الفصل السادس

أغراض أخرى في الشعر

التصوُّف والزهد

تحدَّثنا في الفصول السابقة عن بعض الأغراض التي قصد إليها الشعراء في مصر الفاطمية، ولكن هناك بعض أغراض أخرى، لا تقل خطرًا في تصوير الحياة في مصر في ذلك العصر، عن هذه الأغراض التي تحدَّثنا عنها من قبلُ، فقد ذكرنا شيئًا عن هذه الحياة الماجنة التي طغت على مصر حتى خُيِّلَ لنا أن مصر لم تعرف إلا هذا اللون من ألوان العيش، ولكن المصريين كان لهم لون آخَر بجانب هذه الحياة الماجنة اللاهية، وهذا اللون الآخَر هو التفكير في العالم الآخَر، وطبيعة مصر اضطرت المصريين منذ أقدم عصورهم التاريخية إلى أن يهتموا بأمور الآخرة اهتمامهم بأمور الدنيا، فإذا المصري منذ عرفه التاريخ مضطر إلى أن يعيش لونين من الحياة يناقض أحدهما الآخَر أشد التناقض، فهو يعبث في حياته ويمجن ويمزح ما شاء له العبث والمجون والمزاح، وهو في الوقت نفسه حريص على أن يفكِّر في آخِرته فيتحدث عنها ويتذكرها، ويظهر استمساكه بالدين وفرائضه وآدابه، وقد رأينا تصوير الشعراء لحياة المجون، أما الزهد والتقشف فقد أكثر من الحديث عنه شعراء مصر أيضًا، حتى إن شعراء المجون أنفسهم كانوا ينشدون الشعر في الحث على الزهد، والتمسك بأهداب الدين، وطلب سعادة الآخرة، وها هو ذا الأمير تميم الذي عُرِف بمجونه حتى حُرِم ولاية إمامة الدعوة يقول في الزهد:

أفنيت دهرك تتقي
فيه الحوادث والمصائب
ولو اتقيت معاصي الر
حمن فيما أنت راكب
لأمنت من نار الجحيـ
ـم وفي الحياة من المعايب
إن لم تراقب مَن له
حكم عليك، فمَن تراقب؟١

ويقول مرة أخرى:

يا عجبًا للناس كيف اغتدوا
في غفلة عمَّا وراء الممات
لو حاسَبوا أنفسهم لم يكن
لهم على أخذ المعاصي ثبات
مَن شك في الله فذاك الذي
أُصِيب في تمييزه بالشتات
يحييهم بعد البلى مثل ما
أخرجهم من عدم للحياة٢

فمثل هذه الأبيات لا تصدر من شاعر عُرِف عنه أنه من أشد الشعراء مجونًا وعبثًا، ولكن طبيعة مصر اضطرته إلى أن يتحدث عن الآخرة وعن الحياة بعد الموت.

وها هو ذا الشاعر ابن حيدرة العقيلي الذي ذكرنا أنه شاعر الخمر في العصر الفاطمي، وأحد شعراء المجون، ينشد في الزهد، ويدعو إلى التقى والورع:

قد لاح في فودك المشيب
ورث من عمرك القشيب
فكن لداعي التقى مجيبًا
من قبل تُدعَى فلا تجيب٣

ونرى القاضي المعروف بالأديب أبي النضر ينشد:

النفس أكرم موضعًا
من أن تُدنَّس بالذنوب
ما لذة الدنيا لها
ثمنًا وإن مُزِجت بطيب
فاسبق إلى إعداد زا
دك هجمة الأجل القريب
والقَ الإله على التقى
والخوف مزرور الجيوب٤

ويقول مرة أخرى يحث على الزهد وجهاد النفس:

جهاد النفس مفترض فخذها
بآداب القناعة والزهادة
فإن جنحت لذلك واستجابت
وخالفت الهوى فهو الإرادة
وإن جمحت بها الشهوات فاكبح
شكيمتها بمقمعة العبادة
عساك تحلها درج المعالي
وترفعها إلى رتب السعادة٥

وهكذا نرى العاطفة الدينية تسير جنبًا إلى جنب مع عاطفة حب المجون، والشعر المصري مملوء بالعاطفتين معًا.

