الفصل الثالث والعشرون

كانت الليلة داجية والسحب يطارد بعضها بعضًا فوق الأشجار وكانت تمضي مسرعة كأنها مرسلة إلى غاية خفية والنجوم تتلامح لحظة وتختفي أخرى، وكل شيء في السماء كأنه في هرج ومرج، على حين كانت الأرض كمن ينتظر شيئًا وهو معلق الأنفاس، فكانت الأصوات الآدمية المتنازعة وسط هذا السكون مستثقلة عالية.

قال فون دايتز وهو يتعثر تعثرًا شديدًا: «مهما يكن من الأمر فإن المسيحية نعمة باقية وبركة خالدة على الإنسانية إذ كانت هي النظام الوحيد التام المفهوم للأخلاق.»

فقال يوري وكان سائرًا خلفه ورمى برأسه يمنة على سبيل التحدي وعينه إلى ظهر الضابط: «هذا صحيح. ولكن المسيحية في صراعها مع الغرائز الحيوانية في الإنسان ظهر أنها عاجزة كغيرها من الأديان.»

فصاح فون دايتز مغضبًا: «ماذا تعني بقولك ظهر أنها كذلك؟ إن للمسيحية المستقبل وفي الإشارة إلى أنها عتيقة …»

فقاطعه يوري بحدة: «ليس للمسيحية مستقبل. وإذا كانت لم تنتصر وهي في أوج نشوئها بل صارت آلة في أيدي عصابة من الدجالين، فمن السخافة المطبقة أن نتوقع منها معجزة في هذه الأيام التي عاد حتى اسم المسيحية فيها مضحكًا. إن التاريخ لا يرحم وكل ما يخرج من الميدان لا يسعه أن يكر إليه.»

فصرخ فيه فون دايتز: «هل تريد أن تقول إن المسيحية خرجت من الميدان؟»

فمضى يوري في كلامه معاندًا: «أعني ذلك على التحقيق. وأراك تعجب لذلك كأن مثل هذه الفكرة مستحيلة. كما أن شريعة موسى قد بادت وكما أن بوذا وآلهة الإغريق قد غبروا كذلك ذهب المسيح. هذا قانون النشوء فماذا يدهشك؟ أتؤمن بألوهيته؟»

فقال فون دايتز وقد ساءته لهجة يوري أكثر مما ساءه السؤال: «كلا لا أؤمن بألوهيته.»

فسأله يوري: «إذن فكيف تقول إن إنسانًا يستطيع أن يخلق سننًا أبدية؟»

وحدث نفسه إن فون دايتز «قدم غبي» وارتاح إلى الاقتناع بأنه دونه ذكاء بمراحل وأنه يعجز عن فهم ما هو واضح وضوح الشمس.

فقال فون دايتز وقد تحمس بدوره: «لنفرض أن هذا كذلك، فإن المستقبل على الرغم من هذا الفرض ستكون قاعدته المسيحية. ذلك لأنها لم تفن. ولكنها كالبذرة في التربة …»

فقاطعه يوري وبه بعض الارتباك والغضب لارتباكه: «لم أكن أتكلم عن هذا، وإنما أردت أن أقول …»

فقال: «عفوًا فإن هذا هو ما قلته.»

فقاطعه يوري مرة ثانية وقد هاجه أن هذا الغبي يظن نفسه أذكى الاثنين: «إذا كنت قد قلت كلا فإني أعني ما أقول. ما أسخفك! أريد أن أقول …»

فقال: «قد يكون هذا كذلك. وأنا آسف إذا كنت قد أسأت الفهم.» وهز فون دايتز كتفيه الضيقتين هزة المتنازل إلى التسامح وكأنه يقول إنه فاز على مناظره.

ولم يفت يوري هذا المعنى فكاد يخنقه الغضب وقال: «لست أنكر أن المسيحية قامت بدور عظيم …»

فصاح فون دايتز: «آه! إنك الآن تناقض نفسك.» والتز هذا النصر وسره جدًّا أنه يفوق يوري ذكاء وفطنة.

فقال يوري بحرارة: «ربما خيل إلى مثلك أني أناقض نفسي ولكن الواقع أن فكرتي منطقية وليس ذنبي أنك لا تريد أن تفهم. ولقد قلت وأقول الآن إن المسيحية قد غبر عهدها وإن من العبث أن نتطلع إليها لخلاصنا.»

