الفصل الرابع عشر

أسرعت باسمة إلى قصر الأيوبيين، وكان قد سبقها إليه زين الدين بن نجا، ولما قابلت صلاح الدين، والقاضي الفاضل، نقلت إليهما ما كان من جرأة عمارة، وما كان من بكائه الفاطميين، واستثارة قلوب الناس على من هدم ملكهم، والتلويح أو التصريح بذم صلاح الدين، ثم أنشدته ما حفظت من أبيات عمارة، وأخرج زين الدين من جيبه ورقة وقال: وهذه قصيدة طويلة لعمارة يتناقلها الناس ويستنسخونها، وشرع يقرأ منها:

رميت يا دهر كف المجد بالشلل
وجيده بعد حسن الحلي بالعطل
لهفي ولهف بني الآمال قاطبة
على فجيعتها في أكرم الدول
بالله زُر ساحة القصرين وابك معي
عليهما لا على «صفين» و«الجمل»
وقل لأهلهما: والله ما التحمت
فيكم جراحي ولا قرحي بمندمل
ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة
في نسل آل أمير المؤمنين علي؟

فغضب صلاح الدين، والتفت إلى القاضي الفاضل وقال: ماذا نعمل في هذا الرجل الذي يسبنا جهرًا؟!

– إنه يا مولاي شاعر ثائر، وقد أكثر من مدح آل أيوب فأهملتموه، ولو أن مولاي قتله لهذا الشعر لأغضب العامة، وما زالت الأشراف تهجي وتمدح. وأرى أن ثورة عمارة لن تصل به إلى سلامة؛ فاصبر عليه حتى يرتكب من الذنوب ما يسوغ قتله. فقال زين الدين: إن له شعرًا صريحًا في الخروج على الدين، وعلى مذهب أهل السنة، ألا يكفي هذا لقتله؟! فقال القاضي الفاضل: دعه يا ابن نجا فإن من مزايا الشاعر أن يغتفر له ما لا يغتفر لغيره.

مرت أيام وشهور، وثورة عمارة لا تنطفئ، وعزمه على محاربة الدولة الصلاحية لا يكل، فكوَّن جماعة سرية، واشتعل سخط بعض قواد صلاح الدين عليه فضمهم إلى جماعته، ومنهم خاله، وكان بين أفراد الجماعة: داعي الدعاة عبد الجبار بن عبد القوي، وقاضي القضاة، وعبد الصمد الكاتب، ونصر الله بن كامل، وزين الدين بن نجا الواعظ الذي كان عبقريًّا في الجاسوسية، نابغة في النفاق، وكانت هذه الجماعة تجتمع في داره؛ لأنه كان من المقبولين في دولة صلاح الدين، لا تحوم عليه أية شبهة.

وفي ليلة بينما كان هؤلاء مجتمعين، إذا طرقٌ خفيف على باب الدار، فذعروا جميعًا، وظنوا أنهم أحيط بهم، وفتح أحدهم الباب، فرأى امرأة زرية الهيئة في أثواب الخدم، وما إن اجتازت الدهليز، وكشفت عن وجهها، حتى عرف القوم فيها سيدة القصور؛ فظهر عليهم الدهش فابتسمت وقالت: لقد استطعت أن أفر من أسر قراقوش السمج بهذه الحيلة، وكان أقصى ما أريد أن أشهد اجتماعكم، فلعل أن يكون لي رأي فيه، فحياها القوم تحية الإجلال، ثم أخذوا في الحديث والمناقشة.

وطال الكلام واشتد الجدل، وانتهى الأمر إلى أن تكون المؤامرة ذات شعبتين:
  • الأولى: أن تكتب رسالة إلى سنان بن سليمان صاحب الحشيشة بالشام، ورئيس الإسماعيلية، يوصف بها ما حل بالدولة الفاطمية، ويبين فيها ما بين المذهب الإسماعيلي والمذهب الفاطمي من الصلة والقرابة، وأن نصر الفاطمية إنما هو نصر للإسماعيلية، ثم يلح عليه في ندب أحد الفدائيين من الإسماعيلية لقتل صلاح الدين.
  • الثانية: أن تكتب رسائل إلى قواد الإفرنج بالشام وصقلية يُدعَون فيها إلى القاهرة للاستعانة بهم على صلاح الدين، فإذا جاءوا وخرج صلاح الدين لقتالهم أقام المصريون بالقاهرة ثورة؛ فتقسمت قوة صلاح الدين بين الإفرنج والثوار، والخارجين عليه من جنده وقواده.