وقد ذكرنا في كتاب «أدب مصر الإسلامية» أن مصر عرفت التصوف، ووجدت فرقة عُرِفت بالصوفية كان لها أثر في الحياة السياسية في العصر العباسي، وقد استمر تيار الصوفية في العصر الفاطمي، وكان الأئمة الفاطميون يرعون هذه الفرقة. ويحدثنا المقريزي: أن الآمر الفاطمي جدَّد قصر القرافة، وعمل تحته مصطبة للصوفية، وكان يجلس في الطاق بأعلى القصر، ويرقص أهل الطريقة من الصوفية، والمجامر بالألوية موضعة بين أيديهم، والشموع الكثيرة تزهر، وقد بسط تحتهم حصر من فوقها بسط، ومُدَّتْ لهم الأسمطة التي عليها كل نوع لذيذ ولون شهي من الأطعمة والحلوى، أصنافًا مصنفة. وكان بين الحاضرين الشيخ أبو عبد الله بن الجوهري الواعظ، ومزق مرقعته، وفرقت على العادة خرقًا، وسأل الشيخ أبو إسحق إبراهيم المعروف بالقارح المقري خرقة منها ووضعها على رأسه، فقال الخليفة الآمر بأحكام الله من طاق بالمنظرة: يا شيخ أبا إسحق. قال: لبيك يا مولانا. قال: أين خرقتي؟ فقال مجيبًا له في الحال: ها هي على رأسي يا أمير المؤمنين. فاستحسن الآمِر ذلك، فأمر في الساعة فأحضر من خزائن الكسوات ألف نصفية، ففُرِّقت على الحاضرين وعلى فقراء القرافة، ونثر عليهم متولي بيت المال من الطاق ألف دينار.٦

ووفد على مصر في هذا العصر سهل بن محمد بن الحسن الصوفي، حدث بالعراق ودمشق وصور، ثم توجَّهَ إلى مصر فظلَّ بها إلى أن توفي سنة ٤٤٤ﻫ، وكان أدبيًا شاعرًا على طريقة الصوفية، ولكن شعره فُقِد، ولم يَبْقَ منه سوى قوله:

إذا كنتَ في دار يهينك أهلها
ولم تكُ محبوبًا بها فتحول
وأيقن بأن الرزق يأتيك أينما
تكون ولو في قعر بيت مقفل٧
وشاهَدَ هذا العصر فرقة من فرق الصوفية عُرِفت «بفرقة الكيزانية»؛ نسبةً إلى شيخها أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن ثابت الأنصاري المعروف بابن الكيزاني الفقيه الشافعي الواعظ، ذكره العماد في خريدته ووصفه بقوله: «فقيه واعظ مذكِّر، حسن العبارة، مليح الإشارة، لكلامه رقة وطلاوة، ولنظمه عذوبة وحلاوة، مصري الدار، عالم بالأصول والفروع، عالم بالمعقول والمشروع، مشهود له بألسنة القبول، مشهور بالتحقيق في علم الأصول، وكان ذا رواية ودراية بعلم الحديث، ومعرفة بالقديم مكون الحديث، إلا أنه ابتدع مقالة ضلَّ بها اعتقاده، وزلَّ في مزلقها سداده، وادَّعَى أن أفعال العباد قديمة …» إلى أن قال: «أعاذنا الله من ضلة الحلم، وزلة العلم، وعلة الفهم. واعتقد أن التنزيه في التشبيه، عصم الله من ذلك كل أديب أريب ونبيل نبيه.»٨ وتوفي ابن الكيزاني صاحب هذه الفرقة سنة ٥٦٠ﻫ، ودُفِن عند قبر الإمام الشافعي، واستمرت تعاليم هذه الفرقة حتى عصر الأيوبيين، فقد ذكر العماد: «والطائفة الكيزانية بمصر على هذه البدعة إلى اليوم مقيمة.»٩ وظهور هذه الفرقة في مصر واشتهار أمرها على النحو الذي تحدَّثَ به العماد وابن سعيد في كتابه المغرب، يدلنا على مدى الضعف الذي طرأ على الدعوة الفاطمية في مصر، فإننا رأينا الفاطميين ينزِّهون الله — عز وجل — عن التشبيه أو التجسيم، وهذه العقيدة هي أساس عقيدة الفاطميين وفلسفتهم، ورأينا الدعاة يكفِّرون كلَّ مَن دان بالتشبيه أو التجسيم، ولكن جاءت فرقة الكيزانية تحت سمع الفاطميين وبصرهم وقالت بالتشبيه، والتفَّ عدد من المصريين حول شيخ هذه الدعوة دون أن يعبئوا بسلطان الفاطميين وعقائدهم التي انتشرت في مصر زهاء قرنين.
كان ابن الكيزاني شاعرًا من شعراء الصوفية بمصر، ولكنه كان ضعيف الشعر، حتى قال عنه ابن سعيد: ووقفت على ديوانه، وهو مشهور عند الناس، قريب من أفهام العامة، غير مرضي عنه عند صدور الشعراء وأصحاب غوص الكلام وفرسان النظام، وقد ضجرت من اختياره ومطالعته، ولم أكتب من ديوانه شيئًا تهش النفس إليه، وإنما أردت ترجمته لشهرة ذكره وديوانه، وكثيرًا ما يباع في سوق الفسطاط وسوق القاهرة؛ وكان مَن لا يعرف معاني الشعراء المستحسنة وألفاظه المستبدعة يحضني على الوقوف عليه، فلما وقفت عليه أنشدني متمثلًا: أنا المعيدي فاسمع بي ولا ترني.١٠ ولعل ابن سعيد كان على حق في أن يصف شعر ابن الكيزاني على هذا النحو، بالرغم مما ذهب إليه العماد الأصفهاني من الإعجاب بشعر ابن الكيزاني، فإن المقطوعات التي رُوِيت في الخريدة من شعر ابن الكيزاني تدل على أن الشاعر لم يكن من المتفوقين في الشعر، إذا قسناه بشعراء الصوفية الذين ظهروا بمصر في العصور التي تلت العصر الفاطمي، مثل ابن الفارض وغيره، أو الشعراء الآخرين الذين عاصروه، وربما كان سبب ضعف شعر ابن الكيزاني أنه كان واعظًا يخاطب الشعب والدهماء، فكان يضطر إلى اصطناع اللغة التي يفهمها الشعب، وتقرب إلى نفوسهم. فأثَّرَ ذلك في أسلوبه ولغته، فإذا بهما يقربان من الأسلوب الشعبي ولغة الشعب، وقد يكون هذا السبب هو الباعث الذي من أجله أقبل العامة في مصر على قراءة ديوان ابن الكيزاني.

