نظرات في فلسفة المعري (٢)

زَهِدَ المعري في الدنيا واعتزل الناس؛ لأنه — كما أسلفنا — لم يكن له في الدنيا حظ ولا بمعاشرة الناس طاقة، والعزلة مضادة لطبع الإنسان، بل لطبع كل حيوان أليف؛ لأن الحيوانات الاجتماعية تحن بالرغم منها إلى رفاقها ولا تطيق الابتعاد عنها. حتى لقد تؤثر الوحدة في بنيتها، كما تؤثر فيها قلة العلف ومواصلة الإجهاد. ولقد روى شارل مرسييه صاحب كتاب العقل والجنون وروايته مشاهدة محققة «أن الجلابين العارفين بعادات الماشية والأنعام يذكرون أن البقرة المعزولة لا تدر اللبن ولا تسمن، ولا تصلح لشيء مما تصلح له البقرة وسط الصوار»، فالاجتماع ضرورة جسمية في الحيوان الأليف قبل أن يكون حاجة نفسية أو ميلًا قلبيًّا.

ولن يلجأ إلى العزلة رجل متسق البنية متوازن القوى؛ لأن اتساق البنية يبتغي من صاحبه استكمال ضروراته التي من أولها — كما قدمنا — الاجتماع والتآلف. وإنما يرغب في العزلة الشاذون عن استواء الخلق إما ليتنسكوا ويتبتلوا، أو ليقطعوا الطريق ويخرجوا على نظام الاجتماع شاهري الحرب عليه وعلى أوضاعه. ويغلب في أهل النسك والتبتل أن يكونوا من ذوي المزاج السوداوي الذين ينقبضون عن عشرة الناس وينقبض الناس عن عشرتهم؛ لتباينهم عنهم في المشارب والأطوار، ولأن أهل النظر وأهل العمل قلما يتفقون في الآراء والأفكار. ولا شك عندنا في كون المعري من أصحاب المزاج السوداوي؛ لأن السوداء معروفة بأعراضها وهي الوجوم، والحزن الملح المجهول السبب، والإكثار من ذكر الموت، وسوء الظن بالناس وبالنفس أحيانًا في أزمان النوبة التي تحرج الصدر وتغيم على العقل. أما الأعراض الأولى فقد طفح بها شعر المعري ونثره، فلا نستطيع أن نستشهد لها ببيت من دواوينه دون بيت. وأما سوء الظن بالنفس، فقد جهر به المعري مرارًا فقال:

إن مازت الناس أخلاق يعاش بها
فإنهم عند سوء الطبع أسواء
أو كان كل بني حواء يُشبهني
فبئس ما ولدت في الخلق حواء

وقال:

رويدك لا تغترر يا أخي
بي فأنا الرجل الساقط
ولو كنت ملقى بظهر الطريق
لم يلتقط مثلي اللاقط

وقال:

كلاب تعاوت أو تغاوت لجيفة
وأحسبني أصبحت ألأمها كلبا

وقد يبلغ به اتهام نفسه أحيانًا أن ينكر عليها العلم والعقل، ويرى أنه امرؤ لا نفع فيه لأحد إذ يقول:

ماذا تريدون لا مال تيسر لي
فيستماح ولا علم فيقتبس
أنا الشقي بأني لا أطيق لكم
معونة وصروف الدهر تحتبس

ولو كان ما يعلمه المعري من الفقه والفلسفة والأدب واللغة والسير في صدر رجل آخر مبرأ من نوب السوداء لملأ الأرض بعلمه غرورًا وتطاولًا؛ لأن غاية العلم عنده أن يسأله الناس فيجيبهم وهم لا يسألون عن شيء لا جواب له عنده. ولكن المعري القائل:

إذا كان علم الناس ليس بنافع
ولا دافع فالخسر للعلماء
قضى الله فينا بالذي هو كائن
فتمَّ وضاعت حكمة الحكماء

