الفصل السابع

بعد عشرة أيام من إقامة عمارة بالقاهرة، أرسلت سيدة القصور إلى عبدها «راجحًا» ليدعوه إليها، فركب حصانًا أشهب أهداه إليه الوزير طلائع، وصحبه راجح على جواد عربي كريم، فسارا من حارة برجوان، وكانت طويلة كثيرة التعاريج، والمنحنيات، حتى وصلا إلى طريق باب الفتوح، وبدا لهما الجامع الأقمر إلى اليسار، فانحدرا جنوبًا إلى ما بين القصرين، وتقدم راجح بجواده نحو باب الزمرد: وهو أحد أبواب القصر الكبير، يمتاز بحسن بنائه، وجمال زخرفه، وكثرة ما به من أعمدة الرخام الضخمة، دهش عمارة لفخامة الأثاث وجماله: فالأبسطة الفارسية تغرق فيها الأرجل، والستائر المذهبة تذهب العين من جمالها، والأرائك والكراسي كلها من خشب الصندل، والعود المضبب بالذهب، المرصع بالجواهر الكريمة، وقد فرشت بأنواع الحرير الثمينة، والمخمل والخُسرواني، والديباج الملكي.

واتجه عمارة إلى يمينه، فرأى حائطًا مغطي بنسيج من الحرير الأزرق التستري، وقد طرز بالذهب، وعليه صورة أقاليم الأرض، وجبالها وبحارها، ومدنها وأنهارها ومسالكها، وفيه صورة مكة والمدينة ظاهرتين للناظر، وقد كتب على كل مدينة وجبل وبلد ونهر وبحر وطريق اسمه بالذهب أو الفضة أو الحرير، فاقترب عمارة من هذا المصور العظيم، فرأى أنه كتب في حافته: «ممّا أمر بعمله المعز لدين الله، شوقًا إلى حرم الله، وتنويها بمعالم رسول الله في سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة، والنفقة عليه اثنان وعشرون ألف دينار».

أما الستائر فكانت من الحرير الأخضر، وعلى كل ستارة صورة لملك أو خليفة أو قائد لكل بلد من بلاد المسلمين، وقد كتب تحت كل صورة اسمه، ومدة حياته، ومجمل تاريخه.

بُهت عمارة لهذا الملك العظيم وهذا العزّ السامي، وذلك الترف الذي بلغ الغاية وجاوز حدود الوهم والخيال، فلم يشعر بالجواري الذاهبات هنا وهناك، من روميات، وصقلبيات، وتركيات، وجركسيات، وقد زادتهن الملابس جمالًا، أو زدن الملابس جمالًا.

أصيب عمارة بالذهول، أو بما يشبه الجنون، وما شعر إلا براجح يرفع ستارة من الديباج المطرز باللؤلؤ، ويقول له: تقدم.

فتقدم عمارة ورفع بصره قليلًا، فرأى سيدة القصور في صدر البهو على كرسي مرتفع يشبه العروش، وقد كان ما لمحه من جمالها فوق ما يصوره الشعراء، ويجسّمه المثالون، خلقها الله لتكون فتنة للعيون، وجوى للقلوب، وحيرة للواصفين، هي جميلة كلها، فإذا أخذتها قطعة قطعة كانت أروع وأجمل.

تقدم عمارة فقبَّل يدها، ثم قبل طراز ثوبها، ووقف مطرقًا خاشعًا؛ فأعجبت سيدة القصور بجميل طلعته، واعتدال قامته، وبما يبدو في عينيه من صفات النبل والرجولة؛ فمال إليه قلبها وخفق فؤادها، وشعرت بقوة تجذبها إليه، قد تكون ما يسميه الناس حبًّا، ولما رأت حيرته وارتباكه أرادت أن تخفف عنه، وتبسط ما انقبض من نفسه فقالت: كيف أنت يا يمنيّ؟؟ لعلك رأيت في «قاهرتنا» ما يسليك عن «صنعاء» و«زبيد»!! فقال عمارة: يا مولاتي، إن الذي يعيش في وارف ظلكم، وعزيز كنفكم، ينسي وطنه وأهله ولو كان في صحراء قاحلة، فكيف والقاهرة بكم سيدة الحواضر، ومدينة المدائن؟! … إن مصر يا مولاتي لم تر منذ أن خفقت فوقها راية الإسلام دولة كهذه الدولة: قوة ومنعة، وعدلًا، وجودًا، وإحسانًا، وإن الناس اليوم إذا أرادوا توكيد أيمانهم، لا يقولون إلّا: «وحق سيدة القصور»، فمن غير الفاطميين يا مولاتي نشر في مصر الأمن، واليسر، والسرور، والثروة!؟ حتى لو كان الفقر رجلًا، وسألني عن صديق يصاحبه لقلت له: لن تجد يا صاحبي لك هنا رفيقًا، ولكن عليك باليمن؛ فإنك تجد هنالك أصدقاء بالألوف.

فابتسمت سيدة القصور، وقالت: هذا دأبكم أيها الشعراء تلبسون الحق بالباطل!!

– إن وصف مصر في أيامكم يا مولاتي يعجز الشعراء، وكل ما يقال فيها دون ما يجب أن يقال.

– أنت لم تر الفاطمية في ذروة مجدها، أظنها الآن تسير بقوة من الماضي.

– يا مولاتي: الفاطمية بك، وبمولاي الخليفة دائمًا في ذروة مجدها.

– إن آمالي يا عمارة أبعد ما تناله يدي، ولو استطعت لأعدت أيام «المعز» و«الحاكم»، ولكني أجد الطريق وعرة، والمرمى بعيدًا، وأنّى تستطيع امرأة ضعيفة مثلي أن تعمل شيئًا، ودرعها الخمار، وسيفها البكاء، وعليها جرّ الذيول لا قيادة الجيوش؟! … إنني في الحق سررت بمقدمك؛ لأن القصر كان في حاجة إلى شاعر يذيع مآثره، وينشر مفاخره، وينقل صوته من الخاصة إلى العامة، فيزيدهم بالخلافة تمسكًا، ولها نصرًا وتأييدًا.

– إن شعري يا مولاتي سيكون جيشًا بجانب جيوشكم، وسأكون لكم كما كان «حسان» للمسلمين الأولين.

– حياك الله أبا محمد … هذا ما ترجوه منك الخلافة، إن الخليفة لا يزال صغير السن، وأرى الأعداء يرمقون مصر من كل جانب؛ فالإفرنج نزلوا الشام، وملكوا كثيرًا من بلادها، وقد أصبح خطبهم شديدًا، وهؤلاء الغُزّ الذين ستروا مطامعهم في اغتصاب الأمم، بدعوى الغزو والجهاد في سبيل الله، والذين يقودهم نور الدين بن زنكي يتحرقون شوقًا إلى مصر، وإلى الارتواء من نيل مصر، وهذه الدسائس التي تحاك هنا حولي في سراديب مظلمة في جنح الليل المظلم، تنذر بالخراب والدمار، فماذا تفعل امرأة ضعيفة مثلي يا شيخ في وسط هذه الزوابع والزعازع؟! كان صوت الأميرة حزينًا متهدجًا، وقد فرت دمعتان من عينيها أسرعت إلى مسحهما بمنديل في يدها، ثم كأنها أنفت من هذا الضعف النسوي، فضربت بقدمها الأرض، وقالت: أريد أن أنقي هذا الجو حتى أستطيع أن أتنفس … أريد أن أنام ملء عيني في قصور المعز من غير أن أشعر أن الكيد والخديعة والأعداء من الخارج تنقبها من قواعدها …

– إن قوَّادك ووزراءَك يا مولاتي طوع أمرك، والملك الصالح طلائع الذي قدم بجيشه من «مُنية ابن خصيب» لنصرة الخلافة، لا يزال كما كان للخلافة أمينًا مخلصًا.