وهو في بعض شعره واعظ أكثر منه متصوفًا؛ انظر إليه يقول:

إذا سمعت كثير المدح عن رجل
فانظر بأي لسان ظل ممدوحًا
فإن رأى ذاك أهل الفضل فارض لهم
ما قيل فيه، وخذ بالقول تصحيحًا
أوْلا، فما مدح أهل الجهل رافعه
وربما كان ذاك المدح مجروحًا١١

وهو في بعض شعره متصوف يتحدَّث عن العشق، ويجري في هذا الشعر مجرى شعراء الصوفية الذين نهجوا نهج رابعة العدوية في الحب الإلهي، فابن الكيزاني كان أحد هؤلاء المحبين العاشقين، وله في ذلك عدة مقطوعات، منها قوله:

سواء أن تلومَا أو تريحَا
رأيت القلب لا يهوى نصيحَا
أما لو ذقتمَا صرف الليالي
إذن لعذرتمَا القلب القريحَا
وكانت فرقة الأحباب ظنًّا
فأصبح بينهم خبرًا صريحَا
ولو لم ينزلوا سلمات نجد
لما استنشقت بالسلمات ريحَا
ولا أهديت للأسماع يومًا
غناء من حمائمها فصيحَا
وهأنا قد سمحت بدمع عيني
وكنت بدمعها أبدًا شحيحَا
وأمكنت المحبة من قيادي
وصنت مع النأي ودًّا صحيحَا
وقد سكن الجوى قلبًا صحيحًا
وقد ترك الهوى صدرًا قبيحَا١٢

وقوله أيضًا:

أسكان هذا الحي من آل مالك
مسالمة ما بيننا وجميل
ألم تعدونا أن تزوروا تكرمًا
فما بال ميعاد الوصال طويل
وحلتم عن الوعد الجميل ملالة
وأنتم على نقض العهود نزول
وإنَّا لنستبقي المودة والهوى
شهيد لنا إذ ليس عنه نزول
ولا تحسبوا العتبى عليكم توجعًا
فيطمع واشٍ أو يلح عذول
رضينا، رضينا أن نبيع نفوسنا
وما عاشق منا بذاك بخيل
كذاك الهوى، هذا حبيب معزز
وهذا محب في هواه ذليل
ووجد وشوق وارتياع ولوعة
وهجر وسقم دائم ونحول
دواعي الهوى محتومة فاصطبر لها
وإن جار بين أو جفاك خليل
علمنا بوشك البين أول حاله
وما حضرتنا للوداع عقول
إذا ما طمعنا أن تقر ديارهم
تداركهم بعد الرحيل رحيل١٣

قلنا: إن الفرقة الكيزانية استمرت مدة طويلة بعد العصر الفاطمي، وكان لها أثر قوي في الصوفية الذين ظهروا بعد انقراض الدولة الفاطمية، وكذلك كان الناس يتداولون شعر ابن الكيزاني، فكان له تأثير قوي في شعراء الصوفية الذين كانوا في عصر الأيوبيين، ففي شعر ابن الفارض مثلًا بعض المعاني التي في شعر ابن الكيزاني، ولكن شتان بين شاعرية ابن الفارض وشاعرية ابن الكيزاني؛ وسأترك المقارنة بين هذين الشاعرين الصوفيين إلى البحث الذي سيكون في كتابنا القادم «أدب مصر في عهد الأيوبيين والمماليك».