يرى للعلم أحيانًا وظيفة أجلَّ من الإجابة عن الأسئلة، ويرى أن أقصى العلم ينتهي بصاحبه إلى باب المجهول الأبدي الذي يرد كل طارق، ولا يطرقه إلا كل حائر ضللته ألغاز الحياة وبهرته مصاعبها فترك الناس يحيون، وذهب يبحث عن مغزى الحياة وأسبابها وغاياتها، فما استطاع أن يجيب نفسه، وعلم أنه بالسكوت عن إجابة غيره أولى، وقد يمكننا أن نتصور حالة التلاميذ الذين كانوا يسمعون من المعري هذا الإقرار بالجهل، وهم لا يتمنون من العلم إلا أن يبلغوا فيه مبلغه. فلا بد أنهم كانوا يرمونه بالبخل بالعلم ولا يصدقونه حتى كان يضيق بهم صدرًا فيقول:

أتسألون جهولًا أن يفيدكم
وتحلبون سفيًا ضرعها يبس
ما يُعجب الناس إلا قول مختدع
كأن قومًا إذا ما شرفوا أبسوا

ولعمري إن كلمة البخل بالعلم التي شاعت في العصور العربية المتوسطة لتدل على جهل الناس يومئذ بالعلم الحقيقي ولباب المعرفة؛ لأن العلم الصميم هو الذخيرة الفذة التي لا قبل لحاملها بالبخل بها، كما أنها تدل على نوع العلم الذي كانوا يطلبونه في ذلك الزمن وعلى غرضهم منه. وأحسبهم لم يستنبطوا هذه الكلمة إلا بعد أن أصبح العلم تجارة يحملها العلماء إلى الأمراء متوخين فيها مآربهم ومداركهم، وأصبح للبخل بالعلم معنى بخل الصانع الحاذق بسر صنعته. ولعل هذا أيضًا مما حبب العزلة إلى المعري وأضجره من قاصديه الذين كانوا يفدون إليه من أقاصي البلاد، وأولعه بذم العلماء والتشهير بالمشعوذين والسفسطائية والمجربزين من المنجمين الذين يشغلون فراغ العلم إذا خلا منه مكانه.

بيد أن السوداء لا تهدي إلى العزلة دائمًا، وقد تهدي إلى نقيضها فيكون السوداوي خليعًا ماجنًا مستهترًا بالشهوات، مغلوبًا على عقله بهواه، ولكنه على كل حال شبيه المعتزل في الشذوذ عن الخلقة العامة المعتدلة، وكثيرًا ما تتقارب العلل وتتباعد المظاهر في تقدير الناس. فأين التصوف والجذب مثلًا من التهافت على المرأة والجنون بغرامها؟ ولكنهما في نظر الطب متشابهان في مصدرهما إن لم نقل: إن مصدرهما واحد عند بعض الأطباء. ومما يقوله مرسييه المتقدم ذكره بعد شرح طويل: «إن إنكار الذات أساس يلتقي عنده الهوى الديني بالهوى الجنسي، ولا يزال كل منهما يشبه الآخر حتى بعد تكوينه ونضجه، فهما متماثلان في طبيعتهما الشاملة المتشعبة، وهما يتماثلان قبل هذا التكون والنضج في غموض الأوصاف والخصال. ولاتفاقهما في الأصل وتقاربهما في الطبيعة يسهل أن يتحول أحدهما من مجراه إلى مجرى الآخر. ومن ثم نرى أن إنكار الذات والمفاداة بالنفس اللذين يحتملهما العاشق عن طيب خاطر مرضاة لمعشوقه ظاهران في عاشق الكنيسة بمثل تلك الغيرة أو بأشد منها، وإن كان ظهورهما من شكل آخر، فكأن الكنيسة حلت محل المعشوق في هذه الحالة. وكذلك متى استعصى على العاطفة أن تنحصر في فرد واحد اتسع نطاقها فأعربت عن نفسها في أعمال البر وخدمة البشر. ولكن لا بد من دخول عنصر المفاداة بالنفس في هذه الأعمال، أو تظل العاطفة متطلعة غير مقتنعة، ويظل الإعراب عنها ناقصًا. وهذا هو السر فيما نشاهده من أن أعمال البر القائمة على الهوى الديني والتي تشتق مصدرها البعيد من الهوى الجنسي، لا تزال تبدو بأساليب شتى كلها ينطوي على المفاداة بالنفس والإيثار عليها.»

