الفصل الثالث عشر

طار البريد إلى نور الدين فحزن على مصر، وبكى على أهلها، وأرسل جيشًا لجبًا يقوده أسد الدين شيركوه، وصلاح الدين، وما كادا يلتقيان بجيش الإفرنج، حتى تراجع عن مصر عائدًا أدراجه إلى الشام، ودخل أسد الدين القاهرة، فلاقته لقاء الفاتح المنقذ، وتنفس أهلها الصعداء.

ودخل جيش القاهرة وفي أخرياته شيخ يتوكأ على عكازه هو أبو كاظم الحراني، أو زين الدين بن نجا، فإنه بعد أن خابت آماله في الإيقاع بعمارة، وكشفت المؤامرة التي دبرها لفتك سيدة القصور به التجأ إلى نور الدين بدمشق، وأظهر النسك والعبادة، فعينه نور الدين واعظًا لجنده، وأصبح من المقربين في دولته، فلما عزم الجيش على السفر إلى مصر، وتحرك فيه ذنابي الشر، وثارت فيه غريزة الأخذ بالثأر، والانتقام من عمارة، وجال بخاطره أنه إذا لم يظفر به مرة فسوف يظفر به أخرى، لذلك استأذن نور الدين في أن يلحق بجيش مصر، فأذن له.

وبعد يومين استدعى الخليفة العاضد أسد الدين إلى القصر، وخلع عليه خلعة الوزارة، ولقبه بالمنصور؛ فغضب شاور لعزله من الوزارة، والتقى بابنه شجاع وقال: ألا ترى كيف فعل الغزُّ المغتصبون … جاءوا لينقذوا البلاد من الإفرنج فاستولوا عليها؟!

– يا أبي: من الخير لنا أن نتوارى في دورنا، وألا ترى الناس وجوهنا، فإن القاهريين لو تصدقوا علينا بدمائنا لكانوا أكرم الناس.

– أكرم الناس!! هؤلاء البُله المفاليك الذين يصفقون لكل غالب!! … إنني عزمت على مكاتبة جميع ملوك الساحل من الإفرنج؛ ليهجموا على مصر من طريقين: طريق بلبيس، وطريق دمياط.

فلمع الغضب في عيني شجاع وقال: والله لئن لم تنته عن هذه الأمور؛ لأكشفن الأمر لأسد الدين.

– كفكف من غربك يا شجاع، إني إن لم أفعل هذا قتلنا الغز عن آخرنا.

– وإذا جاء الإفرنج قتلونا أيضًا، ولأن نقتل والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل والبلاد بيد الإفرنج.

ثم دارت الأيام، ولم يستطع صلاح الدين صبرًا على بقاء شاور حيًّا، يحوك الدسائس ويبث الفتن، فقتله بيده، وبعد قليل مات أسد الدين، فولّي الخليفة صلاح الدين الوزارة ولقبه بالملك الناصر.

تولى صلاح الدين الوزارة وهو شديد الحذر من سيدة القصور لا يؤمن ببشاشتها، ولا يحسن لقاءها، وكأنه رأى بعين بصيرته ما ينطوي عليه قلبها له: من الحقد، والضغينة، والكيد، فهم لعبتها فعزم على تفاديها بلعبات أخرى: علم أنها لم تؤثره بالوزارة مع وجود كبار الرؤساء والقواد بالجيش الشامي، وإلا لتوقع الخلاف والفرقة بينه وبين هؤلاء القواد، حتى يصبح بأسهم بينهم شديدًا، وحينئذ تتحكم سيدة القصور في الموقف، وترضى عمن ترضى عنه منهم، فيكون صنيعة نعمتها، ومنفذ أمرها. علم صلاح الدين هذا فتملق القواد، وأغدق عليهن، واسترضاهم، وجعل نفسه أداة منفذة لإرادتهم، ثم اتجه إلى القصر، فأخذ يجرده من كل قوة فيه تستطيع أن تقاومه، أو تقف في وجه غايته: فأبعد كثيرًا من رجاله، وأخذ يرهق سيدة القصور بطلب الأموال حتى كاد يستنفد ما عندها، ثم رتب بهاء الدين قراقوش — وهو من أشد رجاله عنفًا وأكثرهم له إخلاصًا — حارسًا على القصر، حتى لا يدخل إليه شيء، أو يخرج منه شيء إلا بإذنه.