فسأله فون دايتز قائلًا: «نعم نعم. ولكن هل تريد أن تنكر التأثير الحسن الذي أحدثته المسيحية باعتبارها قاعدة النظام الاجتماعي؟»

أجاب: «كلا! لا أنكر ذلك.»

فقال سانين: «ولكني أنكره.» وكان يسير إلى الآن صامتًا وراءهما وكان صوته هادئًا لذيذًا على العكس من المتناظرين، فصمت يوري وغاظته هذه اللهجة الساخرة المضبوطة النبرات، ولكنه لم يجد الرد حاضرًا ولم يكن يحب أن يناظر سانين لأن معجم ألفاظه المألوف لم يكن يجديه في هذا النزال، وكان يخيل له إذا قارعه كأنما هو واقف على الجليد يحاول أن يهدم حائطًا. غير أن فون دايتز صاح مغضبًا: «أتسمح لي أن أسألك لماذا؟»

فقال سانين بلهجة جافية باردة: «لأني أنكر ذلك.»

أجاب يوري: «لأنك تنكر ذلك؟ إذا قرر المرء شيئًا فيجب عليه أن يثبته.»

أجاب: «لماذا يجب أن أثبته. إنه لا حاجة إلى إثبات أي شيء! هذه عقيدتي وليس لي أقل رغبة في إقناعك. وعلى أن هذا عبث.»

فقال يوري بحذر: «إذا سايرناك في أسلوب تفكيرك كان الأولى أن نحرق كل كتب الأدب.»

فأجابه سانين: «لا لا! لماذا تفعل هذا؟ إن الأدب شيء جليل جدًّا وممتع جدًّا. والأدب الصحيح الذي أعنيه ليس جدليًّا وليس صاحبه كذلك الدعي الذي لم يكن يجد ما يصنع ذهب يعالج أن يقنع كل إنسان بأنه آية في الذكاء وتوقد الذهن. إن الأدب يجدد الحياة ويعيد إنشاءها ويتغلغل وينفذ حتى إلى دم الإنسانية جيلًا بعد جيل. ففي القضاء عليه سلب لكل لون للحياة وكل طعم وروح لها.»

فوقف فون دايتز وترك يوري يمر به ثم قال لسانين: «أرجوك أن تزيدني! إن ما قلته الآن ممتع لي جدًّا.»

فاستغرق سانين في الضحك ثم قال: «إن ما قلته بسيط جدًّا وفي وسعي أن أفيض في البيان إذا شئت. وعندي أن المسيحية قامت بدور ضئيل في حياة الإنسانية. ذلك أنها في الوقت الذي أحس فيه الناس أن حالهم لا يطاق وصمم فيه المضطهدون والمستعبدون لما ثابت إليهم مداركهم على أن يقلبوا نظام الحياة الجائر وأن يعصفوا بالطفيليات الآدمية — أقول في هذا الوقت ظهرت المسيحية وديعة متواضعة تعد الجزيل، فانحت على النزاع واستنكرته وألاحت للناس بصورة النعيم المقيم، وعللت الإنسانية بأنغامه حتى أتعستها وانطلقت تنشر دين الإذعان والتسليم لسوء المعاملة، وقصارى القول أنها جاءت بمثابة «متنفس» للحنق المكتوم، فعاد بها ذوو الشخصية القوية الذين درجوا ونشئوا وسط روح الثورة، وكانوا يحنون إلى خلع نير القرون — أقول عادوا — وقد فقدوا كل حرارة كانت تحفزهم، فساروا كالحواريين إلى ميدان الفناء يطلبونه بشجاعة خليقة بغرض أسمى. ولم يكن خصومهم يبغون بالبداهة غير هذا. والآن فسيحتاج الأمر إلى قرون ظلم فاضح قبل أن توقد نيران الثورة مرة أخرى. ولقد خلعت المسيحية على الشخصية الآدمية العنيدة التي لا تصبر على الرق ثوبًا من التوبة والندم يخفي تحته كل ألوية الحرية. وخدعت الأقوياء الذين كان يسعهم الآن أن يستحوذوا على الثروة والسعادة بأن نقلت مركز ثقل الحياة إلى المستقبل — إلى عالم أحلام لا وجود له — عالم لن يراه أحد منهم. وهكذا اختفت روعة الحياة وفتنتها وماتت الشجاعة والعاطفة والجمال. ولم يبق إلا الواجب وحلم العصر الذهبي في المستقبل — ذهبي للآتين — نعم لقد كان دور المسيحية صغيرًا. واسم المسيح …»

فقاطعه فون دايتز صارخًا ووقف: «أبدًا! إن هذا يتجاوز الحد!»

