الجريمة العظمى

أقسم لكم يا من ستقرءون قصتي أنني كنت أكثر براءةً مما تتصورون، وربما كنت أكثر براءةً من كثيرين منكم، وقد تأكدت من براءتي بعد أن مت (أنا ميت الآن وفي إمكاني أن أعبر عن نفسي بغير خوف منكم). كنت براءة طفل صغير، ومعنى ذلك (لو كانت لكم ذاكرة قوية) أنني لم أكن بريئًا على الإطلاق، على الأقل في نظركم، ومع ذلك كنت — ولا زلت — أعتبر نفسي في براءة طفل صغير. إن أحدًا منكم لا يذكر ما الذي دار في رأسه وهو طفل صغير، وأنا أيضًا كنت مثلكم حين كنت فوق الأرض، إننا ننسى طفولتنا حين نكبر، وننسى أحلامنا حين نصحو من النوم. وهذا النسيان دليل قاطع على أننا فعلنا في طفولتنا ما يخجلنا ونحن كبار، وفعلنا في أحلامنا ما يخجلنا ونحن يقظون.

لكن لم أَعُدْ مثلكم، وقد أكسبتني تجرِبة الموت شجاعة غير آدمية؛ فأصبحت في غير حاجة إلى أن أفصلَ بين مراحل عمري، وأقيمَ بين كل مرحلة ومرحلة جدارًا سميكًا. إن هذه الرؤية لمراحل حياتكم الممزقة المنفصلة بعضها عن بعض لم أتمكن منها إلا بعد أن ارتفعت عن الأرض. وقد دُهشت لمنظر حياتكم تحت عيني، إنه منظر غريب جدًّا، يشبه إلى حد كبير جسد إنسان قُطِعَ رأسه وبُتِرَت ساقاه ولم يبقَ إلا البطن والصدر. إنه منظر مخيف أيضًا ذكَّرني بحادث قطار شهدته وأنا طفل صغير، ولا أنسى حتى الآن منظر الجسد بعد أن أخرجوه من تحت العجلات بغير رأس وبغير ساقين.

هذا المنظر لا أنساه أبدًا، لكني في الحقيقة نسيته، بل إنه يكاد يكون المنظر الوحيد في حياتي الذي نسيته تمامًا، من شدة بشاعته نسيته نسيانًا كاملًا، ومن شدة بشاعته ظل في ذاكرتي ولم أنسَه أبدًا، وهذا هو ما يحدث لكم؛ فأنتم تنسون ولا تنسون، وهذا هو سبب شقائكم فوق الأرض.

لكني على أية حال لم أعُدْ أخاف من هذا المنظر، وأصبحت على شجاعة غريبة، وأستطيع أن أُحَمْلِقَ فيه لمدة دقيقة كاملة، بل إن شجاعتي زادت عن الحد، وأصبحتُ قادرًا على أن أحملقَ في وجه أبي لمدة دقيقة كاملة، وجه أبي كان كوجوه كل الآباء، ووجوه كل الآباء تبدو لي الآن كتلك الوجوه الكرتونية التي كنا نشتريها في يوم العيد، العينان ليستا عينين، وإنما هما ثقبان كبيران، حين أنظر داخلهما لا أرى شيئًا، والأنف قطعة بارزة من الكرتون، له أيضًا فتحتان ليستا إلا ثقبين. وتحت الأنف شارب طويل أسود، إن هذا الشارب هو الذي كان يُضحكنا بشدة ونحن أطفال، ويلبس كل منا الوجه الذي اشتراه بقرش، ونجري نخيف بعضنا بعضًا بذلك الشارب الطويل الأسود.

