لغز … الدكتور «جوتار»!

كانت أصوات الطلقات تَتوالى في «التبَّة» الخلفية للمقر السري، حيث توجد أرض التدريب، وحيث يُمارس الشياطين تدريبات الرماية.

كانت الساعة تقترب من العاشرة ليلًا، والظلام يُغطِّي كل شيء، حتى إنَّ الشياطين كانوا يتحدثون بلغة «الدقات» هذه اللغة التي كانوا يلجئون إليها كثيرًا في مغامراتهم. لم يكن يظهر وسط الظلام سوى ضوء الطلقات، عندما تخرج من فوَّهة المسدَّسات، وكان هذا هو التدريب العملي الليلي. فمن المعروف أن الإنسان يستطيع أن يحكم إطلاق النار عندما يكون الوقت نهارًا؛ لأنَّ الهدف يكون واضحًا. لكن، كيف يَستطيع إحكام الإطلاق وإصابة الهدف ليلًا خصوصًا إذا كان الظلام كثيفًا كهذه اللحظة!

لكن عندما انتهى التدريب في حوالَي مُنتصَف الليل، كانت النتائج مُرضية. لقد جلسُوا بعد انتهاء التدريب، على أرض «التبة» مع مدرِّبهم، الذي أخذ يُحدِّد لهم بعض أخطاء الضرب.

في النهاية قال: إنَّ «أحمد» استطاع أن يُحقِّق تسع درجات من عشر، وهذه نتيجة ممتازة. يليه في الضرب «عثمان»، ثم «قيس». وأخذ يرتب الأسماء. لكن في النهاية، كان أقل واحد من الشياطين قد حقق سبع طلقات من عشر نُقط. قال المدرِّب أخيرًا: إن هناك ملاحظة، يجب الالتفات إليها جيدًا في النهاية، التي يُمكن أن تحقِّق نتائج طيبة. إنَّ العدو عندما يطلق أول طلقة، لا يظل في مكانه في الغالب. إنَّ الطلقة الثانية هي التي يُمكن أن تُحدِّد مكانه. والضوء الصادر عن لحظة الإطلاق يكفي بالتأكيد ليكشف أين هو؟! … صمت لحظة، ثم أضاف: إنَّ تدريب الغد هو محاولة تحديد مكان الهدف! ثم وقف وهو يقول: موعدُنا غدًا في «التبة» في العاشرة مساءً!

ابتسم «عثمان» حتى ظهرت أسنانه البيضاء اللامعة، وقال: هذا إذا كنا هنا غدًا!

انصرف الشياطين إلى داخل المقر السري في هدوء، وعندما دخل كلٌّ منهم حجرته، كان «عثمان» يضحك وحده. لقد ظهرت كلمات على شاشة التليفزيون في حجرات الشياطين تقول: الاجتماع بعد نصف ساعة. وبسرعة، رفع سماعة التليفون يتحدث إلى «أحمد» الذي قال له: كأنك كنتَ تعرف!

ضحك «عثمان» وقال: إن خاطرًا مرَّ على ذهني الليلة، ونحن في أرض النار، يربط بين هذه التدريبات الليلة، وعملية يُخطِّط لها رقم «صفر».

ردَّ عليه «أحمد»: لا أظن أنها خواطر صحيحة، فهذه التدريبات نحتاجها فعلًا، دون أن تكون هناك مغامرة ما، مرتبطة بها.

لم يأتِ صوت «عثمان» إلى «أحمد» مباشرةً لكن «أحمد» قال: إلى اللقاء في قاعة الاجتماعات!

