الفصل الثالث والثلاثون

عمرو بن العاص

ولم يكد يستقر بهما الجلوس حتى رأيا الناس في حركة وجلبة وقد فتح باب في بعض جوانب المسجد دخل منه رجال في أيديهم السياط يزجرون الناس. فقال سعيد: من هم هؤلاء. فقال عبد الله إنهم الشرطة يفتحون الطريق للأمير. ولم يكد عبد الله يتم كلامه حتى دخل رجل ربعة قصير القامة وافر الهامة أدعج أبلج عليه ثياب موشاة كأنه العقبان تأتلق عليه حلة وعمامة وجبة عرفا أنه عمرو بن العص فصعد المنبر والناس ينظرون.

فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي () ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم وجعل يحضهم على الزكاة وصلة الأرحام ويأمر بالاقتصاد وينهى عن الفضول وكثرة العيال وإخفاض الحال في ذلك إلى أن قال يا معشر الناس: إياكم وخلالاً أربعاً فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة وإلى الضيق بعد السعة وإلى الذلة بعد العزة إياكم وكثرة العيال وإخفاض الحال وتضييع المال والقيل بعد القال في غير درك ولا نوال. ثم أنه لابد من فراغ يؤول إليه المرء في توديع جسمه والتدبير لشأنه وتخليته بين نفسه وبين شهواتها ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه فيجوز من الخير عاطلاً وعن حلال الله وحرامه غافلاً. يا معشر الناس إنه قد تدلت الجوزاء وذلت الشعرى وأقلعت السماء وارتفع الوباء وقل الندى وطاب المرعى ووضعت الحوامل ودرجت السخائل وعلى الراعي بحسن رعيته حسن النظر فحيّ لكم على بركة الله تعالى إلى ريفكم فنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده واربعوا خيلكم واسمنوها وصونوها وأكرموها فإنها جتكم من عدوكم وبها مغانمكم وأنفالكم. واستوصوا بمن جاورتموه من القسط خيراً وإياكم والمومسات والمعسولات فإنهن يفسدن الدين ويقصرن الهمم. حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله يقول: «إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيراً فإن لهم فيكم صهراً وذمة فكفوا أيديكم وعفوا فروجكم وغضوا أبصاركم. ولا أعلمن ما أتى رجل أسمن جسمه وأهزل فرسه. واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوّف قلوبهم إليكم وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.

وحدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جنداً كثيفاً فذلك الجند خير أجناد الأرض فقال له أبو بكر رضي الله عنه ولمَ يا رسول قال لأنهم وأزوجهم في رباط إلى يوم القيامة» فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم فإذا يبس العود وسخن الماء وكثر الذباب وحمض اللبن وصوّح البقل وانقطع الورد من الشجر فجيء إلى فسطاطكم على بركة الله ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم١ انتهى.

وكان عمر يخطب والناس يسمعون وقد تخشعوا لما قاله من الأوامر والنواهي فقال سعيد لعبد الله همساً والله إنه لنعم الأمير وشلت يد تقتله والله منذره لذلك متى دنا الأجل المضروب فلم يجبه سعيد مخافة أن يلحظ أحد شيئاً مما هما فيه.

وبعد تمام الصلاة خرج الناس وخرج عبد الله وسعيد واجتمعوا في ساحة المسجد خارجاً وتعارفوا فعرف عبد الله رجلاً من غفار كان له معه صداقة فدعاه وسعيداً إلى منزله ليقيما عنده فاعتذرا فألح عليهما فسارا معه لئلا يوجب ابتعادهما شبهة فأنزلهما في منزل له في خطة اسمها خطة خارجة بن حذاقة فأمر الغفاري عبداً له استلم الراحلتين وسار بهما إلى المربط ودخل بالضيفين إلى غرفة لم يريا فيها نافذة إلا كوة في أعلاها فعجبا وهم عبد الله بالاستفهام عن ذلك وأوقفه التأدب فلحظ الغفاري استغرابه فقال له لا تعجب لحال هذه الغرفة فإن كذلك سائر أبنية الفسطاط.

فقال عبد الله إني والله يا أخا غفار لفي عجب عجاب مما أرى فما الذي دعا إلى هذه الأقفال. فقال الغفاري اعلما أن خارجة بن حذاقة صاحب شرطة مولانا الأمير عمرو ابن العاص هو أول من ابتنى غرفة في الفسطاط. فلما علم بذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يومئذ كتب إلى الأمير عمرو بن العاص أن «ادخل غرفة خارجة وانصب فيها سريراً وأقم عليه رجلاً ليس بالطويل ولا بالقصير فإن اطلع من كواها فاهدمها» ففعل ذلك عمرو فلم يبلغ الكوى فأقرها٢ فلم يجسر أحد أن يبني غرفة بعد ذلك إلا على هذا الوصف وهو بالحقيقة أضمن للحجاب.
١  المقريزي ج٣.
٢  ابن دقماق ج٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