وجعل يلوح بذراعيه الطويلتين في الظلام.

فسأله يوري مضطربًا: «ولكن ألم يخطر لك قط أي عصر فظاعة وإراقة دماء كان خليقًا أن يكون لولا أن حالت المسيحية دون ذلك؟»

فأجابه سانين بإيماءة استخفاف: «ها! ها! حدث في بادئ الأمر أن «الميدان» — تحت ثوب المسيحية — تلطخ بدماء الشهداء، ثم حدث بعد ذلك أن الناس كانوا يذبحون أو يلقون في السجون أو محابس المجانين. والآن يسفك كل يوم من الدم أكثر مما يمكن أن تريقه ثورة عامة. وشر ما في الأمر أن كل تحسين في حياة الإنسانية لا يتم إلا بسفك الدماء والفوضى والانتفاض، وإن كان الناس لا يفتئون يدعون أن حب الإنسانية وإيثار الجار هما قاعدة حياتهم وأعمالهم. والأمر كله ينتهي بمأساة سخيفة كاذبة ليست من هذا ولا ذاك في شيء. أما أنا فإني أوثر أن تنزل بالعالم كارثة عامة وحية تقضي عليه، ذلك خير عندي من وجود نباتي فاتر يمتد على الأرجح ألفي عام أخرى.»

فصمت يوري ومن الغريب أن ذهنه لم يكن موجهًا إلى ما يقول سانين بل إلى شخصيته. وساءه من سانين يقينه المطلق ولم يطق أن يحتمل هذا منه، فقال وهو مدفوع بعامل قوي إلى إيلام سانين: «هل لك أن تتفضل علي فتخبرني لماذا تتكلم دائمًا كأنك تعلم أطفالًا صغارًا؟»

فقلق فون دايتز لهذا السؤال وقال شيئًا على سبيل التوفيق.

وسأله سانين بحدة، «ماذا تعني بذلك؟ ولماذا تغضب؟»

فأحس يوري أن كلامه جارح وأنه لا ينبغي أن يتمادى ولكن كرامته المثلوبة دفعته فقال: «إن هذه اللهجة ثقيلة الوقع جدًّا.»

فأجابه سانين وبه بعض الغيظ إلا أن به رغبة في التسرية عن صاحبه: «إنها لهجتي المألوفة.»

فقال يوري ورفع صوته: «إنها ليست موافقة دائمًا ولا أدري ماذا يكسبك مثل هذا اليقين الجازم!»

فأجابه سانين وقد عاد إلى سكينته: «لعل السبب شعوري أني أذكى منك.»

فوقف يوري وهو يرعد من فرعه إلى قدمه وصاح بصوت متهدج: «انظروا ماذا يقول!» فقال سانين: «لا تغضب! إني لم أرد أن أسيء إليك وإنما أعربت عن رأيي الصريح، وليس رأيي فيك إلا كرأيك في وكرأي فون دايتز فينا وهكذا وذلك طبيعي.»

وكان سانين يقول ذلك بلهجة ودية صريحة لا تدع محلًّا للغضب، فصمت يوري ولكن فون دايتز ظل قلقًا عليه. فتمتم يوري: «مهما يكن من الأمر فإني لا أصارحك برأيي وأرميه لك في وجهك.»

فأجابه سانين: «كلا! إنك لا تفعل هذا وذلك حيث تخطئ، ولقد كنت أصغي إليك وأنت تناظر صاحبك الآن فرأيت روح الغضب والإساءة يحفز كل كلمة يجري بها لسانك. والمسألة مسألة شكل. أنا أقول ما أرتئي وليس في هذا ذرة من الامتناع. ولو أننا كنا كلنا صرحاء مخلصين لكان هذا أمتع لنا جميعًا.»

فضحك فون دايتز وقال: «يا له من رأي مبتكر!»

ولم يجبه يوري وكان غضبه قد سُرِّيَ عنه، بل لقد استشعر شيئًا من السرور، وإن كان قد آلمه أنه قد خرج من المعركة مهزومًا وإن لم يشأ أن يعترف بذلك.