فظهرت على وجه الأميرة كدرة خاطفة سريعة من الحقد والغضب لم يدركها عمارة، وابتسمت وقالت: صدقت يا عمارة، ما أعلمك بأخلاق الرجال!! … إن ابن رزيك قوام هذه الدولة، وهو سيفها القاطع، ورأيها النافذ، وإني أسد أذني عما يقول كثير من حساده، يقولون: إنه أرمني اتخذ الإسلام ذريعة للدنيا لا للآخرة، واتخذ المذهب الفاطمي ذريعة للملك … قاتلهم الله فهم كذابون أفّاكون!! لن تجد مصر رجلًا كابن رزيك، ولو كان للإخلاص والوفاء صورة لكانت ابن رزيك … أما «شاور» و«ضرغام» فلا أعرف عنهما إلا أنهما كبيرا الآمال، ولعل هذه الآمال تتجه إلى إعزاز كلمة الخلافة!!

ثم ضحكت وقالت: أتعبتك من الحديث في شئون الدولة، وكل حديث فيها ممل ثقيل، ما أجمل قصيدتك التي أنشدتها يوم استقبالك!! وأجمل ما فيها:

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
عقود مدح فما أرضى لكم كلمي

المعنى قديم مطروق يا أبا محمد، ولكنك أحسنت صياغته، فإيه بالله عليك أبا محمد … ادنُ مني قليلًا … ما لي أراك مستوحشًا؟! … انفُض عنك هذه الرهبة، وحدثني كما تحدث الناس، فقد سمعت أنك حلو الحديث، عذب المحاضرة والمفاكهة … اسمع يا عمارة: أتريد أن نكون أصدقاء؟؟

– تلك منزلة لو رأيتها في المنام يا مولاتي ما صدقتها. وأين الثريا من يد المتناول.

– لا، صدقها ونحن في اليقظة لا في المنام، وأمامك سيدة القصور بنت الخلائف، وملكة مصر.

فأكبّ عمارة على يديها، فتركتهما له، فاستمر طويلًا يغمرهما تقبيلًا ولثمًا، وقد أحس كهرباهما تسري إلى جسمه، فتملؤه نشوة وانتعاشًا، ثم قال: أنا عبد مولاتي وخادمها، وإن قلمي، ولساني، وسيفي — إن شاءت — ملك يمينها.

– لا … أنت صديقي، ولكننا قبل أن نبني هذه الصداقة، يجب أن نجعل أساسها ميثاقًا مقدسًا، وعهدًا أكيدًا.

– ألف عهد وألف ميثاق أبذلها تحت قدميك، وأنثرها أمام هذا الجلال الرائع … ولولا رهبة الملك لقلت أمام هذا الجمال الفاتن … فابتسمت الأميرة وقالت: لم تطق أن تصبر لحظة عن شاعريتك فحننت إلى الغزل، كما يحن الطائر إلى التغريد عند سفور الصباح!

– يا مولاتي أنا شاعر، والشاعر ليس إلا مرجلًا يغلي بضروب الإحساس والوجدان، فإذا لم يجد متنفسًا انفجر وتحطم، إننا معاشر الشعراء نرى الصور بعيون من الفن لا يبصر بها سوانا … نرى الجمال فنذهب بخيالنا في روضاته، فيتكشّف لنا عن بدائع لا تراها العيون … نحن نعيش في دنيا غير دنيا الناس، ونفهم من أسرار الحسن غير ما يفهم الناس، إن الحسن أحيانًا قد يتحدى الشعر، وقد يعجز الخيال، وقد يبهر العين كما بهرني، ولكنا لا نلقي أمامه السلاح أول مرة، ولا نستسلم خاضعين، بل نأخذ في إطلاق الشعر حوله رصينًا أو غير رصين، مبينًا أو غير مبين، ثم نصيح كما يصيح المحموم، حتى نخفف من ثورة قلوبنا، وإلا قتلنا الحب، ورحنا شهداء النظرات الفاتكة، والبسمات الفاتنة.

– قصيدة منثورة يا أبا محمد!! إن لبيانك سحرًا عجيبًا!! ثم تهانفت وقالت: نسينا العهد والميثاق.

– صوغي العهد يا سيدتي كما تشائين، ولا تبقي شيئًا من الأيمان المحرجة، فإني أكرر بعدك كل ما تقولين.

– إن عهود الفاطميين ليست هينة يا عمارة، فهي شديدة قاسية، ووراء كل كلمة منها إسماعيلي فدائي، يغمد سكينه في قلب كل من نكث بها.

– إن دمي لك يا مولاتي، وهل أقول قلبي؟؟

– قل ما تشاء.

– دمي، وقلبي، وحياتي لك يا مولاتي، فهاتي العهد، وتشددي ووثقي كيف شئت كما يوثق كتّاب العقود.

– ولكني قبل العهد أريد أن أتحدث معك قليلًا: أتعلم أن أهل مصر تحولوا جميعًا إلى المذهب الفاطمي، وأصبحوا من أشد الناس غيرة على نشره، والمحافظة على تعاليمه ومراسمه … إنهم قوم يحبون البهجة ومظاهر السرور، وحفلات الأنس والطرب، وضجيج المواسم، وقد أكثرنا من ذلك لهم … أتعلم أن مواسم الفاطميين تزيد في السنة على ثلاثين موسمًا؟! هذا إلى ما يعمل في رمضان والعيدين من الحفلات الشائقة، وضروب البذخ والإسراف، أتعلم أننا جعلنا سيف المعز وذهبه شعارًا لدولتنا؟! أسمعت بقصة جدي المعز في أول اجتماع عام له بالقاهرة، حينما طالبه ابن طباطبا نقيب الطالبيين في مصر بما يثبت نسبه وحسبه؟ فنثر جدي الذهب على الناس، وقال: هذا نسبي!! ثم جرد سيفه من غمده وصاح: وهذا حسبي!! ومن ذلك الحين أصبحت دولتنا تقوم على هاتين الكلمتين: الذهب لمن أطاع وأصلح، والسيف لمن عصى وأفسد.

– هذا يا مولاتي هو العز الباذخ، والملك الشامخ، فبأبناء فاطمة تتيه مصر، ويسعد أهلها.

فمالت إليه الأميرة باسمة، وقالت بصوت عذب النبرات: بعد هذا، وبعدما سمعت منك أبا محمد عن سماحة الفاطمية، وجودها، وعدالة حكمها أحب أن تكون فاطميًّا.