الوصف

وهناك غرض آخَر من أغراض الشعر في العصر الفاطمي، هو عندي أقرب أغراض الشعر إلى التصوف، ذلك هو وصف الطبيعة، فكلا الغرضين ضرب من ضروب التأمُّل فيما خلقه الله، فكثيرًا ما يؤدي بشعراء الوصف إلى التصوف، ولكن شعراء مصر لم يسيروا في هذا المجرى، بل اتخذوا وصف الطبيعة وسيلة إلى وصف قصفهم؛ فقد رأينا شعراء مصر الفاطمية من تلاميذ مدرسة ابن وكيع التنيسي ينشدون شعرًا في الخمر والمجون والطبيعة معًا، وكيف كانوا يؤثرون الشراب في الرياض والمتنزهات، ويمزجون وصف الخمر بوصف الرياض والمتنزهات، أو بوصف السماء وما فيها من نجوم وغيوم وسحب، وتحدثنا عن خروج الشعراء إلى المتنزهات المختلفة التي كثرت في هذا العصر، ينعمون بطيب هوائها، ويمتعون أبصارهم بتنسيقها وجمال أزهارها المتنوعة التي عجب الرحالة ناصري خسرو من وجود عدد كبير منها في وقت واحد، فهو يقول: «رأيت في يوم واحد هذه الفواكه والرياحين: الورد الأحمر، والنيلوفر، والنرجس، والترنج، والنارنج، والليمون، والمركب، والتفاح، والياسمين، والريحان الملكي، والسفرجل، والرمان، والكمثرى، والبطيخ، والعطر، والموز، والزيتون، والبليج (الإهليلج)، والرطب، والعنب، وقصب السكر …» إلى أن قال: «وكل مَن يفكر كيف تجتمع هذه الأشياء التي بعضها خريفي، وبعضها ربيعي، وبعضها صيفي، وبعضها شتوي لا يصدق هذا.»١٤ ويقول عن بساتين القاهرة: وفي المدينة بساتين وأشجار بين القصور تسقى من ماء الآبار، وفي قصر السلطان بساتين لا نظير لها، وقد نصبت السواقي لرَيِّها، وغرست الأشجار فوق الأسطح فصارت متنزهات.»١٥ وطبيعة مصر اضطرت المصريين منذ أقدم العصور إلى التفكير والتأمل، والأمثال العامية التي يصطنعها الشعب المصري الآن، والتي نُقِلت إلينا معرَّبة عن قدماء المصريين، تدل دلالة قاطعة على رقة شعور المصريين ودقة إحساسهم، وهم يتأملون طبيعة مصر، ويتحدثون عنها، وآثار قدماء المصريين مُلِئت بالحديث عن السماء والأرض واختلاف الجو وغير ذلك من آيات تفكيرهم في الطبيعة، على أن الشعراء المصريين في العصر الفاطمي لم يصفوا الطبيعة على أنها لون من ألوان الفلسفة الطبيعية، ولم يتحدثوا عنها حديثًا يؤدي بهم إلى معرفة الخالق، بل تركوا ذلك كله لعلماء المذهب الفاطمي وإلى الفلاسفة، واتخذوا لأنفسهم مذهبًا فنيًّا خالصًا مصدره جمال الطبيعة، فإذا بهم يسبغون على المناظر التي وصفوها ألوان الحياة التي يألفونها من ملبس ومأكل ومسكن، ويحاولون أن ينتزعوا من الطبيعة صورًا هي أقرب إلى صور الحياة التي اعتادوها، وألوان الزينة التي كان يتزيَّن بها المصريون في العصر الفاطمي، وها هو ذا ابن حيدرة العقيلي يصور منظرًا رآه في إحدى المتنزهات:
الغيم بين مزرر ومحلل
والقطر بين مسرح ومسلسل
والقضب بين مقرط ومطوق
ومدملج ومتوج ومكلل
والنبت بين مزعفر وممسك
ومخلوق ومعنبر ومصندل
ومدبج ومطرز ومصنف
ومعرض ومرصع ومثقل
فاشرب على حلل لو أمكن لبسها
كانت تكون من الطراز الأول١٦