كنت أظن أنَّني لا أحب أبي بسبب ذلك الشَّارب الخشن المخيف، لكني أدركت الآن — حين حملقتُ لأول مرة في وجهه — أنني لم أحبَّه بسبب عينيه. عيناه حين حملقت فيهما عرفت — على الفور — أنه هو الذي قتل أمي، وكنت وأنا طفل أحب أمي، وأنتم أيضًا لا تعرفون معنى أن يحب طفل أمه؛ لأنكم لم تكونوا أطفالًا أبدًا (النسيان يجعل الشيء الذي حدث كالذي لم يحدث تمامًا)، كنت أحب أمي لدرجة أنني عاجز عن وصفها الآن كما عجزت عن وصفها في أي وقت مضى. كنت أتصور أنني سأستطيع أن أصفَها الآن بعد أن ارتفعت فوق الأرض، وأصبحت كل الأشياء غير الحقيقية هي التي تنتهي، أما الأشياء الحقيقية فلا تنتهي أبدًا. وكان حبي لأمي حقيقيًّا لدرجة أنني كنت أظن أن أمي هي أنا، لم يكن ظنًّا فحسب، ولكنه كان إحساسًا يبلغ حد اليقين، كان جسدها وجسدي شيئًا واحدًا. إن هذه المسافة المعدومة بيني وبين أمي لا تزال حتى الآن كما كانت وأنا طفل؛ فالأشياء الحقيقية تلازمنا في أي مكان، ارتفعنا أو انخفضنا فهي تلازمنا كأجسامنا، وحبي لأمي كان حقيقيًّا كجسدي. كنت طفلًا صغيرًا، وكل الأشياء في عين الطفل الصغير تبدو غير حقيقية، كل الأشياء تبدو كالحلم، والناس كالأشباح أو كالملائكة، والقطار يجري فوق قضبان سحرية، وصَفَّارة القطار لها رنين أجراس مسحورة، والبحر بغير قرار، والسماء بلا قاع، والشارع بلا نهاية، والليل المظلم مخيف إلى حد الموت.

شيئان كنت أخاف منهما: الظلام والموت، وأترك سريري الصغير في منتصف الليل وأزحف إلى سرير أمي، أدس نفسي في ثنايا جسدها الدافئ، وألتصق بها بقدر ما أستطيع، أكوِّر جسدي وأجعله أصغر مما هو، أحاول أن أجعل حجمي يتناقص ويتناقص ليصبح جنينًا صغيرًا قادرًا على العودة إلى رحم الأم، وجسمي كله يهتز بهذه الرغبة كالحمى. أرتجف كالمحموم، وأظن أن ما من شيء سينقذني من ذلك الموت المحدق بي في الظلام سوى أن أختفي داخل ذلك الرحم الحنون الدافئ المغلق عليَّ وحدي.

من يراني في تلك اللحظة — وأنا متكور على نفسي كالجنين فعلًا — يدرك أن هذه الرغبة كانت حقيقية وكانت عنيفة، وأنها لم تكن رغبة في الابتعاد عن الموت، ولكنها كانت رغبة في الاقتراب من أمي، الاقتراب الشديد إلى درجة الالتصاق بها وذوبان جسدي في جسدها؛ لأصبح أنا وهي شيئًا واحدًا. كنت أحبها لدرجة أن فناء جسدي في جسدها لم يكن فناءً ولم يكن موتًا ولم يكن مؤلمًا ولا مخيفًا، بل كان قمة حياتي وذروة لذتي والطمأنينة والراحة الكاملة.

ولم أكن في تلك الحالة أدرك شيئًا، كان كل ما حولي قد أصبح دافئًا كثدي الأم، وصامتًا صمت الرحم من الداخل والعالم بكل ما فيه من بحر وسماء وبيوت وأشجار وقطار وقضبان تلاشت، والأصوات تلاشت، ولم يَعُدْ لي أذنان وعينان ولا شفتان، وإنما هي حواس جنينية خام لا تحس إلا الدفء ولا تشم إلا اللبن.

ولم يكن بوسعي في تلك الحالة أن أدرك وجود أبي الذي كان راقدًا إلى جوار أمي بجسده الضخم، وشاربه الطويل الأسود يهتز مع اهتزازة شفته العليا، وشفته السفلى تهدَّلت تحت وطأة الشخير العالي، وخيط طويل من اللعاب الأبيض ينساب ببطء من زاوية فمه فوق ذقنه رغم نومه العميق الذي بدا لي وقتها أنه لن يصحو منه أبدًا. فتح عينيه، ورغم أنني لم أكن أراه (بسبب تكوري الجنيني) فقد لمحت تلك النظرة التي كست عينيه بسرعة البرق، والتي اختفت أيضًا بسرعة البرق. لم أعرف حينئذ هل اختفت وحدَها أم أنه هو الذي أخفاها، لكن أدركت الآن أنه هو الذي أخفاها.