فقال فون دايتز: «إن مثل هذه الحالة تكر بنا إلى الحياة الساذجة.»

فسأله سانين: «وهل ترى الأفضل أن تكون الحياة مبهمة معقدة.» فهز فون دايتز كتفيه واستغرقه التفكير.

اجتاز ثلاثتهم الميدان ومن بعده السكك المقفرة خارج البلدة وهي أضوأ من الميدان وأكثر نورًا، وكان الإفريز الخشبي واضحًا حيال الأرض السوداء، وفي السماء الصافية الزرقة تلتمع النجوم.

وقال فون دايتز: «ها نحن هؤلاء قد وصلنا.» وفتح بابًا قصيرًا اختفى فيه ولم يكد يغيب حتى سمعنا نباح كلب وصوتًا يقول له: «ارقد يا سلطان.» وأبصر فناء واسعًا فارغًا وفي جانب منه كتلة سوداء هي طاحونة بخارية ذهبت مدخنتها الضيقة في الهواء وحولها خصاص، ولم تكن ثم أشجار إلا في رقعة ضيقة من الأرض أمام البيت الثاني، وقد أضاء أوراقها الخضراء نور منبعث من نافذة مفتوحة. فقال سانين: «ما أظلمه من مكان!» فسأله يوري: «أحسب الطاحون قديمة.» فأجابه فون دايتز: «قديمة جدًّا.» ولما جاوز النافذة المضيئة أطل منها ثم قال بلهجة المرتاح: «لقد حضر خلق كثير.» فأطل سانين ويوري مثله ورأيا رءوسًا تتحرك في سحابة من الدخان، فمال إلى النافذة رجل عريض الألواح مجعد الشعر وسأل: «من هنا؟» فقال يوري: «أصدقاء!»

ولما صعدوا السلم اصطدموا برجل صافحهم مصافحة الأوداء وقال بنبرة يهودية بارزة: «لقد خشيت أن لا تحضروا.» وقام فون دايتز بواجب التعريف قائلًا: «سولوفتشك — سانين.» فضحك سولوفتشك ضحكة المضطرب وقال: «يسرني أن ألقاك، لقد سمعت عنك كثيرًا وأنت تعرف …» وتطرح إلى الوراء دون أن يخلي كف سانين، فاصطدم بيوري وداس على قدم فون دايتز فقال: «عفوًا يا جاكوف ادولفوفتش (دايتز)» وأخذ يهز كفه بقوة. وهكذا طال الأمر قبل أن يبلغوا الباب وكان في الردهة صفوف من المسامير دقها سولوفتشك لاجتماع الليلة وبها القبعات معلقة، وبجانب النافذة زجاجات خضراء ملأى بالجعة. وسحب الدخان معقودة حتى في جو الردهة.

وبدا سولوفتشك في الضوء يهوديًّا شابًّا أسود العينين مجعد الشعر صغير القسمات قبيح الأسنان بديهًا إذ كان لا يزايله الابتسام.

فاستقبلهم القوم بضجة عالية وأبصر يوري سينا جالسة على حافة النافذة، فعاد كل شيء في عينه وضاحًا سارًّا كأن الاجتماع لم يكن في حجرة مرذولة غاصة بالدخان، بل حفلة بين المروج الخضراء في الربيع.

فابتسمت له سينا وهي مرتبكة. وقال سولوفتشك وهو يحاول أن يرفع صوته الضعيف الحوار ويداه تتحركان على نحو زري مضحك: «أيها السادة، أحسبنا جميعًا قد حضرنا، أرجوك العفو يا يوري! إني دائمًا أصطدم بك.» وضحك وهو يدفع نفسه إلى الأمام محاولًا أن يتوخى الأدب، فضغط يوري على ذراعه وقال له: «لا شيء!»

وصاح طالب حسن الوجه: «لسنا جميعًا هنا لعنة الله على الباقين.» وكان صوته العالي يشعرك أنه ألف أن يأمر سواه، فوثب سولوفتشك إلى المنضدة ودق جرسًا صغيرًا وابتسم مرتاحًا إلى أنه فكر في استعمال الجرس.

فصاح به الطالب: «أوه! لا تفعل هذا! إنك مولع بكل أنواع السخافات! ليس بنا أدنى حاجة إلى هذا.»

