الفصل العاشر

وفي الليلة التالية عاد يوري إلى نفس المكان الذي التقى فيه سينا وزميلتها وكان نهاره كله يفكر مسرورًا فيما جرى له معهما من الحديث في الليلة السابقة.

فراح يرجو أن يلقاهما مرة أخرى وأن يحدثهما كما فعل، وأن يرى في عيني سينا الرقيقتين نظرة العطف والحنو التي أنس بها في ليلته تلك.

وكان المساء ساكنًا والجو دافئًا والأتربة الخفيفة ثائرة، والميدان خاليًا إلا من واحد أو اثنين من السابلة.

فسار يوري وعيناه إلى الأرض، وجعل يخاطب نفسه قائلًا: «ما أشد ملالي، ماذا أصنع؟»

وإنه لكذلك وإذا بشافروف الطالب يغذ السير ويطوح بذراعيه ثم دنا منه وعلى وجهه ابتسامة الودود وسأله: «ما لك تمشى وئيدًا؟»

فقال يوري بلهجة فاترة فيها شيء من التعالي: «لقد كاد يقتلني الملل ولا أدري ماذا أصنع. وإلى أين؟»

وكان لا يكلم شافروف إلا بهذه اللهجة لأنه عضو سابق في اللجنة الثورية، أما شافروف فما هو في نظره إلا فتى ثوري حديث العهد. فابتسم شافروف ابتسامة الرضى عن النفس وقال: «ستلقى اليوم محاضرة.»

وأشار إلى حزمة من الرسائل مطوية في ملف ملون.

فتناول يوري إحداهما وفتحها وقرأ المقدمة الطويلة الحافة لخطبة اشتراكية مشهورة كان يعرفها ثم نسيها الآن.

فسأله يوري: «وأين تلقى هذه المحاضرة؟» ورد إليه الرسالة وعلى فمه ابتسامة الاستخفاف.

أجاب شافروف: في «المدرسة.»

وكانت هي عين المدرسة التي تدرس فيها سينا كرسافينا ودوبوفا. فذكر يوري أن أخته لياليا حدثته مرة عن هذه المحاضرات ولكنه لم يجعل باله إليها، فسأله: «أتسمح لي أن أرافقك؟»

أجاب: «بلا شك.»

وأظهر السرور بهذا الاقتراح وكان يعد يوري مهيجًا صميمًا ويبالغ في تقدير كفاءته السياسية ويكبره ويحبه.

وأحس يوري أن لا بد له من أن يقول: «إني عظيم الاهتمام بهذه الشئون.»

وسره أن عرف كيف يقضي ليلته وأنه سيلاقي سينا مرة أخرى.

فقال شافروف: «نعم تهتم بلا ريب.»

أجاب: «إذن فلنمض.»

وسارا مسرعين في الميدان واجتازا الجسر، وصافحهما من جانبيه الهواء البليل ولم يلبثا أن بلغا المدرسة حيث كان الناس قد اجتمعوا.

وكانت القاعة مظلمة وقد صفت فيها المقاعد والأدراج وبدأ القماش الأبيض المعد للمصباح السحري. وكان المرء يسمع أصوات الضحك المكتوم.

ووقفت لياليا ودوبوفا عند النافذة ومنها كان الناظر يستطيع أن يرى أغصان الأشجار الخضراء وعليها من الظلام جهامته، فحيتا يوري فرحتين.

وقالت لياليا: «ما أعظم سروري بحضورك!»

وهزت دوبوفا يده بشدة.

فقال يوري مستفهمًا وأدار لحظه فيمن حوله لعله يرى شيئًا: «لماذا لا تبدءون؟»

ثم قال وفي صوته دليل صريح على خيبة أمله: «أرى سينا لا تحضر هذه المحاضرات.»

وأشعل بعضهم في هذه اللحظة عود كبريت قريبًا من منضدة المحاضر، فبدت في نوره قسمات سينا وأضاء محياها النضير الجميل وكانت تبتسم في سرور، فقالت وانحنت ليوري ومدت إليه راحتها …

– «ألا أحضر هذه المحاضرات؟»

فصافحها مسرورًا دون أن يتكلم.