ولما هم القوم بكتابة الرسائل، قال زين الدين: من الخير أن نرجئ الكتابة حتى نروّي فيها، وحتى تكون قوية مؤثرة.

بعد ذلك قامت سيدة القصور، وكانت الشمس قد علت في الأفق، فالتفت بثيابها المستعارة وقالت: الآن أعود إلى محبسي الذي سأخرج منه إلى قبري، أو إلى قصري!!

ذهب الحراني إلى داره فأقام بها نهاره، حتى إذا أظلم الليل قام ولبس ثيابه، وخرج متجهًا إلى دار القاضي الفاضل، وكان يتمتم وهو يتعثر في الظلام قائلًا: اليوم أشفي غيظ نفسي منك يا ابن زيدان … اليوم أنتقم لابني، وأبي اللذين قتلهما عمك ظلمًا وعسفًا … لقد كتمت هذا الغل في صدري عشرين عامًا، فاليوم يجد صدري متنفسًا … لقد كنت أنتهز كل فرصة فتطير من يدي، أما اليوم فلن تطير أبدًا!!

ولما بلغ الدار، قابل القاضي الفاضل، وقص عليه خبر المؤامرة، وأسماء المتآمرين، فأخذه القاضي من يده وذهبا إلى قصر صلاح الدين، فلما سمع الخبر الخطير، أمر كبير حراسه أن يرسل جماعة للقبض على كل متآمر أينما كان، ولم تتم ساعتان حتى قُبض عليهم، وأودعوا خرانة البنود، وكانت سجن الفاطميين.

دخل عمارة السجن مستريح النفس ثابت القلب، يخالجه شعور بالطمأنينة، وإحساس بأنه أدى واجب الوفاء كاملًا للفاطميين، ولسيدة القصور.

ونام ليلته هادئ البال، حتى إذا تنفس الصبح دخل عليه الحراني، وجماعة من الجنود، فلما رآه عمارة قال له: أهكذا تُشترى الدنيا، وتباع الآخرة بالنفاق والختل يا زين الدين؟

– لست زين الدين … أنا أبو كاظم الحراني الذي باع حياته للشيطان لينتقم منك ومن عمك … اليوم يزول همي، وتطمئن نفسي، حين أراك مصلوبًا بين القصرين.

فصاح عمارة: اخسأ أيها الكلب النابح! وسلّم نفسه إلى الجند، وأمرهم أن يمروا به على دار القاضي الفاضل، فلما رآه القاضي مقبلًا دخل وأغلق بابه؛ فضحك عمارة ساخرًا وقال:

عبد الرحيم قد احتجب
إن الخلاص من العجب

ثم أخذ إلى مجلس القضاء، فاعترف غير هياب بكل ما صدر منه، فحكم عليه بالصلب هو وأصحابه، وبينما كان عمارة على خشبة الموت، مرت جنازة يمشي خلفها فقراء القاهرة وعامتهم باكين معولين، فسأل الجند عن صاحب الجنازة فقيل: هذه سيدة القصور … سُدّت أمامها منافذ الأمل، وتجهّم لها وجه الزمان، فتجرعت سمًّا زعافًا ماتت به لساعتها.

فصاح عمارة بالجند: عجلوا بي!!! … عجلوا بي!! … فسيقول الناس غدًا: إن اليوم الثاني عشر من رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة كان يوم الشهداء، ماتت فيه شهيدة العزة والإباء، ومات فيه شهيد الكرامة والوفاء!! … ثم صاح:

نحن في غفلة ونوم وللمو
ت عيون يقظانة لا تنام
قد فزعنا من الحمام سنينًا
واسترحنا لما أتانا الحِمام

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