الفصل الثامن والعشرون

القول في خصال رئيس المدينة الفاضلة

خصال الرئيس الأول

فهذا هو الرئيس الذي لا يرأسه إنسان آخر أصلًا، وهو الإمام، وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة، وهو رئيس الأمة الفاضلة، ورئيس المعمورة من الأرض كلِّها، ولا يمكن أن تصير هذه الحال إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فُطر عليها:
  • أحدها أن يكون تامَّ الأعضاء، قواها مؤاتية أعضاءها على الأعمال التي شأنها أن تكون بها، ومتى همَّ بعضو ما من أعضائه عملًا يكون به فأتى عليه بسهولة.

  • ثم أن يكون بالطبع جيِّد الفهم والتصوُّر لكلِّ ما يقال له، فيلقاه بفهمه على ما يقصده القائل، وعلى حسب الأمر في نفسه.

  • ثم أن يكون جيِّد الحفظ لما يفهمه ولما يراه ولما يسمعه ولما يدركه، وفي الجملة لا يكاد ينساه.

  • ثم أن يكون جيِّد الفطنة، ذكيًّا، إذا رأى الشيء بأدنى دليل فطن له على الجهة التي دلَّ عليها الدليل.

  • ثم أن يكون حسن العبارة، يؤاتيه لسانه على إبانة كلِّ ما يضمره إبانة تامة.

  • ثم أن يكون محبًّا للتعليم والاستفادة، منقادًا له، سهل القبول، لا يؤلمه تعب التعليم، ولا يؤذيه الكدُّ الذي ينال منه.

  • ثم أن يكون غير شَرِهٍ على المأكول والمشروب والمنكوح، متجنبًا بالطبع للعب، مبغضًا للذات الكائنة عن هذه.

  • ثم أن يكون محبًّا للصدق وأهله، مبغضًا للكذب وأهله.

  • ثم أن يكون كبير النفس، محبًّا للكرامة: تكبر نفسه بالطبع عن كلِّ ما يشين من الأمور، وتسمو نفسه بالطبع إلى الأرفع منها.

  • ثم أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هيِّنة عنده.

  • ثم أن يكون بالطبع محبًّا للعدل وأهله، ومبغضًا للجور والظلم وأهلهما، يعطي النَّصَفَ من أهله ومن غيره ويحثُّ عليه، ويؤتي من حلَّ به الجور مؤاتيًا لكلِّ ما يراه حسنًا وجميلًا، ثم أن يكون عدلًا غير صعب القياد، ولا جموحًا ولا لجوجًا إذا دُعي إلى العدل، بل صعب القياد إذا دعي إلى الجور وإلى القبيح.

  • ثم أن يكون قويَّ العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل، جسورًا عليه، مقدامًا غير خائف، ولا ضعيف النفس.

خصال الرئيس الثاني

واجتماع هذه كلِّها في إنسان واحد عَسِر؛ فلذلك لا يوجد من فُطر على هذه الفطرة إلَّا الواحد بعد الواحد، والأقل من الناس، فإن وُجد مثل هذا في المدينة الفاضلة ثم حصلت فيه — بعد أن يكبر — تلك الشرائط الستُّ المذكورة قبل أو الخمس منها دون الأنداد من جهة المتخيلة كان هو الرئيس، وإن اتفق أن لا يوجد مثله في وقت من الأوقات، أُخذت الشرائع والسنن التي شرعها هذا الرئيس وأمثاله، إن كانوا توالوا في المدينة، فأثبتت. ويكون الرئيس الثاني الذي يخلف الأول من اجتمعت فيه من مولده وصباه تلك الشرائط، ويكون بعد كبره، فيه ست شرائط:
  • أحدها: أن يكون حكيمًا.
  • والثاني: أن يكون عالمًا حافظًا للشرائع والسنن والسِّيَر التي دبرها الأولون للمدينة، محتذيًا بأفعاله كلِّها حذوَ تلك بتمامها.
  • والثالث: أن يكون له جودة استنباط فيما لا يُحفظ عن السلف فيه شريعة، ويكون فيما يستنبطه من ذلك محتذيًا حذوَ الأئمة الأولين.
  • والرابع: أن يكون له جودة رويَّة وقوة استنباط لما سبيله أن يعرف في وقت من الأوقات الحاضرة من الأمور والحوادث التي تحدث مما ليس سبيلها أن يسير فيه الأوَّلون، ويكون متحريًا بما يستنبطه من ذلك صلاح حال المدينة.
  • والخامس: أن يكون له جودة إرشادٍ بالقول إلى شرائع الأولين، وإلى التي استنبط بعدهم مما احتذى فيه حذوهم.
  • والسادس: أن يكون له جودة ثبات ببدنه في مباشرة أعمال الحرب، وذلك أن يكون معه الصناعة الحربية الخادمة والرئيسة.

فإذا لم يوجد إنسان واحد اجتمعت فيه هذه الشرائط ولكن وجد اثنان، أحدهما حكيم، والثاني فيه الشرائط الباقية، كانا هما رئيسين في هذه المدينة، فإذا تفرَّقت هذه في جماعة، وكانت الحكمة في واحدٍ والثاني في واحدٍ والثالث في واحدٍ والرابع في واحدٍ والخامس في واحدٍ والسادس في واحد، وكانوا متلائمين، كانوا هم الرؤساء الأفاضل. فمتى اتفق في وقت ما أن لم تكن الحكمة جزء الرياسة وكانت فيها سائر الشرائط، بقيت المدينة الفاضلة بلا ملك، وكان الرئيس القائم بأمر هذه المدينة ليس بملك، وكانت المدينة تعرض للهلاك، فإن لم يتفق أن يوجد حكيم تضاف الحكمة إليه، لم تلبث المدينة بعد مدة أن تهلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