ويقول مرة أخرى:

أمهات الثمار بين الروابي
تائهات بلبس خضر الثياب
وبنات الكروم تجلى بما قد
صاغه الماء من عقود الحباب
فاله ما دام للشقيق خلوق
تنشر السحب فيه مسك ضباب١٧

ويقول في وصف الرياض وقد شبَّهَها بفرش المجالس:

عرائس القضب تجلي
على كراسي الروابي
ومجلس الروض فيه
فرش من العتابي

فابن حيدرة العقيلي، وهو من أشهر شعراء مصر الفاطمية الذين أولعوا بوصف الطبيعة، كان يتخذ صوره في الوصف مما كان يدور حوله في الحياة اليومية، وهذه الظاهرة ليست في شعر ابن حيدرة فحسب، بل نراها عند كثير من شعراء مصر الفاطمية، فالشاعر تميم بن المعز، وهو أحد شعراء الطبيعة، وصف بركة الحبش وخليج بني وائل فقال:

كأن البركة الغنا إذا ما
غدت بالماء مفعمة تموج
وقد لاح الضحى، مرآة قين
قد انصقلت، ومقبضها الخليج
ترى قمر الدجى، قمرًا حذاه
طلوعًا ما له فيها بروج١٨

ووصف روضةً على شاطيء النيل فقال:

ويوم خدعت الدهر عنه فلم أزل
أعلل نفسي فيه بالمراح مع صحبي
لدى روضة عالت رباها كرومها
وجاد عليها النيل من مائه العذب
كأن سحيق المسك خالط أرضها
فجالت به فيها الرياح مع الترب
كأن نبات النيل والريح تهمي
بهن طلى خيل مؤثلة شهب
وطورًا تخال الماء في رونق الضحى
متون سيوف لجن مصقولة القضب
وتحسبه إن محصته يد الصبا
قوارير ما يفترن من قلق اللعب١٩

وقال ابن عباد أحد شعراء الخريدة:

كأنما الأرض من زبرجدة
بدت إليك على غب من السحب
والأقحوانة هيفا وهي ضاحكة
عن واضح غير ذي ظلم ولا شنب
كأنما شمسه من فضة حرست
خوف الوقوع بمسمار من الذهب

وقال مجير بن محمد الصقلي في يوم مطير:

أرأيت برقًا بالأبارق قد بَدَا
في أفقه متبسمًا متوقدَا
كيف اكتسى ثوب السحاب ممسكًا
وإخاله شنف الرداء موردَا
فكأنه في الجو كأس كلما
فاتت نمير البرق صاح وعربدَا
أو مرهف كشفت مداوس صيقل
عن متنه صدأ لكي يروي الصدَا
فاعجب إلى ودق اللجين يسيل من
أفق أحالته البوارق عسجدَا
ولؤلؤ للغيث يأخذه الثرى
فيعيده نبتًا يخال زبرجدَا٢٠

وقال ظافر الحداد في يوم برد:

ويوم برد عقوده برد
لها سلوك من هيدب المطر
ينثره الجو ثم ينظم منه الأرض
بالزهر كل منتشر
فهو يحاكي الحبيب في اللون واللطف
وعذب الرضاب والخصر
فالغيم يبكي والزهر يضحك والبروق
تبدي ابتسام ذي خفر٢١

ويقول ظافر أيضًا في متنزهات خليج الإسكندرية:

وعشية أهدت لعينك منظرًا
جاء السرور به لقلبك وافدَا
روض كمخضر العذار وجدول
نقشت عليه يد الشمال مباردَا
والنخل كالغيد الحسان تزينت
ولبسن من أثمارهن قلائدَا٢٢

وللشعراء المصريين جولات في وصف النجوم، وفي الحديث عن النهار والليل واختلاف الجو باختلاف فصول السنة، فمن ذلك منظومة ابن وكيع التنيسي التي أوردها الثعالبي في اليتيمة، والتي تحدَّثَ فيها الشاعر عن إحساسه وشعوره نحو فصول السنة، وتقلبات الجو باختلاف هذه الأوقات، ويقول في مطلعها:

يا سائلي عن أطيب الدهور
وقعت في ذاك على الخبير
سألتني أي الزمان أحلى
وأيه بالقصف عندي أولى
عندي في وصف الفصول الأربعة
مقالة تغني اللبيب مقنعة
أما المصيف فاستمع ما فيه
من فطن يفهم سامعيه
فصل من الدهر إذا قيل حضر
أذكرنا بحره نار سقر
تبصر فيه النبت مقشعرًا
والأرض تشكو حره المضرَا
نهاره مقسم بين قسم
جميعها يعاب عندي ويذم
أوله فيه ندى مبغض
كأنه على القلوب يقبض
يلصق منه الجسم بالثياب
وتعلق الأذيال بالتراب

