمستقبل، أمَّا الماضي فقد
تحوَّل إلى واجب، وهو وجوب إنساني خالص، ولا ممكنات خارج الموقف الإنساني.
٧٢ وفي حقيقة الأمر إن علاقة الواجب بالممكن علاقة الاحتياج إنما
تكشف عن طبيعة العلاقات الاجتماعية وبنيتها؛ إذ لا يحتاج السيد إلى العبد
في حين أن العبد يحتاج إلى السيد. لا يحتاج الراعي إلى الرعية في حين تحتاج
الرعية إلى راعٍ، وهي صورة التسلُّط ونموذج القهر. وإذا كانت الممكنات
متعدِّدة والواجب واحد وبالتالي فعلاقة الواجب بالممكن هي علاقة الواحد
بالكثير، علاقة الحاكم بالمحكومين، وهي نفس العلاقة بين «الله» والعالم.
ويكون السؤال إذن: كيف يتغيَّر هذا النمط في العلاقات؟ هل يتغيَّر بتغيُّر
الفكر الديني حتى يتغيَّر الوضع السياسي أم يتغيَّر الوضع السياسي حتى
يتغيَّر الفكر الديني؟
٧٣ وهل صحيح أن السيد لا يحتاج إلى العبد وإلا فمن الذي سيقوم
بالعمل اليدوي وبالإنتاج؟ وهل صحيح أن العبد يحتاج إلى السيد وإلا ففيم
كانت ثورة العبيد؟
ولم يفصِّل القدماء أحكام المستحيل كما فصَّلوا أحكام الواجب والممكن
نظرًا لأن المستحيل كالعدم ليس شيئًا، وبالتالي لا يمكن تحديده إلا إضافة
إلى الواجب والممكن؛ فالمستحيل لِذَاته لا يطرأ عليه وجود؛ لأن العدم من
لوازم ماهيته. والمستحيل لا يوجد لا في الخارج ولا في الذهن. والمستحيل في
حقه «تعالى» ما لا يتصور في العقل وجوده. وفي حقيقة الأمر، المستحيل أيضًا
مقولة إنسانية خالصة من مقولات المنطق واللغة وليس من مقولات الفعل
والسلوك؛ أي إنها مقولة نظرية وليست مقولة عملية؛ فالمستحيل في المعنى
اجتماعُ الضدين؛ إذ إن الضدين لا يجتمعان. والمستحيل في القول هو القول
المتناقض بأن يُقال الإنسان قائم قاعد أو قائم ولا قائم أو أن الإنسان حرٌّ
عبد أو حرٌّ ولا حر. والمستحيل في المعنى والقول هو كل قول لا معنى له وإلا
كان لغو كلام. أمَّا الكذب فليس محالًا كموقف إنساني وإن كان مُحالًا بمعنى
أنه قول متناقض مع الواقع طبقًا لنظرية التطابق. ولكنه لما كان يبدو في
موقف إنساني حي وليس في منطق صوري تجريدي تشابك مع الموقف الإنساني ودخل في
نطاق الرؤى والتأويلات والأهواء والمصالح، وأصبح جزءًا من منطق الاشتباه.
٧٤
(٣-٤) أحكام القديم
وتنتهي كل المباحث الوجودية إلى قسمة الوجود إلى قديم وحادث. وهنا تبدو
نظرية الوجود وكأنها مقدمة للإلهيات أو تعبير عقلي عنها. «الله» هو القديم،
والعالم هو الحادث حتى إنه ليصعُب التمييز بين نظرية الوجود وبين الموضوع
الأوَّل في العلم وهو التوحيد، ويكون دليل الحدوث هو حلقة الاتصال بين
نظرية الوجود وموضوع التوحيد، بل ويتعداها أحيانًا إلى موضوع الإيمان عندما
ينقسم الإيمان أيضًا إلى قديم وحادث، بل وكل شيء إلى قديم وحادث.
٧٥ ولا يوجد انتقال طبيعي من مقولَتي الواجب والممكن إلى مقولَتي
القديم والحادث، وكأن هناك افتراضًا مسبقًا بأنهما شيء واحد يعبِّران عن
عملية شعورية واحدة بلغتَين مختلفتَين: الأولى لغة الميتافيزيقا والثانية
لغة الطبيعة، الأولى لغة الحكماء والثانية لغة المتكلمين، وكأن المتكلمين
كانوا أقربَ إلى علماء الطبيعة من الحكماء.