في خلال نصف ساعة، كان الشياطين جميعًا قد تجمَّعوا في القاعة الكبرى. كانت القاعة مُضاءة بأضواء هادئة غير مباشِرة، وكان هذا يتناسَب مع حالة الشياطين الآن، فقد عادُوا بعد تدريب طويل، بذلوا فيه جهدًا عصبيًّا عاليًا. فجأة، جاءهم صوت رقم «صفر» يُرحب بهم، فالتفتوا إلى مصدر الصوت، في انتظار ما سيقول. إلا أن أصوات أقدام رقم «صفر» لم تَصِل إليهم. مرت لحظة، ثم ظهرت الخريطة الإلكترونية، فمر الشياطين بأنظارهم عليها. لحظة، ثم ظهر حوض البحر المتوسط، وظهرت عدة دول حوله: مصر، لبنان، تركيا، اليونان، إيطاليا. لحظات أخرى، ثم خرج من مياه البحر سهمٌ أحمر، التفَّ حول تركيا، فأخذت الدول الأخرى تختفي. اقتربت الصورة أكثر لتتحدَّد تركيا بتفاصيلها. في الشرق جبال بنطس. في الشمال البحر الأسود. في الغرب بلغاريا واليونان. في الجنوب البحر المتوسط.

أما التفاصيل الداخلية فقد تركزت على مدينة «أنقرة» العاصمة، ومضيق البسفور، وبحر مرمرة، ومدينة «الإسكندرونة»، ثم مدينة «إستنبول». بدأت تفاصيل تَختفي وتتركَّز الصورة على تفاصيل محدَّدة في مدينة «إستنبول». ظهر شارع طويل يقع على شاطئ البسفور، ويمتد على الساحل، وعليه ظهر اسم «الشارع الأصفر» وفي منتصف الشارع تقريبًا، لمعت دائرة صفراء، وتحتها ظهر اسم: مستشفى «جوتار». ظلت الخريطة ثابتة لمدة خمس دقائق، لم يتغير خلالها شيء، حتى عرف الشياطين في النهاية، أن هذا الشارع بالذات سوف يكون مكان المغامَرة، وربما مستشفى «جوتار» أيضًا. غير أنَّ سؤالًا ألحَّ في أذهانهم: وماذا في مستشفى «جوتار» هل هناك جريمة ما؟ … لكن قبل أن يُفكِّروا في إجابة، كان صوت رقم «صفر» قد بدأ يصل إليهم … أخذ صوت أقدامه يقترب، حتى توقف تمامًا. فركزوا آذانهم على مصدر الصوت.

جاءهم صوت رقم «صفر» يقول: لقد دعوتكم بسرعة لأننا أمام مأساة … وهي مأساة إنسانية ضحيتها أمهات وأطفال وربما آباء أيضًا. إن داخل هذا المُستشفى الذي أمامكم مستشفى الدكتور «جوتار» تجري جريمة يومية دون أن يَلتفِت إليها أحد.

صمت رقم «صفر» قليلًا، ثم أضاف: إن المفروض أن تدريباتكم الليلة، كانت ستمتدُّ حتى الصباح، لكني طلبت من المدرب أن يُنهي التدريب، عندما جاءت تقارير عميلنا في تركيا حول هذه المأساة الإنسانية. لقد هزَّتني المأساة فعلًا. وأعرف، أنها سوف تهزُّكم تمامًا. وأنتم تذكرون مغامرة «العميل». لقد كان جانبٌ منها إنسانيًّا، هو ذلك الصغير المخطوف، وأعرف أن ذلك، كان دافعًا قويًّا لكم. أنتم الآن أمام مأساة أكبر بكثير … سكت رقم «صفر». إنه يَعرف أن هذه الكلمات تجعل من الشياطين عمالقة؛ لأنَّ المسألة الإنسانية تهزُّهم تمامًا. لقد كان يرى من خلال الجدار السميك الذي يفصله عن الشياطين، وبطريقته الخاصة، نظراتهم وهي تلمع. بل إن عيونهم قد التقت كثيرًا مع نهاية الكلمات التي قالها.

بعد لحظة قال: إنني لن آمركم بأن تنطلقوا الليلة. فأنا أعرف أنكم متعبون من ذلك التدريب الليلي. إن موعد انطلاقكم سوف يكون غدًا العاشرة صباحًا، حتى تأخذوا فرصتكم من الراحة. ثم إن المغامرة سوف تحتاج للعمل الليلي أكثر.