ويقول في الخريف:

حتى إذا زال أتى الخريف
فصل بكل سوءة معروف
أهوية تسرع في كل الجسد
وهو كطبع الموت يبسًا وبرد
يخشى على الأجسام من آفاته
فأرضه قرعاء من نباته

ومنها في الشتاء:

حتى إذا ما أقبل الشتاء
جاءتك منه غمة غماء
أقبل منه أسد مزير
له وعيد وله تحذير
لو أنه روح لكان فدمًا
أو أنه شخص لكان جهمًا
يأتيك في إبَّانه رياح
ليس على لاعنها جناح

أما عن الربيع فقال:

جاء إلينا زمن الربيع
فجاء فصل حسن الجميع
لبرده وحره مقدار
لم يكتنف حدهما الإكثار
عدل في أوزانه حتى اعتدل
وحمد التفصيل منه والجمل
نهاره من أحسن النهار
في غاية الإشراق والإسفار
تضحك فيه الشمس من غير عجب
كأنها في الأفق جام من ذهب
لبدره فضل على البدور
في حسن إشراق وفرط نور
كجامة البلور في صفائها
أو غرة الحسناء في نقابها٢٣

وهكذا يمضي ابن وكيع في وصف فصول السنة.

ومن قول شعراء مصر في النجوم ما أنشده ظافر الحداد:

كأن نجوم الليل لما تبلجت
توقد جمر في خلال رماد
حكى فوق ممتد المجرة شكلها
فواقع تطفو فوق لجة وادي٢٤

وقال محمد بن عاصم:

ترى صفحة الخضراء والنجم فوقها
ككف سدوسي بدا فيه درهم
ترى وعلى الآفاق أثواب ظلمة
وأزرارها منها شمال ومرزم٢٥

وقال المهذب بن الزبير:

وترى المجرة والنجوم كأنها
تسقي الرياض بجدول ملآن
لو لم يكن نهرًا لما عامت به
أبدًا نجوم الحوت والسرطان٢٦

وقال ابن وكيع التنيسي:

قم فاسقني صافية
تهتك جنح الغسق
أما ترى الصبح بدا
في ثوب ليل خلق
أما ترى جوزاءه
كأنها في الأفق
منطقة من ذهب
فوق قباء أزرق٢٧

وقال تميم بن المعز في الصباح:

وكأن الصباح في الأفق باز
والدجى بين مخلبيه غراب٢٨

وقال ابن وكيع التنيسي في التبشير بالصباح:

غرد الطير فنبه من نعس
وأدر كأسك فالعيش خلس
سل سيف الفجر من غمد الدجى
وتعرى الصبح من ثوب الغلس
وانجلى في حلة فضية
ما بها من ظلمة الليل دنس٢٩

أما نيل مصر فكان له شأن مع شعراء مصر الفاطمية، فإنهم كانوا يُكثِرون من ذكره في شعرهم، ويفيضون عليه صورهم كلما فاض عليهم بمائه، وها هو ذا الأمير تميم يقول:

يوم لنا بالنيل مختصر
ولكل يوم مسرة قصر
والسفن تجري كالخيول بنا
صعدًا وجيش الماء منحدر
وكأنما أمواجه عكن
وكأنما داراته سرر

ويقول مرة أخرى:

أما ترى الرعد بكى واشتكى
والبرق قد أومض واستضحكَا
فاشرب على غيم بصنع الدجى
يضحك وجه الأرض لما بكَى
وانظر لماء النيل في مده
كأنما صندل أو مسكَا٣٠

ويقول تميم عند زيادة النيل:

انظر إلى النيل قد عبَّا عساكره
من المياه فجاءت وهي تستبق
كأن خلجانه والماء يأخذها
مدائن فتحت فاختارها الغرق
كأن تياره ملك رأى ظفرًا
فكر إثر الأعادي محنق نزق
كأن ماء سواقيه لناظرها
شهب الخيول إذا ما حثها العنق
فاشرب مهنى فإن اللهو منبسط
واطرب ولذ، فهذا منظر أنق

ويقول ابن قلاقس:

انظر إلى الشمس فوق النيل غاربة
وانظر لما بعدها من حمرة الشفق
غابت وألقت شعاعًا منه يخلفها
كأنما احترقت بالماء في الغرق
وللهلال فهل وافَى لينقذها
في إثرها زورق قد صيغ من ورق٣١