ويتحدث القدماء عن القديم والحادث لا عن القِدَم والحدوث بدافع تشخيص
المفاهيم حتى تساعدهم في تصوير الذات المشخَّص والحديث عنه. فيجعلون أحكام
القديم اثنين؛ الأوَّل: أنه لا يستند إلى القادر المختار؛ أي إنه لا يتأثر
بالإنسان وحرية أفعاله. لا يؤثِّر فيه شيء، وخارج عن نطاق الحرية الإنسانية
كالعالم والوجود. يتَّصف القديم بأنه مغايرٌ للحرية الإنسانية. أمَّا
الحكماء فإنهم أسندوه إلى الفاعل؛ لأن إيجابه بالذات وليس بالفعل، وهو
تصوُّر يجعل القديم أكثرَ حيوية ونشاطًا نظرًا لاتصافه بالفعل وليس
بالقِدَم. وقد حذا بعض المتكلمين حذو الفلاسفة وجوَّزوا استناد القديم إلى
الموجِد بالتأثير فيه ودوام هذا الأثر. ولكن ما زالت الأغلبية ترى عدم جواز
استناده إلى المختار؛ لأن الاختيار مسبوق بقصد الإيجاد؛ أي إنه مشوب
بالحدوث والإمكان أو بالعدم والاستحالة. ويكون الخلاف في القديم هل هو موجب
أم مختار؟ ولا حرجَ في جعْله مسبوقًا بقصد الاختيار؛ لأن الاختيار هنا
بالذات لا بالزمان. أمَّا عدم جواز استناده إلى الموجب القديم فلأن ذلك
يؤدي إلى الحدوث. وبالتالي يظل السؤال عن القديم، هل هو ضرورة أم حرية؟ وهو
الفرق بين المتكلمين والحكماء بوجه عام.
٧٦
والحكم الثاني للقديم أنه يُوصف به ذات «الله» تعالى اتفاقًا عند
الأشاعرة. وأنكره المعتزلة لفظًا وقالوا به معنًى؛ فالقول بالقِدَم مشابهٌ
لقول النصارى في إثبات أقانيم ثلاثة قديمة: العلم والوجود والحياة. وأثبت
المتكلمون سبعة: العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة.
٧٧ وهنا يدخل موضوع قِدَم الصفات استباقًا قبل أوانه، وكأن
«القديم» تمهيدٌ مسبق للإلهيات في موضوع الصفات. وفي حقيقة الأمر إن القديم
ليس صفة للذات لا لفظًا ولا معنًى، بل هو تجربة إنسانية صرفة إيجابًا
وسلبًا؛ فالقديم يعني الأصل والجذور والامتداد في الماضي والعمق التاريخي.
أمَّا إذا تحوَّل إلى هروبٍ إلى الماضي من حيث هو قيمة في ذاته تعويضًا عن
أزمات العصر وعجزًا عن الدخول في تحدياته وانعدام الرؤية المستقبلية، فإنه
يصبح تجربة سلبية.
٧٨
(٣-٥) أحكام الحدوث
وبالرغم من تشخيص القِدَم في «القديم»، إلا أن الحدوث لم يتشخص هنا في
«الحادث»؛ لأنه لا حاجةَ له؛ فالتفكير في الطبيعة وفي الموجودات لا يحتاج
إلى تشخيص. وكما أن للقديم حُكمَين فللحادث حكمان: الأوَّل أن الحادث هو
المسبوق بالعدم؛ أي إنه كان معدومًا قبل أن يكون موجودًا، أوله العدم. أو
هو المسبوق بالغير وهو تعريفٌ أعم. ويركِّز القدماء على البداية دون
النهاية، مع أن الحادث هو ما هو مسبوق بالعدم وما ينتهي إلى عدم. ويبدو أن
السبب في ذلك هو ربطه بالقديم عن طريق القلب؛ فعكس القديم الحادث وعكس
الباقي هو الفاني، وهو ما سيظهر في أول موضوع من الإلهيات في أوصاف الذات.