رغم الظَّلام الذي كانت تغرق فيه حجرة النوم، ورغم أنني لم أكن لأستطيعَ أن أرفع عيني في عينيه، فإن هذه النَّظرة كانت قادرة على أن تخترق رأسي كالسهم، وبرغم ألم الاختراق، وبرغم الخوف منه، وبرغم الظَّلام الدَّامس، وبرغم أنه أخفاها بسرعة البرق، وعادت إلى عينيه نظرة الأبِ المحب، برغم ذلك فقد عرفت شكل هذه النظرة، إنها عين الإنسان حين تعبر عن الكراهية.

كان أبي رجلًا متحضرًا، وككل الرجال المتحضرين في عصرنا الحديث الذين يستطيعون التحكم في مشاعرهم الحقيقية وإخفائها، والظهور بمشاعر أخرى تنمُّ عن الرقي، ككل هؤلاء استطاع أبي أن يخفيَ رغبته الحقيقية في أن يقبض بأصابعه الكبيرة الضخمة على عنقي، ويقذف بي بعيدًا، وتحركت يده فعلًا نحوي، لكنه قاوم الحركة، وأصبحت حركته بعد المقاومة كحركة يد الأب المتحضر حين يَرْبِت كل كتف ابنه، وبحركة بطيئة هادئة فصل بين جسدي وجسد أمي، وأصبحت فوق طرف السرير البارد، واحتل هو مكاني الدافئ.

كان الوقت شتاءً والليل باردًا، والغطاء الصوفي لا يصل إلى طرَف السرير حيث كنت، إلا بمقدار ما يغطي نصف جسمي ويظل ظهري عاريًا. ثم تحرك أبي وهو نائم وشد الغطاء عليه فأصبحتُ بغير غطاء تمامًا، ارتجفت من البرد، ففتحت أمي عينيها، والحقيقة أنني لم أكن قد ارتجفت بعد، لكنها كانت تفتح عينيها لأقل حركة. قد لا تكون إلا حركة الغطاء وهو ينزلق فوق ظهري، أو عضلة صغيرة في جسمي تنقبض بسبب برد بسيط حدث أو سوف يحدث، فإذا بها قبل أن يحدث، بل قبل أن تنقبض العضلة ذاتها، إذا بها تفتح عينيها فجأة من عز النوم، بل إنها قبل أن تفتح عينيها وقبل أن تصحوَ تمامًا تمتد ذراعيها وتغطيني.

كنت أندهش وأتساءل بيني وبين نفسي عن ذلك السر؛ سر تلك القدرة الرادارية العجيبة لجسدها النائم على الإحساس بجسدي، رغم تلك المساحة الكبيرة التي تفصل بيننا، والتي كان يشغلها جسد أبي الضخم. وكانت دهشتي تزيد حين أسمع أبي يتهمها بأن نومَها ثقيل. وذات مرة سمعته يتشاجر معها؛ لأنه أخذ يرنُّ جرس الباب طويلًا قبل أن تصحوَ من نومها وتفتح له الباب. وكان أبي يتهمها أيضًا بأن سَمْعَها ثقيل، وذات مرة ضربها (وأنا في حِجْرها تطعمني)؛ لأنه نادى عليها لتحضر له الغداء لكنها لم تسمع، وذات مرة من هذه المرات سمعته يقول لها إن قلبها بارد لا يحس، ورأيت أمي في ذلك اليوم تبكي وحدَها في المطبخ؛ فاقتربت منها في وَجَل، وهمست في أذنها بكلمات متقطعة مكسرة (ولم أكن أجيد الكلام بعد) وقلت لها: «انتي بتحسي أكتر من أبي يا أمي.» واتسعت عيناها وهي تنظر إليَّ كأنما بدهشة، كأنما دُهشت كيف يمكن لطفل صغير جدًّا مثلي أن يدرك حقيقة كبيرة كهذه الحقيقة، وحوطتني بذارعيها وهي تهمس: يا حبيبي.