فتمتم سولوفتشك: «لقد … ظننت … أن …» وارتبك ووضع الجرس في جيبه فقال الطالب: «ينبغي أن تكون المنضدة في وسط الحجرة.»

فأجاب سولوفتشك: «نعم نعم سأجرها حالًا.» وأسرع فأمسك بطرف منها فصاحت ديبوفا قائلة: «حاذر أن تكسر المصباح.»

وقال الطالب ودق ركبته: «إنها لا تنقل بهذه الطريقة.»

فقال سانين: «دعني أساعدك.»

– «أشكرك.»

فوضع سانين المنضدة في وسط الحجرة، وكانت كل عين تنظر إلى ظهره القوي وعضلات كتفيه التي كان قميصه الرقيق يشف عنها.

وقالت ديبوفا: «والآن يا جوشنكو من حيث إنك مقترح هذا الاجتماع فإن عليك أن تلقي الخطاب الافتتاحي» وكان من الصعب أن تعرف من عينيها أجادة هي أم ضاحكة بالطالب.

فقال جوشنكو ورفع صوته: «أيتها السيدات. أيها السادة. إنكم جميعًا تعرفون لماذا اجتمعنا الليلة هنا، وعلى ذلك نستطيع أن نستغني عن خطاب تمهيدي.»

فقال سانين: «الواقع أني لا أعرف لماذا جئت، ولكن ربما كان السبب أنهم قالوا لي إن هنا جعة!» وضحك.

فنظر إليه الطالب باحتقار ومضى في كلامه: «إن جماعتنا مؤلفة لتهذيب النفس بواسطة المطالعة المتبادلة والمحاضرات والمناقشات المستقلة …»

فقاطعته ديبوفا: «المطالعة المتبادلة؟ لست بفاهمة!» قالت ذلك بلهجة قد تعد ساخرة، فاحمر وجه الطالب وقال: «أردت أن أقول مطالعة نشترك فيها جميعًا، فالغرض من جماعتنا هو تربية الرأي الفردي تربية تفضي إلى أن يتألف في هذه البلدة اتحاد يعطف على الحزب الديمقراطي الاشتراكي.»

فقال إيفانوف: «آها!!» وحك رأسه.

«ولكنا سنتناول هذا الموضوع فيما بعد. أما في مبتدأ الأمر فلن نتولى حل شيء من هذه المسائل الكبيرة …»

فلقنته ديبوفا: «أو الصغيرة.»

فتظاهر جوشنكو بعدم الالتفات إليها وقال: «وسنبدأ بوضع برنامج يتضمن بيانًا بالكتب التي ننوي أن نطالعها وأقترح أن نقصر اجتماع الليلة على هذا العمل.»

فسألت ديبوفا: «سولوفتشك. هل سيحضر عمالك؟»

فوثب سولوفتشك كأنما كان لدغ وقال: «نعم سيحضرون ولقد أرسلت في طلبهم.»

فصاح الطالب: «لا ترفع عقيرتك هكذا!»

وقال شافروف وكان يصغي إلى خطاب جوشنكو باحترام: «ها هم أولاء قد حضروا.»

وصر الباب وسمع نباح الكلب وانطلق سولوفتشك من الغرفة وهو يقول: «لقد حضروا.» وصاح بالكلب أن «ارقد يا سلطان.» وسمعوا وقع أقدام ثقيلة وسعالًا وأصوات رجال، ثم دخل طالب هندسة شبيه بجوشنكو لولا أنه أسمر وأقل وسامة ودخل معه الحجرة عاملان مستحييان مرتبكان أكفهم خشنة وعلى كل منهم جاكتة قصيرة تحتها قميص أحمر قذر، وكان أحدهما طويلًا عريضًا تقرأ في وجهه الحليق النحيل آيات الجوع سنين والكمد الباطن المخامر والبغض والسخط المكتومين. أما الثاني فله هيئة الرياضي وهو عريض الكتفين حسن الوجه مجعد الشعر وكان يتلفت حوله كالفلاح إذ يرى مدينة لأول مرة فتقدمهما سولوفتشك وقال بجد ووقار: «أيها السادة هؤلاء …»

فقاطعه جوشنكو كعادته: «كفى كفى! عموا مساء أيها الرفاق.»

فقال طالب الهندسة مقدمًا رفيقيه: «بتسوف وكودريافجي.»