والثاني أن الحدوث بهذا المعنى يستدعي مادة ومدة عند الحكماء؛ أي مادةً
وزمانًا. ومع ذلك لم يستطع الحكماء حل قضية القِدَم والحدوث لهما بالرغم من
التفرقة بين الإمكان الوجودي والإمكان الاستعدادي؛ فقال الحكماء بقِدَم
المادة وقِدَم الحركة وقِدَم الزمان.
٧٩ ويبدو أن هذين المفهومَين في حقيقة الأمر القِدَم والحدوث كان
الهدف منهما إيجاد تبرير عقلي لنظرية الخلق. وقد أدَّى هذا التبرير إلى أن
جعل العدم هو الأصل والأساس والوجود مُلحَق به خارج عنه وطارئ عليه؛ فالعدم
سابق على الوجود. في البداية كان العدم مع أن العدم لا وجودَ له عند
الأشاعرة. ولا تَحُلُّ النظرية كيفية خروج الوجود من العدم. وهل يخرج الشيء
من اللاشيء؟ وهل تخرج المادة من اللامادة؟ وإذا كان «الله» سابقًا على
الخلق، فهل «الله» مساوق للعدم، وهل العدم مساوق «لله»؟ وماذا عن الواسطة
بين الوجود والعدم وهو الحال؟ وهل يتم الخروج بإرادةٍ خارجية أم بتطور
طبيعي داخلي؟ ومِنْ ثَمَّ تكون شبهة قِدَم العالم عند المتكلمين واختياره
عند الحكماء لها ما يبرِّرها حلًّا لكل هذه التساؤلات. إنه الساحر فقط
القادر على إخراج الوجود من العدم في هذا النموذج؛ أي الإرادة الخارجية
القادرة على إخراج شيء من لا شيء، أو هو الفعل المُعجِز الذي يخرق قوانين
العلم والطبيعة. والسحر خداعٌ للحواس ودوران حول انتباه الشعور. أمَّا
المعجزات فقد ارتبطت بتاريخ الإنسانية في الماضي من أجل تحرير الشعور، وبعد
إكمال الغاية: استقلال العقل وحرية الإرادة، أصبح الإنسان قادرًا بعقله على
فهم قوانين الطبيعة الثابتة وإدراكها، كما أصبح قادرًا بإرادته على تسخيرها لصالحه.
٨٠ إن عيب الحدوث هو جعل العالم تابعًا غير مستقل هشًّا، أقرب إلى
العدم منه إلى الوجود لا استقرارَ فيه ولا نظام، طيِّعًا لإرادةٍ قاهرة
تسيِّره كيفما تشاء. وميزته أنه يجعل الإنسان قادرًا عليه، طيِّعًا لقدرته
ومستقبِلًا لفعله الحر، يكيِّفه حسبما يشاء، فينشأ الصراع بين إرادتين:
إرادة الزعيم الأوحد أم إرادة الجماعة والأمة.
إن مفهومَي القِدَم والحدوث هما في حقيقة الأمر من الأمور الاعتبارية
التي تُوجَد في الذهن لا في الخارج. وهما مفهومان متضايفان؛ إذ لا يُفهم
أحدهما بدون الآخر، بل ومتعارضان بقدْرِ ما يُعطى للأول يُسلَب من الآخر،
وبقدرِ ما يُعطى للآخر يُسلب من الأوَّل. ويكون السؤال: أيهما الأساس
وأيهما الفرع؟ الحادث أوَّلًا ثم بالقلب يتحوَّل إلى قديم؟ أم القديم
أوَّلًا ثم بالقلب يتحوَّل إلى الحادث؟ إن المشاهدة تُثبِت أن المعرفة إنما
تنشأ من خلال الحواس، وكما وضُح ذلك في نظرية العلم. وبالتالي ينشأ مفهوم
الحادث أوَّلًا في ذهن الإنسان؛ إذ إنه يعيش في عالَم متغيِّر متقلب؛ عالم
الكون والفساد بتعبير القدماء. ثم يتحوَّل هذا المفهوم بفعل الإيمان أو
اقتضاءً لمطلب نفسي إلى النقيض وهو القديم حتى يستطيع الإنسان أن يجد
اتزانه في العالم بين المثال والواقع، بين الواجب والممكن أو بين القديم
والحادث؛ فالإنسان موجود بين عالَمين.