كان أبي واقفًا على باب المطبخ، ورآني وأنا بين ذراعيها؛ فاكتست عيناه بتلك النظرة الخاطفة التي ما إن تظهر حتى تختفي، والتي تخترق عظام رأسي، وتجعلني أرتعد برعدة عنيفة، كالرعدة التي تصيب جسد الإنسان حين يرى نفسه وجهًا لوجه أمام الموت.

لو أنه فعل ما يفعله الإنسان الطبيعي حين يكره، لو أنه أطبق بأصابعه الكبيرة على عنقي لاسترحت، وأدركت أنه يتصرَّف على نحو طبيعي؛ فالتصرف الطبيعي مهما كان قاسيًا فهو مريح، وهو مطمئن، لكن أبي لم يكن يطمئنني أبدًا، كنت أخاف منه، وأخاف من أية حركة تصدر عنه، والحركة الهادئة أو الحانية تفزعني أكثر من الحركة العنيفة أو القاسية. وحين أكون قريبًا منه وأرى يده تتحرك، ربما هو لن يفعل شيئًا سوى أن يَربِت على كتفي، أو هو يحرِّك يده لهش ذبابة من فوق عينه أو ليهرش أذنه، لكني أجدني قد انتفضت، وسَرَتْ فوق جسدي قشعريرة خفية.

لم أكن أعرف لماذا لا أستطيع أن أجلسَ بجوار أبي بحيث لا تكون هناك مسافة بيننا. كان لا بد من هذه المسافة دائمًا، ولم أستطع بحال من الأحوال الاقتراب من أبي إلى حد الالتصاق بجسده، على عكس أمي؛ كانت حين تجلس إلى جواري ألتصق بها، ليس ذلك الالتصاق العادي، ولكنه تلك الرغبة الملحَّة العنيفة في أن تنعدم المسافة بيننا انعدامًا كاملًا وأصبح أنا وهي جسدًا واحدًا.

ولم يكن أحد يعرف هذه الرغبة غيري، كنت أخفيها كما أخفي مشاعري الحقيقية، وحين أجلس في الفصل في المدرسة، ويطلب مني المعلم أن أقولَ وراءه كلمة: «أحب أبي مثل أمي»، أردِّد وراءه دون أن أعترض: «أحب أبي مثل أمي.» وحينما تعلمت كتابة الحروف طلب مني المعلم أن أكتب اسمي؛ فكتبت: «سمير»؛ فقال لي: اكتب اسمك بالكامل. فكتبت: «سمير عزيزة»، ونظر المعلم في كراستي غاضبًا، ثم شطب بقلمه الأحمر اسم «عزيزة»، وقال لي: اكتب اسم أبيك. ودُهشت، وفتحت فمي لأعترض، لكن المعلم كان كبيرًا وأنا صغير؛ فكتبت دون أن أعترض «سمير آدم». وفي اليوم التالي طلب المعلم من الفصل كله أن يردد وراءه: «أحب أبي مثل أمي»، ورددت مع الفصل كله: «أحب أبي مثل أمي»، وطلب منا المعلم أن نكتبها في كراسة الواجب خمس مرات. وفي اليوم التالي كتبناها مرة أخرى، ورددناها وراءه عدة مرات، وكان الواجب في البيت أيضًا أن نكتبها خمس مرات، وأن نُسْمِعَها لأنفسنا عشر مرات، ثم عشرين مرة، حتى وجدت نفسي أردد وأنا نائم: أحب أبي مثل أمي … أحب أبي مثل أمي …

وسمعني أبي ذات مرة وأنا أرددها فابتسم، كانت ابتسامة غريبة، لم يكن تكوين وجهه يصلح للابتسام. كانت الجبهة بارزة عريضة فوقها تكشيرة طبيعية لا تزول حتى وهو نائم، وكانت عظام وجهه غليظة والفكَّان كبيران عريضان كفكَّي الجمل أو الحِصان، ولا يمكن لمثل هذين الفكين مهما انفرجت الشفتان أن يعبرا عن الابتسام. وأصابتني رجفة؛ هذه الرجفة كانت تصيبني دائمًا حين أرى شيئًا غير طبيعي، ولم أكن رأيت من قبل جملًا أو حِصانًا يبتسم، لماذا لا يستطيع الجمل أو الحِصان أن يبتسم؟ طرحت هذا السؤال على المعلم في المدرسة فقال لي: إن الإنسان فقط هو الذي يمكن أن يبتسم يا سمير.