فدخل العاملان بحذر وصافحا الأيدي الممتدة للترحيب بهما، وابتسم بتسوف وهو مرتبك أما زميله فكان يلوي عنقه الطويل كأنما كان الزيق «الياقة» يخنقه. ثم جلسا إلى النافذة قرب سينا.

فسأله جوشنكو: «لماذا لم يحضر نيقولايف؟»

فأجاب بتسوف: «لم يستطع الحضور.»

وزاد كودريافجي: «لقد شرب حتى عمي.»

فقال جوشنكو وهز رأسه: «آه! فهمت.»

فأثارت هذه الحركة التي أراد بها جوشنكو أن يعرب عن عطفه حنق يوري ووجد في الطالب خصمًا شخصيًّا له.

وعاد الكلب إلى النباح فقالت ديبوفا: «لقد حضر آخرون.»

فقال جوشنكو وتكلف الاستخفاف: «لعلهم الشرطة.»

فصاحت ديبوفا: «إني على يقين من أنك لا تكترث إذا كان الطارقون هم الشرطة!»

فنظر سانين إلى عينيها الذكيتين وإلى جدائل شعرها الجميلة المرسلة على كتفيها وقال لنفسه: «إنها فتاة ذكية الفؤاد.»

ووثب سولوفتشك كأنما يهم بالخروج ولكنه استعاد صوابه فتظاهر بأنه يتناول سيجارة على المنضدة. ولم تفت جوشنكو هذه الحركة فقال ولم يجب ديبوفا: «ما أكثر قلقك وحركاتك يا سولوفتشك.»

فاحمر وجه سولوفتشك وتجهم وخالجه الأسف على حماسته التي لا تستحق أن يكون جزاؤها هذا التعنيف، ثم دخل نوفيكوف وهو باش مبتسم: «هذا أنا.» فقال سانين: «وكذلك نراك.» وتصافحا. وهمس نوفيكوف في أذن سانين على سبيل الاعتذار: «إن ليدا تستقبل زوار اليوم.»

وعاد طالب الهندسة إلى موضوعه فسأل: «هل جئنا لنتكلم؟ ألا دعونا نبدأ!»

فقال نوفيكوف والسرور باد عليه: «إذن فأنتم لم تبدءوا بعد؟» وصافح العاملين اللذين وثبا على أقدامهما وارتبكا لمقابلته هنا مقابلة الند والزميل وهو لا يعاملهما في المستشفى إلا معاملة من هم دونه.

ثم أخذ جوشنكو يتكلم وبه بعض الغيظ وقال: «أيتها السيدات، ويا أيها السادة. إننا كلنا نريد بطبيعة الحال أن نوسع آفاقنا ونعمق نظرنا إلى الحياة، ولما كنا نعتقد أن خير وسيلة لتهذيب النفس أن نضع طريقة منتظمة للمطالعة وتبادل الآراء فيما نقرأ فقد رأينا أن ننشئ هذا النادي. والمسألة الآن هي: أي كتب نقرأ؟ ربما استطاع بعضكم هنا أن يقترح شيئًا.»

فوضع شافروف نظارته على عينيه ونهض في بطء وفي إحدى يديه مذكرة صغيرة وقال بصوته الجاف المنفرد: «أرى أن نقسم برنامجنا قسمين. ولا بد في تهذيب عقولنا وصقلها من أمرين؛ دراسة تبدأ بأول أطوارها، ودراسة الحياة كما هي في الواقع.»

فقالت ديبوفا: «إن شافروف قد بدأ يتفصح.»

واستمر شافروف: «فأما الأول فيتم بقراءة الكتب العلمية والتاريخية القيمة والثاني طريقه كتب الأدب ومنها نواجه الحياة.»

ولم يسع ديبوفا إلا أن تقول وفي عينيها لمعة خبيثة: «إذا مضيت في كلامك على هذا النحو فسيأخذنا النوم.»

فقال شافروف بلطف: «إني أجتهد أن يكون كلامي مفهومًا من الجميع.»

فقالت ديبوفا وأومأت إيماءة التسليم بقضاء الله: «حسن جدًّا قل ما بدا لك.»

وضحكت سينا أيضًا من شافروف وأعادت رأسها إلى الوراء فبدا للعين جيدها الأتلع الناصع وكانت ضحكتها موسيقية منغمة.