– أنا فاطمي يا مولاتي … أحب فاطمة الزهراء، وأحب عليا — كرم الله وجهه — وأحب أولادهما، وأعتقد أن حبهم قربي إلى الله وشفاعة.

– لا يا عمارة … لا تغالطني بحقك … أنت تعلم ما أريده، ولكنك تروغ روغان الثعلب، ولولا ميل أحسه نحوك ما طاولتك هذه المطاولة، ثم ظهرت في وجهها شراسة النمرة فقالت: إن لمثلك عندنا إحدى خلتين: إما أن تعتنق مذهبنا، وإما أن تسيل نفسه على سيوفنا … أتريدنا الآن يا يمني على أن نعود إلى الانحلال، والتجاوز المميت؟! لا … لا … لا بد من إحداهما، إما أن تكون فاطميًّا، وإما ألا توجد.

فارتعدت فرائص عمارة، وقال في تلعثم: فهمت من مولاتي أنها لا تريد من الحياة إلا إعلاء المذهب الفاطمي، وتثبت أركانه، وفهمت أنها لهذه الغاية نفسها تدعوني إلى اعتناق المذهب، فما رأيك يا مولاتي في أننا متفقان في الغاية؟! … متفقان تمام الاتفاق!! … سأكون خير عدة في نشر المذهب الفاطمي … سأكون له لسانًا ناطقًا، وقلبًا خافقًا … سيكون شعري أغنيته التي يطرب لها كل سمع، ويتفتح لها كل قلب … سيحسدني داعي دعاة المذهب على حسن ما أبليت في إنهاض الفاطمية، وإعلاء لوائها … سيرى النقباء الاثنا عشر أنهم لم يعملوا شيئًا بجانبي … سيردد الأطفال في الحارات أناشيد الفاطمية، وستغرد النساء في بيوتهن بمجد الفاطمية، وسيرى الأدباء والعلماء في شعري صورًا ساحرة لجمال الفاطمية وسماحتها … سأعمل كل هذا لأنني أحب مولاتي، ولأنني رأيت من كريم وفادتكم، وجزيل عطائكم، وعميم إحسانكم إلى الناس ما بهرني، وملأ قلبي حبًّا لكم، ولكل ما يتصل بكم. أما عقيدتي أنا … التي تنطوي عليها جوانحي، فدعيها لي يا سيدتي … دعيها بالله فإنها بقية ما يصلني بأهلي الذين فقدتهم … دعيها فإنها إرث الماضي البعيد … دعيها فإنها جزء من نفسي، ثم وثب قائمًا وفي وجهه شهامة العربي الكريم، وقال: لن أغير عقيدتي، ولو طلبت ذلك أجمل امرأة أظلتها السماء، وهي سيدة القصور.

– اهدأ أبا محمد.

– يا مولاتي، إني أعتقد أنني لو غيرت عقيدتي أول ما تطلبين مني لهزئت بي وسخرت مني، وقلت في نفسك: تعسًا له من رجل سقيم الإرادة، هزيل العزيمة!! ثم هبيني كنت رجلًا إمعًا لا خلق له، ولا عزم، ولا دين، أتظنين أن ذلك يقربك من غايتك؟! لا. سيضحك الناس مني في أكمامهم إذا ناديت فيهم بفضل الفاطمية، ويقولون: يا له من شقي أفاق مأجور!! اشترت منه الخلافة عقيدته بدراهم معدودة، فجاء يدعونا إلى الحرص على مذهبها! وربما همس أحدهم في أذني بخبث وشماتة قائلًا: إن رجلًا يفرط في مذهبه أولى به أن يتوارى عن الناس، وألا يحثهم على التمسك بمذهبهم، ثم إن الوفاء أظهر خلائقي، وأقوى شيمي، فإذا لم أف لعقيدتي فأجدر بي ألا أفي لمخلوق … سأعيش للوفاء، وسأموت للوفاء، ولن يقول إنسان: إن ابن علي خان عهدًا، أو أخفر ذمة.

فانبسطت أسارير سيدة القصور وقالت: أحسنت أبا محمد، إن هذا البيان وهذا الفكر الواسع لا تستغنى عنهما الفاطمية.

– اطمئني يا مولاتي، فسأكون لك عونًا، ولمذهبك سيفًا ودرعًا، وسأكون فاطميًّا بلساني، سنيًّا بقلبي، فماذا تريدين مني فوق هذا؟؟

– اكتفيت أبا محمد، فإن لروعة منطقك، إلى وسامة طلعتك، إلى كريم خلقك، وكمال رجولتك سحرًا وفتنة: أيرضيك هذا الإطراء أبا محمد من امرأة كانت تظن أن الأرض أقفرت من الرجال حتى رأتك؟؟

فوثب عمارة على يديها يقبلهما، ويرتفع بفيه قليلًا قليلًا حتى يصل إلى معصميها، ثم قال: يرضيني يا مولاتي؟! أنا لا أدري: أأنا فوق الأرض، أم سابح فوق السحاب؟!

– لا … لا تعد إلى شاعريتك، أنت معي هنا في قصر الزمرُّد … هلم إلى العهد، فتنهد عمارة وقال: هاتي يا سيدتي، هاتي … فأخرجت سيدة القصور ورقة من منديلها، وأخذت تتلو وهو يعيد: «أقسم وأحلف بالله المنتقم القاهر، وبرسوله الكريم، وبوصيه ووليِّه، وببنته الزهراء سيدة نساء أهل الجنة، وبكريم نسلها وشريف عترتها على أن أكون للفاطمية عونًا ولها ناصرًا، ولدولتها مؤيدًا، وعلى أن أعاضد أولياءها، وأحارب أعداءها، وأتِّخذ كل وسيلة، وكل أداة، وكل ذريعة لرفع شأنها، وإماطة الضر عنها، وعلى أن يكون دمي، وشرفي، ومالي هدرًا مباحًا إن خنت لها عهدًا، أو نكثت بوعد، أو توانيت عن وفاء».

وبعد حلف اليمين كان جبين عمارة يتصبَّب عرقًا، فرفع عينيه وقال: بقيت مسألة يا سيدتي، وهي أني شاعر، وقد أمدح قومًا تضمرين لهم سوءًا، فهل ذلك ضائري عندك؟؟

– لا يا عمارة، أيِّد بمدحك من تشاء منَّا، واخدع بمدحك من تشاء من غيرنا، ولا تخش شرًّا فأنت موضع ثقتي … هلمَّ إلى الطعام والشراب.

ثم قامت سيدة القصور إلى بهو آخر، أعدت فيه مائدة ملكية يحيِّر وصفها الألباب، وبعد الطعام تقدمته الأميرة إلى بهو الأغاني، وقد كانت الجواري أعددن آلات الطرب، فجلست الأميرة، وجلس عمارة بعيدًا، وجلست إلى جانب الأميرة جاريتها «باسمة»، وهي جارية جركسية بارعة الحسن، رائعة الطلعة، تفور فيها الأنوثة، وتصطخب في نفسها ثورات الشباب، لمحت عمارة، فرأت فيه مُحَيًّا عربيًّا، ووجهًا صبيحًا، وقامة فارعة، فاضطرب له فؤادها، وأخذت تخالسه النظر، وتتحين الفرصة لمحادثته واجتذابه، واستمر الطرب إلى الهزيع الأخير من الليل، حينئذٍ وقفت الأميرة وسلَّمت على عمارة، وهمست في أذنه: سأرسل إليك راجحًا في كل ثلاثاء. ثم أمرت «باسمة» أن تسير معه إلى الباب الكبير، وأن تأمر راجحًا أن يصحبه إلى داره.

