الفصل الثالث

حضارة العصر البُدَّهِي

(١) الوثائق التي يستعان بها في تمثل المجتمع الهندوسي حول القرن الرابع أو القرن الخامس قبل الميلاد

دام العصر البُدَّهِي من القرن الثالث قبل ظهور المسيح إلى القرن السابع بعد ظهوره، فينطوي هذا العصر على مدة ألف سنة تقريبًا، ويتطور الدين في السنوات الألف هذه، وتُغطَّى الهند في أثنائها بالمباني العجيبة، ويؤدي ما سمح الدهر ببقائه من أطلال هذه المباني وما اكتشف حديثًا من الكتابات الدينية إلى الوقوف على نشوء الحضارة الهندوسية في ذلك العصر، غير أن حوادث ذلك العصر التاريخية ظلت دفينة تحت طبقة من الظلام الدامس.

والعالِم الذي كان يودُّ، منذ نصف قرن، أن يكتب فصلًا بعنوان فصلنا هذا لم يجد من المعارف ما يملأ به سطرًا واحدًا، وكادت أوروبا تكون وقتئذ جاهلة كل شيء عن شأن البُدَّهِيَّة وحقيقة أمرها مع أنها الشريعة العليا لنصف مليارٍ من البشر.

وليست كثيرةً الوثائقُ التي تؤدي إلى نبش بضعة أسطر عن تاريخ تلك السنوات الألف من تحت أعفار القرون، ومن هذه الوثائق نذكر، في الصف الأول، المباني الفخمة التي نعلم منها مبتكرات الفنون وعظمة الملوك، ومن أقدم هذه الوثائق وأكثرها قيمة نذكر، كمصادرِ معارفَ، الأعمدة التي ملأ الملك آشوكا ولاياته الواسعة بها فنقش عليها قبل الميلاد بثلاثة قرون أحكام شريعة جديدة لدى الهندوس.

ومن الوثائق التي يُستعان بها في ذلك نذكر، أيضًا، مجموعة مخطوطات نيبال الكثيرة الخاصة بالديانة البُدَّهِيَّة تقريبًا، وَتُعَدُّ «زهرة الشرع القويم» و«لَلِيتا وِشْتَار» أهم ما نقل إلى اللغات الأوربية منها، ونضيف إليهما «تواريخ ملوك مغدها» التي هي، بالحقيقة، أقاصيص خرافية لا تَمُتُّ إلى التاريخ الصحيح بصلة، كما نضيف إليهما رحلة الحاج الصيني فاهيان الذي زار الهند في القرن الخامس ورحلة الحاج الصيني هيوين سانغ الذي زارها في القرن السابع من الميلاد.

(٢) القصة البُدَّهِيَّة

من يُنعم النظر في الوثائق الأولى المذكورة آنفًا، أي في كتابات آشوكا التي نقشت قبل الميلاد بقرنين ونصف قرن يعلم وجود تحولٍ عميق في العالم البرهمي القديم، وبيان الأمر: أن من مطالعة شرائع مَنُو يَثبُت لنا استخذاءُ أجيال كثيرة من البشر لنيرٍ ديني دقيق شديد، ومن مطالعتها يبدو لنا مقدار الضيق الذي كان مستحوذًا على كثير من الآدميين الذين كان أقلُّ ذنب قلبي أو حسي يأتيه الواحد منهم يؤدي إلى أفظع تكفير، والذين لم يكن بينهم اشتراكٌ في احتمال البأساء فكان بعضهم ينظر إلى بعض من فوق الحواجز الطائفية، فإذا تناول الواحد منهم، بحسب الأحوال، كأس ماء من آخر أو قال له قولًا لينًا ممزوجًا بأطيب التمنيات عُدَّ مقترفًا جُرمًا لا يمَّحي إلا بالتوبة والتكفير الطويل، فبينما كان القوم على ذلك أتتهم ريحٌ طيبةٌ فيها حنان وإحسان فسقطت القيود وتفتحت القلوب وصار وجه الأرض يتبدل، فقد صاح مصلح كبير مجلجل١ فكان شرعُ عطف وكان شرع محبة شاملٌ لجميع الخلق مؤلِّفٌ لما بين الطوائف.

لم نعرف حياة المصلح الشهير الذي يُقدِّس اسمه وذكراه خمسمائة مليون من البشر إلا من الشعر الأساطيري، فمن خلال هذه الأساطير، إذن، نستطيع أن نستنبط تلك الحياة، وَتُعَدُّ «لَلِيتا وِشْتار» التي وُضعت في نيبال في أوائل التاريخ الميلادي، على ما يُحتمل، أقدم هذه الأساطير، فإليها نستند في رسم حياة بُدَّهة.

fig60
شكل ٣-١: غواليار. داخل معبد ساس بهو الكبير.

وهاجم النقاد المعاصرون تاريخ بُدَّهة الأساطير بشدة، فلم يروا أن يرسموا دور الأسطورة البُدَّهِية الافتراضيَّ ولا أن يُثبتوا أن شا كيه موني انتفع بالتقاليد القديمة التي أُخذت من أسطورة وِشنو وأسطورة كرشنا، فالحق أن معظم تاريخ بُدَّهة هو، كما أشار إليه مسيو سينار، مقتبسٌ من الأساطير القديمة، وأن من الممكن عَدَّ ديانته خلاصة عقائد وطقوس كانت موجودة قبله.

وليس من المهم أن نعرف حياة بُدَّهة الحقيقية، فإذا استثنيتَ محمدًا لم تجدنا مطلعين على حياة مؤسس ديانة اطلاعًا صحيحًا على ما يُحتمل، فلم تؤلَّف سِيَرهم، على العموم، إلا بعد وفاتهم بزمن طويل، وكل ما نرى معرفته، مع ذلك، هو أن ملايين كثيرة من البشر يقدِّسون بُدَّهة منذ أكثر من ألفي سنة، سواءٌ أكان رجلًا حقيقيًّا أم وهميًّا.

لم تظهر ديانة بُدَّهة على مسرح التاريخ إلا في القرن الثالث قبل الميلاد، مع أن بُدَّهة ولد قبل ظهور المسيح بخمسة قرون في كبيلا وَسْتو الواقعة في جنوب نيبال، وتجد أوجُهَ شبه شاملة للنظر بين حوادث حياته الخرافية وبعض أقاصيص الأناجيل، فبُدَّهة، كعيسى، ولد من أم عذراء، وأُخبر بولادته إخبارًا معجزًا، وَبُدَّهَة الذي سُمِّي، حين ولد، بغُوتَمَا فلُقِّب بشا كيه موني كان ينتسب إلى أسرة مالكة كما انتسب عيسى إلى آل داود، وتجد، مع ذلك، اختلافًا في طفولة ذَيْنِكَ المصلحين وشبابهما، فمع أن غُوتَمَا رُبِّي وارثًا لعرش كان ابن مريم يشاطر يوسف النجار عمله، فإذا عَدَوْتَ هذا الاختلاف رأيت تماثلًا عجيبًا من كل وجه بين صيام عيسى في البرِّيَّة حيث حاول الشيطان أن يُغويه ثلاث مرات وصيام شا كيه موني في الآجام حيث حاول الشيطان أن يغويه ثلاث مرات أيضًا، ويذكِّرنا ما حدث لهذا الحكيم الهندوسي مع المرأة التي طلب منها أن تسقيه بما حدث لعيسى مع السامرية وما قاله لها.

fig61
شكل ٣-٢: غواليار. معبد ساس بهو الصغير «القرن الحادي عشر من الميلاد»، «أخذت هذه الصورة من المحراب.»

وتزيد أوجه الشبه تلك أهمية عند الوقوف على تشابه تَيْنِكَ الديانتين موضوعًا فضلًا عن الشكل، فكلتاهما أمرتا بالإحسان والمساواة والزهد، وكلتاهما ناطتا الخطيئة بالنيات كما تُناط بالأعمال، وكلتاهما ابتدعتا الرهبانية، وكلتاهما اعتنقهما ملايين من البشر بروح واحدة ووسائل واحدة، فصلُح الغرب بالنصرانية وصلُح الشرق بالبُدَّهِيَّة، وكلتاهما عنوان أمل إنساني واحد ولم تكونا سوى وجهين لحادث مهم واحد في تاريخ أدب العالم، وليس مما نبالي به كثيرًا أن تكون إحداهما مدينةً للأخرى أو أن تكون كل واحدة منهما قد نشأت نشوءًا ذاتيًّا غريزيًّا مستقلًّا عن نشوء الأخرى، فلا ندرس هذا الأمر في هذا الكتاب.

ذاق غُوتَمَا منذ أن كان طفلًا في قصر أبيه كل ما يمكن أن يجود به الجاه والثراء والجمال والصحة والفتوة من أطايب النعم، فلما بلغ سن الرجولة تزوج بفتاة حسناء كان يعبدها فوضعت له ذكرًا، ففي ذلك الحين الذي بلغ فيه أوج السعادة اتفقت له ذات يوم ثلاث مصادفات متتابعات فقررت مصيره وهي: أنه لقي شيخًا حَنَتِ الأيامُ ظهرَه فلا يكاد يمشي من السقم، وأنه لقي رجلًا مصابًا بالطاعون الفظيع فيتلوَّى من الألم، ولقي ميتًا شاحبًا مشوهًا فيكفنه والداه المحزونان.

فقال غُوتَمَا في نفسه: لِمَ الهرم؟ لم المرض؟ لم الموت؟

fig62
شكل ٣-٣: غواليار. منظر قصر مان مندر العام «القرن الخامس عشر»، «يبلغ ارتفاعه نحو ثلاثين مترًا ويبلغ طوله نحو مائة متر.»

وقال في نفسه أيضًا: إنني غني قوي سعيد عزيز، وما لديَّ من الثروة والقوة لا يمنع، مع ذلك، رأسي من الشيب ووجهي من التكرش وأعضائي من التلوي والألم، ولن يحول دون ذلك أحبائي الذين سيبكون فوق قبري، وكيف أفرح بكنوزي وصحتي وزوجتي الفتاة الحسناء وولدي وأنا عارف بما ينتظرني؟ أجل، عندي من السعادة أقصى ما يطمع فيه رجل، ولكن ما هو عيش أولئك الذين هم عاملون، أولئك الذين هم بائسون، أولئك الذين هم مستضعفون، أولئك الذين هم جائعون؟

أسفرت هذه التأملات عن وصوله إلى النتيجة القائلة إن العالم ليس إلا مجموعة آلام فسأل:

من أين يأتي الألم؟ ما هو سببه؟ كيف يكافَح؟

هنالك عزم بُدَّهة على اكتشاف مصادر الألم الملازم لكل موجود ومداواته، فرأى أنه لا يستطيع أن يكون سعيدًا ما علم أن لسعادته نهاية، وأن ما يتمتع به من سعادة زائلة أمر شاذ، فترك زوجته العزيزة وولده الطفل وأباه الشائب وقصره وأُجَرَاءه وكنوزه ولبس ثوبًا حقيرًا وحمل بيده كشكولًا وصار يجوب القرى ماشيًا عائشًا من الصدقات مفكرًا في الحقيقة مقلِّبًا لجميع وجوهها مداومًا على تأملاته.

بَيْدَ أنه لم يصل بتلك التأملات إلى الحل المنشود فأراد اعتزال العالم فأوغل في الأدغال البعيدة مفكرًا سابحًا في بحر من الرؤى ليل نهار.

مرت السنون، وكانت كلما مرت رأى شا كيه موني بُعْده من الغاية الغامضة التي يسعى إليها، ورأى أن من العبث ما عرَّض روحه وبدنه له من ابتلاء قاسٍ، وأن من العبث ما قام به من الصيام إلى أن فقد وعيه وكاد يقضي نحبه، وأن من العبث أن ينهمك في فهم الطبيعة ومصير الأمور فهمًا مجردًا، فهو لم يَصِل، بعدُ، إلى درجة بُدَّهة، إلى الدرجة التي يصبح فيها المخلوق الذي يعلو البشر فيقدر على إنارة الناس وكشف الكروب عنهم.

fig63
شكل ٣-٤: مدخل قصر غواليار.

وإن بُدَّهة ليُجهد نفسه في الوصول إلى العلم الأسمى إذا ابتُلي بأمير العفاريت وروح الشرِّ مارا، فقد أراد هذا الجِنِّيُّ أن يُبطل عمله وأن يُدخله إلى زمرة المذنبين.