وهذا قول بمنزلة البدائه عند أكثر الأطباء المشتغلين بطبائع العقل، فلا نخال سواد القراء يستبعدونه؛ لأن الوقائع التي تؤيده كثيرة، ويندر ألا يرى أحدهم أناسًا من الغالين في الدين انقلبوا إلى الغلو في اللهو، أو أناسًا من الغالين في اللهو انقلبوا إلى الغلو في الدين. يرون ذلك فيهم ولا يرونه في المعتدلين القاسطين إلا في الفرط القليل. وهم يعجبون لذلك ولكنهم يقولون: غلبت عليه الشقوة أو تاب عليه الله، وبعدُ فليس أشهر من رمز المتصوفة والزهاد إلى الجمال وكلفهم به إعجابًا بصنع الله، ومزجهم بذلك بين حب الله وحب الجمال الإنساني. ومن الناس من تتعاوره الحالتان؛ للغي آونة، وللتقوى آونة أخرى، كأبي نواس الذي نظم في الوعظ ما يزجر المارد، ونظم في الغواية ما يفسد العابد. وما كان في إحدى حالتيه مرائيًا يعبر عما لا يشعر به، ولكنه كان متقلبًا لا يندم حتى يأثم، ولا يأثم حتى يندم. وكأبي العتاهية الذي قضى شطر عمره الأول منغمسًا في لذاته وصبواته، ثم قضى شطرًا من أيامه مبالغًا في التنطس والتقشف، ثم حضرته الوفاة فكانت آخر حاجة له في الحياة أن يسمع غناء مخارق. ولقد كان أحرص الناس على عرض الدنيا، وهو أكثرهم بباطلها عرفانًا وأشدهم للموت ادكارًا.

وينبغي لنا هنا أن نقول: إنه قد مضى الوقت الذي كانوا يقارنون فيه الأخلاق والعادات بأسمائها في اللغة. فالهوى الديني والهوى الجنسي متناقضان أيَّما تناقض في عرفنا، مع أنهما متصلان في المنشأ كما قد رأينا. والسرف ضد الشح في اللغة، وإن كان أحدهما أشبه بالآخر من القصد بالسرف مثلًا، أو من القصد بالشح. هذا وهم يقولون: إن القصد هو الحد الوسط بينهما، فكان ينبغي على هذا القول أن يكون أقرب إلى الطرفين من أحدهما إلى الآخر، ولكنه بخلاف ذلك بعيد جدًّا عن الخلتين المذمومتين. أما هما فمن القرب والمساواة بحيث يكاد أحدهما يحل محل الثاني، ويظهر هذا التقارب أوضح ظهور بين العائلات الشاذة في أخلاق أفرادها، فإن شذوذ هؤلاء الأفراد لا يبرز لنا في وجهة واحدة، بل يجمع فنونًا مختلفة من البدوات والأخلاق، فيكون الرجل غاية في التقتير وأخوه غاية في التبذير، ويكون فيهم الزاهد المتحرج والجشع المتقمم. وقد يترهب أحدهم وله أخ أو قريب قد خلع العذار وركب رأسه في الفجور والفحشاء. وقد ذكر «نسبت» صاحب كتاب جنون العبقرية عائلات عدة من هذا القبيل؛ منها عائلة «ديجرين» التي قال عنها: «إن الشره في هذه العائلة عرض من أعراض الخبل العصبي، يلوح إلى جانب البخل والورع الشديد.» وكذلك الطمع ضد بذل المال، ولا سيما البذل في سبيل البر، ولكنهما في حكم الطب فرعان من شجرة واحدة، أو كما يقول نسبت أيضًا: «إن الطمع وحب البر حالة جسمانية لا يزال ارتباطها بالاضطراب في النخاع الشوكي باديًا جليًّا.» ولاستواء هذه الخلال المتعارضة في الشذوذ، تقترن أحيانًا بشذوذ العبقرية فيقل في العبقريين الاعتدال، ويكثر فيهم الطرفان؛ أي التبذير والشح، ولا حاجة بنا إلى عد العبقريين المبذرين؛ لأنهم الفريق الغالب بينهم. أما الأشحاء فعندنا جماعة نذكر منهم جريرًا، وسهل بن هارون، وأبا العتاهية، والبحتري، ومروان بن أبي حفصة، والمتنبئ، وأبا الفرج الأصبهاني، وهم من فحول شعرائنا وكتابنا. وممن ذكرهم نسبت عائلة اقترنت فيها العبقرية في القانون، والشعر، والموسيقى، والأدب، بالحذق في تدبير المال، وهي عائلة نورث الشهيرة. فبعد أن ألمع إلى علاقة الحرص بالعبقرية استطرد فقال: «لقد كان فرنسيير نورث خازن جيمس الثاني أحد إخوة خمسة لهم أخت واحدة، وكان أبو هذه العائلة يقرض الشعر، ويباشر المسائل المالية، فورث عنه أبناؤه هذه الملكة الأخيرة، وظهرت فيهم مظاهر شتى، فمنهم هذا الخازن وكان أديبًا مدبرًا، وقد وصفه ماكولي بالأثرة والجبن وخسة النفس …» ومضى يسرد أسماء الإخوة ويصفهم بما لا يخرج عن مفاد هذه الأوصاف. وأراد بهذا وبما تقدمه أن يثبت أن للشذوذ أصلًا واحدًا، وإن تنافرت ألوانه واختلفت فيه آراء الناس فمدحوا بعضًا منه، وذموا بعضًا.

