كلمة أخيرة

وبعد؛ فها هو ذا ابن رشد في أسرته ونفسه وخُلُقِه وعلمه وفلسفته، بل ها هو ذا عصر ابن رشد يتمثل فيه بما وعى من علم وفلسفة وصراع بين التقليد والحرية في الرأي، ونضال عن الحقيقة التي يراها الفيلسوف ضد من يحاولون طَمْسَها مكتفين بما كان يعتقد الآباء والأجداد، بل ذلك صفحة من تاريخ التفكير الإسلامي القوي الذي عرفت له أوروبا قدره، فأحلته المكانة العليا، ووجدت فيه نورًا تهتدي به.

وكنا نود أن نعثر لابن رشد القاضي على بعض الواقعات التي عرضت له فأصدر فيها حكمه، لنعرف كيف كان قضاؤه ومبلغ الاستقلال فيه. كنا نود هذا، ولكنا لم نظفر به مع الرغبة القوية في البحث، والاستقصاء في المراجع وشدة التنقيب.

على أنه، إن أعوزنا قضاؤه أو أقضيته فيما يختصم الناس فيه من نوازل وحوادث لا تتعدى شيئًا من متاع هذه الحياة، فقد رأينا قضاءه في أخطر ما يطلب الحكم فيه؛ نعني العلاقة بين الله والعالم، والوحي والعقل، والصلة بين الشريعة والحكمة.

عرفنا فيه في هذه القضية الكبرى قاضيًا رزينًا، وحجة ثبتًا، ينشد الحق فيما ثار من مشاكل ومسائل بين المتكلمين ويمثلهم حجة الإسلام الغزالي، والفلاسفة الذين يمثلهم الفارابي وابن سينا وهو نفسه، ومن ثَمَّ كان موقفه دقيقًا.

وقد زاد في دقة موقفه أن الغزالي لم يكن — كما صرَّح مرارًا بنفسه — يطلب الحق نفسه في خصومته العنيفة للفلاسفة، بل كان قصده — كما يقول — التشويش على الفلاسفة، وتأليب المسلمين عليهم جميعًا، ونزع الثقة منهم، وأخيرًا بيان أنهم أغبياء مغرورون ضلوا وأضلوا، فصاروا إلى الإلحاد والكفر.

على أنه مع هذا، ومع أسلوب خصمه العنيف وتهكمه اللاذع المؤلم، استطاع كبير قضاة الأندلس أن يضبط نفسه، وأن يسقط من الحساب ما لا يمت للموضوع بصلة، وأن يعترف بالحق لخصمه متى أصاب، وأن يرد على كل حجة لا يراها حقًّا، حتى انتهى أخيرًا — في رأيه — بالحكم للفلسفة، والذَّوْد عنها، والانتصاف لها ممن نال منها نيلًا كبيرًا.

فرحمه الله مِنْ عَلَمٍ في الطب، وعَلَمٍ في الفقه، وعَلَم في القضاء، وعَلَم في الفلسفة، وعَلَم في الأخلاق والجَدَلِ بالتي هي أحسن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