رأى بُدَّهة من الرؤى، التي وُصِفت في «لَلِيتا وِشْتَار» ما أزعج نفسه، وبيان الأمر:

أن كتائب من الجن الأشرار أخذت، في سكون البرِّيَّة، تدور حوله وهي تقول له همسًا، بالمناوبة، قول الشكِّ المأثور: «ما فائدة ذلك؟» الذي يُبعد أصلب الناس عودًا من الهدف ويلقيه في هوة من اليأس، وبينما كان يهزم برصين الكلام جيشَ العفاريت المؤلَّف من غيلان ذوي أجسام نارية دُكنٍ سود وعيون مشوهة غائرة كالآبار ملتهبة مقلوعة أو شافِنَة٢ وغيلان٣ متوَّجين بأكاليل من أصابع بشرية وغيلان لا رأس لهم وغيلان لهم مائة ألف رأس؛ إذ بنور رائع حافل بالأسرار يَعُمُّ الغابة التي بدت ندية كما لو بللها القطر، إذ بامتحان يُبتلى به ذلك الحكيم فيرى نفسه، وهو غارق في تأملاته، محاطًا بجحفل من بنات الجن أبسَرَا الساحرات، إذ بصور رائعة تتموج بين الأغصان فيندمج بعضها في بعض على شكل زُمَر شهوانية، إذ بنساء متطرفات أو معتدلات لابسات أزهى ثياب أو عاريات باهرات يرمي بعضُهن من تحت أهدابهن الطويلة بسهام أحداقهن المغرية ويرفع بعض منهن لحاظهن الحادة فيُحدقن به لطيفاتٍ محاولات إغواءه بعبارات الحب وأوضاع الفسق وبما لم تسمع به أذن من وعود اللذات.

قالت بنات العفاريت الساحرات لذلك الحكيم: «تعالَ، يا صاحب الوجه الذي يحاكي القمر، وانظر إلينا نحن ذوات الوجوه التي تشابه الزهر النَّضِر والأصوات العذبة التي تنفذ القلوبَ، والأسنانِ البيض التي تحكي الثلج والفضة، أتجد لنا مثيلًا حتى في مقر الآلهة؟ أترى مثلنا في منازل الإنسان نحن اللائي ترغب فيهن آلهة الدرجة الأولى على الدوام؟»

ولكن شا كيه موني صبر على هذا الامتحان الساحر فأجابهن، كما جاء في الأسطورة التي نلخصها بما يأتي:

أرى البدنَ الدَّنِسَ الرَّجِس النَّجِس المملوء دودًا والسريع الالتهاب والزوال والمدَّثِّر بالالآم، فسأنال المجد الخالد الذي تقوم عليه سعادة العالم الثابت والمتحرك فيقدِّسه الحكماء.

فسمع شا كيه موني القول العذب الآتي: لقد أبدين سُحُور الشهوة الأربعة والستين وأطننَّ نطقهن وخِرصانَهُنَّ٤ وخلاخلَهُنَّ وخلعن ثيابهن ثملات ضاحكات، فبماذا أَسَأْنَ إليك أنت الذي يحتقرهنَّ؟
غير أن شا كيه موني قاوم المِحْنَة بشجاعة فقال: الخطيئة موجودة في كل مخلوق، ويعلم أمرها من خلع عنه نير أهوائه، ولا أعرف الشهوات إلا كالسيوف والسهام والحراب والموسى المدهون بالعسل ورأس الأفعى والأخدود٥ الناري.
وفي الأسطورة أن شا كيه موني «لم ينظر إلى تلك المخلوقات عاشقًا ولا ساخطًا، فلأن تَرْجُف٦ الجبال وتُسَجَّر٧ البحارُ وتكوَّرَ٨ الشمس والقمر أقرب من أن تَفْتِن النساء ذلك الذي رأى بنور بصيرته خطيئاتِ العوالم الثلاثة.»

هنالك أرى كبير العفاريت، كما صنع الشيطان مع المسيح، بُدَّهة المستقبل ممالك الدنيا ومجدها واعدًا إياه بالنجاح والنصر والسلطان إذا ما عدل عن طلب الحكمة.

قال العفريت: «أنا رب الشهوة في العالم كله، وأنا المسيِّر والمذل للآلهة وجمع الأرباب والإنسان والحيوان، فقُمْ أيها الذي يقيم بملكي وسمِّعْ صوتك.»

فقال شا كيه موني: «إذا كنتَ رب الشهوة فلستَ رب عالم المرئيات، انظر إليَّ ترني صاحب الشريعة، وإذا كنت رب الشهوة فلا تسلك سبيل الضلال، سأنال النُّهى وأنْفُك راغم وأنت ناظر.»

fig64
شكل ٣-٥: جتور. برج النصر «القرن الخامس عشر»، «ارتفاعه نحو ٣٦ مترًا.»

كفَّ جيش العفاريت المرهوب عن الكفاح مغاضبًا متواريًا في الظلام، فبذلك تم النصر لشا كيه موني، فبرَّد وابلٌ من الزهور جبينه فسمع صوتًا من السماء يقول له: تمنح الآلهة تيجانًا من اللآلئ وتعطي رايات وأعلامًا وتمطر أزهارًا وتنشر من الصندل ذَرًّا وتقول على أنغام الموسيقى: أيها البطل! غُلِبَتْ كتائبُ العدو بعد أن أحاطت بشجرتك.

أيها البطل! اليوم تنال، على أحسن أريكة، النُّهى الخالي من شائبة الشهوة، واليوم تظفر بملُك بُدَّهة بعد أن قهرت برفقٍ حزب الشيطان.

وأريد بالشجرة المذكورة آنفًا تلك التي كان يلجأ إليه شا كيه موني في أثناء عزلته، وكانت تلك الشجرة مغروسة في المكان الذي يعرف اليوم ببدهة غيا والواقع أمام المعبد الذي نشرنا صورته في هذا الكتاب، ولا يزال القوم يقدسون ذلك المكان كما يُقدَّس اليوم زيتون جَثْسَيماني الذي سال تحته عَرَق المسيح الدامي، أجل، تحولت تلك الأغصان، التي كانت تقي بُدَّهة حين تأمله، إلى غبار منذ زمن طويل، ولكن تقوى المؤمنين حلَّت، على الدوام، محلَّ تلك الشجرة وقتما هلكت.

جاوز ذلك الحكيم تلك المحنة صاحبًا للنُّهى الأسمى فانتهى إلى حل ما كان يساوره من المعضلات الهائلة، جاء في «لَلِيتا وِشْتَار»:

جمع إذ ذاك أفكاره خالصة كاملة نيرة منزهة عن الرجس خالية من الفساد مرنة مهيأة لما أعدت له ثابتة محافظة على العهد مستعدة لتلقي الحكمة الربانية.

فرأى بالعين الإلهية الخالصة التي هي أرقى من العين البشرية بمراحل أن الخلائق ترتحل وتبعث من طبقة طيبة أو من طبقة حقيرة وفي طريق قويم أو طريق رديء عاجزة أو ناهضة مجزيَّةً بأعمالها.

وتَمَثَّل له مدى البؤس البشري من جديد فعنَّ له أن يكتشف، في هذه المرة، سببه والوسائل التي يزول بها زوالًا تامًّا.

وهو إذ أنعم النظر في سلاسل العلل والمعلولات رأى أن الشهوة أو الرغبة هي أم الشرور وأن الوهم على رأسها، فالشهوة تستحوذ على الإنسان منذ ولادته وتقضم قلبه كالثعبان ذي السبعة الرءوس الدائم الحياة الذي لا تُروَى له غُلَّة أبدًا، وكيف تروى غُلَّة هذا الثعبان؟ ليست الفرائس التي تُرمى له، أي المجد والسلطان والعز وثمل المشاعر وملاذ الروح والفتوة والجمال والحب إلا أعراضًا زائلة وأوهامًا خادعة، والإنسان وإن طمع فيها لم تكن إلا طيفًا باطلًا، وإذ إن كل شيء في الكون يتحول بلا انقطاع، وإذ إن كل شيء في الكون يهلك ويتجدد، وإذ إن كلَّ شيء في الكون في يومنا غيرُه بالأمس فهل تجد غير الأوهام التي هي وليدة الرغبة وهدفها؟ ألا نحسن صنعًا إذا ما قتلنا الرغبة في أنفسنا وبدَّدنا بذلك الأوهام فالآلام؟

هكذا اتضح لبدهة نور الدين، المجهول سابقًا، فيتسع، على الدوام، بإعمال الفكر فيصدر عنه الرأي والرؤيا والعلم والفهم والذكر والمعرفة.

وهكذا علمتُ، أيها المتدينون، ما هو الألم وما هو مداه وما هي الوسائل التي يزال بها، وعلمت أيضًا، ما هو بؤس الشهوة وبؤس الحياة وبؤس الجهل وبؤس النظر وكيف تُغلَب هذه الأبؤس وتزول فلا يبقى لها أثر، وعلمت، أيضًا، ما هو الوهم وما هو مداه وكيف يبدد ويزول فلا يبقى له أثر.

إذن، قام مذهب شا كيه موني، الذي أراد أن ينشره بين الناس حينما نهض من تحت شجرة الحكمة وعاد إلى إخوانه، على إبطال الرغبة والتجرد من أمور الدنيا وتبديد الوهم كأملٍ عالٍ، والدخول في ملكوت نِرْوَانا حيث يغيب الشعور والفكر.

ولو اقتصر ما جاء به شا كيه موني على البراهين الفلسفية التي عَزَتْها القصة إليه ما خرج اسمه من تحت طبقة الظلمات حيث يرقد كثيرٌ من أجيال البشر، فالبراهين الفلسفية لا تحرك الجموع، والجموع يؤثر فيها صوت المشاعر وحده، فمن يُرِد أن ينفذ قلوب الناس فليشاطرهم آمالهم وآلامهم وليهز مشاعرهم، وذلك كما أصاب أحد الشعراء في قوله: «مهما بلغ ما نعبده من الشدة وجدنا فيه ما يقاسمنا آلامنا، امرأة كان أو إلهًا.»

fig65
شكل ٣-٦: ناغدها «بالقرب من أوديبور»، أطلال معابد قديمة في الآجام.

في ذلك ترى سر النفوذ البالغ الذي اتفق لبدهة الذي كان ابن ملك فأصبح، كما وَدَّ، سائلًا ليقاسم الجموع بؤسها، وليُعلِّمها كيف تتخلص منه، فعرف كيف يحرك أفئدتها، وَبُدَّهَة، كعيسى، أدرك آلام البشر وقاسمهم إياها وعلمهم قيمة المحبة والأمل، فلم يزل سيدهم.

أجملنا حياة بُدَّهة على حسب ما جاءت في القصة، وسنتكلم عن ديانته كما فهمها أتباعه وتوطدت فيما بعد، وكما تبدو في الكتب التي انتهت إلينا، لا كما جاء بها لأول مرة حينما غادر شجرة الحكمة.

(٣) الديانة البُدَّهِيَّة

لم تأتِ البُدَّهِيَّة العالم بدين جديد في الحقيقة، بل جاءت بأدب جديد، وليس فيها سوى عقيدة واحدة قائمة على توكيد أمر الوهم والعدم.

حقًّا أن البُدَّهِيَّة لم تكبكب شيئًا ولم تكافح أمرًا من الناحية العملية، فقد أبقت على البرهمية وعلى آلهتها وطوائفها، مع القول إن الآلهة والعفاريت والبراهمة والشودرا ليست إلا صورًا مؤقتة متحولة بلا انقطاع إلى أن تفنى فيه تعالى بعد أن تكون بُدَّهة، أي أن تصير صاحبة العقل المطلق فترى بنور البصيرة سلسلة الموجودات السابقة وغاية الحياة وارتباط العلل والمعلولات، ثم تدخل في سلام نِرْوانا الأعلى الأبدي.

ذلك هو الهدف الذي تسير إليه النباتات والحيوانات والآلهة والناس وجميع المخلوقات الحية بعد ما لا يحصى له عَدٌّ من التناسخات والتقمصات.