واتكأت هي قليلًا ووثبت إلى جانبه فأحس نفسها العذب المنعش على خده.

وجاء شافروف من الغرفة المجاورة وقال: «قد آن أن نبدأ.»

فسار الخادم بخطى ثقيلة طائفًا بالغرفة، وموقدًا مصابيحها واحدًا بعد واحد فشاع في الحجرة نورها.

وفتح شافروف الباب المؤدي إلى الممر وقال بصوت عال: «تفضلوا من هنا.»

فدخل الناس وكان بهم في أول الأمر بعض الحياء ثم ما عتموا أن حثوا الخطى في جلبة وضوضاء.

وجعل يوري يفحص وجوههم ولما كان من مروجي الدعوة السياسية فقد تحركت نفسه واشتد اهتمامه.

ودخل الحجرة شيوخ وشبان وأطفال لم يجلس منهم أحد في الصف الأول فشغلته سبع سيدات لا يعرفهن يوري وإلى جانبهن مفتش المدارس وأساتذة المدارس الابتدائية للبنين والبنات ومعلماتها، وغصت بقية القاعة بلابسي الجلاليب والمعاطف الطويلة وبالجنود والفلاحين والنساء وبكثير من الأطفال في قمصان ملونة عليها جاكتات واسعة.

وجلس يوري بجانب سينا إلى درج وأصغى إلى شافروف وهو يتلو في سكون — أردأ تلاوة — خطابًا موضوعه حق الانتخاب العام.

وكان صوته جافًّا مملًّا فما قرأ شيئًا إلا خيل إلى سامعه أنه قائمة إحصاءات.

ولكن الناس أنصتوا مع هذا ما خلا المتعلمين الجالسين في الصف الأول، فسرعان ما قلقوا وراحوا يتهامسون.

فساء يوري هذا منهم وأدركه العطف على شافروف والأسف لرداءة إلقائه، وكان هذا قد بدا عليه التعب فقال يوري لسينا: «ما قولك في أن أنوب عنه؟»

فرمته بنظرة رقيقة من تحت أهدابها المرسلة. وقالت: «نعم. نعم افعل ذلك بودي لو فعلت.»

فهمس في أذنها مبتسمًا لها كأنما كانت شريكته: «أترين في هذا ضيرًا؟»

فقالت: «ضير؟ كلا، كلنا حقيقون أن نغتبط.»

وسنحت فترة فعرضت ذلك على شافروف وكان قد نال منه التعب ولم يكن يغيب عنه سوء إلقائه فقبل مسرورًا وأخلى مكانه ليوري وقال: «بلا شك حبًّا وكرامة.»

وكان يوري مولعًا بالإلقاء يحسنه ويجيده فتقدم إلى المنضدة دون أن ينظر إلى أحد وشرع يتلو بقية المحاضرة بصوت عال متزن.

وسدد لحظه إلى سينا مرتين. والتقت عينه في كل منهما بعينها المتألقة الفصيحة فابتسم لها مسرورًا مرتبكًا ثم رجع إلى كتابه واستأنف القراءة بصوت أعلى وأقوى وكان كأنما يباشر عملًا ليس أسمى منه ولا أمتع، ولما فرغ صفق له الجالسون في الصفوف الأولى فانحنى لهم يوري في أدب ووقار وانصرف عن المنضدة وهو يبتسم لسينا كأنما يريد أن يقول لها: «لقد فعلت هذا من أجلك.»

وتهامس الناس قليلًا ثم تجاوبت الحجرة بضوضاء الكراسي لما دفعها الجالسون عليها إلى الوراء وهم ينهضون عنها.

وقدم يوري إلى سيدتين هنأتاه بحسن إلقائه.

ثم أطفئت المصابيح وعادت الغرفة مظلمة.

وقال شافروف وهو يهز كف يوري بحرارة: «أشكرك كثيرًا. وبودي لو أن لنا دائمًا من يلقي مثلك.»

