سادسًا: مرتبته
(١) من حيث الموضوع
ويضع علم الكلام ذات الرسول مع ذات الله، كلاهما موضوعان شريفان، وبالرغم مما في هذا الوضع من نقص في التنزيه للذات الإلهية ومساواتها على نفس درجة الشرف لذات النبي، فإن الذوات الإنسانية لا تتفاضَل أيضًا فيما بينها، فلا توجَد ذات إنسانية أشرفُ من ذاتٍ إنسانية أخرى حتى ولو كانت ذات النبي، الكل بشر، يتمثَّل نفس الأساس النظري، ويحقِّقه بنفس أنماط السلوك، وليس للنبي وظيفةٌ زائدة على وظائف سائر البشر إلَّا التبليغ الذي يمكن أن يقوم به أي إنسان، أمَّا صلة النبي كمبلغ بمصدر الرسالة فهو خارج نطاق العلم وأُدخل في نظرية النبوة والاتصال في علوم الحكمة.
وبالإضافة إلى هذا الانتقاص من شأن أشرف الموضوعات بتأليه الأشخاص وتأليه الطبيعة، والتجسيم والتشبيه والتشخيص، وهي كلها أخطاء في تصوُّر الألوهية، يتدخَّل أشرف الموضوعات في الحياة الإنسانية ليقضي على كيانها واستقلالها؛ ففي أفعال الإنسان أدَّى تصور أشرف الموضوعات إلى القول بالجبر أو بالكسب الذي لا يختلف كثيرًا عن الجبر، ووُضعت الحرية الإنسانية موضع الشك، كما أدَّى في تصور العقل إلى إنكار استقلاله وقدرتِه على فَهْم الظواهر، وجعله تابعًا مبرِّرًا لا بادئًا وناقدًا. أدى أشرف الموضوعات إلى إثبات أولوية النقل؛ كلام الله، على العقل وهو كلام الإنسان وفهمه وإدراكه، كما كان من الضروري جعل أشرف الموضوعات مسئولًا عن الخير والشر معًا في العالم، وليست مسئولية الأوضاع الاجتماعية وممارسة الأفراد لحرياتهم، وفي الطبيعة كان من الضروري السماح لأشرف الموضوعات بالتدخُّل بإرادته المشخَّصة في سير قوانين الطبيعة وإنكار ثبوتها واطِّرادها مما يُفسح المجال للأسطورة والخرافة، وفي عمل الإنسان كان من الطبيعي لأشرف الموضوعات أن يرعى الإنسان برحمته ويُرجئ عمله عن إيمانه، وأن يعفو، وأن يغفر، وأن يتوب على الناس معطيًا الأولوية للإيمان على العمل؛ ومِنْ ثَمَّ خرج الفعل من الإيمان، وتحوَّل الإيمان إلى إيمان العجائز والضعفاء، وتُرك الفعل الإنساني حتى يفعل الحاكم ما يشاء، وفي السياسة كان من الطبيعي أن يُعين أشرف الموضوعات الحاكم، وأن يُطالب الناس بالطاعة والولاء الدائم للسلطة القائمة على الحق الإلهي، وليس على الاختيار الإنساني أو العقد الاجتماعي الذي يمكن أن يُفسخ إذا ما خرج الحاكم على بنوده وشروطه، وأصبح الحاكم هو المنقذ والمخلص وليس فعل الإنسان وجهده ورقابته على ما يدور حوله وأمامه. صحيح أنه كانت هناك اتجاهات معارضة تُنكر التأليه والتشبيه والتشخيص، وتُؤَوِّل ذلك كله على أنه مجاز، وتُثبت حرية الأفعال، وتؤكد أولوية العقل على النقل، وتجعل الإنسان مسئولًا عن الخير والشر، والعمل معبِّرًا عن الإيمان، وترى في الطبيعة كُمونًا وقوانين ثابتة وطبائع الأشياء، وتجعل من مستقبل الإنسان أملًا إنسانيًّا ونزوعًا نحو الكمال وليس تشخيصًا لعوالم متخيِّلة تلعب فيها الذات المشخصة الدور الرئيسي، وتصر على الشورى والبيعة كأساس للحكم، ولكن هذه الاتجاهات ما دامت منقوضةً باتجاهات أخرى معارضة، فإنها تكون مجرد وجهات نظر لأصحابها إن لم توصف بالخروج على التقليد والإجماع، وإن لم تتهم بالإلحاد والكفر، فأصبح الخطأ بديلًا عن الصواب، والباطل اختيارًا أمام الحق، وقد يتهرَّب الجميع عن الحق والصواب، نظرًا وعملًا، بدعوى أن فيهما «قولان».