والطبيعة الأزلية إذ وُجدت في كل زمن وكانت جوهر كل شيء عدت عدمًا لا أساس له، وإن شئت فقل خلاءً لا حد له، والخلاء هذا قد تجلَّى، ذات مرة، على صورةٍ بفعل الرغبة فصار ذا إحساس وضمير وإرادة، أي ذا حياة، وأخذ يتطور تطورًا متسلسلًا، والسبب الأعلى بعد أن تجسَّد على هذا الوجه غدا قادرًا على القيام ببعض الأعمال الطيبة أو السيئة، وأضحى عاجزًا عن الاهتداء ثانية إلى جوهره الهادئ إلا بثواب أعماله، وفي الكَرْمَا تقدير لانتقال السبب الأعلى من الأسفل إلى الأسمى نتيجة لجميع أعماله وجميع أقواله وجميع أفكاره في أثناء كل حياة من حيواته، فيصل إلى درجة الإنسان، فإلى درجة المتدين، فإلى درجة بودهي سَتوا، فإلى درجة بُدَّهة، ثم يهبط إلى الهوة الصامتة الهادئة التي أخرجته الرغبة منها، وترافقه الرغبة وما تجره في موكبها من الآلام ما دام حيًّا، فهدف البُدَّهِي الصحيح، إذن، هو أن يُميت الرغبة في نفسه لينال الراحة العليا.

وتأتي الأعمال الصالحة التي تسير إلى تلك الغاية بجانب ذلك الجهد الدائم المؤثر، ولكل عمل ثمرته، ومن الأعمال النيات والأقوال والأفكار.

وتجد روح البرهمية في مذهب الكَرْما القائل إن أعمال كل واحد تُعَيِّن الصور التي يُبعث بها فيما بعد، بَيْدَ أن الأدب في البُدَّهِيَّة أرقى مما في البرهمية، فالبُدَّهِيَّة تُعنَى بالحياة الباطنية وبجميع الأعمال التي تُصنع كل يوم في ضمير الإنسان، فبدهة، كما في الإنجيل، يَعُدُّ الإنسان قاتلًا إذا أراد سوءًا بإنسان آخر، وَيَعُدُّ مجرمَ شهوةٍ كلَّ من يبتغي ثمرةً محرمة، ولا يقول بُدَّهة إن التوبة تُكفر الذنوب، فهو يرى أن التوبة، مقصودة كانت أو غير مقصودة، لا تستطيع أن تمنع صدور المعلول عن العلة ولا العمل عن نتائجه، وأكثرُ ما يبدو الفرق الأساسيُّ بين البرهمية والبُدَّهِيَّة هو فيما تقول به البُدَّهِيَّة من روح المحبة القوية التي تحيي هذا الأدب الجديد في تواضعها وحلمها ولطفها وتسامحها العام.

ويُكتب نجاح كبير، لا ريب، لإصلاح ديني يرفع البائسين الذين أثقل نظام الطوائف كواهلهم، ويجعلهم من الناحية النظرية، إن لم يكن من الناحية السياسية، مساوين بطبيعتهم ومستقبلهم لسادتهم المتكبرين، ويَحمل القولَ العذب والمبادئَ الرحيمة إلى مجتمع حَنَاهُ حكمٌ حديدي، ويُظهر أسباب الألم في منابعه، ويُعلِّم وسائل إزالته شعبًا أرخاه جوٌّ شديد وأخافه كابوس دينٍ صارم بما لا يعرف الرحمة من الوسائل المفاجئة.

fig66
شكل ٣-٧: ناغدها. قسم من معبد بانكا «أقيم في القرن العاشر من الميلاد على ما يحتمل.»

ذلك الإصلاح الديني هو وليد احتياجات جلية فظهر لقضاء هذه الاحتياجات، فلا يبحثنَّ العلماء في براهين أئمته الدقيقة وما استنبطوه من النتائج الفلسفية عن أسباب انتصار البُدَّهِيَّة وما بين أدبها ومذهبها من التناقض.

مذهب البُدَّهِيَّة دوِّن مؤخرًا، ولم يستمع الشعب إليه قط، وكل ما سمعه الشعب هو نداء الأمل والمحبة الذي ردَّدت سماؤه صداه فلبَّاه بروحه من فوره.

ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار البُدَّهِيَّة ما هو مادي أيضًا، فقد كان يتألف من قسم الهند الشمالي المعروف بالهندوستان دولة واحدة قبل الميلاد بقرنين ونصف قرن، وكان أشوكا ملك هذه الدولة، وكان اعتناق الملك لدينٍ يكفي لازدهار هذا الدين وانتشاره.

ذلك ما اتفق للنصرانية في الدولة الرومانية حينما انتحلها قسطنطين، فأصاب كثيرٌ من المؤلفين في تسمية أشوكا بقسطنطين الهند البُدَّهِي.

وما انتهى إلينا من الوثائق الثمينة التي تركها أشوكا، أي الكتابات المنقوشة على أعمدة وصخور في جميع أجزاء دولته الواسعة، يُثبت حَمِيَّته في نصر تلك المبادئ الجديدة، ويثبت أن ما في هذه المبادئ من الناحية الشعبية السائغة ومن الأدب الكريم وروح المحبة أوجب اعتناق الجهال والحكماء والمنبوذين والبراهمة لهما على السواء.

تجد جذور الفلسفة البُدَّهِيَّة في المذاهب القديمة المعاصرة للبرهمية الأولى، ولم يَبْدُ نموها إلا بعد طويل زمن، ولم يَكُ أثرٌ في بدء الأمر للكنيسة البُدَّهِيَّة وما اشتملت عليه بعد حين من المحافل الدينية ومبدأ الاعتراف وذخائر الأولياء وَبُدَّهَة المؤلَّه، ولم تك أسطورة بُدَّهة آنئذٍ شائعةً، وما كاد أشوكا يذكر اسم ذلك المصلح الكبير إلا مرة أو مرتين، والثورة الوحيدة التي قد يرجع تاريخ حدوثها إلى عهد هذا الملك، أي الثورة الأساسية التي أعان على وقوعها بما أُوتي من قوة، هي تطور الأخلاق، والوجه الجديد الذي بَدَت به واجبات بعض الناس نحو بعض، وزعزعة النير البرهمي الثقيل، وبزوغ دور المحبة العميقة، والحلم الذي جدد العالم الآسيوي الهرم من الأساس.

وأضحت البُدَّهِيَّة بالتدريج دينًا منظمًا ثابت الآساس ذا آلهة وشعائر وعبادات وفلسفة، ومن سوء حظ انتصار البُدَّهِيَّة النهائي أن عَطِلَت من آلهة فتركت الميدان للآلهة البرهمية كي تعبدها الجماهير وإن لم تُوصِ بها، ومن العبث أن وضعت البُدَّهِيَّة الآلهة دون الولي أو دون الرجل الذي يصل إلى درجة بُدَّهة، فنشأ عن ذلك أن هَصَرَت الآلهةُ البُدَّهِيَّةَ واستغرقتها وصهرتها مع البرهمية.

بذلك نفسر السبب في غياب البُدَّهِيَّة عن بلاد الهند إلى الأبد مع أن بلاد الهند مهدُها، والبُدَّهِيَّة هي التي قالت بديانة الهند ورضيت أن تُدْغم فيها، والبُدَّهِيَّة وصلت إلى بقية آسيا مع موكب من الآلهة البرهمية التي لاءمت الخيال وأعانت على انتصارها.

ولا يمكن ديانةً كالبُدَّهِيَّة أن تَكُبَّ آلهة سيطرت على الهند أحقابًا كبًّا أبديًّا، والبُدَّهِيَّة هي التي أرادت وضع تلك الآلهة في مرتبة ثانوية من غير أن تجيء بما يقوم مقامها.

ولم تلبث فرق البُدَّهِيَّة أن كثرت كما كثرت فرق البرهمية من قبل، وبينما كان يقوم في معابد بُدَّهة إله حددته القصة بالتدريج جعلته بعض الفرق حالًا عالية يصير إليها جميع المخلوقات بعد أن تستعدَّ هذه المخلوقات في ألوف من البعوث التي تتم في عصور لا حد لها، وهذه المخلوقات تستطيع، إذ ذاك، أن تكون عامل نجاة لأهل الكون الآخرين، ثم تقيم بنعيم نروانا السرمدي حيث الخاتمة السعيدة المُثلى.

وترى الفِرق الجديدة أن بُدَّهة شا كيه موني وحده لم يكن رسولَ الحق في العالم، فسيظهر بُدَّهة ثانٍ وثالثٌ حاملين أنوارًا جديدة وقوى جديدة مرشدين إلى أقصر طرق لبلوغ الكمال، بَيْدَ أنه لا بد من مرور أحقاب لا تُحصى بين ظهور بُدَّهة وَبُدَّهَة لما يتطلبه تكوين بُدَّهة من زمن طويل لا يتصوره سوى الهندوس ذوي الخيال الخصب الذي لا يقف عند حدٍّ، فلا عهد لتصوراتنا الغربية المتواضعة بمثله.

fig67
شكل ٣-٨: أومكارجي. أعمدة معبد سدسوهرا «القرن الثاني عشر على ما يحتمل.»
والزهد أحسن وسيلة لنيل حال بُدَّهة، ومن هنا جاء النظام الرهباني الذي لم يُعَتِّم أن ملأ الهند بالأديار، وأقوى طريقة يتخذها الإنسان ليكون بُدَّهة هو أن يقتل في نفسه الرغبة التي هي علة الحياة والألم، وهذا ما تهدي إليه الحقائق الكبرى الأربع التي هي أساس الشريعة البُدَّهِيَّة، والتي تخاطب رجال الرهبان، لا الجمهور، لما يتطلبه إدراكها والعمل بها من التقدم في سبيل الكمال، جاء في لَلِيتا وِشْتَار ما يأتي:

أيها الراهب! إليك الحقائق الأربع المكرمة: الألم ومصدر الألم وردع الألم وسبيل ردع الألم.

فما هو الألم؟ الألم هو الولادة والهرم والمرض والموت وفراق الحبيب والاجتماع بالبغيض، والألم هو أن ترغب في شيء وألا تنال ما ترغب فيه، والألم، أيضًا، هو أن ترغب في شيء فتجدَّ في طلبه فلا تناله، والألم، بالاختصار، إذ كان موضوع الأمور الخمسة التي تتقبلها الحواس ألمًا فإن هذا هو الألم.

وما هو مصدر الألم؟ مصدر الألم هو الرغبة التي تتجدَّد بلا انقطاع، هو الذي يذهب مع هوى اللذة، هو الذي يسُرُّ هنا وهنالك.

وما هو ردع الألم؟ ردع الألم هو التسكين من غير أن يبقى منه شيء، هو الرغبة التي تتجدد بلا انقطاع، هو الذي يذهب مع هوى اللذة ويسرُّ هنا وهنالك، هو الذي يحْصل ويُقضَى.

وما هو سبيل ردع الألم؟ سبيل ردع الألم هو الصراط المقدس المؤلف من ثمانية أجزاء كالبصر الكامل المؤدي إلى ردع الألم.

تلك هي الحقائق المكرمة الأربع أيها الرهبان!

وهنالك سبب آخر، غير الرغبة في قتل الألم والوصول إلى حال بُدَّهة المجيدة فإلى السكينة التامة، أوجبَ اختيار كثير من المريدين لحياة العزلة في الأديار، وهو تجلِّي المساواة في الأديار فعلًا بعد أن أعلنتها البُدَّهِيَّة مبدأ، ففي الأديار يساوي الشودرا والباريا والجاندالا البرهميَّ، ويأكلون معه إذا ما كانوا أعضاء محفل واحد، وكان للنساء، أيضًا، أديارهن حيث يظهرن غير ضعيفات ولا خاضعات لما أمر به مَنُو من الوصاية الدائمة.

وكانت الحياة شاقة في تلك الأديار المنحوتة في الجبال فأنشأتها الهند في ألف سنة فنقضي العجب من طرازها في الزمن الحاضر، وكان لا بد لمن يود العيش فيها أن يوجب على نفسه الفقر والطهر، وأن يتبتل إلى الحياة الجديدة بهجر المرأة والمال والولد، وكان على الراهب ألا يملِك شيئًا وأن يعيش من الصدقات على ألا يطلبها وألا يأخذ من أيدي المحسنين أكثر من أكلة، وأن يُعلِّم الناس السلام والحق، وأن يُنشئ مشافي وملاجئ للفقراء والمسافرين، وأن يجدَّ في منع الحروب ويأمر بالتسامح العظيم تجاه جميع الأديان عادًّا إياها أوجهًا ناقصة للحقيقة الواحدة، وأن يربي الأولاد ويحملهم على احترام الوالدين متمثلًا نص الكتب البُدَّهِيَّة على «أن الولد لا يكافئ والديه ولو حمل أمه على إحدى كتفيه وأباه على كتفه الأخرى مائة سنة.»