ولم يعرف أبي ما الذي كان يدور في ذهني، كنت أستطيع بقدرة عجيبة أن أخفيَ مشاعري الحقيقية، ورفعت صوتي عاليًا وأنا أقرأ الواجب من الكراسة: أحب أبي مثل أمي … أحب أبي مثل أمي … كنت أعرف أنني أكذب، ولأنني كنت أعرف أنني أكذب فقد خِفْتُ أن يكتشف أبي كذبي، ولكي أخدع أبي أصبحت أرفع صوتي أكثر وأكثر، وأردِّد بصوت عالٍ: أحب أبي مثل أمي … وكلما ارتفع صوتي زاد خوفي من أن يصبح الكذب فيه واضحًا أكثر؛ فأرفع صوتي أكثر وأكثر لأخفي كذبي، وكلما ارتفع صوتي كلما ظهر فيه الكذب أكثر، وكلما زاد خوفي، وهكذا؛ حتى وجدتني أصرخ كالمستغيث وأنا أبكي: أحب أبي مثل أمي! … أحب أبي مثل أمي! …

ولم يكتشف أبي حقيقتي أبدًا، وحين رأى دموعي تجري فوق خدي اقترب مني، لكني كعادتي تراجعت إلى الوراء خطوة؛ فاقترب مني أكثر؛ فتراجعت إلى الوراء؛ فاقترب؛ فتراجعت. وارتفعت يده إلى أعلى قليلًا، وأظن كان سيَرْبِت على كتفي، لكن خُيِّلَ إليَّ أنها ستهبط على وجهي في صفعة قوية؛ فانتفضت مدفوعًا إلى الخلف. وتوقف أبي لحظة، وعيناه المتسعتان كأنما في دهشة، تنظران إليَّ وتحملقان، كأنما في دهشة، وكأنما أيضًا تتساءلان عن ذلك السبب. ليس ذلك التساؤل الطبيعي حين يجهل الإنسان السبب، ولكنه التساؤل غير الطبيعي حين لا يكون السبب مجهولًا، بل يكون معلومًا، ليس معلومًا فحسب ولكنه محسوس عن يقين بكل أحاسيس الجسد وأعصاب النفس.

وفي مثل هذه اللحظات يصبح الإنسان عصبيًّا؛ فالإنسان بطبيعته لا يميل إلى مثل هذه الأحاسيس اليقينية، الإنسان ميَّال بطبيعته إلى الشك، ومع ذلك فليس هناك ما هو غير محتمل في حياة الإنسان قدر الشك، وهذا هو سبب شقائكم فوق الأرض، فأنتم تريدون اليقين وتريدون الشك معًا.

لكني كنت في ذلك الوقت طفلًا صغيرًا، ولم يكن في إمكاني أن أزيل عنه هذا الشك أو ذلك اليقين، كنت قد فعلت كل ما في وسعي لأحفظ وأتلوَ بصوت عالٍ واجب المدرسة، وكنت قد فعلت كل ما في وسعي لأجعل صوتي وأنا أتلو الواجب كأنه صوتي الحقيقي.

وكان صوتي يبدو حقيقيًّا فعلًا، ولم يكن في إمكاني أن أفعل أكثر من ذلك، لكن أبي ظل واقفًا أمامي، لم أكن أراه لأن رأسي كان مطرقًا وعيني كانتا في الأرض، ولم أكن لأجرؤ أبدًا على أن أرفع رأسي وأنظر في عينيه، كنت أعرف أنني في اللحظة التي ستلتقي عيناه بعيني سيكتشف الحقيقة المفزعة، والحقيقة المفزعة هي أن الشك سيصبح يقينًا، أو أن اليقين سيصبح شكًّا، لكني رغم إطراقي أحسست بتلك النظرة التي اخترقت رأسي ونفذت منه، وجعلت ظهري يتسمَّر في الحائط.