ضاقت سيدة القصور بهذه الحال، وسدت أمامها سبل الحيلة، ورأت أن ملكها ومذهبها الفاطمي يترنحان تحت ضربات قاسية متتابعة، وأنه من العار عليها أن تقف صامتة مغلولة اليدين، والأعداء يقتلون دولتها بسم بطيء، فطلبت أن يُدعى إليها عمارة، فلما حضر قالت: أرأيت أبا محمد ما فعله بنا ذلك الكردي الوضيع؟ كأن وحيًا يهبط عليه بما في نفسي، فكلما فكرت له في مكيدة رأيته قد أعد لها ما يحبطها!!

– هذا الرجل كارثة على مصر وعلى الفاطمية، وقد حاولت أن أجتذبه بشعري، وأختدعه بمديحي، فلم أجد منه إلا جفاء وإغفالًا، ومن مصيبة مصر أن يكون عبد الرحيم البيساني — الذي يسمونه بالقاضي الفاضل — وزيرًا لهذا الرجل الجامح، وهو لا يشير عليه إلا بكل ما يهدم الدولة الفاطمية، ويعصف بها.

ولما ضاقت حيلتي مع هذا الكردي أرسلت إليه بهذه القصيدة:

أيا أُذن الأيام إن قلت فاسمعي
لنفثة مصدور وأنة موجع
نزلت بمصر أطلب الجاه والغنى
فنلتهما في ظل عيش ممتع
وفزت بألف من عطية فائز
مواهبه للصنع لا للتصنع
وكم طرقتني من يد عاضدية
سرت بين يقظى من عيون وهجع
فقل لصلاح الدين — والعدل شأنه —
من الحكم المصغي إلي فأدعي؟
أقمت بكم ضيفًا ثلاثة أشهر
أقول لصدري كلما ضاق: وسِّع
أمن حسنات الدهر أم سيئاته
رضاك عن الدنيا بما فعلت معي؟
ملكت عنان النصر ثم خذلتني
وحالي بمرأى من علاك ومسمع

فلم أتلق منه إلى هذه الساعة جوابًا، وقابلني البيساني فهز رأسه في خبث، وقال: لم أر أعجب من قصيدتك للناصر، لقد غلبت فيها مدحك للفاطمين على مدحه.

– استمر في هذه الطريقة أبا محمد، ولا تيأس من اجتذاب هذا المهر الشموس صلاح الدين، وأن هذه الخائنة تخبره بأسرارنا، وبما تعرف من مخابئ القصر وذخائره.

– نعم قابلني ابن دخان منذ يومين، وفي عينيه نظرات الشامت، وعلمت منه أن زوجه لا تقيم عنده إلا قليلًا، وأنها دائبة العمل مع رجال صلاح الدين.

– ويل لها مني!! اسمع يا عمارة … لم يبق في كنانتي إلا سهم واحد للخلاص من صلاح الدين.

– ما هو؟؟

– ستعرفه الآن … يا «تغريد» … مري مؤتمن الخلافة أن يقابلني.

فيقبل مؤتمن الخلافة حزينًا، فتقول له سيدة القصور: كم عندك من الجنود السودانية؟

– عشرون ألفًا يا سيدتي أو يزيدون.

– هل تستطيع أن تهجم بهم مفاجأة على جنود الغز، وتطهر البلاد منهم؟؟

– ذلك ممكن يا مولاتي إذا استمر الخلاف الذي أراه بين قوادهم.

– أعدَّ العدة، واهجم عليه متى شئت وأين شئت، والله معنا، فقال عمارة: إذا هزمنا هذه المرة يا مولاتي، ذهب منا كل شيء!!

– ليكن ما يكون، فإن آخر الدواء الكي، خلياني وحدي.