(٢) من حيث المنهج
وإذا كان الشرف من ناحية المنهج؛ فالمناهج كلها على مستوى واحد من الشرف، كل منهج له موضوعه، وكل موضوع له منهجه، ويكون الخطأ في المنهج أساسًا باستعمال منهج غير ملائم لموضوعه، فالموضوع التجريبي الحسي يُلائمه منهج استقرائي، والموضوع العقلي الصوري يلائمه منهج استنباطي، والموضوع الإنساني الشعوري يلائمه منهج استبطاني يقوم على تحليل الظواهر الشعورية، ولما كانت موضوعات علم الكلام قد عرضها القدماء على أنها موضوعات عقلية، فقد استعمل المنهج العقلي في دراستها وفهمها دون المناهج الاستقرائية أو الشعورية، في حين أن العقائد الإسلامية موجهات للسلوك تفعل في الناس، وتؤثر في مجرى حياتهم؛ ومِنْ ثَمَّ لزمت المناهج الاستقرائية الإحصائية لمعرفة هذا الجانب العملي من العقائد، وضرورة إلحاق المناهج الاجتماعية بالمناهج العقلية، كما أن العقائد الإسلامية تجارب إنسانية عامة يمكن التحقُّق من معانيها عن طريق تحليل وإدراك دلالاتها؛ ومِنْ ثَمَّ إلحاق مناهج التحليل الشعوري بالمناهج العقلية النقلية التقليدية، وليس هناك منهج أشرف من منهج، فالمناهج كلها على مستوى الشرف على حد سواء.
(٣) من حيث الأولوية
(٤) من حيث الغاية
علم الكلام إذن من حيث المرتبة ليس بأشرف العلوم، لا من حيث الموضوع ولا من حيث المنهج، ولا من حيث الأولوية، ولا من حيث الفائدة، بل إنه أخطر العلوم العقلية النقلية القديمة من حيث تشويه الوحي والتعمية عن واقع المسلمين.
- (أ)
«الترقِّي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان»، وقد انتهى العلم إلى تقليد عقائد السلف.
- (ب)
«إرشاد المسترشدين بإيضاح الحجة وإلزام المعاندين بإقامة الحجة»، وقد انتهى العلم إلى الخلط والتشويش ونشر البدع، ولم يوضِّح حجَّة إلا ولها حجَّة مضادة، ولم يلزم المعاندين بل زاد الخصوم.
- (جـ)
«حفظ قواعد الدين عن أن تزلَّها شبه المبطلين»، وانتهى العلم إلى تحويل العقائد إلى ظنِّياتٍ خالصة لكثرة التنازُع حولها، وتضارب الآراء فيها.
- (د)
«أن تُبنى عليه العلوم الشرعية، فإنه أساسها، وإليه يئول أخذها واقتباسها»، ويستحيل إقامة العمل على الظن أو السلوك على التضارب والاختلاف.
- (هـ)
«صحة النية والاعتقاد؛ إذ بها يُرجى قَبول العمل، دعاة ذلك كله الفوز بسعادة الدارين»، وقد انتهى العلم إلى تدخُّل الأهواء والمصالح، وخسارة الأمة، وضياع التوحيد فكرًا وواقعًا (المواقف، ص٨).