والبُدَّهِيَّة أتت العالم الآسيوي الهَرِم بروح المحبة وبما لم يعرفه هذا العالم من الأدب العالي، وقولُ العالم الفاضل المتدين مكس موللر جاء مصدقًا لما قاله المبشرون فوَرَدَ فيه: «دعا إلى الأخلاق الفاضلة، قبل ظهور المسيح، أناس اعتقدوا أن الآلهة أشباح باطلة فلم يقيموا هيكلًا حتى للرب غير المعروف.»

وتؤيد الجملة الأخيرة من هذا القول آراء الأوربيين الخاطئة في البُدَّهِيَّة، وسأثبت عما قليل أنك لا تجد ديانة، كالبُدَّهِيَّة، ذات أرباب متعددين مستندًا في ذلك إلى المباني، ومن الصحيح إشارة تلك العبارة إلى سمو الأدب البُدَّهِي، فلا تجد، بالحقيقة، ديانة، أنقى من البُدَّهِيَّة أدبًا ولا أعذب منها قولًا ولا أكثر منها رُحْمًا، فبدهة بحث عن الوسائل التي يُنقِذ بها الناس من مصيرهم القاسي فلبى الناس دعوته، وهو ابن الملك الذي غدا سائلًا ليشاطر الجماهير بؤسها ويعلمها المحبة، فكان من أعظم من عرفتهم الدنيا أخذًا بمجامع القلوب، وهو الذي اعتنق الناسُ دينه الحامل لاسمه حيث غرس، وهو الذي اكتسب دينه الناس بما تحلى به دعاته من الحلم والمحبة وإنكار الذات، وهو الذي ألان دينُه الطبائعَ في آسيا وحوَّل البرابرة السفاكين إلى رجال هادئين، ومن هؤلاء نذكر أجلاف المغول الذين أقاموا أهرامًا من رءوس البشر فأصبحوا بتأثيره قومًا مهذبين مثقفين.

وغاية القول أن البُدَّهِيَّة تشتمل على أرقى المعارف الدينية التي عرفها العالم لو لم تَحْنِ الكواهل للاستعباد أكثر من أي دين.

ومما تقدم ترى أن البُدَّهِيَّة تختلف عن البرهمية بسمو الأدب وروح التسامح والمحبة أولًا، وبالمكان الواسع الذي جعلته للإنسان في الكون فلم تعطه ديانةٌ أخرى مثله ثانيًا، فالطبيعة إذ إنها تتغير بلا انقطاع وتبدع صورًا سائرة إلى الكمال مؤديةً بالتدريج إلى ظهور الإنسان الذي يستطيع أن يصبح بفضله وعزمه أكثر من إله، أي أن يصبح بُدَّهةُ الكائنَ الكاملَ الذي هو الأصل والغاية، والجمع والصفر، والعِظَم والعدم، ومعنى الكون، فإنها، كالكون، سلسلةُ أحوال زائلة وشعور واهم، والكائن ذلك، إذ إنه عظيم مبهم، فإن من عدم الصواب أن يحدده من ليس عنده إقدام لاهوتيي الهندوس وهيامهم باختراع الصور الجسيمة والأعداد الضخمة.

ولم يبصر أتباع بُدَّهة، الذين يعدون بالملايين بتعاقب القرون فكانت أكثريتهم الساحقة من الدهماء والجهلاء والصغراء والوضعاء، تلك التأملات الهائلة التي تقلب دماغ الأوربي، فكان هؤلاء يدخلون معابده مفتخرين بالسجود مع البراهمة المتكبرين أمام صورته المقدسة وعبادة ذخائره والاحتفال بأعياده الرائعة تكريمًا لإنائه الخاص بالصدقات، وكانوا لا يعرفون عنه سوى المحبة العذبة ذاكرين، ناعمي البال، أن أحد أصحابه٩ سأل أحقر امرأةٍ أن تسقيه فقالت، وهي تعلم أن ابن الطائفة يفضل الموت على تناول قطرة ماء من يدها: «مولاي! إنني جندالية.»

فأجابها برفق: «لا أسأل عن أنك جندالية أو غير جندالية، وإنما أقول إنني ظمآن، فأطلب منك أن تسقيني.»

ذلك أمر بسيط في الظاهر، ولكنه معجزة المحبة عند الهندوسي وآية بعث لدى جموع من الخلائق البشرية.

تلك هي البُدَّهِيَّة، وليس بضائرها أن تغرق فلسفتها بعد زمن في بحر من المجردات القريبة من الهوس وأن تغرق عباداتها في طقوس البرهمية ورموزها ما كانت ديانة محسنة مصلحة قوية مؤثرة تأثيرًا لا يعدله شيء في تاريخ الإنسان.

(٤) البُدَّهِيَّة كما جاءت في المباني

استحوذ على الناس بأوروبا عجبٌ عظيم حينما علموا أمر البُدَّهِيَّة من كتبها الفلسفية التي وضعت بعد ظهورها بستة قرون، فتُرجمت منذ سنوات قليلة إلى اللغات الأوربية، فرأوا أن أتباعها البالغ عددهم خمسمائة مليون نفس لا يعرفون إلهًا عادِّين العالم وهْما باطلًا لا يقابل آمال الناس إلا بالعدم.

fig68
شكل ٣-٩: بندرابن. معبد غوبندو «القرن السادس عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع المقدم ١٤ مترًا.»

ومن الطبيعي أن كنت لا أعرف عن البُدَّهِيَّة، قبل زيارتي للهند، غير ما ورد في الكتب التي أشرت إليها آنفًا فأتكلم عنها في فصل آخر، وكنت أشك، مع ذلك، في إمكان اعتناق الملايين من شِباه البرابرة لإلحادات فلسفية فاترة، فكان يلوح لي أن مما يناقض سنن التاريخ أن تظهر ديانة قائمة على مبادئ كتلك المبادئ بغتة في العالم وأن تغيب هذه الديانة عن البلد الذي ظهرت فيه فور قيامها تقريبًا، فكنت أرجو أن تؤدي دراستي للمباني البُدَّهِيَّة، التي أهمل أمرها مَن بحَث من علماء أوروبا في الديانة البُدَّهِيَّة، إلى إلقاء ضياء جديد على تاريخ هذه الديانة، فلم يخِب رجائي، فثبت لي من النظر في النقوش التي تستر وجه المباني القديمة في الهند أن الديانة البُدَّهِيَّة التي مارسها الهندوس في ألف سنة تختلف عن الذي نتعلمه من الوثائق المكتوبة.

وفي المباني، لا في الكتب، يجب دراسة تاريخ البُدَّهِيَّة، فما تخبرنا به المباني غير ما نجده في الكتب الأوربية، فهذه المباني تثبت أن البُدَّهِيَّة التي أراد العلماء المعاصرون أن يجعلوا منها ديانة إلحادٍ هي أكثر الديانات قولًا بتعدد الأرباب.

أَجَلْ، إن المصلح الأكبر بُدَّهة لم يظهر في المباني البُدَّهِيَّة الأولى التي أقيمت منذ نحو ألفي سنة، كسياجات بهارات وسانجي وَبُدَّهَة غيا وغيرها، إلا رمزًا، فكانت تُعبد آثار قدميه وصورة الشجرة التي بلغ تحتها درجة الحكمة العليا، غير أنه لم يُعَتِّم أن أصبح إلهًا ماثلًا في جميع المعابد، وقد بدا وحيدًا في أول الأمر كما يُرى في أقدم معابد أجنتا، ثم اختلط بالتدريج بالآلهة البرهمية: إندرا وكالي وسَرَسَوَتِي، إلخ. كما يُرى في معابد إيلورا، ثم غرق بين ما كان يهيمن عليه من الآلهة الكثيرة فعاد بعد بضعة قرون لا يُعَدُّ إلا جسدًا لوِشنو، فهنالك أفَلَت البُدَّهِيَّة عن الهند.

وتطلَّب حدوث ذلك الأفول أو التحول الذي أشرنا إليه في بضعة أسطر مدة ألف سنة، وأنشئت المباني الكثيرة التي تنطق بتاريخه بين القرن الثالث قبل المسيح والقرن السابع بعده، وظل بُدَّهة يُعبد في أثناء هذا الدور الطويل كإله قادر على كل شيء، وفي الأساطير تصويرٌ له وهو يمنح أتباعه النعم، وفي رحلة العالِم البُدَّهِي الحاج هيوين سانغ الصيني الذي زار الهند في القرن السابع خبرٌ بأن بُدَّهة ظهر أمامه في غار مقدس بما اتفق له من اتصال طويل في الهند.

فالأساطير والمباني صريحةٌ إذن، فلو استند البحث في البُدَّهِيَّة إليها لبدت على غير الصورة التي صُوِّرت بها في الزمن الحاضر، ومن المؤسف أن أهمل علماء أوروبا دراسة مباني الهند حتى الآن، فلم يزوروا الهند، فاقتصرت دراستهم للبُدَّهِية على الكتب، ومن المؤسف أن عوَّلوا على كتب المذاهب الفلسفية التي وضعت بعد وفاة بُدَّهة بخمسمائة سنة فكانت بعيدة من الديانة الحقيقية.

على أنه لا جديد في التأملات الفلسفية البُدَّهِيَّة التي أثارت عجب الأوربيين كثيرًا، فقد وُجدت، منذ عُرفت كتب الهند بأحسن مما في الماضي، في كتب المذاهب الفلسفية التي ازدهرت في العصر البرهمي، ففي كتب الحكمة التي عرفت بأوبانشاد التي وُضعت في مختلف الأدوار فوجد منها نحو مائتين وخمسين ترى الزندقة وازدراء الوجود والأدب المستقل عن المعتقدات الدينية والمبدأ القائل إن العالم باطل، إلخ، وترى في بعض تلك الكتب ما في الكتب البُدَّهِيَّة الفلسفية من المذاهب، وكان واضعوها من العاملين بمذهب الكرما الذي هو أساس البُدَّهِيَّة وأساس جميع فرق الهند الدينية وأساس شريعة مَنُو فيقول: إن الناس مجزيون بأعمالهم في البعوث القادمة، وإن غاية هذه البعوث هي الفناء في أصل الأشياء العام، في بَرَهْمَا الذي حكى عنه مَنُو فيقرب من نروانا عند البُدَّهِيين، فالروح تنجو، إذ ذاك فقط، من البعوث.

والإنسان، لكي ينتهي إلى ذلك الفناء النهائي، يجب عليه، كما يقول البُدَّهِيون والبراهمة، أن يقمع الرغبة وأن يزهد في متاع الدنيا وأن يعيش عيش النساك المتأملين.

فمن ثمَّ ترى أن نظريات العصر البُدَّهِي الفلسفية مطابقة لنظريات العصر البرهمي الذي جاء قبله، وهي قد نمت مؤازية للدين الذي يُعلِّمه الكهان ويمارسه الجمهور وإن اختلفت عنه أشد الاختلاف، فعدُّها كالبُدَّهِيَّة نفسها من الخطأ العظيم كخلط نظريات الأوبانشاد بالبرهمية، والبُدَّهِيَّة إذ لم تُعرف في أوروبا إلا بتأملات بعض أتباعها الفلسفية عدت هذه التأملات البُدَّهِيَّة نفسها.

ومن السهل أن ندرك أن دينًا يبلغ عدد أتباعه خمسمائة مليون لا يقوم على المبادئ الفلسفية الفاترة، ويُعذر بعض العلماء إذا أخطئوا فقالوا غير ذلك ما أفنوا أعمارهم في دراسة الكتب، لا دراسة الرجال، وإذا مرَّت ثلاثة آلاف سنة وتبدل مركز الحضارة ونُسِيَت كتبنا ولغاتنا كان من المحتمل، حينئذ، أن يكتشف بعض الأساتذة اللغة الإنجليزية فيترجموا أول ما يعثرون عليه من الكتب، ككتاب الأصول الأولى لسبنسر وكتاب أصل الأنواع لداروين، فيدَّعوا أن خلاصة المذاهب التي كانت تمارسها الأمم النصرانية في القرن التاسع عشر من الميلاد.

وعلى الباحث ألا يُجْهِد نفسه في البحث عن هندوس؛ ليفترض أنهم استطاعوا ممارسة دين بلا آلهة، فكيف تجد هندوسيًّا لا يعبد آلهة والعالم عنده زاخر بها؟ فالهندوسي، بالحقيقة، يصلِّي للنمر الذي يفترس أنعامه، ولجسر الخط الحديدي الذي يصنعه الأوربي، وللأوربي نفسه عند الاقتضاء.

fig69
شكل ٣-١٠: بندرابن. معبد مدن موهن «أنشئ في القرن السابع عشر»، «يبلغ ارتفاع البرج ٢١ مترًا و٤٠ سنتيمترًا.»