وكانت المحاضرة شغل شافروف فأكبر صنيع يوري وطوق نفسه بفضله كأنما كان أحسن إليه في أمر يخصه وإن كان كان قد جعل شكره باسم الشعب. وألح شافروف في ذكر «الشعب» وجعل يؤكد لفظه ويقول كأنما يودع يوري سرًّا خطيرًا: «إنهم لا يصنعون هنا شيئًا للشعب وإذا هم فعلوا فبدون اكتراث أو احتفال. وغريب أمرهم! يأتون بطائفة مختارة من خير الممثلين والمغنين والمحاضرين ليتلهى بهم المتطلبون من السادات. فأما الشعب ففي محاضر مثلي الكفاية. كل امرئ راض. فماذا يطلبون فوق هذا؟»

وافتر ثغره سرورًا بتهكمه الرقيق.

فقالت دوبوفا: «هذا صحيح. والصحف تفرد أعمدة برمتها للممثلين ولأعمالهم العجيبة، إن هذا مثير حقًّا. أما هنا …»

فقال شافروف باقتناع وهو يجمع أوراقه: «ولكن ما أصلح عملنا وأنفعه؟»

فقال يوري لنفسه: «يا لها من غرارة كغرارة الأطفال؟»

ولكن وجود سينا وما وفق إليه هو من النجاح جنحا به إلى التسامح. والواقع أن بساطة شافروف وسذاجته وقعا من نفسه وأشعراه بعض العطف عليه.

ولما صاروا في الشارع سألتهم دوبوفا: «والآن أين نذهب؟»

وكان الظلام في الشارع مثله في الحجرة ولم يكن في السماء إلا بضعة نجوم مضيئة.

وقالت دوبوفا ليوري: «أنا وشافروف ذاهبان إلى أسرة راتوف، فهل لك أن ترافق سينا إلى المنزل؟»

أجاب: «بسرور.»

وكانت سينا ودوبوفا يسكنان بيتًا واحدًا قائمًا وسط حديقة كبيرة مجدبة المنظر. وكان حديث سينا ويوري أثناء رواحهما دائرًا حول المحاضرة ووقعها في نفوس السامعين.

فزاد اقتناع يوري بأنه أتى عظيمًا وفعل شيئًا مجيدًا.

ولما بلغا البيت قالت سينا: «هل لك أن تمكث معي برهة؟»

فقبل يوري مسرورًا وفتحت الباب واجتازا الفناء المعشوشب وكانت الحديقة تلوه. فقالت سينا ضاحكة: «اسبقني إلى الحديقة. ولقد كان بودي أن أدخلك المسكن ولكنه ليس على ما ينبغي من النظافة والنظام، فإني لم أعد مذ زايلته في الصباح.»

ودخلت البيت ومضى يوري متريثًا إلى الحديقة الخضراء الأرجة ولم يوغل فيها بل وقف يلتفت في أرجائها ويحدق في نوافذ البيت المظلمة كأنما قام بنفسه أن شيئًا يجري هناك — شيئًا غريبًا جميلًا غير مفهوم — وبرزت سينا إلى عتبة الباب، ولكن يوري لم يكد يعرفها وكانت قد نضت ثوبها الأسود وارتدت ثوب «الروسيا الفتاة» وهو صدرية إلى الخصر قصيرة الأكمام ينسدل من تحتها إلى الساقين قميص أزرق فقالت باسمة: «هذا أنا.»

فأجابها يوري وفي صوته نبرة توكيد لا يقدرها غيرها: «وكذلك أراك.»

فابتسمت ثانيًا ونحت عينها عنه وهما يسيران بين الحشائش الطويلة وأغصان الليلاج. وكانت الأشجار صغيرة وأكثرها أشجار توت لأوراقها الصغيرة رائحة الصمغ. ومما يلي الحديقة مرج متفتحة فيه الأزاهير بين الحشائش.

فقالت سينا: «دعنا نجلس هنا.»

فجلسا إلى جانب السور المتداعي وجعلا يتأملان الشفق الزائل من وراء المرج، وتناول يوري عود ليلاج صغير فتساقطت عنه الأنداء.

وسألته سينا: «هل أغنيك؟»

أجاب: «نعم غنني!»