(٥) العلة والمعلول
والمبحث الأخير في الأمور العامة هو مبحث «العلة والمعلول»، مستعار من علوم
الحكمة ومن علم أصول الفقه، وكأن علم أصول الدين وهو بصدد تأسيس المقدمات
النظرية لم يستطِع أن يبدع أسسًا له واكتفى باستعارة أسسه من العلوم النقلية
العقلية الأخرى. ويشمل المبحث أيضًا مفهومَين: «العلة» و«المعلول». وتُوضع
العلة قبل المعلول؛ أي الفاعل قبل الفعل، والسبب قبل المسبِّب كما هو الحال في
الواجب والممكن، والقِدَم والحدوث. وهو الوضع الاستنباطي العام الذي يبدأ من
الكل إلى الجزء أو ما يُسَمَّى بالتنزيل دون البداية بالمعلول والانتهاء إلى
العلة استقراءً كما هو الحال في الفكر العلمي بوجه عام. وهناك عدة تعريفات
للعلة كلها تُكرِّر نفس اللفظ وتكون أقرب إلى تحصيل الحاصل، منها: «ما كان
المعتل بها معتلًّا» أو «ما أوجبت معلولها عقبها على الاتصال وإن لم يمنعه
مانع» أو «التي تغيِّر حكمَ محلها وتنقله من حال إلى حال» أو «ما تجدد الحكم
بتجددها» أو «الصفة الحالة للحكم أو المثيرة له أو المؤثرة فيه» أو «كل ما أوجب
استحقاقه تسميته به أو الصفة الموجبة لمن قام به حكمًا».
٩٠ فهي كلها تعريفات نظرية لا تختلف كثيرًا فيما بينها من حيث
دلالاتها؛ فالمبحث هنا عن الأسس النظرية العامة للعلم، وليس تعريفًا محدَّدًا
لإحدى مقدماته. وقد تكون معنًى أي ليست ذواتًا قائمة بل معاني خشية التعدي على
الإرادة «الإلهية» المشخصة وإنكار أية فاعلية لها. وقد تكون العلة تصورًا
بديهيًّا ليس في حاجة إلى تعريف.
٩١ وفي كل الأحوال يقوم مبحث العلة والمعلوم على فكرة الاحتياج مثل
مباحث الواجب والممكن والقِدَم والحدوث؛ فكل شيء محتاج إلى غيره، وهو احتياج
ضروري؛ فالمحتاج إليه هو العلة والمحتاج هو المعلول، ويجعل الاحتياج العلة
مستقلة والمعلول تابعًا، وتكون العلاقة بينهما علاقة الاستقلال بالتبعية.
والعلة لا تتعدَّى محلها كما هو الحال في العلم الطبيعي، أو يتعداها كما هو
الحال في العلم الإلهي؛ لأن «الله» مريد بإرادة حادثة قائمة بذاتها؛ فتوابع
الحياة كالعلم والقدرة إذا قامت بجزء من الحي أوجبت للجميع حكمها مع أن هذا
يتوقف على الموقف الخاص كما يتوقف على قوة العلة والتأثير وعلى نطاق العلل
الطبيعية والموانع والشروط، وليس فقط على العلة المشخصة.
٩٢ والعلة والمعلول أو العلية والمعلولية اعتباران متضايفان لا يُفهم
أحدهما إلا بالآخر من لواحق الوجود والماهية ومن الاعتبارات العقلية التي لا
تتحقَّق في الأعيان وإلا لزم التسلسل عند المتكلمين. ولا يجتمعان في شيء واحد
إلا باعتبارين كالعلة المتوسطة التي هي علة لمعلولها ومعلولة لعلتها. والسؤال
الآن: هل هما من لواحق الوجود والماهية، أم بحث مستقل من الأمور العامة؟ وإذا
لم يكن لها وجود في الخارج، فهل قوانين الطبيعة من وضع الذهن؟
وتطغى مباحث الحكماء على مبحث العلل، خاصةً في نظرية العلل الأربع: المادة
والصورة للمركَّب والفاعلية والغائية للبسيط؛ فعند الحكماء لا يكون البسيط
قابلًا وفاعلًا، وهو تصوُّر تنزيهي للبسيط، وكأن الفاعلية شرف والتأثُّر نقص،
وكأن العلية كمال والمعلولية نقص؛ فالعلة عند الحكماء إمَّا جزء الشيء أو
خارجًا عنه. والأول إمَّا الصورة إن كان بالفعل أو المادة إن كان بالقوة.