حقًّا، قد يحفظ الهندوسي على ظهر القلب كتابًا من كتب بُدَّهِيِّي الجنوب، كالذي ألِّف حديثًا تحت إشراف لجنة من الأوربيين، يُعلِّمه أنه لا خالق للعالم وأن كل ما فيه وهْمٌ، ولكن هذا لا يمنعه من أن يشعر باحتياجه إلى عبادة بُدَّهة الأعظم وجميع مجمع الآلهة الذي يملكه بُدَّهة هذا، وحقًّا يشتمل كتاب «لَلِيتا وِشْتَار»، الذي هو أقدم الكتب البُدَّهِيَّة والذي يرجع إلى نحو ألف وثمانمائة سنة، أي إلى زمن حل بعد ظهور بُدَّهة بنحو ستمائة سنة، على مباحث في الأوهام وبطلان أمور هذا العالم، ولكن من ذا الذي علَّمه بُدَّهة هذا؟ عَلَّم أولًا، الآلهة الكثيرة التي تجد لها ذكرًا في كل صفحة من ذلك الكتاب والتي حضرت ولادته وعلى رأسها الإله بَرَهْمَا فألَّهته فأخذت ترافقه فعبدته في نهاية الأمر.

أَجَلْ، إن ذلك الكتاب محشوٌّ بالمتناقضات، غير أن هذه المتناقضات لم تكن لتبدو للهندوسي، ففِكْرُ الهندوسي قد صُهر في قالب غير الذي صهرت فيه أفكارنا.

لا عهد للهندوسي بالمنطق الأوربي، ولا تجد كتابًا من كتبه، التي تترجح بين ديواني راماينا ومهابهارتا الحماسيين من جهة والكتب الفلسفية التي أشرنا إليها آنفًا من جهة أخرى، غير زاخر بالمتناقضات، فالمنطقُ، وإن وجد في هذه الكتب، ليس سوى منطق نسويٍّ يُفرط، أحيانًا، في استخراج النتائج إفراطًا لا يعبأ معه بالمتناقضات.

إذن، يجب على من يريد أن يعلم أمر البُدَّهِيَّة ألا يَغفل عما لا غُنْية لديانات الهند عنه من الآلهة، وذلك عند النظر إلى التأملات الفلسفية التي تنضَّدت فوق البُدَّهِيَّة، فلم يحاول بُدَّهة، خلافًا للخطأ الشائع، أن يُزَعزع الآلهة البرهمية، كما أنه لم يحاول أن يمسَّ نظام الطوائف، فلم يكن أي مصلح من القوة ما يستطيع أن يَدُكَّ به ركن نظام الهند الإجتماعي ذلك.

وما تقدم يدلُّ بسهولة على أن البُدَّهِيَّة لم تكن غير تطور بسيط للبرهمية؛ وذلك لمحافظتها على جميع آلهتها، ولأنها لم تغير سوى أدبها، ومما لا ريب فيه أن البُدَّهِيَّة اختلفت عن البرهمية قليلًا بعد مرور عدة قرون، ومن المشكوك فيه أن تكون قد عدت دينًا جديدًا في البداءة، ولا شيء يدل على أن أشوكا اعتنق دينًا جديدًا، ولا تكاد تجد غير ذكرٍ أو ذكرين لبدهة في مراسيم هذا الملك التي ملأ الهند بها فانتهى إلينا عددٌ كبير منها، ففي هذه المراسيم أوصى بالتسامح تجاه جميع المذاهب الدينية التي كانت البُدَّهِيَّة واحدةً منها، والتي بَدَت جديرة بالتكريم لما اشتملت عليه من روح مؤسسها، ابن الملك الشهير، المملوءة محبة.

fig70
شكل ٣-١١: مترا. برج ساتي بوري «القرن السادس عشر»، «يبلغ ارتفاعه ١٧ مترًا.»

وسنثبت، بعد قليل، أن البُدَّهِيَّة غابت عن الهند بسبب اندماجها في البرهمية القديمة مقدارًا فمقدارًا، وفي خارج الهند من البلاد، كبرمانية وكمبوج، التي استقرت البُدَّهِيَّة بها، رافقتها الآلهة البرهمية، ولكن هذه الآلهة إذ كانت مما لم تعرفه تلك البلاد العاطلة من البراهمة ذوي المآرب في تفوقها حافظ بُدَّهة فيها على ما خسره في الهند من النفوذ البالغ، ومن الجدل الكبير ما دار حول مباني أنغكور الشهيرة؛ ليُعرف هل هي بُدَّهِية أو برهمية لاختلاط ما يشاهد فيها من الرموز البُدَّهِيَّة والشِّيوية، وما كانت هذه المجادلات لتحدث لو درس العلماء مباني الهند، ولا سيما مباني نيبال، قبل أن يُنعِموا النظر في مباني كمبوج فمنها، كانوا يتبيَّنون اختلاط المذهبين كما أنهم كانوا يتبينونه في البلد المجاور برمانية، فمما اطلع عليه الموظف الإنجليزيُّ السابق في برمانية مستر ويلر أن البرمانَ، الذين هم بدَّهِيُّون كما هو معلوم، يَعبدون، أيضًا الآلهة الويدية ولا سيما إندرا وبَرَهْمَا وأن بلاط ملك برمانية يحتوي على براهمة، ومما اطلع عليه ذلك الموظف الإنجليزي، أيضًا، أن خانات المغول بآسيا يعبدون الآلهة الويدية في جوار جبل آلتائي.

fig71
شكل ٣-١٢: أوديبور. قصر مهارانا «القرن السابع عشر»، «دقائق الجبهة المشرفة على الساحة الكبرى.»

وترى مما عرضناه أنه لا أثر للهوَّة العميقة التي افترض وجودها بين البُدَّهِيَّة والبرهمية افتراضًا نشأ عن اطلاع العلماء على البُدَّهِيَّة من قراءة الكتب، وما بيَّتَه هؤلاء العلماء من رأي هو الذي حال دون تبيُّن ما بينهما من ارتباط، ومما حدث أن البحاثة الأوربي هوغسن الذي عاش في الهند أشار إلى بعض الصور الشِّيوية التي تُشاهَد في معابد الهند البُدَّهِيَّة فأجهد نفسه في تفسير سبب وجودها فيها فقال إنه لا يوافق ثانية على امتزاج تَيْنِكَ الديانتين اللتين تنفصل إحداهما عن الأخرى انفصال السماء عن الأرض، وهو غسن هذا كان مقيمًا إنجليزيًّا بنيبال، وما كان عليه إلا أن يُحدِّق إلى ما حوله ليَرَى درجة اختلاط الآلهة البُدَّهِيَّة بالآلهة البرهمية في معابد ذلك البلد، بَيْدَ أن العلماء بلغوا في ذلك الحين من اعتقاد اختلاف تَيْنِكَ الديانتين مبلغًا لا يرون معه وجود شيء مشترك بينهما.

ويزيد هذا المثل، الناطق بوجود رأي مبيَّتٍ حاجبٍ للحقيقة، غرابة عند النظر إلى الرسالة الإنجليزية التي عنوانها «بحثٌ في الشبه بين كثير من الرموز البُدَّهِيَّة والشِّيوية»، فذكر كاتبها، متعجِّبًا، أن كثيرًا من كُتَّاب الهند أنفسهم يخلطون ما في المعابد القديمة من الصور البرهمية بالصور البُدَّهِيَّة مستندًا في ذلك إلى كثير من الأمثلة،١٠ مع أن عجب ذلك الكاتب الإنجليزي كان يزول لو أوضح بمثل ما أوضحنا به سبب امتزاج البُدَّهِيَّة بالبرهمية.

(٥) تواري البُدَّهِيَّة عن الهند

لا يجهل أحد أن البُدَّهِيَّة التي يَدِين بها اليوم خمسمائة مليون من الآدميين، أي ثلث البشر، توارت تقريبًا عن الهند حوالي القرنين السابع والثامن من الميلاد بعد أن كانت الهند مهدًا لها فانتشرت في بقية آسيا فغَمَرت الصين وبلاد التتر الروسية وبرمانية، إلخ، وهي إذا كُتِب لها بقاء في الهند فليكون ذلك في أقصى حَدَّيها فقط، أي في نيبال شمالًا وفي سيلان جنوبًا.

وترى كُتبَ الهندوس صامتة صمتًا تامًّا عن تواري البُدَّهِيَّة عن الهند، وعزي ذلك حتى الآن إلى ما افتُرض حدوثه من الاضطهادات الشديدة، وإذا سلمنا جدلًا بأنه يمكن التوفيق بين مبدأ تسامح الهندوس ومبدأ الاضطهادات الدينية وبأن الاضطهادات تقوِّض دعائم الدين بدلًا من تسهيل انتشاره خلافًا لما تؤكد حوادث التاريخ أمره وما إلى هذا من الافتراضات التي لا تصدَّق وجدنا أنفسنا تجاه المعضلة الآتية وهي: لماذا عزَم فجأةً أمراء الهند — التي كانت مقسومةً إلى مائة إمارة صغيرة — على الكفر بدين مارسه أجدادهم عدة قرون وحملوا رعاياهم على اعتناق دين آخر؟

أخذتُ أبصر سبب تحول البُدَّهِيَّة فور بحثي في مباني الهند، ثم اتضح لي ذلك السبب حين زيارتي لنيبال، فعلمت، إذ ذاك، درجة الأغاليط في الأسباب التي ذُكرت إلى يومنا لتفسير ذلك، وبيان الأمر أنني درست أكثر مباني الهند المهمة بإنعام نظر فانتهيت إلى النتيجة القائلة: إن البُدَّهِيَّة غابت عن الهند؛ لأنها صُهرت بالتدريج في الديانة التي خرجت منها.

والحق أن ذلك التطور تم ببطء، ولكن الذي جعل الباحثين يرون وقوعه بغتة هو عَطَلُ الهند من تاريخٍ، ومن ثم وجود فواصل خمسة قرون أو ستة قرون يتعذر معها وصل ما بين تحولاتها، فترانا إزاء ذلك في حال كحال علماء الأرض السابقين الذين كانوا يرون تحولات طبقات الأرض وسكانها العظيمة، لا ما بينها من الأدوار المتوسطة، فيعزون ذلك إلى الانقلابات العنيفة، ثم تقدم العلم فأثبت لهم أن هذه الانقلابات وليدةُ تطورات غير محسوسة.

تخبرنا دراسة ما في مباني الهند من النقوش البارزة والتماثيل بتاريخ تطور البُدَّهِيَّة، وتوضح لنا كيف أن مؤسس هذه الديانة الذي استخف بجميع الآلهة أصبح إلهًا، وكيف أنه أخذ يظهر في جميع المعابد بعد أن كنت لا ترى له صورة في واحد منها، وكيف اختلط بالآلهة البرهمية القديمة مقدارًا فمقدارًا، وكيف أنه تحول إلى إله تابع، وكيف أن تلك الآلهة دحرته في نهاية الأمر.

وكان لا بد لي من الرجوع إلى القرن السابع من الميلاد أو اكتشاف بلد يتجلى فيه الطور الذي كانت عليه الهند في القرن السابع المذكور؛ لإثبات نظريتي في ذلك التحول وفي تواري البُدَّهِيَّة عن الهند، فوجدت أحد مهود البُدَّهِيَّة نيبال البلد الذي قاومت البُدَّهِيَّة فيه عواملَ التطور التي هددته في كل مكان حين صاقبت البُدَّهِيَّةُ البرهميةَ القديمة، فتجلى فيه الطور الذي اختلطت فيه البُدَّهِيَّة بالبرهمية من غير أن تذوب فيها، وفي معابد نيبال بلغت الآلهة الهندوسية والآلهة البُدَّهِيَّة من الاختلاط ما يتعذر معه، في الغالب، تبيُّن الدين الذي يقول بها، وهذا ما عرفه علماء الإنجليز الذين درسوا شئون نيبال من غير أن يستطيعوا تفسيره، وما رئي أنه من الألغاز عند عدم تفسيره بدراسة مباني الهند القديمة ظهر لي أنه ليس من الألغاز عند إنعام النظر فيها، فقد ثبت لديَّ أن اختلاط تلك الآلهة في الهند حدث في كل مكان من الهند في زمانٍ ما، وزال عني العجب من عزو علماء الهندوس قديم المعابد إلى إحدى الديانتين تارة وإلى الديانة الثانية تارة أخرى.