سكت مرة أخرى، وبدأت أصوات أوراق تُقلب تصل إلى الشياطين، فقد كان رقم «صفر» يقرأ التقارير التي أمامه. قال بعد دقيقتين:

لقد دخلت السيدة «كاظم» مستشفى «جوتار» لتضع طفلًا، لكنها خرجت بدونه. قد تكون هذه مسألة عادية، لكن المسألة تكرَّرت؛ فقد دخلت السيدة «حكمت» المستشفى، وهي حامل في الشهر التاسع لتلدَ، لكنَّها خرجت هي الأخرى بعد أيام بدون مولود. وتكرَّرت الحالة كثيرًا. في نفس الوقت، دخلت السيدة «دولت» المستشفى، وهي تبدو حاملًا. وخرجت بعد أيام، وهي تَحمل طفلًا. هذه مسألة تبدو عادية أيضًا. لكن … وصمت رقم «صفر».

كان الشياطين يتابعون كلماته بكثير من التساؤل والدهشة فماذا يعني ما قاله رقم «صفر»؟!

قال يقطع أفكارهم: إن المستشفى يمنع دخول أي رجل حتى زوج السيدة الحامل، مع أن وجوده عامل مساعد في عملية الوضع، لأنه يعطي تأثيرًا نفسيًّا جيدًا للأم، يساعدها على تحمل آلامها. ولا يوجد مستشفى في العالم كله، يمنع دخول الرجل، إذا كان قريبًا للأم، إلا مستشفى «جوتار» الذي يقع في منتصف «الشارع الأصفر».

مرة أخرى صمَت رقم «صفر». وظل الشياطين يَنظرون إلى مصدر الصوت في اهتمام شديد، لقد كانت هذه التفاصيل السريعة، أكثر إثارة من أيِّ تفاصيل سمعوها في أي مغامرة. فإنَّ أي شيء يتعلق بالأطفال، يجعلهم في حالة حماسٍ شديد. ترك رقم «صفر» الوقت يمرُّ في صمت. لقد كان يُعطي الشياطين فرصة التفكير من جِهة ويُعطيهم فرصة، تجعلهم جاهزين للانطلاق من جهة أخرى.

قال بعد قليل: إن عملاءنا في تركيا، تتبعوا حالات كثيرة. كانت هناك سيدات يأتين من أوروبا، قاصدات مستشفى «جوتار» بالذات، ثم يَعُدْنَ إلى بلادهن، وهنَّ يَحملن أطفالًا. إن هناك لغزًا في هذه المسألة. فمُستشفى «الشارع الأصفر»، مشهور شهرة واسعة. والدكتور «جوتار» له شهرته أيضًا. لكن … ماذا هناك؟ هذا هو السؤال؟ …

سكت رقم «صفر»، بينما بدأ الشياطين يتململون في مقاعدهم.

لقد كانت هناك رغبة حقيقية، في أن ينطلقوا الآن. غير أن كلمات رقم «صفر» إليهم جعلتهم يتوقفون عن أي حركة.

قال: لقد شَكَّتْ أكثر من سيدة فيما يفعله الدكتور «جوتار»؛ فبعض الأمهات لهن أولاد، وهذه هي المرة الوحيدة التي تفقد فيها واحدة منهن طفلَها المولود، إن السلطات التركية لا تعلم شيئًا عن هذه المسألة. ونحن الآن لم نقطع برأي. ولهذا، فسوف تكون مهمتكم مُركَّبة؛ فعليكم أولًا كشف السر. فإذا كانت هناك جريمة ما، فإن عليكم استكمال المغامرة.

صمت لحظة، ثم أضاف: لاحِظُوا أن هيئة التمريض في المستشفى معروفة تمامًا للدكتور «جوتار». وأنَّ أيَّ تفكير في زرع واحدة من الشياطين داخل المستشفى، يُمكن أن يكشف الموقف، ويعرضكم للخطر …! كذلك لاحظوا أنه محظور على مُرافِقة الأم الحامل، أن تتجوَّل في المستشفى. إنها تَظل في مكان محدد لها، لا يُسمح لها بمغادرته إلا عندما يأمر دكتور «جوتار». أضاف بعد لحظة: أنتم طبعًا لكم خططكم، ولكم أساليبكم. وهذه تعتمد على الظروف!

صمت وطالت فترة الصمت. أخيرًا قال: إنني في انتظار أسئلتكم!