وهكذا أصبحت واقفًا أمامه عاجزًا عن التراجع إلى الخلف، ولم تكن تفصلني عنه إلا خطوة واحدة، وكنت أعلم أنها ليست إلا غمضة عين وتنعدم المسافة بيننا، وأصبح أنا والحائط شيئًا واحدًا. وضغطت بظهري على الحائط وبكل قوتي، ولكن الحائط كان صلبًا صلابة الصخر.

وفي تلك اللحظة ظهرت أمي كأنما انشقت الأرض عنها فجأة، لم أعرف كيف ظهرت ومن أين؛ لأنها في ذلك اليوم لم تكن بالبيت، وكانت ستقضي الليلة عند خالتي، ولم أعرف تمامًا ما الذي حدث لي حين رأيتها، إن جسدي وحدَه هو الذي اندفع — بلا وعي — نحوَها بتلك السرعة وبذلك العنف. بسرعة الفرار من الموت، وبعنف التشبث بالحياة. وكان جسدي حينئذ يتصرَّف على نحو طبيعي حين تشبَّث بها والتصق، وأصبح من شدة الالتصاق والتشبث هو وجسدها شيئًا واحدًا.

حين أذكر ذلك اليوم أقول لنفسي: ليتني لم أفعل ما فعلت، وليت ظهري ظل متسمرًا في الحائط إلى الأبد، أو ليتني أصبحت أنا والحائط شيئًا واحدًا. لكني لم أكن أعرف ما الذي سيحدث، إنها لمأساة أن يجهل الإنسان ماذا سيحدث، (لا أقول غدًا) وإنما في اللحظة القادمة. إن هذا الجهل كالعمى بل إنه العمى تمامًا، وإني أراكم الآن تسيرون أمامي بغير عيون. إن عيونكم ليست عيونًا، ولكنها ثقوب ينفذ منها الهواء كثقوب الوجوه الكرتونية التي كنت أشتريها يوم العيد.

ما زلت أذكر هذا اليوم، لم يحدث أن نسيته أبدًا؛ كمنظر ذلك الجسد بغير رأس وبغير ساقين الذي ما نسيته قط. إن ذاكرتي تحتفظ بكل ما حدث في ذلك اليوم، رغم أنه أصبح بعيدًا جدًّا، ورغم أن سنوات كثيرة مضت، سنوات كثيرة لا أستطيع أن أعدَّها، فلم أكن تعلمت من الأرقام إلا عشرة، بعدد أصابع اليد. لم يكن المعلم في المدرسة قد علَّمنا أكثر من هذا حتى ذلك الوقت، لكني رغم السنين الطويلة لا زلت أذكر كل شيء مهما كان هينًا، وكل حركة مهما بَدَتْ بسيطة. ولم تكن أية حركة من حركات أبي بسيطة. واستطعتُ أن ألتقطَ تلك الحركة السريعة الخاطفة في عينيه، ورأيت سواد عينيه يستقر فوق أمي. وكنت لا أزال بين ذراعيها فأخفيت رأسي في صدرها، ولم أعد أرى وجه أبي، لكني أحسست ذراعَيْ أمي حولي تضغط عليَّ بكل قوتها وتحتويني بجسدها، وتتكوَّر حولي وتحوطني، وتخبئني، وكأنما أرادت لو استطاعت أن تضعَني داخلَ صدرها أو داخلَ أحشائها، بل في رَحِم الأم ذاته.