وبمثل ذلك نفسر ما يبدو غريبًا في الظاهر، وهو أمر إقامة معابد بُدَّهِية وَجَيْنِيَّة وبرهمية بعضها بجانب بعض في أدوار واحدة، فإذا رجعنا البصر إلى الطور الذي يوشك أن تتمازج فيه ديانتان سهُل علينا أن نتمثل ملكًا يوزِّع الهبات، غير محابٍ، بين معابدهما كما كان يوزعهما أحد الملوك في القرون الوسطى بين كنائس مختلف القديسين.

ولم ينتهِ إلينا سوى ما قصه الحاج الصيني هيوين سانغ الذي زار الهند في ذلك الدور، فروى أن ملكًا هندوسيًّا وزَّع العطايا بين البُدَّهِيين في اليوم الأول من عيدٍ ووزعها بين البرهمية في اليوم الثاني منه، فذلك الدور الذي كانت فيه تانك الديانتان متوائمتين هو الدور الذي سبق انصهارهما في ديانة واحدة، ومن السهل أن نتبين الصورة التي تم فيها هذا الادغام من البحث في الديانة السائدة لنيبال في الوقت الحاضر.

تاريخ دخول البُدَّهِيَّة نيبال قديم جدًّا، والقصة تقول إن بُدَّهة نفسه جاءه، والأمر مهما يكن فإن أقدم المخطوطات البُدَّهِيَّة وجدت في أديار نيبال القديمة، وفي القصة أن أشوكا الذي كان ملك مغدها في القرن الثالث قبل الميلاد حج نيبال ليزور معبد شم بهوناتهه ومعبد بشوبتي، إلخ، وفي القصة، أيضًا، أن الملك أشوكا هذا هو مؤسس مدينة بتن التي تُعرف باسمها النيواري لليتا بتن فيُفترض أن أصل هذا الاسم محرف من بتلي بترا التي كانت عاصمة أشوكا في الهند، وغير قليلة المعابد المخروطة الشكل التي عُزيت إليه منذ القديم.

غدا نيبال، إذن، مهدًا من مهود البُدَّهِيَّة، ولا تزال هذه الديانة سائدة له منذ ألفي سنة، وإذا حالت عزلة نيبال دون أفول البُدَّهِيَّة عنه، كما أفلت في بقية بلاد الهند، فإنها لم تحُل دون تحولها فيه تحولًا مشابهًا للذي غابت به عن بلاد الهند تبعًا للمبدأ القائل: إن العلل نفسها تسفر عن النتائج نفسها، ونيبال لما كان عليه من الأحوال الخاصة أخذت البُدَّهِيَّة تغيب عنه ببطء، ولهذا البطء نستطيع أن نتصور ماذا كانت عليه البُدَّهِيَّة في الهند في القرنين السابع والثامن من الميلاد مع تواري النظم الرهبانية القديمة عنه، ومع عودة الكهنوتية فيه إلى النظام الإرثي ومع رجوع الآلهة القديمة فيه إلى سلطانها السابق.

fig72
شكل ٣-١٣: أوديبور. المقبرة الملكية.

اليوم تبدو البُدَّهِيَّة والبرهمية في نيبال ديانتين مختلفتين اسمًا كما بدتا في الهند في القرن السابع من الميلاد، واليوم تبدو تانك الديانتان في نيبال متسامحتين كتسامحهما الذي رأينا وجوده في بقية بلاد الهند قبيل أفول البُدَّهِيَّة عنها للأسباب المعروضة آنفًا، وبلغ هذا التسامح الذي يفسَّر بتشابه تَيْنِكَ الديانتين من القوة ما كان به لأتباعهما معابد وآلهةٌ وأعياد مشتركة كما سنرى ذلك.

تفرض البُدَّهِيَّة، في نيبال، على أتباعها عبادة ثالوثٍ عالٍ، بدلًا من أن تسير مع المذاهب البُدَّهِيَّة الفلسفية فترى العالم مؤلفًا من هيولَى أزلية قادرة على التكوين، وَتُعَدُّ هذه الهيولى آلهة الكون الوحيدة، ويشتمل ذلك الثالوث على ممثل الروح آدي بودَّهة الذي هو الأصل وعلى ممثل المادة دهرما وعلى ممثل المرئيات سنغها الذي هو نتيجة اتحاد الروح والمادة، ورمزُ هذا الثالوث، الذي يشابه الثالوث البرهمي المؤلف من بَرَهْمَا ووِشنوا وشِيوا، هو مثلث ذو نقطة في مركزه، وهذا المركز هو رمز آدي بودهة الذي عُدَّ العلة الأولى في آخر الأمر.

وتجيء تحت ذلك الثالوث الأعلى الآلهة البرهمية القديمة: وِشنو وشيوا وغنيشا ولكشمي وغيره من الآلهة التي برأها الكائن الأعلى لتسيطر على العالم، وعلى ما تراه من هبوط هذه الآلهة من المرتبة التي قالت بها الديانة البرهمية وظلت من رفعة المقام ما بدت به أهلًا ليعبدها البشر بأسره.

ولا تختلف مبادئ بُدَّهِيي نيبال في الروح البشرية عن المبادئ البرهمية القديمة بصورة محسوسة، وعُدَّت هذه الروح، كأرواح جميع الحيوانات، صادرة عن العلة الأولى آدى بودهة راجعة إليه بعد عدة تناسخات، والرجوع إلى العلة الأولى بعد هذه التناسخات، أي الفناء في آدي بودهة، هو الهدف الأسمى الذي يؤجَر به المؤمنون، ويتوقف عدد هذه التناسخات وطبيعة هذه التناسخات على سلوك الإنسان في حياته، وتُعيِّن أعمالُه مصيرَه.

وعُدَّ مؤسس البُدَّهِيَّة نفسه، كإخوانه الذين افتُرض ظهورهم قبله حاملين لاسم بُدَّهة، وَلِيًّا صفت جبلته بحيوات سابقة فأوشك أن يصل إلى الفناء الأسمى.

وأنشئ أكثر معابد نيبال أهمية، ولا سيما معبد شمم بهوناتهه، تقديسًا لآدي بودهة، ومُثِّل الثالوث البُدَّهِي «بدهة ودهرما وسنغها» في تماثيل جالسة على زهرة سدر، وفي هذه التماثيل بدا بُدَّهة ذا ذراعين وبدا سنغها ودهرما ذويْ أربع أذرع، ومن ذلك الثالوث بدت دهرما وحدها، إلاهة المادة، على شكل امرأة.

ويجيء بعد الثالوث البُدَّهِي، كموضوعات للعبادة، صور مؤسس البُدَّهِيَّة وأسلافه من الآلهة والبشر، ثم تجيء آلهة الهندوس: مهانكال مثال شِيوا، وكالي زوجة شِيوا، وإندرا ملك السماء، وغرودا الإله ذو الرأس العصفوري، وغنيشا الإله ذو الرأس الفيلي، وآلهة الحكمة، إلخ، وهذا الإله الأخير هو من أعظم الآلهة احترامًا وتجد صورته في مداخل جميع المعابد، وبعبادة هذا الإله البرهمي الخالص تباشَر جميع الشعائر البُدَّهِيَّة.

fig73
شكل ٣-١٤: أحمد آباد. مقدم المسجد الكبير «القرن الخامس عشر من الميلاد»، «ارتفاع الجبهة: ١٣ مترًا و٥٠ سنتيمترًا»، «أنشئت مباني أحمد آباد المهمة المرسومة في هذه الصورة وفي الصورة الآتية في العصر الإسلامي على الطراز الهندي المعروف بالْجَيْنِيِّ، وهي لا تختلف عنه إلا بما أضيف إليها من الأقواس والدقائق الثانوية وبخلوها من التماثيل.»

وانتحل بُدَّهِيُّو نيبال الرمز الهندوسي مع تحريف مدلوله، فهم قد عدُّوه الرمز السدري الذي تجلى به آدي بودهة على صورة لهيب بدلًا من عده رمزًا إلى قدرة شِيوا على الإبداع.

وقد بدِّل شكلًا مع ذلك، فنُقشت أربعة وجوه لبدهة على جوانبه، كما علَته زخارف بُدَّهِية.

ومما قلناه ترى درجة اختلاط بُدَّهِية نيبال بالبرهمية، ولهذه البُدَّهِيَّة أثر في البرهمية كذلك، فيمثَّل بُدَّهة في المعابد التي أنشئت تمجيدًا لشيوا، ويقصد أتباع كلتا الديانتين كثيرًا من المعابد ذوات الآلهة المشتركة.

وما تشاهده من امتزاج تَيْنِكَ الديانتين في المعابد تجد مثله في الأساطير التي تكثر في نيبال، وتجد مثل هذا الامتزاج في الأعياد الدينية التي يتعذر تمييز البُدَّهِي من البرهمي فيها، ويزور الحجيج معابد تَيْنِكَ الديانتين، على السواء، زيارة المؤمن المطمئن.

تلك هي حال البُدَّهِيَّة في نيبال في الوقت الحاضر، ويمكن الناقد البصير أن يبصر منذ الآن انصهارها في البرهمية قبل انقضاء قرنين أو ثلاثة قرون مستندًا إلى ما ذكرناه، وقد يعزو السائح، الذي يجهل في المستقبل دور التطور الذي تُجاوِزه الآن كما جهل المؤرخون المعاصرون تطور البُدَّهِيَّة السابق في الهند، أفولَ البُدَّهِيَّة عن نيبال إلى شدة الاضطهاد مستشهدين بأطلال المعابد التي تستره إذ ذاك.

بَيْدَ أن السائح الذي أتخيل ظهوره في المستقبل إذا لم يقتصر على درس بقعة واحدة من بقاع الهند فصبر فجاب جميع أرجائها نَفَذَت مبادئ التطور الديني نفسه فصانته عن مثل ذلك الخطأ، فمن أجل هذا نرى أن تقصي الهند أفضل من مزاولة كتب التاريخ بمراحل، فالهند هي البلد الوحيد الذي يمكن الباحث أن يبصر فيه عند انتقاله من مكان إلى آخر سلسلة التطور التي جاوزها البشر منذ عصور ما قبل التاريخ إلى الوقت الحاضر، فبذلك الدرس الحي يطلع الباحث على التطورات السابقة التي اتفقت للنظم والمعتقدات فلا تنص الكتب في الغالب إلا على أقصى وجوهها.

(٦) المذاهب الفلسفية في البُدَّهِيَّة

نشأت مذاهب فلسفيةٌ مؤازيةٌ للبُدَّهِية مشابهة للتي ظهرت في العصر البرهمي، وليس في هذه المذاهب ما هو مبتكر كما ألمعنا إلى ذلك، وبعض كتبها إذ ترجم إلى اللغات الأوربية وظُن أن البُدَّهِيَّة نفسها بين أضاميم ما ترجم من هذه الكتب نرى من المفيد أن نلخص روح تلك المذاهب تلخيصًا خاطفًا.

قامت تلك المذاهب على القول ببطلان ما في السماء والأرض، فالموجودات ليست إلا مظاهر وحوادث صائرة إلى الفناء، وهي تشابه الزبد الذي يعلو الماء طرفة عين.

فلا رجال ولا نساء ولا خَلْق ولا حياة ولا نفس، فلا حقيقة لهذه الأشياء، فهي وليدة الخيال، هي مشابهة للوهم، مشابهةٌ للرؤيا، مشابهة لكل ما هو مختلق، مشابهة لخيال القمر في الماء.

ولا يعرف هذا المذهب الفلسفي، الذي لا عهد للأوربيين بمثل تطرفه، إلهًا خالصًا ولا إلهًا أقدم من العالم، فالطبيعة، بحسب هذا المذهب، هي سلسلةٌ لا حد لها «أولًا وآخرًا» من الموالد والهلكات والتراكيب والانحلالات الدائمة والعلل المتحولة التي هي معلولاتٌ والمعلولات المتحولة التي هي عللٌ والحوادث التي لا أول ولا آخر لها.

fig74
شكل ٣-١٥: أحمد آباد. مسجد الملكة في ميرزابور «القرن الخامس عشر من الميلاد»، «دقائق الزخرف»، «يبلغ ارتفاع قسم المئذنة البادي ستة أمتار و٣٠ سنتيمترًا.»