والمادة لها أسماء عدة؛ فهي القابل والعنصر في البداية «والأسطقس» في النهاية.
والمادة والصورة علتان للماهية والوجود. أمَّا الثاني فإمَّا ما به الشيء وهو
الفاعل، أو ما لأجله الشيء وهي الغاية، وكلاهما علة الوجود. الصورة والمادة
للمركَّب، والغاية لا تكون إلا لفاعلٍ مختار. وهنا تبدو نظرية العلل الأربع
معبِّرة عن تصوُّر مثالي للعالم الذي يعبِّر بدوره عن عاطفةٍ دينية متطهرة.
ويبدو فيها «الله» علةً فاعلة وعلةً غائيةً في آنٍ واحد، متقدمًا على العالم
ولاحقًا عليه، يدفع بالإرادة ويحرك بالعشق. ثم يستعير المتكلمون بعض أحكام
العلل من الحكماء، منها أن الواحد بالشخص لا يُعلَّل بعلتين مستقلتين؛ لأن
الاحتياج للعلية وليس للعلل واحة أم كثيرة؛ ولأن العلتين أجزاء لعلة تامة
واحدة. وأمَّا المثلان فهما واحد بالنوع ويجوز تعليله بعلتين مستقلتين. ويمكن
لمعلولات كثيرة أن يكون لها علة واحدة بسيطة. وليس السبب في ذلك أن جميع
الممكنات مستندة إلى «الله» فذلك هو المطلوب إثباته؛ لذلك منعه الحكماء إلا
بتعدُّد آلة أو شرط أو قابل منعًا للإطلاق. كان يمكن لمبحث العلة والمعلول
والأمثلة المعطاة من الحرارة والبرودة والسخونة أن تكون مدخلًا للعلم الطبيعي
وأن يتحول المنهج من القسمة العقلية إلى التجربة الفعلية فينشأ العلم وتتحول
ميتافيزيقا الوجود إلى علوم الطبيعة ولأصبح التوحيد مقدمة لنشأة العلم
والتوجُّه نحو العالم بدلًا من التعبير عن العواطف الدينية بقسمة عقلية متطهرة
والاتجاه خارج العالم. لقد استطاع الحكماء تفصيل العلل المادية؛ فالقوة
الجسمانية لديهم تفيد أثرًا متناهيًا في المدة والشدة والمدة؛ لأن كل قوة في
المادة لها مقاومة وحركة قسر ذاتي. إلا أن تدخُّل الفكر الإيماني التطهري يقضي
على الفكر العلمي كي يوحي بأن العلة البسيطة وحدَها هي التي لها تأثير غير
متناهٍ. إن بزوغ الفكر العلمي من خلال الفكر التطهُّري ليبدو واضحًا في مبحث
العلة والمعلول، ويتم الصراع بين تعدُّد العلل الثانية ووحدة العلة الأولى،
وكأن مبحث الوحدة والكثرة هو الذي ساد مبحث العلة والمعلول خاصةً عند الحكماء.
٩٣
ولكن تبارى المتكلمون في مبحث العلة والمعلول لإثبات امتناع الدور واستحالة
التسلسل إلى ما لا نهاية، وضرورة الانتهاء إلى علةٍ ليست معلولة لعلة أخرى،
وكأن العلاقة الدائرية بين العلة والمعلول، أن تكون العلة معلولًا وأن يكون
المعلول علة إلى ما لا نهاية، وكأن هذه العلاقة مضادة للفكر الديني الطولي
التطهري. ولماذا يكون الدور ممتنعًا أي أن يكون شيئان، كلٌّ منهما علة للآخر
بواسطة أو دونها؟ ولماذا التفكير في العلة والمعلول ببداية مطلقة وفي خطٍّ
طولي؟ ولماذا لا تكون العلة معلولًا ويكون المعلول علة في دورة أبدية مثل الماء
والبخار والطاقة والمادة؟ وفي المَثَل المشهور بين «الفرخة والبيضة»، لماذا
البحث عن «بيضة» أو «فرخة أولى»؟ وأي التصوُّرين أقرب إلى العلم، التصوُّر
الطولي أم التصوُّر الدائري؟ أي التصوُّرين يعبِّر عن الفكر الديني؟ صحيح أن
العلة مع المعلول، فلا معلول بلا علة ولا علة بلا معلول. ولكن حتى هذا لم يصل
إليه وجداننا القومي حتى الآن؛ إذ نرى عللًا بلا معلولات، ومعلولات بلا علل،
ولا يوجد رباط ضروري بين العلة والمعلول مما يسبِّب نقل «التكنولوجيا» في مجتمع
متخلف، ومعالجة قضية التقدم من منظور متخلف.