فأصعدت سينا نفسًا عميقًا كما فعلت ليلة النزهة وبرزت معالم صدرها البديع تحت صدريتها الرقيقة وهي تغنيه:

آه يا نجم الحب الوضيء

وسبحت ألحانها النقية الحارة في جو المساء.

وظل يوري جامدًا يرمقها ويحبس أنفاسه أن تطغى بصدره.

وأحست هي أنها قيد لحظه فأغمضت عينيها وانطلقت تغني أعذب غناء وأحره.

وكان السكون شاملًا محيطًا كأن كل شيء يصغي، ومثل في خاطر يوري سكون الغابات الرهيب في الربيع إذا ما غرد بلبل.

وكانت خاتمة غنائها نغمة صافية عالية غادرت السكون أتم وأشد.

وكان الشفق قد زال وأمست السماء حالكة مهولة وارتعشت الأوراق والحشائش من حيث لا تراها عين، وهب على المرج وجاز الحديقة نسيم أرج خفيف كالزفرة.

فأدارت سينا عينيها المتألقتين في الظلام إلى يوري وقالت: «ما لك صامتًا؟»

أجاب: «ما أجمل هذا المكان!» وتناول عود ليلاج ندي آخر.

فقالت سينا بهيئة الحالم: «نعم إنه جميل.»

فقال يوري: «جميل جدًّا أن يعيش المرء.» وطاف برأسه خاطر غامض مقلق ولكنه لم يلبث أن زال قبل أن يستبين ويتضح. وصفر بعضهم صفرتين عاليتين على الناحية الأخرى من المرج.

ثم سكنت كل نأمة فقالت سينا فجأة وقد سرها على ما يظهر هذا السؤال الذي لم يكن من داع له: «أتحب شافروف؟»

فأحس يوري ألم الغيرة لحظة ولكنه أجاب بتؤدة بعد جهد لطيف: «إنه رجل طيب.»

فقالت: «ما أعظم انقطاعه لعمله.»

فسكت يوري وتصاعد من المرج ضباب رقيق أشهب وحال لون الحشائش تحت الندى.

وقالت سينا وهي ترتجف قليلًا: «لقد اشتدت الرطوبة.»

فنظر يوري إلى كتفيها الرقيقتين المستديرتين واضطرب فجأة.

وأحست هي بنظرته فسرت إليها عدوى الاضطراب، وإن كان قد سرها ما لاحظت وقالت: «لنقم من هنا.»

وعادا أدراجهما آسفين وقطعا ممشى الحديقة الضيق وكانا يحتكان أحيانًا وهما سائران: وكل ما حولهما مظلم مهجور. وخيل إلى يوري أن ستبدأ حياة الحديقة الآن — حياة مستسرة مجهولة — وأن ستتسلل بين الأشجار وترتمي على الحشائش المثقلة بالأنداء ظلال غريبة متى احلولك الظلام، وأن أصواتًا ستتهامس في المخضر الساكن من أرجائها.

وأفضى إلى سينا بهذا الخاطر فشخصت بعينيها السوداوين إلى الظلام وهي تفكر وقام في نفس يوري أن «سينا» لو نضت عن جسمها كل أرديتها وانطلقت تعدو على الحشائش المطلولة إلى حيث تتكاثف الأشجار — وهي عارية بيضاء جذلة — لما كان في هذا شيء من الغرابة. بل أخلق به أن يكون أمرًا طبيعيًّا حسن الوقع. وليس من شأن هذا الحادث — إذا وقع — أن يزعج حياة الحديقة الخضراء المظلمة ولعلها تستوفي به حاجتها، ونازعته نفسه أن يسر إليها بهذا الخاطر، ولكن شجاعته خانته فتحدث إليها عن المحاضرات والشعب، ولكن الحديث كان مقطع الأوصال ثم كفا عن الكلام كأنما ضنا بالألفاظ أن يسوقاها عبثًا.

وهكذا وصلا إلى الباب وهما صامتان باسمان ينفضان بأكتافهما الندى عن الأغصان.

وكان كل شيء ساكنًا مفكرًا سعيدًا مثلهما.