وإلى هنا وأصبح أبي عاجزًا عن الاحتفاظ بالوجه غير الحقيقي؛ فرفعه بحركة سريعة بيده، ورأيت وجه أبي بفكيه الكبيرين العريضين كوجه الظبي الوحشي. ولأول مرة يصبح وجه أبي أمامي طبيعيًّا. ولم أعد خائفًا كما كنت خائفًا من قبل، ولا أدري كيف عادت إليَّ كل شجاعتي؛ فقلت له بصوت هامس أول الأمر: لا أحبك. وحينما تجمَّد أمامي لحظة تشجعت أكثر، ورفعت صوتي أكثر، وقلت له: لا أحبك. وحينما سمعتُ صوتي واضحًا بأذنيَّ، وتأكدت أنه صوتي؛ تشجعت أكثر وأكثر، وقلت له: لا أحبك. وهكذا استمر بي الحال، حتى وجدت نفسي أصيح بصرخة طويلة متصلة اتصالًا لا نهائيًّا: لا أحبك …

وقفز فوقي كالنمر المفترس، لكن أمي كانت أسرع منه، وفي غمضة عين أصبحت أمي بجسدها الكبير بيني وبينه. لم أكن أرى وجهها لأني كنت أقف خلفها، لكني أدركت من انقباض عضلات ظهرها وتكورها أنها أصبحت كالنمرة التي تتأهب للانقضاض. ولم أعرف تمامًا ماذا حدث؛ فقد كفت الأصوات عن أن تكون آدمية، وكل شيء تغير في لحظة أو في ثانية، والثانية أيضًا لم تكن هي الثانية؛ فالزمن تغير ولم يعد هو الزمن، وأصبحت عاجزًا عن التعرف على أي شيء حولي، بل عجزت عن التعرف على نفسي وحقيقة وجودي حيًّا أو ميتًا، وخُيِّل إليَّ أنني أموت وأصحو ثم أموت وأصحو عشرات المرات، مئات المرات، آلاف المرات. هكذا إلى ما لا نهاية أموت وأصحو، كأنما سقط جسدي في قاع دوامة تدور بسرعة رهيبة، أسرع من دوران الأرض حول نفسها.

على أن حركة الأرض توقَّفت تحت قدمي فجأة، وتوقَّف معها الزمن، وكل شيء توقَّف وتجمَّد، وفتحت عيني فرأيت جسد أمي فوق الأرض، كنت أظن أنها نائمة كعادتها حين تنام في الصيف على الأرض، واقتربت منها في وَجَل وهمست في أذنها: «أمي» لكنها لم ترُدَّ، دُهشت … كانت تصحو لأقل صوت، بل كانت تصحو قبل أن يصدر الصوت، وقبل أن تنفرج شفتي عن الكلمة تفتح عينيها وتصحو، بل قبل أن تفتح عينيها كنت أحس جسدها يتحرَّك قبل أن تتحرك شفتي، وقبل أن أنطق الكلمة، وقبل أن أسمع أنا صوتي تكون هي قد سمعته.

رغم أنَّني أدركت من حيث لا أدري أنَّها لن تسمعَني بأي شكل؛ فقد ظللت أهمس في أذنها بالكلمة، وحينما جاء أبي ومعه عمي وخالي وحملوها بعيدًا عني، وأصبح البيت بغيرها دُهشت، ليست تلك الدهشة العادية التي يندهشها الكبار، وإنما هي دهشة الطفل، تلك الدهشة العجيبة، حين تبدو له كل الأشياء غير حقيقية، وأن الذي حدث كالذي لم يحدث، والحلم كالحقيقة، والحقيقة كالحلم. وانتقل أبي إلى بيت آخر وأخذني معه، ومضت الأيام والسنون، وكبرت وشِخْتُ ومِتُّ، ومع ذلك فلا يزال يخيل إليَّ أن ما حدث لم يحدث.

وأنه لم يكن إلا الآن فقط، بعد أن ارتفعت فوق الأرض، واستطعت أن أرى الأرض بوضوح، وأراكم بوضوح، الآن فقط أدركت الجريمة العظمى التي ارتُكِبَت في الخفاء ولم يعلم بها أحد. إن الجريمة الأولى في الحياة البشرية لم تكن أن قابيل قتل هابيل، ولكن آدم قتل أمي، قتلها لأني أحببتها ولم أحبه، ويا ليته أدرك أنه كان في إمكاني أن أحبه لو أنه أحبني، لكن أبي كان عاجزًا عن الحب، كنت أدرك — رغم أنني طفل — أنه لا يحبني، ولا يحب أمي، وإنما يحب فقط أن يأكل وأن يشبع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