٩٤
ولماذا يستحيل التسلسل إلى ما لا نهاية، أن يستند الممكن إلى علة والعلة إلى
علة، وهو أقرب إلى تصوُّر اللانهائية أساس التوحيد؟ لماذا لا بد أن نصل
بالضرورة إلى علةٍ أولى تكون هي علة العلل؟ أليس هذا هو الفكر الديني المسبق
الذي يقوم على افتراض بدايةٍ أولى ونهاية أخيرة، وغاية قصوى وبقاء أبدي … إلخ؟
إن كل الأسباب التي تُقال لإثبات استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية لتعبِّر عن
افتراضات مسبقة من العقل التطهري مثل أن كل ممكن في حاجة إلى واجب. هذا افتراض
مسبق، وإسقاط مقولتين دينيتين عقليتين على مفهوم علمي طبيعي وهو العلية. إن
امتناع التسلسل لا يكون إلا في أمورٍ موجودة بالفعل وليست متوهمة أو اعتبارية
خالصة. وفي الطبيعة دورات مستمرة، ولا توجد بداية مطلقة ولا نهاية قصوى. يقوم
الفكر العلمي على التواصل والاستمرارية وليس على الانقطاع. والعلة والمعلول وما
بينهما متناهيان. ولكن ذلك لا يعني تحويلهما أو على الأقل واحدًا منها إلى
الضد؛ أي إلى علةٍ أولى؛ فالدافع لذلك الرغبةُ في تحجيم العالم ورده إلى حدودٍ
من أجل إطلاق قوى طرفٍ آخرَ تسيطر عليه وتحتويه.
٩٥ ويجوز أن يؤدي تسلسل العلل إلى زيادة المعلول؛ لأنه يمكن أن يكون
لعلةٍ واحدةٍ أكثرُ من معلول.
٩٦
وتتداخل مباحث الأصول في السبب والشرط والمانع والصحة والبطلان، دون العزيمة
والرخصة عند المتكلمين، وهي أحكام الوضع الخمسة،
٩٧ كعرض نظري خالص دون أن تكون مرتبطة بالأفعال أو موجهة للسلوك كما
هو الحال في علم أصول الفقه. لا تتحقق العلة إلا باجتماع الشرائط وانتفاء
الموانع. ولكن الشرط جزءٌ من الفاعل؛ لأن الفاعل لا يكون إلا باستجماع الشرائط
وامتناع الموانع. وعدم المانع ليس جزءًا من الوجود، بل مجرد عرض طارئ كاشف عن
شرط وجودي. ويبين الشرط والمانع أن العلة والمعلول تتعلَّق بأمورٍ تتحقق وليس
بمقولات نظرية صرفة.