وكان الفناء مظلمًا مهجورًا كما ألفياه من قبل. ولكن الباب الخارجي كان مفتوحًا وتأدى إليهما من البيت وقع أقدام مسرعة وصوت أدراج تفتح وتقفل فقالت سينا: «لقد عادت أولجا.»

وسألت دوبوفا من البيت: «سينا! أهذا أنت؟»

وكان في نبرة صوتها ما يشعر بوقوع أمر سيئ وبرزت إلى الباب مضطربة حائلة اللون، وقالت وأنفاسها منبهرة: «أين كنت؟ لقد كنت أبحث عنك. إن سمينوف يموت!»

فصاحت سينا فزعة: «ماذا تقولين؟»

أجابت: «نعم يموت. فقد انفجر أحد أوعية الدم. ويقول أناتول بافلوفتش إنه مقضي عليه وقد حملوه إلى المستشفى. وكان كل ذلك بسرعة مرعبة فقد كنا في بيت راتوف نشرب الشاي وكان المسكين جذلًا يجادل نوفيكوف في كل مسألة. ثم أخذه السعال فجأة فنهض وتطرح ونفث الدم على كساء المائدة وفي طبق المربى … والدم أسود سائل.»

فسألها يوري باهتمام ساهم: «وهل هو يعرف ذلك؟»

وذكر الليلة القمراء والظل الحالك والصوت الضعيف المتقطع يقول له: «ستكون حيًّا وتمر بقبري وتقف عليه وأنا …»

فقالت دوبوفا وعلى يديها حركة عصبية: «نعم يظهر أنه يعرف، فقد دارت بنا عينه وسألنا: «ما هذا؟» ثم أخذته الرعدة من فرعه إلى قدمه وقال: «أَوَقد قضي الأمر؟» أليس هذا فظيعًا؟»

فقال يوري: «هذا أهول مما يطاق!» وصمتوا جميعًا.

وكان الظلام الآن حالكًا. ومع أن السماء صافية فقد توهموا فيها الكآبة والحزن.

ثم قال يوري ووجهه أصفر: «الموت شيء فظيع.»

فتنهدت دوبوفا ونظرت إلى الفضاء. وارتعشت ذقن سينا وابتسمت وهي لا تملك غير ذلك ولم تستطع أن تحس ما أحساه من الهول. وهي غادة في عنفوان الصبا يجول في عودها ماء الحياة الدافق ولا يسعها أن تحصر خواطرها في الموت. ولم يكن مما يصدقه خيالها أو يقوى على تصوره أن يتعذب أحد ويموت في ليلة صيفية جميلة وضيئة كهذه. نعم إن الموت طبيعي لا شك فيه، ولكنه لسبب ما خطأ. وأخجلها هذا الإحساس فعالجت أن تنفيه وأن تظهر على قسمات وجهها دلائل العطف. وراحت بفضل هذا الجهد وهي أظهر أسى من صاحبيها وسألت: «مسكين! أهو حقيقة …؟»

وكانت تريد أن تسأل: «هل سيموت عاجلًا؟»

ولكن الألفاظ وقفت في حلقها. وجعلت تلقي على دوبوفا أسئلة فارغة مفككة.

فقالت دوبوفا بصوت فاتر: «إن أناتول بافلوفتش يقول إنه سيموت الليلة أو غدًا صباحًا.»

فهمست سينا: «أَوَلا نذهب إليه؟ أم تريان أن البقاء خير؟ لا أدري!»

وكان هذا السؤال يدور في أذهانهم جميعًا — أيذهبون ويشهدون سمينوف وهو يقضي نحبه؟ أيكون هذا خطأ منهم أم صوابًا — ورغبوا جميعًا في الذهاب ولكنهم أشفقوا مما عسى أن يشهدوا.

فهز يوري كتفيه وقال: «فلنذهب. ومن المحتمل جدًّا أن لا يأذنوا لنا وربما …»

فأضافت دوبوفا كأنما ارتفع عن كاهلها عبء: «ربما طلب سمينوف أن يرى بعضهم على الخصوص.»

فقالت سينا بلهجة جافة: «تعالوا بنا! سنذهب.»

وقالت دوبوفا وكأنها تريد أن تسوغ الأمر لنفسها: «إن شافروف ونوفيكوف هناك.»