وفلاسفة البُدَّهِيَّة، بعد أن أنكروا مبدأ التكوين، أنكروا مبدأ القضاء والقدر السائد لجميع الأديان اليونانية، فلم يروا وجود قدَر مسيطر على المخلوقات، فمصير كل مخلوق عندهم منوطٌ بسَيره، والناموس الأدبي هو الذي يربط الحوادث بعضها ببعض، والأعمال وحدها، أو نتائج هذه الأعمال، هي الخالدة، والمخلوق يمكنه بالفضل أن يصل، بعد سلسلة من الموالد، إلى نعمة العدم فلا يبالي بالدموع ولا بالآلام فيفنى في نِرْوانا فلا تبقى ضرورة إلى تقمصه صورًا أخرى.

fig75
شكل ٣-١٦: أحمد آباد. مسجد الملكة في سارنغ بور «القرن الخامس عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع قسم المئذنة الظاهر في هذه الصورة خمسة أمتار و٦٥ سنتيمترًا.»

وفي كتب الفسلفة البُدَّهِيَّة سلسلة من التأملات التي تُثبت بطلان الأشياء، فالبُدَّهِي؛ بعد أن يعلو منطقة الصورة والصلابة والخِلفة ينتهي بتأمله إلى منطقة اللانهاية في الفضاء، والبُدَّهِي بعد أن يعلو منطقة اللانهاية في الفضاء ينتهي إلى منطقة اللانهاية في الذكاء، والبُدَّهِي بعد أن يعلو منطقة اللانهاية في الذكاء ينتهي إلى منطقة العَطَل من الموجودات، والبُدَّهِي بعد أن يجاوز منطقة العطل من الموجودات ينتهي إلى منطقة العطل من الخيالات وعدم الخيالات، والبُدَّهِي بعد أن يجاوز منطقة العطل من الخيالات وعدم الخيالات ينتهي إلى منطقة الانقطاع عن الخيالات والإدراكات، فهنالك يصبح محايدًا تجاه الأفكار، محايدًا تجاه إدراك الخيالات فيعود غير ذي خيال، أي غير مؤكِّد عدم الوجود لما يدل عليه هذا التوكيد من الوجود، فإذا ما بلغ هذه المرحلة الخالية التي ارتفع إليها «أضحى اسم بُدَّهة كلمةً وأضحى بُدَّهة نفسه وهمًا أو طيفًا.»

وهذه المزاعم الفلسفية التي لا أماري في بُعد غَوْرها تسوق واضعيها، في بعض الأحيان، إلى السفسطة، والتوكيدُ أول ما يُجيب به فلاسفة البُدَّهِيَّة عن جميع الأسئلة، ثم يجيبون عنها منكرين، ثم يجيبون عنها غير مؤكدين وغير منكرين، ومن ذلك أنهم يجيبون عن السؤال: «هل يوجد بُدَّهة أو لا يوجد بعد الموت؟» بقولهم: «يوجد بُدَّهة بعد الموت، ولا يوجد بُدَّهة بعد الموت، ويعود بُدَّهة غير موجود بعد الموت ما دام غير موجود بعد الموت.»

وبين الأوربيين مَن يرون، مثل حواريي شا كيه موني أن العالم سيصبح بُدَّهِيًّا، وليس فيما يرون ما يتعذر وقوعه، فاستنبطوا من تأملات فلاسفة البُدَّهِيَّة كتاب ديانة ذا مسحة عصرية فوافق عليه كاهن شري بدا الأكبر بجزيرة سيلان، ولا أقول مؤكدًا إن هذا الكاهن الأكبر الذي استصوبه قد ألمَّ به، وإنما يُخيل إليَّ أنه يوافق على كتاب ديانة آخر مستنبط من الكتب البُدَّهِيَّة مناقضٍ لذلك الكتاب.

وذلك الكتاب الصغير إذ اشتمل، بأسلوب واضح، على ما يمكن استنباطه من رسائل الفلسفة البُدَّهِيَّة وكان مما رضي به مذهبٌ بُدَّهِيٌّ مهم معروف ببُدَّهِية الجنوب فإننا نقتطف منه العبارات الأساسية الآتية:
  • ٥٧: ما هو النور الذي يبدِّد جهلنا ويزيل جميع همومنا؟ هو أن تعرف ما سماه بُدَّهة بالحقائق الأربع الكريمة.
  • ٥٨: ما هي هذه الحقائق الأربع الكريمة؟ هي: (أ) بؤس الوجود. (ب) علة البؤس أي إرواء الغُلَّة التي لا تُروِي لتجددها. (ﺟ) هدم الرغبة. (د) وسائل هدم الرغبة.
  • ٦٥: إلى أي شيء نصل عند إحراز النجاة؟ نصل إلى نِروانا.
  • ٦٦: وما هي نروانا؟ هي حال يقف عند حدها كل تحول فتكون السكينة فيها كاملة ما عطلت من الرغائب والأوهام والآلام وكل ما يجعل الإنسان هيولانيًّا، والإنسان، لكي يبلغ نروانا لا بد له من أن يُبعث باستمرار، فإذا ما بلغها انقطع بعثه.
  • ٦٩: وهل لحسناتنا أو سيئاتنا فعلٌ في الصورة التي نُبعث عليها؟ أجل، فالحكم العام هو أننا نُبعث في حال حسنة عندما تثقل حسناتنا وأننا نُبعث في حال سيئة عندما تثقل سيئاتنا.
  • ١٢٢: وبأي شيء يختلف كهنة البُدَّهِيَّة عن كهنة الأديان الأخرى؟ كهنة الأديان الأخرى يزعمون أنهم وسائط بين الله والناس؛ ليعينوا الناس على نيل الغفران، وكهنة البُدَّهِيَّة لا يعترفون بالقدرة الإلهية، فلا يأملون شيئًا منها، ويجب عليهم، مع ذلك، أن يقضوا حياتهم على مذهب بُدَّهة وأن يهدوا الآخرين إلى الصراط المستقيم، ويرى البُدَّهِيون أن الله ظِلٌّ عظيم قَذَف به خيال الجهال في الفضاء.
  • ١٢٨: وبأي شيء تختلف البُدَّهِيَّة اختلافًا جوهريًّا عن الذي يسمى دينًا بالمعنى الصحيح؟ بُدَّهِية الجنوب تُعلِّم الصلاح من غير إيمان بالله، وتقول بدوام الوجود من غير الذي يسمى الروح، وبالسعادة من غير سماء ذاتية، وبالسلامة من غير رسول منقذ، وبالنجاة من غير طقوس وصلوات وتوبة ووسطاء من الكهنة أو القديسين، وإن شئت فقل بفرط الصلاح في هذه الحياة وفي هذه الدنيا.
  • ١٣٥: أفتقول البُدَّهِيَّة بخلود الروح؟ يَعُدُّ مذهب الجنوب «الروح» كلمة يعرب بها الجاهل عن رأي خاطئ، فإذا كانت الأشياء عرضة للتغير وكان الإنسان شيئًا وجب أن يتغير كل جزء منه، فلا دوام مع التغير، ولا خلود مع التحول.
    fig76
    شكل ٣-١٧: أحمد آباد. مسجد محافظ خان «أقيم في القرن الخامس عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع قسم المئذنة الظاهر في هذه الصورة ١٢ مترًا وسبعين سنتيمترًا.»
  • ١٣٦: إذا طُرح المبدأ القائل بالروح البشرية جانبًا، فما الذي يُوحي إلى الإنسان بدوام وجوده؟ الرغبةُ في الحياة التي لا تُروى لها غُلَّة، فالموجود ذو الرغبة الذي يصنع ما يكافأ به أو يعاقب عليه في المستقبل يتناسخ بتأثير كرما.
  • ١٣٧: وما الذي يُبعث؟ هو تكتُّل سِكندا أو شخصٌ جديد صادر عن تنضُّد الشخص الميت تنضدًا أدبيًّا.
    fig77
    شكل ٣-١٨: أحمد آباد. المحراب الرخامي المنقوش في المسجد السابق «يبلغ مجموع ارتفاع القسم المنقوش نحو ثلاثة أمتار.»
  • ١٤٤: وهل تكتل سكندا الجديد هذا أو هذا الشخص الجديد هو الموجود السابق نفسه؟ نعم، من جهةٍ، ولا، من جهة أخرى، ففي أثناء حياتنا الحاضرة تتبدل سكندا تبدلًا تامًّا، فمع أن ابن الأربعين فلانًا هو الشخص نفسه أيام كان ابن الثامنة عشرة، يُعَدُّ غيره لما اعتوره جسمه وذكاءه وأخلاقه من التغير، ويُجزَى وهو شيخ، مع ذلك، بما عمل من الصالحات وما اجترح من السيئات وهو شاب، والشخص الجديد الذي يولد إذ يولد متقمصًا الشخص السابق مع تبدل قليل في الصورة أو يولد بتكتل سكندا فإنه يحتمل نتائج أعماله في حياته الأولى.

وإنني حين أختم تلك المختارات أقول مكررًا: إن البُدَّهِيَّة التي قامت في الهند في العصر البُدَّهِي فأفصحت عنها المباني تختلف عن المذاهب الفلسفية المذكورة آنفًا، وإن قرابة هذه من البُدَّهِيَّة دون قرابة النصرانية من الوثنية اليونانية الرومانية، وإن البُدَّهِيَّة الصحيحة هي أكثر أديان الهند إشراكًا ما أضافت آلهةً جديدة إلى الآلهة البرهمية، وإن البُدَّهِية التي تنطق بها المباني هي ديانة، وإن البُدَّهِيَّة المذكورة في الكتب التي وُضعت بعد ظهور بُدَّهة بستمائة سنة على الأقل هي مذهب فلسفي، وإن ما بين تلك الديانة وهذا المذهب من الهوة العميقة مثل التي تفصل التوحيد عن الإلحاد.

(٧) المجتمع البُدَّهِي

من يرد أن يتبين ما كان للأدب البُدَّهِي من الأثر الطيب في المجتمع فليطَّلِع على مراسيم أشوكا، فهو يجدها مملوءة بالتعاليم التي أريد بها سيادة الوئام والسلام والمحبة بين الأنام، وليست تلك المراسيم شريعة سياسية كما ظُنَّ في أيامنا، بل هي قوانين ذات صبغة دينية أرادها ولي الأمر المحب لرعاياه؛ لما فيها من البساطة والحسن وبذر الحب للآلهة وجميع المخلوقات.

وتختلف مراسيم أشوكا عن شرائع مَنُو في ثلاثة أمور، وهي:
  • (١)

    حب الخير العام الشامل للحيوانات أيضًا وحظر ذبح هذه الحيوانات.

  • (٢)

    روح المساواة التي دُعِيَ بها جميع الطوائف إلى سماع الوعظ الديني والفوز بوعوده.

  • (٣)

    التسامح الذي يرى معه أن في كثرة المذاهب الدينية سيرَ البشرية إلى الكمال المطلق فيوجب احترامها جميعها.

كانت الحيوانات محل احترام في المجتمع البرهمي؛ لتجلي الروح العليا فيها بعض التجلي أيضًا، ولأنها صور لآدميين تقمَّصوا فيها، في الغالب، بسبب آثامهم، بَيْدَ أنه كان لا يُرى كبيرُ حرج في قتلها، فكان الصيد من وسائل تسلية الملوك والأكشترية، ثم وضع أشوكا حدًّا لذلك فجاء في مرسوم له ما يأتي:

أَجَلْ، إن مئات الحيوانات تُذبح في كل يوم لأغراض محمودة وإن من الجائز ذبحها لغاية مفيدة، ولكن تبيُّن النية والغاية إذ يبدو صعبًا فإن من الخير أن يُكف عن ذبحها، ومن ثم يجب ألا يذبحَ حيوانٌ فيما بعد.

واتخذت وسائل لبلوغ رفاهية الحيوانات والآدميين، فجاء في تلك المراسيم:

ستُنقل الأعشاب والأشجار المثمرة التي تفيد الناس والحيوانات وتزرع في الأماكن التي لا تكثر فيها، وستحفر الآبار وتغرس الأشجار في الطرق العامة؛ ليستفيد منها الناس والحيوانات.

وفي البرهمية الأولى نصٌّ على أن الناس يولدون مرتين، والطوائف الثلاث الأولى وحدها هي التي كانت تدعى للتمتع بنعم الدين وسماع المواعظ، فكان يُصبُّ في أذني الشودري الذي يستمع إلى وعظ برهمي أو إلى قراءة الكتب المقدسة زيتٌ حارٌّ، فإليك ما قاله أشوكا في ذلك:

سيعظ الواعظون البراهمة المحاربين والسائلين والمحرومين وغيرهم من غير عائق، ليدخلوا السرور إلى من يريد ويحلوا وثاق من هو موثق ويحرروا كل أسير، وسيحمل الواعظون جوامع الكلم ومبادئ البر إلى إخواني وأخواتي، ويشدوا أزر كل تقي، وينقذوا كل شقي في أرجاء دولتي.