فسارت «باسمة» معه من سلم إلى سلم، ومن بهو إلى بهو، وقد جاذبته الحديث طويلًا في هذه الأثناء، ورمت إليه بكثير من شباكها، وألقت إلى قلبه بالمجرب النافع من سحرها، ولكن عمارة كان عنها وعن فنونها في شغل شاغل، فلم يقابلها إلا بالصد والعبوس؛ فحزنت «باسمة» ولكنها لم تيأس، وقالت في نفسها: ويل لهذا المهر الحرون مني!! سيأتي إليّ خاضعًا، وسيلقي عنانه بين يدي ذلولًا، ثم قابل راجحًا فودعته «باسمة» وانصرفت، فركب عمارة وراجح جواديهما، وإذ هما يخرجان إلى الطريق سمع عمارة مؤذن الصبح من مئذنة الجامع الأقمر، وهو يردد بصوت رنان: حي على خير العمل!! … حي على خير العمل!!

أقام عمارة بالقاهرة طويلًا في عز وثروة وهدوء بال، وكان يستدعيه راجح في كل أسبوع للقاء الأميرة، فزاد هيامه بها، وبجودها وذكائها، وحرصها على حياطة الدولة، وكانت «باسمة» في كل زيارة تغازله على أن تصبيه، فيصرفها عنه في تعفف واستنكار.

وبينما كانت تودعه إلى باب القصر في بعض زوراته، دخلت به إلى إحدى الحجرات، وسألته في رشاقة تستنزل العصم، وفي دلال يلين الصخور الصم أن يكتب لها بعض أبيات رقيقة قالها في الغزل، وكانت تحدثه وهي ترفع خصلة متهدلة من شعرها الذهبي اللماح، وتصوب إليه عينيها في ضعف وفتور، يوقظ الفتنة النائمة، ويثير العاطفة الخامدة، والجمال يستعين دائمًا بقوته إذا ملك، وبضعفه إذا حاول أن يملك، والجمال الهادئ المستكين أقوى أنواع الجمال تحكما في قلوب الرجال، وهو أحبولة المرأة، وأداة وثوبها، ودرع دفاعها، عرفت المرأة بفطرتها الصادقة، وغريزتها النافذة، ما في الرجل من غرور وكبرياء، واعتزاز بحوله وطوله؛ فهي دائمًا تأتيه من هذه الناحية، فتتوسل بضعفها إلى قوته، وبأنوثتها إلى رجولته، وبلينها إلى خشونته، وبأنها تريد أن تتخذ من قلبه حصنًا تلجأ إليه من عواصف الأيام، ومن عطفه حمى تلوذ به من أعاصير الحياة، ثم تبعث بجمالها الوادع الذليل شفيعًا إليه، فلا يزال به حتى يجتذب عطفه، ويستهوي حنانه — والحنان أول مراتب الحب، والإشفاق أول مراحل الغرام — حتى إذا فازت بعطفه، أخذت في إنمائه بالإيحاء، وبأساليب يعرفها النساء وحدهن: أساليب كأنها غير مقصودة، وهي مقصودة، وكأنها من المصادفات، وليست من المصادفات، وكأنها تصدر على الرغم منهن، وليست إلا من قصدهن، وهنا يقع الرجل في الشرك، وهنا يتغلب الحب، وهنا تتحكم المرأة، وهنا يعود ذلك الضعف المتصنع قوة وجبروتًا!!

قالت «باسمة»: إنها ليست أبياتًا يا سيدي، إنها همسات الحب في أذن العاشق المهجور، أتعرف أنني كلما سمعت «طروب» تغنيها لم أملك دموعي!!

إن الشعراء يجتذبون المرأة بمثل هذا الشعر الذي لا يخطئ سبيله إلى القلوب، فإذا اهتزت مشاعرها له جاء الحياء فكتم ما تحس ودفنه بين جوانجها حيًّا، لا لشيء إلا لأنها امرأة يجب ألا تتكلم، ويجب ألا ينم وجهها عن السخرية بالغزل، وأغاني الغرام، أما الرجل فمباح له أن يبوح بما في نفسه، ومباح له أن يغري من يشاء بما شاء، ولقد يكون خدَّاعًا، ولقد يكون ماجنًا عربيدًا، يلهو بقلوب الحسان كما يلهو الطفل بلعبه، حتى إذا سئمها داسها بقدميه، وتركها حطامًا.

ليس للمرأة المسكينة أن تقول: أحب، وليس لها أن تجيب عن ابتسامة بابتسامة، ولا عن زفرة بزفرة، وإنما عليها أن تصرف وجهها عن مائدة الحب، ونفسها تشتهي كل ما عليها من ألوان؛ لأنها صنم من جمال، وتمثال من حسن، لا يتكلم ولا يريد، فإذا ضحكت أحيانًا ضحكة فيها رنين، أو انزلق لسانها بكلمة تصور خلجة من خلجات النفس الحائرة، أو أدلت برأي في معنى الحسن — سلقتها الألسنة، وحملقت نحوها العيون، وترحم الناس على الحياء والفضيلة، وهزّت العجائز رؤوسهن في رعب ودهشة، وبكين ماضي أيامهن، حين كانت البنت تُرى ولا تسمع، ثم ينتقلن بالحديث إلى فساد الزمان،. واضطراب الأوضاع، وضياع آداب السلف.

ويا ويل الشباب من المشيب!! فإنه حينما يرى أنه تسلب من القوة، وماتت فيه غرائز اللهو، وقعدت به السن عن الاستمتاع بلذائذ الحياة — يمتلئ صدره على الشباب حقدًا، وتغلي نفسه منه غيظًا، ويرميه بالجنون والطيش، وتمزيق ستار الأدب، وتمريغ الفضيلة في التراب، ولو أن شيخًا هبّ من نومه، فأحس بالشباب وقد عاد إليه، والفتوة وقد تمشت في عروقه الواهنة الذابلة، ونظر في المرآة فرأى شيبه، وقد ارتد سوادًا، ووجهه وقد صقله الصبا، ومحا منه الغضون — لغير رأيه في الفضيلة، وكان أوسع أفقًا، وأكثر تسامحًا، وأسرع إلى داعي اللهو استجابة، ولضحك مما كان يراه بالأمس من وجوب التحرج والتزمُّت، والابتعاد عن التمتع بزينة الله التي أخرج لعباده.

– هذه صحيح يا فتاة، ولكن ما لك تعذبين نفسك بهذا التفكير الذي لا يجرّ إليك إلا الحزن والبلبال؟!