وعدت سينا إلى البيت لتعود بقبعتها ومعطفها ثم مضوا جميعًا في وجوم مخترقين البلدة إلى البناء الضخم الأشهب ذي الأدوار الثلاثة، أي المستشفى الذي كان سمينوف يجود فيه بأنفاسه.

وكانت الممرات الطويلة ذات الأقبية مظلمة تتصاعد منها رائحة اليودوفرم والكاربوليك.

ومروا في طريقهم بقسم المجانين فسك أسماعهم صوت ثائر أجش، ولكنهم لم يروا أحدًا ففزعوا وحثوا الخطى إلى نافذة صغيرة معتمة.

وجاء إليهم فلاح هرم شائب الرأس واللحية وعلى صدره «فوطة» كبيرة وقدماه في حذائين عاليين ضخمين يدب بهما على الأرض. فسألهم ووقف: «من تريدون أن تعودوا؟»

فقالت دوبوفا متلجلجة: «جيء بطالب إلى هنا — سيمنوف — اليوم!»

فقال الخادم: «رقم ٦ في الدور الثاني.»

وتركهم وسمعوه يتسخط ويبصق على الأرض ثم يدهس البصاق بقدمه.

وكان الدور الثاني أضوأ وأنظف ولم تكن بالسقف عقود ورأوا بابًا مفتوحًا مكتوبًا عليه «حجرة الطبيب» ولمحوا فيها مصباحًا يضيئها وسمعوا أصوات الزجاجات والأكواب.

فأدخل يوري رأسه ونادى من فيها فانقطعت الأصوات.

وظهر ريازانتزيف نضير الوجه مسرورًا كعادته، وقال بصوت طروب إذ كان قد ألف هذه الحوادث التي أحزنت زائريه: «آه إن دوري اليوم. كيف أنتم سيداتي؟»

ثم قطب فجأة وقال بلهجة جادة كبيرة الدلالة: «إنه لا يزال غائبًا عن رشده على ما يظهر. فلنذهب إليه، إن نوفيكوف وغيره هناك.»

وساروا واحدًا وراء الآخر في الممر الضيق النظيف، وإلى يمينهم ويسارهم أبواب بيضاء عليها أرقام سوداء وقال ريازانتزيف: «ولقد أرسلنا في طلب القسيس: ما أسرع ما جاءت الخاتمة! إني مستغرب! ولكنه أصيب ببرد كما تعلمون وهذا هو الذي قضى عليه، هذه هي الغرفة.»

وفتح ريازانتزيف بابًا أبيض ودخل منه وتبعه الآخرون يتصادمون على العتبة.

وكانت الغرفة نظيفة رحيبة وفيها أربعة أسرة خالية، وعلى كل منها غطاؤه الخشن مطويًا يحضر في الذهن صورة النعش، وفي السرير الخامس رجل هرم ضئيل الجسم جاف العود جالس يلحظ الداخلين، وعلى السرير السادس سمينوف وفوقه غطاء خشن كذلك، وإلى جانبه نوفيكوف منحنيًا إليه على حين كان إيفانوف وشافروف واقفين عند النافذة.

وكانوا كلهم يرون من الأمور الغريبة المؤلمة أن يتصافحوا في حضرة رجل يموت وربكم أن لا يفعلوا كأن في ترك المصافحة إشارة إلى أن المنتهى قريب. فسلم البعض وامتنع الآخرون ووقفوا جميعًا يرمقون سمينوف بعيون مستفسرة.

وكان يتنفس ببطء وجهد. وما أبعده عن سمينوف الذي يعرفونه، والواقع أنه لم يكن كالأحياء وقد ظلت معارفه وأوصاله ولكنها صارت متصلبة مشدودة فظيعة المنظر. وكأن ذلك الذي يصب الحياة والحركة في أجسام الآدميين غيره لم يعد له وجود، وكأن أمرًا مرعبًا يجري بسرعة وتكتم في هذا الجسم الجامد؛ أمرًا مهمًّا لا سبيل إلى إرجائه، وكأنما لم يبق له من الحياة إلا تلك القوة المشتغلة بهذا العمل المتفرغة لإتمامه باهتمام حاد لا يناله التفسير.