مرت لحظات هادئة، قطعتها «زبيدة» قائلة: هل يسمح لنا الزعيم بأن نَنطلِق الآن!

مرت لحظة أخرى، قبل أن يقول رقم «صفر»: إنَّ وصولكم الآن إلى تركيا، لن يفيد كثيرًا، بجوار أنكم مُتعبون، وينبغي أن تنالوا قسطًا من الراحة … وسكت لحظة ثم سأل: ومع ذلك نطرح الموضوع للنقاش، ما رأي الشياطين؟!

قالت «إلهام»: أعتقد أننا سوف نكسب وقتًا، إذا انطلقنا الآن. هذا إذا توفَّرت لنا طائرة!

رقم «صفر»: إن الطائرة مستعدة للإقلاع في أي وقت؟ وصمت لحظة ثم أضاف: إنَّ الساعة الآن قد تجاوزت الثانية صباحًا. وهذا يعني أنكم سوف تَصِلُون إلى مطار «أنقرة» في الرابعة، إذا انطلقتم الآن. فماذا يُمكن أن تفعلوا؟!

لا شيءَ سوى أن تنزلوا في فندق «الشاطئ»، حتى يحين الوقت للتحرك. وإذا قسنا الوقت، فإنه سيكون هو نفسه، إذا انطلقتم غدًا في العاشرة، فسوف تَصِلُون في الثانية عشرة. وهو وقت مناسب لبداية العمل! … ثم صمت.

قال «عثمان»: أعتقد أنَّ عمل دكتور «جوتار» يكون ليلًا، ما دامت المسألة تَخضع لهذه الجريمة اللغز. أي أننا سوف نَستفيد كثيرًا، إذا وصلنا الليلة! … لم يردَّ رقم «صفر» مباشرةً. لكنه قال بعد لحظة: نطرح المسألة للاستفتاء … من يوافق على الانطلاق الليلة، يرفع يده …

مرَّت لحظات ثم قال: أربعة ضد تسعة، هذا يعني أن الانطلاق سوف يكون غدًا. وصمَتَ عدةَ ثوانٍ، ثم سأل: هل هناك أسئلة أخرى؟ …

مرَّت دقيقة، لم يتحدَّث فيها أحد. تمنَّى لهم رقم «صفر» مغامرة موفَّقة. ثم أخذ صوت أقدامه يتباعد خطوة، خطوة، حتى اختفى تمامًا.

نظر «أحمد» في ساعة يده. وكانت تُشير إلى الثانية والنصف. نظر إلى الشياطين وقال: ينبغي أن نَنال حظنا من الراحة …

في دقائق كانوا يغادرون القاعة، بينما كانت الأضواء تختفي. في نفس الوقت الذي كانت فيه الخريطة الإلكترونية قد أُطفئت هي الأخرى … أخذ الشياطين طريقَهم إلى حجراتهم. كانوا صامتين جميعًا. وعندما دخلوا حجراتهم، كانت تعليمات رقم «صفر» تلمع على شاشات أجهزة التليفزيون في حجرة كل منهم. كانت المجموعة المُكلفة بالمغامرة تضم: «أحمد» و«هدى» و«عثمان» و«قيس» و«زبيدة». وعندما قرأ الشياطين هذه الأسماء استلقَوا في أسرَّتِهم استعدادًا للنوم، إلا «أحمد» الذي كان لا يزال جالسًا في الكرسي «المريح» بجوار السرير. كان مُستغرقًا في لغز «الشارع الأصفر» كان يَتساءل بينه وبين نفسه: ماذا يحدث داخل مستشفى «جوتار» وماذا يفعلون بهؤلاء الأطفال. ما هو شعور الأمهات، اللاتي يخرجن بلا أولاد؟ ما هي المسألة بالتحديد؟ …

ورغم أن إجابات كثيرة قد قفزت إلى ذهنه، إلا أنه لم يجعلها نهائية؛ فقد قال لنفسه: غدًا يظهر كل شيء! قام واستلقى في السرير. كان ذهنه يعمل بنشاط حتى إنه لم يشعر بالرغبة في النوم. فاضطُرَّ إلى ممارسة بعض التمرينات التي يعرفها الشياطين حتى استغرق في نوم عميق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