ويبدو أن مبحث العلة والمعلول يختلف باختلاف نفي الأحوال أو إثباتها، مما يدل
على أهمية الحال كواسطة بين الوجود والعدم؛ فعند إثبات الحال تكون العلة صفة
تُوجِب لمحلها حكمًا فتخرج الجواهر. العلة هنا صفة وليست مادة وهو أقرب إلى
تعريف الأصوليين. وحكم الصفة لا يتعدى المحل. المعلول الحكم الذي توجبه الصفة
في محلها؛ فالمعلول ليس مادة بل حكمًا. العلة صفة والمعلول حكم وهو أقرب إلى
منطق الأفعال عند الأصوليين منه إلى فلسفة العلم عند الحكماء. وحكم العلة
يتعدَّى محلها ولا يقتصر عليه كما هو الحال عند منكري الأحوال. العلة هنا شاملة
وعامة وليست قاصرة وخاصةً؛ لأن العلة الأولى تقبع في الماوراء الذهني. والعلة
وجودية سواء ضرورة أو استدلالًا وذلك نفي لكون العدم علة. والعلة العقلية مطردة
كلما وُجِد الحُكم ومنعكسة، كلما انتفت العلة انتفى الحُكم. وكل مطردة منعكسة
وليس كل منعكسة مطردة؛ فالإثبات أساس النفي وليس النفي أساس الإثبات؛ لذلك يظل
برهان الخلف برهانًا سلبيًّا خالصًا. وإيجاب العلة ليس مشروطًا بشرط، إنما
الشرط في التحقُّق. ولا تُوجِب العلة الواحدة حُكمَين مختلفين نظرًا لضرورة
وجود مقاييس عامة للأفعال. ولا يَثبُت حكمٌ بعلتين على عكس نفاة الأحوال حتى لا
تختلط الأفعال. والفرق بين العلة والشرط أن العلة مطردة والشروط غير مطردة،
والعلة وجودية والشرط قد يكون عدميًّا أو متعدِّدًا أو مركَّبًا أو محل الحكم
أو صفة. والعلة لا تتعاكس بخلاف الشرط. والشرط قد لا يبقى ويبقى المشروط.
والصفة لها شرط وليس لها علة. والواجب لا يتحقَّق على عدم الشرط. والعلة مصححة
اتفاقًا وفي الشرط خلاف.
٩٨
وآخر قِسم في مبحث العلة والمعلول يعرضه القدماء هو فيما لا يصح تعليله وما
يصح، وهو ما يعادل مبحث الصحة والبطلان في علم أصول الفقه؛ فما لا يصح تعليله
هو تعليل الذات في كونها ذاتًا، فتلك بداهة شعورية ووضوح وجودي لا يحتاج إلى
تعليل. ولا يصح تعليل العدم والانتفاء وكلِّ ما يؤدي إلى صفة النفي؛ لأن العدم
ليس موجودًا. ولا يصح تعليل صحة كون العالم معلومًا، فذلك تحصيل حاصل. والفعل
الواقع لا يحتاج إلى علة؛ لأن الوقوع ذاته خيرُ دليل على وجود العلة دون ما
حاجة إلى إثبات. ولا تُعلَّل أوصافُ الأجناس، لما كان السواد سوادًا والجوهر
جوهرًا فالهوية لا تُعلَّل. ولا يُعلَّل التماثل والاختلاف؛ فالتضايُف بداهةٌ
حسيةٌ وقانونُ قلب عقلي. كما لا يُعلَّل تضاد المتضادَّين وتغايُر الغيرين.
٩٩
أمَّا ما يصح تعليله فهو كلُّ حكم ثبوت لذات قائمة بنفسها عن معنًى قام بها
مثل كون العالِم عالِمًا والقادر قادرًا (إثبات الصفات للذات). والواجب لا
يمتنع تعليله لوجوبه كما أن الجائز لا يجب تعليله لجوازه (البراهين على وجود
«الله» أو إثبات الصانع)؛ فالحادث موجود وحسي، والواجب افتراض عقلي في حاجة إلى
إثبات. ويصح تعليل الأحكام المتوقِّفة على الدليل والتي لا يُقْطَع فيها بإثبات
أو نفي إثبات للشيء، وكأن التعليل عامل مكمِّل للاستدلال.
١٠٠
ويتضح من هذا كله أن العلة والمعلول والشرط والمشروط كلها مفاهيم مساعدة
للفكر الديني العقلي. وأن الخلاف حول الأمور العامة هو في حقيقة الأمر خلافٌ
حول تصوُّر العقائد وكيفية تنظيرها يبدو فيه الصراع بين الفكر العلمي والفكر
الديني، بين الفكر الطبيعي والفكر الإلهي. كما يتضح من هذه الأمور العامة
القسمة الثنائية للوجود التي تعبِّر عن التصور المثالي للعالم، وريث التصوُّر
الديني التقليدي مثل الوجود والعدم، الجوهر والعَرَض، القديم والحادث، وهي
القسمة التي تعطي أحد الطرفين كلَّ الثِّقل الأنطولوجي ثم تسلبه كليةً عن الطرف
الآخر أو على الأقل تجعل أحد الطرفين شارطًا والآخر مشروطًا، وتجعل صلتهما صلة
التابع بالمتبوع وهو ما رسخ في وجداننا القومي حتى الآن.