– إنني يا سيدي لم أخلق نفسي، ولو خيرت لاستبدلت بهذه النفس التي أشقى بها نفسًا جامدة بلهاء، لا تشعر بالمعاني السامية، ولا تهتز للجمال الروحي الذي فيه غذاؤها وريّها وحياتها، أنا يا سيدي فتاة منكوبة، أعيش حبيسة في هذا القصر، بين سادة يسومونني الذل والخسف؛ لأنني في أعينهم أمة اشتروها بمالهم، واشتروا معها في زعمهم كل ما فيها من حس وإدراك وشعور، فيجب ألا تحس وألا تدرك وألا تشعر، وبين خدم يحسدونني على منزلتي من سيدة القصور، ويدبرون لي المكايد، وينصبون الحبائل، أرأيت يا سيدي أسوأ من هذه الحال؟ أمة ذليلة محسودة، أمة تضطهد في ضوء النهار، وتحاك لها الدسائس في ظلمة الليل.

أمة …؟ وهل أنا أمة …؟! ولكنهم أماتوا روحي، وقتلوا ما كان في نفسي من عزة، فلن أستطيع أن أتكلم!!

– إني أتألم لألمك يا فتاتي، تكلمي … تكلمي … فلن يزيح عن النفس أحزانها إلا البوح والبكاء.

– لك يا سيدي أبوح، ولمثلك أشكو، فإن لك قلبًا لا يضيق بفتاة بائسة مثلي، تلتجئ إلى ركن فيه لتعتصم من ويلات الزمان.

أنا لست أمة أبا محمد، إن لي قصة تستنزف ماء الشئون، وتثير لواعج الشجون، ولكن لساني لم ينبس بها لأحد، وماذا في أن تكشف ذات نفسك لقوم لا يلقونك إلا بالسخرية والتكذيب والمراء! أنا لست أمة، ولكن أبي كان حاكمًا ببلاد الجركس، ولم يكن له من ولد غيري، وكنت ريحانة حياته، وفلذة كبده، وحبة قلبه، وكان بي مشغوفًا، وبحبي كلفًا، وكان أبي شديدًا في مطاردة اللصوص، مستقصيًا لهم، صارمًا في عقوبتهم، فقبض مرة على زعيم من زعمائهم فأذاقه صنوف العذاب، ثم وسطه في ميدان المدينة، ويظهر أن أحد رجاله أراد أن ينتقم له، فرأى أشد ما ينتقم به منه أن يختطف ابنته، وأن يذيقه لوعة فقدها — فخُطفت في السابعة من عمري، ونقلت إلى الشام في بيت نخاس، كان يحفُّني بعناية فائقة، ويشملني بعطف سابغ، ويدللني تدليل الأب الشفيق. وقد أحضر لي عجوزًا كانت تختلط بنساء الأكابر، لتلقنني آداب السلوك، وآيين القصور، وكنت وأنا بين هذا الترف الكاذب، والنعيم الزائف أسكب الدمع في خلواتي مدرارًا، وأكاد أبخع نفسي على أهلي حزنًا.

وقد أقمت عند صاحبي طويلًا حتى بلغت مبلغ الأنوثة الكاملة، وتفتحت في أكمام الشباب الناضج، وأظهرت مني الخامسة عشرة مكنون الجمال، ومستور الفتنة، وإذا كان الشباب جمالًا، فأجمل منه أن يكون جميلًا، وكلما تبلج حسني زاد صاحبي بي حفاوة ولي إكرامًا، وذاع في دمشق أن لدي حسين الدفاني النخاس فتاة لم تحو قصور الملوك مثلها، فتزاحم على بابه سماسرة العبيد والجواري، يغرونه ببيعي، ويزيدون في ثمني بالمئات من الدنانير، وكان الرجل يقابل إسرافهم في العرض بإسراف في الإباء، وكنت في أثناء هذه الضجة وهذه المغالاة بقدري، لا يفارقني خيال أبي، ولا تنأى عني ذكراه، وكان قلبي بالحنين إليه خفاقًا، وبالشوق إليه دائم الوجيب، حتى زارتنا في عصر يوم امرأة من بلاد الجركس، فجاذبتها أطراف الأحاديث، ثم انفلت في حذق ولباقة إلى السؤال عن أحوال البلاد، وعادات أهلها، كأني لا أعرف من أمرها شيئًا، فانطلقت المرأة في القول، وأسهبت فيما يصيب البلاد من فوضى، وما فيها من عصابات ضارية، مردت على اختطاف البنات وبيعهن في أسواق الرقيق، وعلمت منها أن أبي بعد أن نكب في ابنته، برّح به الحزم فمات كمدًا، حينئذ يئست من الحياة، وعرفت أني خلقت للذل والمهانة، وأن هذه الحلي التي تزين معصمي وصدري، والحرائر الثمينة التي أرتديها، إنما هي من عبث القدر وأضاحيكه، وأنها أشبه بزخرف القبور، منها بزينة فتاة تستقبل الحياة.

ثم جاء والي دمشق ذات صباح، وطلب من صاحبي أن يسافر بي إلى مصر؛ ليبيعني لسيدة القصور، على أن يتحكم في الثمن كما يشاء، فسافرنا إلى القاهرة، وعُرضت على سيدة القصور، وكان العرض مؤلمًا … ثم سئلت عن اسمي، فأطرقت وتبسمت ابتسامة حزينة واجدة، فصاحت سيدة القصور: سميتها «باسمة»، ثم طلبت إلى الخدم، والجواري أن يدعوني بهذا الاسم، فبقيت في القصر منذ ذلك الحين أعامل معاملة الدُّمى حينًا، ومعاملة الإماء الذليلات أحيانًا، ارحمني يا سيدي … ارحمني … فإنني أتحرق إلى صدر رفيق يجيب خفقات قلبي، وأشعر في دفئه بالحب والحنان.

– يحزنني يا فتاتي أنك طرقت قلبًا مشغولًا، ملأ الحب كل حجراته فلم يترك فيه مكانًا لحب جديد.

– لك ألا تسمي ما أدعو إليه حبًّا، سمّه عطفًا إن شئت.

– إن العطف أول الحب، وإذا رضيت بالعطف أول الأمر، فلن ترضي به إذا طال الزمان، إن قلبي يا فتاتي موحد لا يؤمن بالشريك.

– لقد حرمت يا حبيبي حب الأب، وحب الصديق، وأريد أن أعيش إنسانة تجتذب الحبيب، ويجتذبها الحبيب، تُصبي الحسن وتصبو إليه، إنني من جيل تعنف فيه الغرائز وتشتد، وتسيطر فيه نزعات القلب على حكمة العقول، أريد يا حبيبي أن أحيا ساعة واحدة أشعر فيها أنني لست أمة رقيقة!!