ولم ينسَ الشعراء أهرام مصر، فالشاعر عبد الوهاب بن حسن بن جعفر الحاجب المتوفي سنة ٣٨٧، قال في وصف الأهرام:

انظر إلى الهرمين إذ برزَا
للعين في علو وفي صعد
وكأنما الأرض العريضة قد
ظمئت لطول حرارة الكبد
حسرت عن الثديين بارزة
تدعو الإله لفرقة الولد
فأجابها بالنيل يشبعها
ريًّا وينقذها من الكمد
لكرامة المولى المقيم بها
خير الأنام مقوم الأود٣٢

ويقول ظافر الحداد:

تأمل بنية الهرمين وانظر
وبينهما أبو الهول العجيب
كعمارتين على رحيل
لمحبوبين بينهما رقيب
وماء النيل تحتهما دموع
وصوت الريح عندهما نحيب٣٣

وقول عمارة اليمني:

خليلي ما تحت السماء بنية
تماثل في إتقانها هرمي مصر
بناء يخاف الدهر منه، وكل ما
على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر
تنزه طرفي في بديع بنائها
ولم يتنزه في المراد بها فكري٣٤

أما منشئات الفاطميين ومبانيهم، فقد ذكرها الشعراء في أشعارهم، ومنها هذه القصيدة التي أنشدها عمارة اليمني بعد أن دالت دولتهم، والتي تحدثنا عنها من قبلُ، وقد ضاعت أكثر هذه الأشعار، ولم يبقَ إلا عدة مقطوعات قليلة في وصف مباني المصريين.

قول علي بن يوسف الإيادي يذكر دارًا بناها المعز العبيدي بمصر، وسماها العروسين:

بنى منظرًا يسمى «العروسين» رفعة
كأن الثريا عرست في قبابه
إذا الليل أخفاه بحلكة لونه
بَدَا ضوءه كالبدر تحت سحابه
تمكن من سعد السعود محله
فأضحى ومفتاح الغنى فتح بابه
ولو شاده عزم المعز ورأيه
على قدره في ملكه ونصابه
لكان حصى الياقوت والتبر مفرغًا
على المسك من آجره وترابه٣٥

وقال أمية في وصف قصر بناه الأمير علي بن الأمير تميم بن المعز:

لله مجلسك المنيف فبابه
بموطد فوق السماك مؤسس
موف على حبك المحبة تلتقي
فيه الجواري بالجوار الكنس
تتقابل الأنوار في جنباته
فالليل فيه كالنهار المشمس
عطفت حناياه دوين سمائه
عطف الأهلة والحواجب والقسي
واستشرفت عمد الرخام وظوهرت
بأجل من زهر الربيع وأنفس
فهواؤه من كل قدٍّ أهيف
وقراره من كل خد أملس
فلك تحيَّر فيه كل منجم
وأقَرَّ بالتقصير كل مهندس
فبدا للحظ العين أحسن منظر
وغدا لطيب العيش خير معرس
فاطلع به قمرًا إذا ما أطلعت
شمس الخدود عليك شمس الأكؤس
فالناس أجمع دون قدرك رتبة
والأرض أجمع دون هذا المجلس٣٦

ووصف الشاعر علي بن محمد النيلي باب زويلة فقال:

يا صاح لو أبصرت باب زويلة
لعلمت قدر محله بنيانَا
باب تأزر بالمجرة وارتدى الشـ
ـعرى ولاث برأسه كيوانَا
لو أن فرعونًا رآه لم يرد
صرحًا ولا أوصى به هامانَا٣٧

على أننا نلاحظ ما بهذه المقطوعات من غلو ومبالغة في تفخيم المباني والمنشآت.

وهكذا نستطيع أن نتبع هذه العصور المختلفة التي صور بها شعراء مصر الفاطمية ما رأوه في الطبيعة وفي المتنزهات، وهي صور من الحياة المصرية التي كانت تلائم ما في العصر الفاطمي من ترف ونعيم، بل ذكر الشعراء الزينات المختلفة التي كان الفاطميون يتخذونها في دورهم ومتنزهاتهم، ويغالون في إظهارها إمعانًا في الترف والبذخ، وها هو ذا ابن قلاقس يصف نخلة عليها زينة من أنوار السرج، كالذي يتخذه المترفون اليوم في أيام الحفلات الخاصة:

ما عهدنا النخل لولا هذه
باسقات بثمار اللهب
هطل الغيث لها من فضة
فهي في قنوانها من ذهب
تلعب السرج على حافاتها
وتحاكي أنمل المرتعب
ولقد أحسبها ألسنة
هزها للسكر خمر الطرب٣٨