انفض المجلس، وخرج عمارة من القصر، وبينما هو في الطريق قابله المهذب الأسواني ومعه شيخ غريب عليه سيما الصلاح والزهد لا يفتأ لسانه متمتمًا بالتسبيح والأدعية، فسأله عمارة عنه، فقال: إنه زين الدين بن نجا، وهو رجل تقي يعظ جنود الغز، ثم مال على أذن عمارة وهمس: ويبغضهم أشد البغض، فحياه عمارة ودعاهما إلى داره، ورأى من حديث زين الدين وسوء عقيدته في الغز، ما حببه إلى نفسه، وقربه إلى قلبه، ووثق عرا الصداقة بينهما، وبعد أيام ثار السود على الغز، واشتد القتال بينهم، وطال أمد المعركة، وكادت صفحة التاريخ تتغير لولا أن تآلف قواد صلاح الدين، وصدقوا في الحملة، ولولا أو وثب صلاح الدين وأخوه توران شاه على القصر، وقبضا على مؤتمن الخلافة وقتلاه، فسقط في أيدي السودان، وانطفأت حميتهم.

بعد ذلك؛ زاد تمكن صلاح الدين في مصر، وتحكمه في الخليفة، فأغار على ذخائر القصر وكنوزه، ولها من القيمة فوق ما يقدره الخيال، واستولى على قصور الخلافة، وأخرج أبناء الخلفاء وبناتهم منها، وأسكن كل فريق في دار على حدة تحت حراسة قراقوش، وتصرف في العبيد والخدم، ومنع الخليفة من مغادرة القصر، ووهب إقطاعات المصريين إلى أصحابه وجنوده، وعزل قضاة الشيعة، واستناب قضاة الشافعية، وأزال شعار الدولة الفاطمية، وأبطل من الأذان «حي على خير العمل»، ومنع أن يدعى للعاضد على المنابر.

قدف صلاح الدين بهذه السهام دفعة واحدة، فصعقت سيدة القصور لهول هذه المصائب المتتالية، ورأت ملكها ومذهبها يذهبان طعمة للقوة والدهاء، فبكت كما تبكي النساء، وعادت إليها غرائز الضعف والأنوثة. أما العاضد، فقد دهمه الغم وأحرقته الحمى، فألحّ في أن يراه طبيبه عبد الله بن السديد، ولكن الطبيب أبى أن يذهب إليه، فمات حزينًا بائسًا منبوذًا.

سرى خبر موته في القاهرة، فشاع الحزن عليه في كل مكان، وزاد في بكاء القاهريين عليه ما أصاب الخلافة من نكبات، بعد أن عاشوا في ظل جناحها في أمن، ودعة، ومواسم، وأعياد، كانت بهجة الدنيا وزينة الدهور، ومرّ عمارة على القصر فإذا هو طلل دارس، بعد مجد طاول الفرقدين، وعز ملأ الخافقين. فقال:

لي بالديار غداة البين وقفات
أبكي رسومًا خلت منهن سادات
يا رب إن كان لي في وصلهم طمع
عجل على فللتأخير آفات

فاجتمع حوله الناس فبكى وبكوا، وثارت ثائرته فأنشد:

أيها الناس والخطاب إلى من
هو من حيث عقله إنسان
هذه خطبة إلى غير شخص
نظمت عقد نثرها الأوزان
لم أخصص بها فلانًا لأني
في زمان ما في بنيه فلان
ذمُّنا للزمان ذم لمن فيـ
ـه وحق ألا يُذم الزمان

ونظر من خلال دموعه، فرأى زين الدين بن نجا يبكي وينتحب، ورأى «باسمة» تبتسم في جذل وخبث، فجذبها من عضدها: تعالي واسمعي يا فتاة، فإن عمارة اليمني لا يخاف الجواسيس، بلغي سيدك صلاح الدين ما تسمعين:

قلب الزمان على الخلافة قاسي
ما للزمان جري بغير قياس!!
أسقي لملك عاضدي عطّلت
حجراته بعد الندى والباس
أخذت بنان الغز من أمواله
ورجاله بمخانق الأنفاس
أبني عليّ والبتول وأحمد
وكواكب الدنيا وخير الناس
هذي حصون الروم عطل غزوها
وغزت دياركم بنو العباس

واشتد بكاء الناس وعويلهم، وكادت تكون فتنة، لولا أن جاء داعي الدعاة، فجذب عمارة من يمينه، وانطلق به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