وكان المصباح المدلى من السقف يصب ضوءه على وجه ذلك المائت، وكل من في الغرفة يتئره النظر ويعلق أنفاسه كأنما يخشى أن يزعج شيئًا رهيبًا. فكانت أنفاس المريض المحشرجة المخنوقة — وسط هذا السكون — واضحة وضوحًا مرعبًا.

وفتح الباب ودخل قسيس بدين قصير يسير بخطى قصيرة ضعيفة، ومعه المرتل وهو رجل أسمر هزيل، ودخل معهما سانين وسعل القسيس سعالًا خفيفًا وانحنى للطبيبين وللحضور فردوا عليه بأدب مبالغ فيه ثم عادوا إلى الصمت التام.

أما سانين فلم يجعل باله إلى أحد. ومضى إلى النافذة ومن ثم أخذ يرصد سمينوف والحاضرين جميعًا منقبًا في سرائرهم معالجًا أن يستشف من الوجوه ما يحسه المريض ومن حوله ويفكرون فيه في الواقع.

وظل سمينوف جامدًا يتنفس كما كان.

وقال القسيس في رفق غير موجه سؤاله إلى أحد على التعيين: «إنه غائب عن رشده. أليس كذلك؟»

فأسرع نوفيكوف وأجابه: «نعم.»

وتمتم سانين شيئًا غير مفهوم فنظر إليه القسيس مستفسرًا غير أن سانين ظل صامتًا فصرف القسيس وجهه عنه ومسح شعره ورده إلى الوراء ولبس عباءته وشرع ينشد التراتيل للميت بصوت عال شجي.

وكان صوت صاحبه المرتل ضخمًا خشنًا ثقيلًا فصار الصوتان المختلفان مؤلمين في تنافرهما وهما يتصاعدان إلى السقف العالي.

ولم يكد الترتيل يبدأ حتى اتجهت كل العيون في فزع إلى ذلك الذي يموت.

وكان نوفيكوف أدنى إليه فخيل إليه أن جفون سمينوف اختلجت قليلًا كأنما تحرك من تحتها الإنسانان المكفوفان في اتجاه الغناء. أما الآخرون فلم يروا إلا أن سمينوف بقي بلا حراك كما كان من قبل.

ولم يكد الترتيل يبدأ حتى بكت سينا بكاء ساكنًا ملحًا وانهمرت الدموع على محياها النضير الجميلن فتحولت إليها العيون وشرعت دوبوفا تبكي كذلك وجالت العبرات في عيون الرجال ولكنهم قرضوا أسنانهم ليمنعوا الدموع أن تسيل. وكانت الفتيات كلما علا الترتيل ازددن نحيبًا. فعبس سانين وهز كتفيه محنقًا وجعل يقول لنفسه: ما أخلق سمينوف أن لا يطيق — إذا سمع — هذا العويل الذي يكرب نفس الأصحاب ثم قال للقسيس في غيظ: «خفض من صوتك!»

فمال القسيس إليه ليسمع ما يقول فلما فهم معناه قطب وزاد في صوته علوًّا. وحملق رفيقه في سانين ورماه الجميع بنظرهم كذلك وبهم مزيج من الخوف والدهشة كأنه قال شيئًا يسوء فأعرب سانين عما به من الضيق بإيماءة ولم ينبس.

ولما انْتُهِيَ من الترتيل وطوى القسيس الصليب في عباءته ألح الانتظار على النفوس بالألم. وكان سمينوف متصلبًا جامدًا كالعهد به.

ثم طاف بأذهان الجميع فجأة خاطر فظيع لا سبيل إلى مغالبته ونفيه: «أما لو أنه انتهى الأمر بسرعة! لو أن سمينوف يعجل بالموت!»

ولكن الخوف والخجل دفعاهم إلى كتمان هذه الرغبة والاكتفاء بتبادل النظرات الضعيفة.

فقال سانين بصوت منخفض: «أما لو انتهى كل هذا! فظيع أليس كذلك؟»

فأجابه إيفانوف: «نعم.»