وفي مراسيم أشوكا أروع مبادئ التسامح، فقد جاء فيها:

يقوم أصل مذهبنا وجوهره على أنْ تَتَّبِع دِينَك ولا تَسُبَّ دين غيرك أو تحط من قدره، وأن تحترم الأمور الدينية مع ما بين العقائد من الاختلاف؛ لما في ذلك من زيادة إيمانك ونمو يقين غيرك، ففي كل دين نواحٍ طيبة يَحْسُن التمسك بها، ولا شيء، عند الآلهة المحبوبة، يعدل زيادة الإيمان ونمو الكمال الذي هو هدف جميع الأديان.

ولم تَبْقَ البُدَّهِيَّة، على ما يظهر، دين الدولة زمنًا طويلًا كما كانت في عهد أشوكا، فلم يكد قرن واحد يمضي على وفاة هذا الملك حتى رجع بعض خلفه إلى البرهمية، وظلت البُدَّهِيَّة، مع ذلك، دين الشعب المسيطر في ستة قرون أو سبعة قرون، فكانت زاهرة حينما ساح الحاج الصيني فاهيان في الهند من سنة ٣٩٩ إلى سنة ٤١٤ بعد الميلاد، ثم زار الحاج الصيني هيوين سانغ الهند بعد ذلك التاريخ بقرنين فأبصر الانحطاط الذي آلت إليه البُدَّهِيَّة، وشاهد في كل مكان هجْر الناس لمعابدها وأديارها وتداعي هذه المباني، فلما انقضى ألف سنة على عهد أشوكا كانت البرهمية قاهرةً للبُدَّهِية نهائيًّا، وكانت البُدَّهِيَّة غائبة، كديانةٍ، عن الهند، ولم تكن البُدَّهِيَّة لتأفُل كمبدأ أدبي، فلا تزال ذات نفوذ إلى أيامنا، وهي التي أوجبت ظهور البرهمية الجديدة التي هي ديانة الهندوس الحاضرة فندرسها في الفصل الآتي.

والحاج الصيني فاهيان ذلك قد قام برحلته في الهند بعد الميلاد بأربعة قرون؛ ليزور الأماكن المقدسة التي وُلد فيها بُدَّهة وعاش وامتُحِن ووَعَظَ، وليُبَاحث آئمة البُدَّهِيَّة وينسخ الكتب المقدسة.

كانت البُدَّهِيَّة في تلك الأثناء بالِغة ذِروتها، فكان البَنْجَاب ووادي الغَنْج زاخريْن بالأديار التي يقصدها ألوف الرهبان؛ ليتعلموا فيها أسرار الدين ويتبتلوا إلى التأمل العميق الدائم قبل أن ينعموا بنروانا، وتلك الأديار كانت تقوم على صدقات المؤمنين وهِبات الملوك، وكانت مركزًا للمعرفة ومقرًّا لحل المعضلات، وكان يسودها صمت زهد فتتم الأمور اليومية فيها بنظام مطلق، وفي تلك الأديار حلَّ فاهيان ضيفًا فوجد ثلاثة آلاف راهب يسكنونها فيجتمعون حول الموائد من غير أن يُسمع لهم صوت ولآنيتهم رِكزٌ فقضى العجب من وقارهم وحيائهم واتِّزانهم.

وظهرت عدة مذاهب يمكن ردها إلى فرقتين، فرقة المحمل الكبير وفرقة المحمل الصغير، فتمثل الأولى الفلسفة البُدَّهِيَّة وتمثل الثانية أدبها، وكانت الأساطير توضع وتنمو ثم تصبح من أصول الدين، وكانت الطقوس تنظَّم والأعياد والمواكب تزيد وكانت الصور والذخائر والزهور والعطور تُجسَّم في هذا الفضاء الذي يتعذر على العامة أن تتخيله، فكان بذلك قيام الفلسفة البُدَّهِيَّة.

fig78
شكل ٣-١٩: أحمد آباد. مسجد راني سبري. دقائق زخرفية «القرن الخامس عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع القسم الظاهر في الصورة أربعة أمتار وخمسين سنتيمترًا.»

وإذا نظرت إلى البُدَّهِيَّة من ناحية الدستور الاجتماعي والطبائع رأيتها تتجلى في تخفيف الآلام وتقليل الضرائب وتسهيل العلائق ونشر السعادة وتعميم السلام بما يلائم طبيعة الهندوسي.

أَجَلْ، ظلت الطوائف باقية مختلفة عملًا كما في الماضي، ولكنها بدت متحدة تسامحًا ورِفقًا، فكُشِفت الكروب وأُنشئت المشافي وأقيمت المرابط رمزًا إلى الإخاء الذي يجمع بين جميع الموجودات.

ومُقَوِّمات المجتمع الهندوسي تلك، وهي التي أبصرها فاهيان، هي التي تسود جميع الأقطار البُدَّهِيَّة، وَفَتَرت في الهند بفعل البرهمية التي نهضت بعد زمن فكانت خاسرة لروعتها الأولى حينما أتم هيوين سانغ حجه في القرن السابع من الميلاد، وكان النصر لعنجهية البراهمية على مبادئ البُدَّهِيَّة القائلة بالمساواة، وما قام به هؤلاء من مكافحة البُدَّهِيَّة كان يعود عليهم بالفائدة، وما في الشعوب، ولا سيما الشعب الهندوسي، من احتياج إلى الآلهة الشخصية المنظورة جذب الجموع إلى الدين القديم بالتدريج، فأسفر ذلك عن خراب المعابد والأديار البُدَّهِيَّة في كثير من الولايات، وأخذ بُدَّهة يحتل في المعابد مكانًا دون مكان وِشنو وشِيوا، وأضحت عاصمة البُدَّهِيَّة السابقة باتلي بوترا خربة، وصار المكان المقدسُ بُدَّهة غَيَا نفسُه لا يأوي إليه سوى البراهمة.

وتطوراتٌ كتلك حدثت في النظام الاجتماعي، فبعد أن تكلم فاهيان عن حرية الزراع وقلة ما كانوا يُؤتونه من الضرائب في زمانه رَوَى هيوين سانغ أن مقدار الخراج الذي أخذوا يؤتونه واحدٌ من ستة أي مثلما كان في زمن مَنُو لا ريب.

وظلَّت العقوبات خفيفة مع ذلك، وكان يُصار، في الغالب، إلى الماء والنار والسمِّ في الابتلاء، كما كان يُصار إليه في محاكماتنا الإلهية في القرون الوسطى.

وأثنى هيوين سانغ على أخلاق الهندوس فأُعجب بشرفهم وبما نشرته البُدَّهِيَّة من الرفق والمحبة بين جميع طبقاتهم، فذكر، على سبيل المثال، الأفراح العامة التي كانت تجمع بين ألوف الآدميين من جميع المذاهب والطوائف فيوزِّعُ الملك في أثنائها العطايا السَّنِيَّة على الجميع، لا فرق في ذلك بين البراهمة والشودرا، وبين البُدَّهِيين والملحدين.

ولكي يُجيد هيوين سانغ الاطلاع على الفلسفة البُدَّهِيَّة أقام خمس سنوات بدير نالندا الذي كان أشهر أديار الهند فكان يضم نحو عشرة آلاف راهب، ثم جاب هذا الحاج الصيني الهند فوصل إلى سيلان، ثم قطع الهند ثانية راجعًا إلى بلاده فكانت الرحلة التي قام بها كالتي قام بها فاهيان فيما مضى تقريبًا.

وأخذ نجم البُدَّهِيَّة يأفل عن الهند بسرعة منذ ذلك الدور، أي منذ القرن السابع من الميلاد، فلم يلبث أن غاب عنها تمامًا، فكانت المعابد البُدَّهِيَّة التي أقيمت فيها بعد القرن السابع قيلة جدًّا، ومن الأسباب التي أوجبت ذلك الأفول عن الهند كثرةُ الفرق التي انقسمت إليها، فعد هيوين سانغ ثماني عشرة فرقة منها فشبه حماستها في مجادلة بعضها لبعض بأمواج البحر، ونرى البُدَّهِيَّة في هذا القرن التاسع عشر، كذلك، بعيدة من الوصول إلى وحدة العبادة والمذهب، فنجد فرقتين كبيرتين: إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب، تزعم كل واحدة منهما أنها على الحق وأنها حافظة لتراث بُدَّهة.

والآن نذكر في بضعة أسطر المبادئ الأساسية التي يمكن استخراجها من هذا الفصل فنقول: إن البُدَّهِيَّة الأولى لم تكن ديانة جديدة، بل كانت طورًا من البرهمية التي لم تختلف عنها بسوى أدبها، وإنه نشأ بعد ظهور البُدَّهِيَّة بزمن طويل مذهب فلسفي نشوءًا موازيًا لها، وإن أدب البُدَّهِيَّة يرجع إلى أوائلها، فيلوح لنا أنه نتيجة آلام البشر، وإن بُدَّهة كان أحد أكابر المعتكفين الذين هز صوتهم الدنيا هزًّا عنيفًا لتقمصهم آمال الجنس.

وإن جذور الفلسفة كانت سائخة في تراب أقدم من ترابها، وإنها ظهرت حينما كان زهاد البرهمية المنهوكون المهزولون يفكرون ساكنين تحت الأشجار فكان الفناء مثلهم الأعلى قبل ظهور بُدَّهة.

وإن البُدَّهِيَّة إذ لم تكن دينًا، وإن العالم إذ كان عاطلًا من أي شعب يستغني عن دين، استردت البرهمية سابق منزلتها، وتم لها النصر بعد أن أخذت البُدَّهِيَّة تتحول إليها، وإن البُدَّهِيَّة التي يدين بها اليوم خمسمائة مليون من البشر ليست، بالحقيقة، سوى طور من البرهمية غير قريب من مثالها الأول؛ لنشوئها بعيدة من العالم البرهمي أي من العالم الهندوسي، وإن الفروق زادت مع الزمن باختلاف العروق التي اعتنقتها، وإن هذه الفروق تتدرج إلى الزوال لدى العِرْق الذي لاحت له البرهمية ولاح له إصلاحها.

ولا يمكن الافتراض القائل إن الاضطهادات العنيفة هي التي أدت إلى تواري البُدَّهِيَّة عن الهند أن يقف أمام الوثائق التي عرضناها في هذا الفصل ولا أمام ثبوت الحماسة الغريزية التي صدرت البُدَّهِيَّة بها عن البرهمية وثبوت تطور النفوس البطيء الذي عادت به إليها.

هوامش

(١) المجلجل: البعيد الصوت.
(٢) الشافنة: الناظرة بمؤخرها أو في إعراض.
(٣) تجد صورة غريبة لهذا المنظر في أحد تصاوير جدر أجنتا التي نشرناها في هذا الكتاب.
(٤) الخِرْص: حلقة الذهب أو الفضة أو غيرهما.
(٥) الأخدود: الحفرة المستطيلة.
(٦) رجف الجبل يرجف رجفًا: زلزل.
(٧) سجر البحر: فجره.
(٨) كورت الشمس: اضمحلت وذهبت.
(٩) ربما قصد المؤلف أن بدهة نفسه، لا أحد أصحابه، هو الذي سأل تلك المرأة أن تسقيه، كما تدل عليه مقارنة المؤلف في أوائل الفصل بين بدهة والمسيح، وإلا وجب أن يكون الحادث قد تكرر، وهذا ما نستبعده ما دام عزو طلب السقي إلى بدهة أكثر ملاءمة لسياق الموضوع من عزوه إلى صاحب له «المترجم».
(١٠) تتجلى أوجه الشبه بين صور الديانتين ورموزهما في أحوال كثيرة جدًّا، ومن ذلك المثال الذي يتجلى للقارئ في الصورة التي نشرتها في هذا الكتاب لتمثال صنع في القرن السادس من الميلاد ونصب في بادامي مشخصًا وِشنو وهو واقف على الأفعى أنتانا، فهذا التمثال مماثل لصورة بدهة البارزة الموجودة في أمراوتي والتي صنعت في القرن الخامس أو القرن السادس من الميلاد مشخصة إياه وهو قائم على أفعى أيضًا، وفي غيا زرت معبدًا برهميًّا معروفًا بوشنوبد «معبد قدم وشنو» حيث يعبد القوم ما يزعمون أنه أثر قدم وِشنو كما يعبد البُدَّهِيون أثر قدم بدهة، فأمر مثل هذا يدل على اختلاف الأسماء للشيء نفسه، وهو ما تُعَدُّ أمثاله بالألوف في الهند.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