ونحن لم نعرض لهذه الآراء لنبخس آراء المعري ونحط من قدر أخلاقه وخصاله، أو نسوي بين ما يمدحه الناس وما يشنئونه من الأخلاق الشاذة، لأن تقارب أسباب الشذوذ لا يمنع أن يحب الناس منه ما ينفعهم ويحسن عندهم، ويكرهوا ما يضرهم ويقبح في نظرهم. ولكنا رأينا فريقًا من الكُتَّاب يتلمس المشابهات بين فئات الشعراء من كل طريق غير طريق المشابهة في الأمزجة. فبعضهم يُقسِّم الشعراء حسب اختلاف العصور مع أن اختلاف سني الولادة لا يستلزم في معظم الأحيان الاختلاف في المشرب الشعري. كما يلاحظ في شعر عدي بن زيد المتوفى قبل مولد المعري بنحو خمسة قرون، فإنَّا نجده أقرب إليه في نحيبه على الشعوب الهالكة ونعيبه على الدنيا من الشريف الرضي، ومهيار الديلمي وهما من شعراء عصره. وبعضهم يُقسمهم حسب الأسلوب اللغوي، وهو تقسيم لا بأس به إذا كان الغرض منه لغويًّا، ولكنه لا يغني في نقد الشعر وتقدير الشاعر. وبعضهم يُقسمهم حسب الموضوعات التي يتناولونها في أشعارهم، وكان الأحرى أن يعنوا بكيفية تناول تلك الموضوعات، لا بمجرد تناولها. ومنهم من إذا بحث في الأخلاق أغفل البواعث الباطنة وتمسك منها بعنواناتها المنكشفة. ومن هؤلاء من قارن بين المعري وأبي العتاهية فأبعد البون بينهما؛ لأن أبا العتاهية كان يكنز المال وهو يذم الدنيا ويُذكِّر الناس بالموت، ولم يكن المعري كذلك. ولعمري إن كنز أبي العتاهية للمال لأدل على صحة خوفه من الموت وأبين لمزاجه السوداوي من القصد وتصديق القول بالعمل. والعجيب أننا كنا نناقش بعض الأدباء في هذا الصدد، فقال: إن المعري نفسه كان يكره أن يُقارن بأبي العتاهية واستشهد بقوله فيه:

أبدى العتاهي نسكا
وتاب عن ذكر عتبه
والخوف ألزم سفيا
ن أن يغرق كتبه

كان رأي الشاعر في نفسه حجة على الناس في النظر إليه، وكأن المعري كان يُحسن الظن بنسك أحد غير أبي العتاهية وهو الذي شمل الأتقياء جميعًا بقوله:

قد حجب النور والضياء
وإنما ديننا رياء
يا عالم السوء ما علمنا
أن مصليك أتقياء
لا يكذبن امرؤ جهول
ما فيك لله أولياء

ولا نخالنا نُغضب روح المعري إذا قلنا: إنه لولا عماه وتربيته الأولى، وبيت العلم الذي نشأ فيه، والكوارث التي نكبته في صباه، والقلاقل التي فشت في زمانه، وشيء من ضعف البنية وما خلفه الجدري في جسمه منذ طفولته لما كان بعيدًا أن ينحو به المزاج السوداوي نحوًا آخر غير الزهد والعزلة.