يبدو مبحث العلة والمعلول على أنه مبحثٌ طبيعي في فلسفة العلوم أو في المنطق
التجريبي، أو مبحثٌ أصولي يُحلِّل منطقَ السلوك، أو مبحثٌ فلسفي عام من العلة
الأولى والعلل الثانية. وفي هذه الحالة الأخيرة يكون تعبيرًا من الموقف الديني
الذي يعبِّر عن نفسه بالطهارة العقلية التي تعبِّر عن نفسها بدورها في قسمة
عقلية ذات طرفين تنظمهما علاقة شرف؛ فالبسيط أشرفُ من المركَّب، والكلي أفضلُ
من الجزئي، والذاتي سابق على العَرَض، والعام له الأولوية على الخاص؛ وذلك لأن
العلة أشرف من المعلول وسابقة عليه. وهل مبحث العلل أدْخَل في نظرية العلم أو
في نظرية الوجود؟ إلى أي حدٍّ يمكن أن يكون مبحث العلل أساسًا عقليًّا أو
وجوديًّا للعقائد؟ وما اختلاف ذلك عن علوم الحكمة وعلم أصول الفقه؟ أم إن هذه
الأسس العقلية هي التي أتاحها العصر والتي كان لا بد وأن تدخل في البحث عن أسس
عقلية للعقائد؟
١٠١ وهل هي مجرد أبحاث مجردة ميتافيزيقية خالصة، أم إنها تتجاوز حدود
نظريتَي العلم والوجود في المقدمات النظرية إلى توجيه السلوك وتنميط الأفعال؟
وأحيانًا يثور الشعور كلُّه باسم التجربة الحية ضد هذه التقسيمات العقلية التي
تترك الشعور فارغًا من أي مضمون حتى لو عبَّرت هذه التقسيمات عن الطهارة
العقلية والنظرة المثالية للعالم تعبيرًا عن الموقف الديني.
١٠٢ هل هذه الأمور النظرية العامة مستمدة من طبيعة العقل ويمكن تطبيقها
على معطيات دينية أخرى، أم إنها مستمدة من العقائد «الإسلامية» وبالتالي يمكن
لكل عقائد إقامة أمور عامة نظرية خاصة بها؟ يسمح الافتراض الأوَّل بإقامة علم
بديهي أولاني لجميع العقائد
Axiomatique بينما
يحتاج الافتراض الثاني إلى وضْع الأمور العامة الخاصة بكل نسق عقائدي في نظريةٍ
أعمَّ تكون هي المقدمات الأولية لكل نظام عقائدي.
١٠٣ والسؤال الأهم: هل التزم علم أصول الدين بهذه «الأمور العامة» أم
إنه خرج عليها في حومة الحماس للعقائد، وفي فورة الانفعال الديني حتى تساقطت
المقدمات النظرية بعد أن أصبحت فارغة بلا مضمون، وعادت العقائد كما بدأت
مضمونًا للإيمان؟ وهل الأمور العامة الآن هي هذه الأطر النظرية التي تعتمد على
القسمة العقلية والانتهاء إلى طرفين ومنطق علاقات بين الأعلى والأدنى، أم إنها
الظروف الاجتماعية والسياسية التي تعيشها الأمة والتي تفرض إطارها النظري؟ لقد
كانت العقائد قديمًا في حاجةٍ إلى تنظير من أجل الدفاع عنها ضد المخاطر النظرية
التي واجهتها من العقائد المجاورة. أمَّا الآن فالعقائد في حاجة إلى تنوير ضد
المخاطر العملية التي تواجهها والتي تهدِّد الأنظمة المنبثقة منها. فالأمور
النظرية العامة التي صاغها القدماء بحثًا عن أسسٍ عقلية للعقائد هي الأوضاع
الخاصة لدينا التي تفرض علينا الدفاع عن مصالح الأمة.
١٠٤