– أليس لك في زوجك يا باسمة ملاذ يسكن إليه قلبك، وتهدأ في كنفه جوانحك؟

– زوجي؟ لا تمزح يا سيدي! بالله عليك لا تمزح! إنه ناطور الزواج كما يضعون في البستان ناطورًا ليذود الطير عن ثمره، زوجي؟ ذلك الذي أرغمتني سيدتي على التزوج به؛ لتصونني من رجال القصر الذين كادوا يفترسونني بأعينهم، والذين كانوا يلاحقونني في كل مكان، ومن هو الذي ألزمت الزواج به؟ فدم، جاهل، مغفل، غبي متعاقل، سريع الغضب، بطيء الهمة، هذا هو الزوج الذي اختارته لي سيدتي، واختيارها وحي من الرحمن يجب ألا يرد، ولا يجادل فيه، ولا يسائل المرء نفسه عن سره! فهل لي في أن أطمع في عطفة منك تضيء ظلام حياتي!؟

– لا أكاد أفهمك يا باسمة، ولا أكاد أفهم معنى لهذا التشبث بعدما أظهرت لك من الانصراف عن كل ما يسميه الناس حبًّا، وقد أكرمتني سيدة القصور بحفاوة لم يظفر بها سواي، وليس من شيمي أن أعبث بهذه الكرامة.

– أنت تحب سيدة القصور، وتؤثر حب السيدة على حب الجارية؛ لأنك تظن أن حب السيدات سيد الحب!

فظهر الغضب على وجه عمارة. وصاح: كفى يا جارية، فإن سيدة مصر أقدس من أن تصبح حديثًا للإماء!! ولقد صبرت على ثرثرتك طويلًا، وتركت نار قلبك تأكل حطبها لتنطفئ، ولكن يبدو لي أن الرفق زادها استشراء، وأضاف إلى جذوتها حطبًا، اعزبي عني فقد طال بنا المقام، وأخشى أن ينالني من الجلوس إليك أشنع المكروه.

– أعزب عنك بعد أن كشفت لك عن ذات نفسي، وفضحت لك خبيئة صدري؟! بعد أن طرحت حبي على أقدامك فقذفت به كما تقذف النعل الخلق؟! وبعد أن سكبت دموعي على قلبك الصلد فما زاده الماء إلا صلابة ويُبسًا؟! أعزب عنك بعد أن أهنت أنوثتي، ودست بقدمك على أشرف ما أعتز به وتعز به كل امرأة من حياء وخفر وإباء؟ ويل لك مني! إن كل شيء عندنا — معشر النساء — أممٌ، إلا أن تجرح المرأة في كرامتها، وإلا أن تقدم جمالها الفاتن لجلف مثلك، فينحيه عنه بالأكف في سخط وأنفة، كأنه كأس مسمومة أو طعام ولغت في الكلاب! ويل لك مني، وويل لكل من يناصرك! لن تفلت من حبائلي، إننا — بنات الجركس — نقتل الرجال: إما بالحب والاستهواء، وإما بالكيد والدهاء، فخذ حذرك فإنك لن تنجو مني يا رجل! ثم قامت غاضبة، وتركت عمارة في ذهول وعجب، وهو يتطلع في أنحاء الحجرة كالمشدوه المأخوذ، ثم ضحك ضحكة جافة مضطربة، وضرب كفًّا بكف، وقال: حقًّا إن مصر بلد العجائب!! ماذا كان شأني بهذه الفتاة؟ ومن رماني بهذه المجنونة؟ إنها ستكون البعوضة التي تدمي مهجة الأسد، وستعمل على تكدير عيشي، وتنغيص حياتي، وربما أشعلت بيني وبين سيدة القصور فتنة لا أستطيع لها إطفاء، وربما نشرت بين رجال القصر أسرار حب قدسي أبالغ في كتمانه، أكان يجب أن أجاريها وأن أخدعها، وأن أظهر لها كالمحب المفتون بها المدلّه بجمالها؟ لا، إن شيئًا من ذلك أو دونه لو ظهر لأفسد ما بيني وبين سيدة القصور، ماذا أعمل؟ إني بالغت في اتقاء دسائس الرجال، ولم أحسب لدسائس النساء حسابًا، إن من ضروب العداوة ما لا يستطاع درؤه، وإن من المصائب أن يكون عدوك ضعيفًا؛ ولكن سأدَّرع بالحذر، ثم يكون بعد ذلك ما يكون، وقام وصدره مثقل بالهموم، ثم غادر القصر.

وفي تلك اللحظة التقى ابن دخان بباسمة في أحد أبهاء القصر، وكان لها عاشقًا، وبها صبًّا مفتونًا، وكانت تصد عنه في إغراء، ثم تجتذبه لتعرض عنه من جديد، وهي في قرارة نفسها تنفر منه، وتستنكر تصابيه، وطرائق غزله، فلما اقترب منها قال: كيف أنت اليوم يا نور عيني؟ ألا تزالين في دلالك القديم؟!

– كما أنك لا تزال في ضلالك القديم، دعني بالله أسر في طريقي، فإني كرهت الدنيا ومن فيها!!

– الدنيا بخير يا جنتي، والرواتب تصرف في كل شهر لجواري القصر، وفوق كل راتب قبلة إلا منك، فقد أعيتني فيك الحيل!

– أنت رجل فارغ القلب، لا تأبه إلا للرواتب، ودخل الدولة وخرجها، أما ما يصيب صديقًا، أو يمس شرف فتاة ضعيفة فقدت الحامي والنصير، فليس من شأنك في قليل أو كثير!! أنني سأغادر القصر إلى الأبد، إن هذا اليمني الأفّاق المسمى بعمارة، أطغته منزلته عند سيدة القصور، فاتخذ عطفها عليه سلاحًا للعربدة والفجور، لقد ضقت بهذا الرجل ذرعًا، إنه يلاحقني أينما رآني في القصر، ويضايقني بإلحاحه وتغزله السمج، ويريد أن يفرض علي حبه فرضًا، ويظن المغرور أن الله اختصه برواء الحسن وكمال الظرف، وأن امرأة لا تهيم به مدخولة العقل فاسدة الحس، قابلني في هذا الصباح فحاولت الفرار منه فلم أستطع، وأخذ يصب علي شواظًا من غزله المفضوح، فلما زجرته وسخرت منه احتدم غضبه، وتكشف لؤمه، وتوعدني بالشر والإيقاع بي عند سيدة القصور، وبطردي من القصر!!

– طردك أنت من القصر؟! … أنت … وماذا يبقى فيه إذا غابت عنه شمسه؟! ماذا يبقى فيه وأنت بهجته وزينته؟! ولكن هذا اليمني الثقيل الوقح، هو الذي يطرد من القصر، ويزجر منه كما يزجر الكلب.

– إن سيدتي متعلقة به …

– ومن هذه الناحية ستأتيه النكبة، دعي هذا الأمر لي يا بنية، فلن يضايقك اليمني الأحمق بعد اليوم.

– وكيف؟

– سأفكر، وستكون المؤامرة محكمة لا يجد منها اليمني منفذًا، ولكني أطلب أن تزيدي في التودُّد إلى زوجك؛ فإني أعتمد عليه في مثل هذه الأمور، وكيف حالك معه؟

– إنه زوج شرعي وكفى!

– لا يا باسمة … صانعيه واخدعيه، وأظهري له الحبَّ والميل حتى يتم كل شيء. فظهر الابتهاج على وجه باسمة … ولكن ابن دخان عاجلها قائلًا: ولكني أطلب أجرًا على هذا العمل المحفوف بالمخاطر.

– ما هو؟

– قُبلة واحدة من فمك الحلو.