كراهته للبشر

وقد يرتكب بعض نُقاد الغرب مثل هذا الخطأ في تقسيم الشعراء إلى فئتين: محبي البشر Philanthropist وكارهي البشر Misanthrope لأنهم يعدون من كارهي البشر أولئك الشعراء الذين يسخطون على الناس ويتبرمون بهم ويجتنبون مخالطتهم، وعلى هذا التقسيم يصح أن يعد المعري أكره الناس للناس لقوله على الأقل:
هل يغسل الناس عن وجه الثرى مطر
فما بقوا لم يُبارح وجهه دنس
والأرض ليس بمرجوٍّ طهارتها
إلا إذا زال عن آفاقها الأنس

والحقيقة أن أكره الناس للناس وأضرهم بهم ليسوا بمعزل عنهم، ولكنهم هم الذين يعيشون معهم حيث يصل إليهم أذاهم. وإذا استعملنا المجاز قلنا: إنه لا يقهر الناس إلا رجل يخوض معهم غمار هذا المعترك ويقاتلهم بسلاح أمضى من سلاحهم، أما المتبرم بهم المتنائي عنهم فكثيرًا ما يكون رجلًا قليل الشر قد طرح السلاح والتزم موقف الحيدة. ولنعلم أن الإنسان لا ينفر من الناس؛ لأنه لم يستطع أن يكرههم وهو عائش بينهم، بل لأنه لم يجد فيهم من يحبونه كما يحبهم. ولكم كان المعري يعدل عن سوء ظنه بالناس ويسترسل إليهم فيرده أذاهم إلى سوء الظن بهم، ويعجب لنفسه كيف ذهل عن رأيه وهو القائل في ذلك:

طهارة مثلي في التباعد عنكم
وقربكم يدني همومي وأدناسي
وأعجب مني كيف أخطئ دائمًا
على أنني من أعرف الناس بالناس

وإنه لقول رجل لا يتمالك نفسه أن يتبسط بالمودة لأبناء جنسه، ثم لا يلبث طويلًا حتى ينقبض مكرهًا، فيذوق لهذا الانقباض ألمًا يجري على لسانه سخطًا وتذمرًا، وما هو بسخط ولا تذمر. وهل ترى في قوله:

إذا كان إكرامي صديقي واجبًا
فإكرام نفسي لا محالة أوجب

أو قوله:

إن ترد أن تخص حرًّا من النا
س بخير فخصَّ نفسك قبله

إلا قول رجل يرى أن الأنانية خلاف الواجب، ولكنها أمر تدعو إليه الضرورة، وإلا مجاهدة منه لإقناع نفسه بخلق جديد لا ترتاح إليه؟

وهل قال المعري في الحفيظة على الناس أكثر مما قال في الحفيظة على نفسه؟ أو هل تمنى هلاكهم أكثر مما تمنى هلاكه هو نفسه؟ فهل يقال إذن: إن المعري كاره لنفسه بالمعنى المفهوم من كراهة الإنسان للبشر؟ ولقد أوصى الإنسان بالطير على حين كان يحذر بعضهم من بعض فقال:

تصدق على الطير الغوادي بشربة
من الماء واعدُدها أحق من الإنس
فما جنسها جانٍ عليك أذية
بحال إذا ما خفت من ذلك الجنس

ومن هذا وأشباهه ترى أن الرحمة ثابتة في طباعه، ولكنه يتنقل بها من موضع إلى موضع كما يتنقل المرء بالهدية المردودة.

اشتراكيته

على أن للمعري أبياتًا في الرثاء لحال الفقراء كادت تسلكه في عداد شعراء الاشتراكية كقوله:

لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته
فقير معرًّى أو أمير متوج
وقد يرزق المحدود أقوات أمة
ويحرم قوتًا واحد وهو أحوج

وقوله:

كيف لا يشرك المضيقين في النعـ
ـمة قوم عليهم النعماء

وقوله:

إن شقًّا يلوح في باطن البرة
قسم بيني وبين الضعيف

نعم إن الاشتراكية لا تعتمد في حقوقها على الرحمة، ولكنها لا تطلب من شعرائها أكثر مما قال المعري.