وكان كلامهما همسًا، ومن الجلي أن سمينوف لم يكن يستطيع أن يسمعهما غير أن الحاضرين بدت عليهم أمارات الاشمئزاز والاستفظاع.

وهم شافروف أن يقول شيئًا ولكن صوتًا جديدًا شاكيًا — لا سبيل إلى وصف ما انطوى عليه من ألم — دوى في الغرفة وأرسل الرعدة في الموجودين. ذلك أن سمينوف أخرج هذا الصوت: «ايـ … ايـ … ايـ …»

وكأنما اهتدى إلى طريقة يطلبها للتعبير والنطق فمضى يخرج هذا الصوت الممطوط لا يعوقه إلا نفسه المحشرج المخنوق.

ولم يدرك الحضور في أول الأمر ماذا حدث له. ولكن سينا ودوبوفا بكتا.

واستأنف القسيس ترتيله في بطء واحتفال وظهرت على وجهه السمين الطيب دلائل العطف والانفعال.

ومضت دقائق. وكف سمينوف فجأة عن التوجع وهمس القسيس أن قد قضي الأمر.

ثم حرك سمينوف ببطء وبجهد جاهد شفتيه المصمغتين وتقبض وجهه كأنما يبتسم وسمع النظارة صوتًا أجوف منكرًا يخرج من أعماق صدره — وكأنه خارج من نعش — يقول: «أيها الشيخ الأحمق!»

وعيناه تنظران شزرًا إلى القسيس وشاعت الرعدة في جسمه ودار حملاقاه كالمجنونين في كهفيهما وتمطى …

وسمعوا جميعًا كلماته الثلاث ولكن لم يتحرك منهم أحد وغاضت — لحظة — من وجه القسيس السمين الرطب آية الحزن وتلفت حوله في قلق غير أن لحظه أخطأ كل عين. وكان سانين وحده يبتسم.

وحرك سمينوف شفتيه ثانيًا غير أنه لم يخرج منهما صوت واسترخى أحد شاربيه الخفيفين وتمطى مرة أخرى، وصار في رأى العين أطول وأفظع. وانقطع كل صوت وكل حركة. ولم يبك أحد الآن، فقد كان نزول الموت أهول من ترنيقه، وكأنما كان من الغريب المعجب أن ينتهي منظر ملفت كهذا بمثل تلك السرعة والبساطة.

فظلوا برهة وقوفًا إلى السرير يتأملون معارف وجهه الميتة النافقة وكأنهم يتوقعون أن يحدث شيء جديد وراحوا — لكي ينبهوا في نفوسهم الإحساس بالهول والمرثية — يرقبون نوفيكوف وهو يغمض أجفان الميت ويضع له يديه على صدره.

ثم خرجوا في سكون وحذر. وكانت المصابيح قد أضيئت في الممر وبدا لهم كل شيء مألوفًا فخلصت أنفاسهم.

وكان القسيس أول الخارجين فمضى بخطوات قصيرة وأراد أن يقول شيئًا على سبيل العزاء للإيضاع من الحاضرين فتنهد وقال بصوت رقيق: «وا أسفاه! إنه لأمر محزن جدًّا! وفي مثل هذا الشباب أيضًا. وا أسفاه! ومن الواضح أنه مات غير تائب ولكن الله رحيم.»

فقال شافروف وكأنه يليه متوخيًا الأدب: «نعم، نعم بالطبع.»

فسأل القسيس: «أتعرف أسرته ما حدث.»

فأجابه شافروف: «لست أدري.»

ونظر بعضهم إلى بعض في دهشة واستغربوا واستقبحوا أن لا يعرفوا من هم أهل الميت.

وقالت سينا: «أظن أخته في المدرسة العالية.»

فقال القسيس: «آه حسن! والآن عموا مساء.» ورفع قبعته قليلًا بأصابعه السمينة.

فقالوا جميعًا بصوت واحد: «عم مساء!»

ولما بلغوا الشارع تنهدوا كأنما تخلصوا. وسألهم شافروف: «أين نذهب؟»

وبعد تردد قليل ودع بعضهم بعضًا ومضى كل في طريقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