ونرى المصريين يصفون في شعرهم كل ما وقع تحت أنظارهم، فوصفوا الشمعة مثلًا، كما في قول المهذب بن الزبير:

ومصفرة لا عن هوى غير أنها
تحوز صفات المستهام المعذب
شجونًا وسقمًا واصطبارًا وأدمعًا
وخفقًا وتسهيدًا وفرط تلهُّب
إذا جمشتها الريح كانت كمعصم
يرد سلامًا بالبنان المخضب٣٩

ويقول آخَر في الشمعة أيضًا:

وصحيفة بيضاء تطلع في الدجا
صبحًا وتشفي الناظرين بدائها
شابت ذؤابتها أوان شبابها
واسودَّ مفرقها أوان فنائها
كالعين في طبقاتها ودموعها
وسوادها وبياضها وضيائها٤٠

ووصف الشاعر أمير الدولة أبو محمد عبد الله بن خليل — أمير شعراء المستنصر — القلم والرمح بقوله:

يراعان هذا يملأ الطرس حكمة
وذاك يذيق الحتف ليثًا غضنفرَا
وإن ظمئَا ظنناهما يردَّا على
نفوس العدَا من غير إذن ويصدرَا
فيشرب هذا أسود الليل حالكًا
ويشرب هذا قاني الدم أحمرَا٤١

ويصف طلائع الآمري الخيل بقوله:

جنائب إن قيدت فأسد وإن عدت
بأبطالها فهي الصبا والجنائب
أثارت بأكناف المصلَّى عجاجة
دجت وبدت للبيض منها الكواكب٤٢

ويقول ابن الضيف في عدد الفرس:

كم سابح أعددته فوجدته
عند الكريهة وهو نسر طائر
لم يرم قط بطرفه في غاية
إلا وسابقه إليها الحافر٤٣

ويطول بي الأمر لو ذكرت ما وصفه شعراء مصر الفاطمية، فهم لم يتركوا شيئًا دون أن يتحدثوا عنه في أشعارهم، ولعل ذلك يرجع إلى ما كانوا عليه من رقة الشعور، ودقة الحس، ومقدرة على القريض.

١  ديوان الأمير تميم.
٢  ديوان الأمير تميم.
٣  المغرب: ص٥٥.
٤  الخريدة: ورقة ١٢٦.
٥  الخريدة: ورقة ١٢٧.
٦  خطط المقريزي: ج٢، ص٣٧٩.
٧  النجوم الزاهرة: ج٥، ص٥٣.
٨  الخريدة: ورقة ٨٩ وما بعدها.
٩  المصدر نفسه.
١٠  المغرب: ص٩٣ وما بعدها.
١١  الخريدة: ورقة ٩٠.
١٢  الخريدة.
١٣  الخريدة: ورقة ٩٣.
١٤  سفر نامه: ص٦٠ (ترجمة يحيى الخشاب).
١٥  المصدر نفسه: ص٥٠.
١٦  المغرب: ص٧٤.
١٧  المغرب: ص٥٦.
١٨  ديوان الأمير تميم.
١٩  المصدر نفسه.
٢٠  الخريدة: ورقة ٢٢.
٢١  الخريدة: ورقة ٨٥.
٢٢  صبح الأعشى: ج٣، ص٣٠٥.
٢٣  يتيمة الدهر: ج١، ص٢٨٥.
٢٤  نهاية الأرب: ج١، ص٣٣.
٢٥  المصدر نفسه: ص٣٤.
٢٦  نهاية الأرب: ج١، ص٣٦.
٢٧  نهاية الأرب.
٢٨  ج١، ص٤٤١.
٢٩  المصدر نفسه.
٣٠  خطط المقريزي: ج١، ص١٠١.
٣١  ديوان ابن قلاقس: ص٧٥.
٣٢  خطط المقريزي: ج١، ص١٩٥.
٣٣  الخريدة: ورقة ٨٥.
٣٤  خطط المقريزي: ج١، ص١٩٥.
٣٥  نهاية الأرب: ج١، ص٤٠٧.
٣٦  نهاية الأرب: ج١، ص٤١١.
٣٧  صبح الأعشى: ج٣، ص٣٠٥.
٣٨  ديوان ابن قلاقس: ص١٨.
٣٩  الخريدة: ورقة ٤٩.
٤٠  المصدر نفسه: ١٣٩.
٤١  الخريدة: ورقة ٢٠.
٤٢  المصدر نفسه: ٣٥.
٤٣  المصدر نفسه: ورقة ٣٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