فقال شافروف وعينه إلى ديبوفا: «لقد وضعت برنامجًا، ولكني أخشى أن تملكم قراءته وأرى أن نبدأ بكتاب «أصل الأسرة» مع مؤلفات داروين. أما من حيث الأدب فلنبدأ بتولستوي.»

فصاح فون دايتز وهو راض عن نفسه وفي يده سيجارة يشعلها: «تولستوي بكل تأكيد!»

وانتظر شافروف حتى أشعل صاحبه السيجارة ثم قال: «ثم بتشكوف وأبسن وكنوت همسون.»

فصاحت سينا: «ولكنا قرأنا كل هؤلاء!»

فاهتز يوري لصوتها وقال: «بالطبع! إن شافروف ينسى أننا لسنا في مدرسة وما أعجب هذا الخلط! تولستوي وكنوت همسون!»

فساق شافروف بعض الحجج تعزيزًا لرأيه ولكنه بعثرها فلم يفهمه أحد، فقال يوري وسره أن سينا تنظر إليه: «كلا! لا أوافقك.» وراح يشرح رأيه في الموضوع وأكثر ما يعنيه من الكلام أن يفوز بموافقة سينا فحمل على مشروع شافروف حملة شعواء، وأنحى حتى على ما يوافق عليه منه، وتلاه جوشنكو فأدلى برأيه وكان يعد نفسه أذكاهم وأنصحهم وأعظمهم تهذيبًا، وكان يتوقع أن يفوز بالمحل الأول فغاظه ما وفق إليه يوري من النجاح فعارضه في رأيه، وتلت ذلك مناقشة طويلة لا آخر لها، وشرع نوفيكوف وجوتشكو وإيفانوف يتكلمون جميعًا في وقت واحد، واختلطت الأصوات اختلاطًا لم يعد معه مجال للفهم. ولزم سولوفتشك الصمت في هذه الحرب وجلس في زاوية يصغي، وكان في أول الأمر عظيم الاهتمام ثم لم يلبث الشك والأسى أن غضنا وجهه ورسما خطوطًا حول فمه وعينيه.

وكان سانين يشرب ويدخن ولا يقول شيئًا وعلى وجهه دلائل الملل، ولما علت الضجة ولم تعد محتملة وقف وأطفأ سيجارته وقال: «ألا تشعرون أن هذه حالة لا تطاق؟»

فقالت ديبوفا: «إنها لكذلك حقًّا!»

وسأله جوتشنكو: «كيف ذلك؟»

فلم يلتفت إليه سانين وقال ليوري: «هل تعتقد أنك تستطيع أن تستخلص فكرة الحياة عن الحياة من الكتب؟»

فأجابه يوري بدهشة: «أعتقد ذلك بلا شك.»

فقال سانين: «إذن فأنت مخطئ! إذا كان هذا صحيحًا فإن المرء يستطيع أن يصب الإنسانية كلها في قالب واحد بأن يجعل الناس يقرءون كتبًا تنزع إلى منحنى واحد. إن فهم الحياة لا يتأتى إلا من ملابسة الحياة نفسها في جملتها، وليس الأدب أو مظاهر العقل الإنساني إلا ذرة ضئيلة فيها. وليس في وسع أي نظرية عن الحياة أن تعينك عن تكوين فكرة عنها، لأن هذا رهن بمزاج كل فرد وخليق أن يختلف ذلك ما دام الإنسان حيًّا. وعلى هذا فمن المحال عليك أن تكون فكرة محدودة مضبوطة عن الحياة كما تريد أن …»

فصاح يوري مغضبًا: «ماذا تعني بقولك (من المحال)؟»

فقال سانين: «محال ولا شك! لو أن تكوين فكرة عن الحياة نتيجة نظرية محدودة تامة لوقف تقدم الفكر الإنساني. بل لانقطع. وهذا كلام لا يقبل. إن كل لحظة تنطق بكلمة جديدة، وواجبنا أن نصغي إليها وأن نفهمها دون أن نضع لأنفسنا قيودًا وحدودًا سابقة. وعلى أنه ما خير الجدل في هذا؟ رأيك ما تشاء. إنما أسألك يا من قرأت مئات من الكتب لماذا عجزت إلى الآن عن تكوين فكرة محددة عن الحياة؟»

فسأله يوري وبدا الغضب في عينيه: «لماذا تفرض أني لم أفعل ذلك؟ ربما كانت فكرتي عن الحياة كلها خطأ ولكن لي فكرة.»