– قبلت على أن يؤجل هذا الأجر إلى أجل غير بعيد، ثم فرَّت من بين يديه كالظبي النافر، وذهبت إلى مسكنها الخاص بالقصر، ولمَّا رأت زوجها مجاهدًا الرملي ألقت بنفسها بين ذراعيه ضاحكة معربدة، عابثة بشاربه ولحيته؛ فدهش «مجاهد» لهذا التغير المفاجئ، وقد كانت منه شديدة النَّفار، ممعنة في الدلال، فما استطاع إلا أن يضمها ضمة العاشق المهجور، ويملأ وجهها بقبلاته، ثم قال: ما هذه النشوة يا باسمة؟ فقالت: هل على فتاة في أن تحب زوجها من حرج؟

– لا، غير أنه حب مرتجل!

– إنه ليس مرتجلًا يا مجاهد، إن العجائز — قاتلهن الله — علَّمتني أن الرجل لا يحب إلا إذا جفته المرأة وتمنعت عليه، وقد أخذت أعمل بنصيحتهن، وأظهر لك النفور والبغض؛ لتزيد بي شغفًا، حتى لم أعد أقوى على هذا الرياء، وعزَّني الصبر، ووهن الجلد، وطغى سلطان حبك على قلبي فلم أستطع له كتمانًا … فارحمني يا حبيبي؟

– أرحمك؟ أرحمك بمائة قُبلة وألف ضمة، وبأن أكون لك عبدًا مدى حياتي؟

– وأن تدفع عني شَرَّ الأشرار، وكيد الكائدين!

– بروحي …

– إنني لم أرد أن أخبرك منذ حين بشأن هذا الشيخ اليمني نزيل القاهرة، الذي أخذ يتردد على القصر.

– ما شأنه؟

– شأنه أنه أخذ يضايق زوجتك، ويبالغ في احتقارها، ويدس لها عند سيدة القصور، وقد اتفقت مع ابن دخان على إبعاده عن القصر، وسيخبرك إذا قابلته بكل شيء، وستكون هناك مكافأة جزيلة لمن يقوم بهذا الأمر.

– عظيم، كسبنا مالًا، واسترجعنا رضا زوجة رائعة الحسن في صفقة واحدة.

ثم مرت أيام قضاها ابن دخان في تدبير المؤامرة، واختيار من يشترك فيها، وعقدت عدة مجالس حضرها مجاهد الرملي، وبعض الجنود، وأكد ابن دخان لهم أنهم لن يصيبهم منها ضرر ألبتة، وأنهم على الضد من ذلك سينالون رضا سيدة القصور، وترتفع عندها منزلتهم، والتقت باسمة به يومًا، فقص عليها المؤامرة مفصلة، ووكل إلى دهائها وحذقها طريق الشروع فيها، والإفضاء بها إلى سيدة القصور، ثم قال: إنها ليس من صنعي يا باسمة، وإن عقلي لا يستطيع أن يصل إلى هذه الغيابة.

فقالت في استنكار: مَن صنع مَن إذًا؟ وهل كان من الحزم أن يطلع عليها غير ذلك العدد القليل الذي اشترك فيها؟!

– إن الذي وضع المؤامرة أشد مني حزمًا، وأكثر احتراسًا؛ لأنه لم يرض أن يمد فيها إصبعًا إلا بعد أن حلفت له بكل محرجة ألا أبوح باسمه.

فنظرت إليه في سحر وفتنة وقالت: حتى ولا للمدينة لك بقُبلة؟ فانهزمت في الرجل كل خصائص الرجولة وقال: أنا حلفت، ولكن القبلة تعدل آلافًا من كفارة اليمين … تعدل الدنيا وما فيها، اعلمي يا فتاتي — وفقك الله — أن مدبر المؤامرة هو الشيخ زين الدين بن نجا المشرف على خزائن الكتب.

– ذلك الشيخ الورع الزاهد، الذي لا يتبسم! والذي كلما رآني همهم بأدعية واستغاثات، كأنما رؤية الجمال إثم من أشد الآثام!!

ثم انطلقت باسمة إلى القصر، فرأت سيدة القصور تقرأ بعض الصحف التي يرسلها إليها جواسيسها في كل صباح، فلما رأتها قالت: أين كنت يا باسمة؟ ولمَ أراك عابسة حزينة؟

– إن حبك يا مولاتي والخوف من أن تمسك هبة من نسيم، هما اللذان يشغلان قلبي، ويكدران صفوي.

– فقهقهت سيدة القصور وقالت: لا تتعبي رأسك الجميل يا فتاة، ولا تجني على جمالك الفتان بالخوف علي، فإنك إن فعلت أذبلت أجمل زهرة بالبستان الكافوري. ما الخبر؟

– لا شيء، أو هو شيء يكفي فيه التحرز والاحتراس.

– أي احتراس؟ ومن أي شيء؟

عند ذلك استنجدت «باسمة» بأدق مواهبها، وأروع أفانينها، وأخذت في الحديث في تحرج وتلعثم، وكان صدرها يخفق، وعيناها تتحير فيهما الدموع، وصوتها يرتعد … ثم قصت على سيدتها ما اتفقت عليه مع ابن دخان من تفصيل المؤامرة المزعومة، وأن عمارة الذي يبغض المذهب الفاطمي بقلبه، ويناصره بلسانه — إنما استدعاه طلائع بن رزيك من مكة؛ ليكون آلته في الكيد والقضاء على الفاطمية، وأنه قد تآمر مع بعض الجند على اغتيال الخليفة الفائز، والقضاء على سيدة القصور، وإجلاس ابن رزيك على عرش مصر.

– من الذي كشف عن هذه المؤامرة؟

– إبراهيم بن دخان.

– هذا غير معقول يا فتاة؛ إن عمارة عاهدني ألا يخونني، ثم إن في الرجل صفات تأبى عليه أن ينغمس في هذه الحمأة.

– إنه داهية يا سيدتي، وهو يتخذ من سحر شعره ولطف حديثه، وظهوره بمظهر الرجولة والنخوة ستارًا يُخفي به مكره ومحاله.

– أنا لا أكاد أصدق، عمارة؟! … يدس لي؟! ويعمل على قتلي وتقويض ملكي …؟! لا … لا … هذا إذا عاد الصباح ظلامًا، والأسد ثعلبًا، والدواء سمًّا زعافًا …

– أأنت واثقة يا باسمة؟

– تمام الوثوق، وقد كان من أسباب حزني خوفي من أن تماريني وتنفضي عنك الحذر، والقضاء على الجريمة والمجرمين.

– قد يكون، إن هؤلاء الغرباء الذين يفدون على مصر لا تخلو حقائبهم من دسائس ومؤامرات، إذًا فمبالغته في التقرب إليّ والإخلاص لعرشي كانت رياء في رياء.

– لو لم يكن الرجل دسّاسًا ما لفظته بلاده، وهو يدَّعي أن له فيها الأموال، والأتباع، والجاه العريض.

– هذا صحيح، دعيني وحدي قليلًا يا فتاة، فإني أريد أن أفكر.

وبعد ساعة أو ساعتين أمرت راجحًا أن يدعو إليها ابن دخان، فلما دخل انكبّ يقبل أطراف قدميها، ثم وثق مطرقًا واجمًا وهو في سمت الخدام المخلصين، فسألته سيدة القصور عن مجمل الخبر، فقال: جاءني خادمي «عيد» السوداني يومًا، وعليه آثار الخوف والاضطراب، وفي وجهه لمحات من التردد والحيرة، فسألته عن شأنه؟ فراوغ وتلعثم؛ فلما أثقلت عليه قال: إننا جميعًا عزمنا على أن نلقي إليك جملة الخبر، فانتظرني حتى أعود، ثم عاد ومعه من الجنود: عمران النهري، وعكاشة الحداد، ومجاهد الرملي، فأخبروني أن عمارة أغراهم بالمال، ووعدهم بالمناصب، وذهب معهم إلى قصر ابن رزيك، فزادهم هذا إغراءً، وأقسموا أمامه على قتل سيدي الخليفة ومولاتي، ولكنهم بعد أن وزعت عليهم الأموال خارت عزائمهم، وعاودهم إخلاصهم المكين للخليفة ولمولاتي، ورأوا — كما قالوا — أن خزائن الدنيا جميعًا لا تغري بأن تمس شعرة من رأس مولاتهم، وألحوا علي في كتمان الخبر، ولكني خفت أن تكون خيبة عمارة وصاحبه في هذه المؤامرة دافعًا إلى الشروع في غيرها، فأسرعت إلى جاريتك: باسمة، ورجوتها أن تبلغك أمرها.

– لقد أحسنت يا ابن دخان، ثم أشارت بكفها فخرج، وبينما كان ابن دخان يمر بأحد دهاليز القصر رآه مجاهد الرملي، فاختفى وراء ستار؛ لأنه كان مع اشتراكه في الدسيسة يكره الكلام فيها، وفي تلك اللحظة مرت باسمة، فقال لها ابن دخان: الآن وجب قضاء الدين يا فتنة العين، وريحانة النفس، ثم وثب عليها فطوقها بذراعيه، فلم تمانع ولم تعمل على إبعاده، فانكب على وجهها بشره يملؤه قُبلًا، يزيدها الحب لذة ورنينًا.

رأى مجاهد كل هذا فغلى دمه من الغضب، وظهر في عينيه السخط والحنق، وتحركت في صدره أفاعي الانتقام، ولكنه كظم غيظه، وانتظر حتى انصرفا، فخرج من وراء الستار كالمجنون الذي طار عقله وهو يتمتم: ويل لها! … ويل له! … ألأجْل مال هذا الدميم كانت تتدلل علي وتنفر مني وتزورُّ عني، وتقابل توسلات حبي بالسخرية والاستهزاء؟ والله لأبطشن بهما معًا!!

قضت سيدة القصور أيامًا تقلب الرأي في أمر عمارة. حتى انتهى بها العزم إلى وجوب البطش به، ورميه في بئر القصر المعروفة ببئر الصنم، التي كثيرًا ما ابتلعت أعداء الفاطميين، فنادت مؤتمن الخلافة، وأمرته بدعوة عمارة إلى قصر الزمرد.

وفي غد ذلك اليوم جاء عمارة إلى القصر، وهو خائف يرتعد، ودخل بهو الأميرة، فرآها جالسة في الوسط، وإلى جانبها مؤتمن الخلافة، وجاريتها «باسمة»، ورأى ابن دخان واقفًا ومعه ثلاثة من جنود القصر، فتقدم ليقبل طراز الأميرة، فزجرته وأمرته بالوقوف بجانب ابن دخان، فوقف مبهوتًا لا يدري لكل ما يرى ويسمع سببًا، ثم التفتت سيدة القصور إلى ابن دخان، وقالت: قدم دعواك يا ابن دخان، فأخذ يقص ما حاك من دسيسة، وعمارة في ذهول، يرى البهو يدور بمن فيه، ثم ينقلب فيراهم في سقفه لا في أرضه، حتى إذا أتم ابن دخان دعواه، اتجه إلى الجنود وقال: وهؤلاء الجنود المخلصون الذين أرادوا أن يستغووا المتآمرين حتى يوقعوهم في الشرَك، سيقدمون إلى مولاتي ما يؤيد وقوع هذه المؤامرة الخسيسة. فقالت سيدة القصور: وأين مجاهد الرملي؟؟ … فإذا صوت يصيح في دهليز البهو: هأنذا قادم إليك يا مولاتي. ويدخل مجاهد، فينظر مرة إلى «باسمة»، ومرة إلى ابن دخان، ثم يصيح: هذه دسيسة كاذبة ملفقة يا مولاتي … إن زوجتي باسمة هذه هي التي نسجت خيوطها الواهية مع ابن دخان، وهؤلاء الجنود الكاذبون وُعد كل واحد منهم بمائة دينار؛ لقاء كذبه وزوره، وقد وافقتهم على الاشتراك معهم، ولكني رأيت آخرًا أن هذه الوشاية قد تحدث فتنة، وقد تدفع الناس إلى التحدث عما يسمونه: دسائس القصر، فأسرعت إليك يا مولاتي لأعيدها إلى الرمس الذي نبشت منه، ولأقتلها في مهدها.

شمل الصمت والذهول جميع من حضر، وأحس عمارة أن هاتفًا يهمس في أذنه: لقد نجوت، واصفر ابن دخان، وارتعدت أوصاله، وصاحت الأميرة في غيظ وحنق: وما برهانك يا مجاهد؟!

– برهاني: أنك تجدين في خزانة ديوان الرواتب أربع صرر، بكل واحدة منها مائة دينار، وقد كتب على كل صرة اسم واحد منا؛ لأننا لعلمنا بمخاتلة ابن دخان ومخادعته، خفنا أن يماطلنا في نقد المال بعد إتمام الدسيسة، فحتمنا أن يكتب بيده اسم كل واحد منا على صرته.

فاتجهت الأميرة إلى مؤتمن الخلافة وقالت: اذهب مع هذا الرجل (وأشارت إلى ابن دخان) وأحضر الصرر إن وجدتها.

فذهبا وابن دخان يجر ساقيه، ثم عادا ومعهما الصرر الأربع، وقد كتبت عليها أسماء الجند كما قال مجاهد. فقالت الأميرة: لقد انجلى الحق، وأمرت بأن يطرد ابن دخان من رياسة ديوان الرواتب، وأن تطرد باسمة من القصر، وأن تضرب عشرين سوطًا، وأن يضرب الآخرون خمسين سوطًا.

ثم اتجهت إلى عمارة وقالت: أسأنا بك الظن أبا محمد، وطفقت تعتذر إليه وتستعطفه، وتشكو إليه ما حولها من الدسائس التي تحاك في ظلمة الليل وظلمة النفوس، فتقدم عمارة يقبل يديها وقدميها وهو يبكي ويقول: والله يا مولاتي لو وسوس إلي فؤادي مرة أن أمس شعرة لفاطمي أو فاطمية لخلعت فؤادي من صدري؛ فمست كتفه بلطف وقالت: أعود إلى ما كنت لك … وتعود إلي ما كنت لي … وننسى هذه العاصفة الكاذبة التي كانت سببًا في توثق ودادنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