فقال سانين: «حسن جدًّا. إذا كانت لك فكرة فلماذا تبغي غيرها؟»

وقالت سينا لنفسها: «ما أذكاه!» وأعجبت به أيما إعجاب، وجعلت تلحظه هو ويوري وأحست شيئًا من الخجل، ولكنها كانت على هذا فرحة مسرورة، فكأنما كان الاثنان يتجادلان في أيهما يفوز بها.

ومضى سانين في كلامه فقال: «فأنت لا حاجة بك إلى ما تطلبه عبثًا. وأرى كل امرئ هنا يحاول أن يكره غيره على الاقتناع برأيه ويخشى أن يقنعه الآخرون بآرائهم. الحقيقة بصراحة أن هذا ممل جدًّا.»

فقال جوتشنكو: «لحظة واحدة! اسمح لي!»

فأجابه سانين بضجر: «كفى كفى! لا بد أن لك فكرة رائعة عن الحياة وأن تكون قد قرأت أكوامًا من الكتب! هذا واضح لا خفاء به! ومع ذلك فإنك تغضب لأن غيرك لا يوافقك على رأي لك! وشر من ذلك أنك تسيء معاملة سولوفتشك وهو لم يسئ إليك في حياتك!»

فذهل جوتشنكو ولزم الصمت. وقال سانين: «يا يوري لا يغضبك أني صارحتك الآن. إنه لا يخفى عني أن في صدرك عراكًا!»

فصاح يوري: «عراك؟» واحمر وجهه ولم يدر أيغضب أم يحتمل هذا القول، ووقع في نفسه صوت سانين الساكن وقعًا عميقًا كما حدث وهما آتيان إلى هذا الاجتماع.

فأجابه سانين: «إنك تعلم أن الأمر كذلك. ولكنه لا ينفع المرء أن يعنى بهذا الهذر الصبياني. الحياة أقصر من ذلك».

فصاح به جوتشنكو مغضبًا: «اسمع. إنك تدعي لنفسك أكثر مما يجب!»

فقال سانين: «ليس أكثر مما تدعي أنت.»

أجاب: «كيف ذلك؟»

فقال سانين: «فكر في الأمر وحدك. إن ما تقوله وتفعله أخشن وأسوأ أدبًا من كل ما أقول!»

أجاب: «لست بفاهم.»

فقال سانين: «ليس هذا بذنبي.»

أجاب: «ماذا؟»

فلم يجبه سانين وتناول قبعته وقال: «سأخرج فقد ضجرت.»

فقال إيفانوف: «هذا حق وقد فرغت الجعة.»

فقالت ديبوفا: «لن نتقدم خطوة إذا سرنا على هذا النحو، هذا واضح.»

وقالت سينا: «رافقني في الطريق يا يوري»، ثم التفتت إلى سانين وقالت: «إلى الملتقى.»

والتقت عيناها وعيناه فسرت في جسمها هزة سرور وقالت ديبوفا في الطريق: «وا أسفاه! لقد تداعى نادينا قبل أن يقوم.»

فقال صوت حزين: «ولكن لماذا؟» وكان صاحبه سولوفتشك يتطرح ويصطدم بكل واحد وكانوا قد نسوا وجوده فراعتهم كآبته. فقال سانين وكأنه يفكر: «اسمع يا سولوفتشك سأزورك يومًا لنتحادث.»

فانحنى سولوفتشك وقال: «بكل تأكيد أرجوك أن تتفضل.»

ولما خرجوا من الحجرة المضاءة كان الظلام على أشده فكانوا يتعارفون بالأصوات دون الشخوص، وسار العاملان على مسافة من الباقين ولما ابتعدا قال أحدهما: «هذه حالهم أبدًا. يجتمعون ويتحدثون عن عجائب ومعجزات ينوون إتيانها ثم يأبى كل منهم إلا أن يكون الأمر على هواه ومشيئته. إلا أنه لم يعجبني غير هذا الرجل الضخم (سانين).»

فقال صاحبه: «ما أكثر ما نفهم حين يتجادل أمثالهم!» ولوى عنقه كأنما يخنقه شيء فصفر رفيقه ساخرًا بدل أن يجيبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