الجبر وتحريم اللحم

وقد قصرنا الكلام إلى الآن على درس مزاج المعري؛ لأننا لا نعود بفلسفة الرجل، إلا إلى مرجع واحد وراء كل مرجع، وهو مزاجه وما أضافه إليه تأثير البيئة والحوادث، فكل ما يُؤثر عنه من التقشف والتشاؤم والقول بتنازع البقاء والنهي عن الزواج، إنما هو نتيجة خُلُق متأصل فيه لم يزده الاطلاع والتحصيل غير صيغة العبارة واصطلاحات العلم. وما قلناه عن هذه الآراء نقوله عن رأيه في الجبر وتحريم اللحوم. أما الجبر فهو سبيل كل رجل يشعر في نفسه بتضارب الإحساسات وتحكم الطبائع، ويعلم بعد مكابدتها أنه لا حيلة له فيما يرضى أو فيما يأبى، وأنه لا اختيار لعقله فيما ينوي وفيما يصنع، وما كابد التضارب في الإحساس والفكر أحد كما كابده المعري، فذاك هو الذي أمضه وأرهقه حتى انتهى به إلى الجزم بأن الإرادة مغلولة، والأهواء مستبدة، والعقول مسخرة، فكان يقول:

وقد غلب الأحياء من كل وجهة
هواهم وإن كانوا غطارفة غلبا

ويقول:

والعقل زين ولكن فوقه قدر
فما له في ابتغاء الرزق تقدير

وعلى هذا فهو مبتكر في مذهب الجبر لا مقلد. أما تحريم اللحوم فليس أعجب من القول بأنه اقتفى فيه مذهب الهند أو غيرهم من المتدينين به! ولو أن المعري كان كاهنًا هنديًّا برهميًّا متريضًا لما عجبنا للأمر؛ لأنه إنما يخضع لسلطان عقيدة دينية ويخشى عقاب قدرة إلهية. أما وهو رجل قد شك في الديانات وهزأ بشعائرها وفرائضها، فمن العجيب حقًّا ألا يكون له باعث على ترك اللحم أربعين سنة إلا الإيمان بمذهب البراهمة. وعندنا أن المعري كان لا يشتهي اللحم بطبعه، وكان فقيرًا مع رحمة مفرطة فيه، وكان به ميل إلى تعذيب النفس كما هو شأن بعض أصحاب الأمراض العصبية في رأي ماكس نوردو وغيره من الأطباء، ولم يفده عرفانه بمذهب الهنود البراهمة إلا إخراج هذه الميول في صبغة مذهب فلسفي. ولهذا بدأنا مقالنا ونختمه بالقول بأن مفتاح البحث في فلسفة المعري إنما هو درس مزاجه ورد أفكاره وخواطره إلى خواص هذا المزاج التي ساعدتها البيئة على الظهور.

خاتمة

وقبل أن نختم هذا البحث نستحسن أن نُنبِّه إلى بعض مآخذ لاحظناها على أحد أشياخنا الكاتبين عن المعري بيانًا للفرق بين النقد النظري والنقد الاستقرائي. ونقول: إن ذلك الكاتب، مع عنايته بتتبع الآثار التاريخية وشرح أحوال العصر الذي عاش فيه المعري، لم يُوفَّق إلى إنصاف المترجمين له ولم يقدر آراءهم قدرها.

فمن ذلك أنه أشار إلى ما ارتآه جورجي زيدان من أن سبب سخط المعري على الدنيا هو عسر الهضم، فتعجل برفضه وقرر استحالته، ولا برهان لديه ينقضه، ولا ندري نحن لماذا يستحيل عسر الهضم على رجل دائم الكآبة سوداوي المزاج مدمن لأكل البقول ملازم داره لا يبرحها، وأنه قارن بين أبي العلاء وأبي العتاهية فقال: «مرجليوث اجتهد في أن يُقارن بين أبي العلاء وأبي العتاهية في هذا الشعر الفلسفي، فزعم أن بين الرجلين تشابهًا وتابعه على ذلك سلمون. ولقد كنا نحب أن نجتهد في بيان هذا الوهم الذي وقع فيه هذان العالمان لولا أن دائرة المعارف الإسلامية التي يكتبها المستشرقون سبقت إلى هذا فجعلت قياس أبي العلاء إلى أبي العتاهية ظلمًا وحيفا؛ إذ كان أبو العتاهية يستقي من الدين ويتقيد به، وكان أبو العلاء يستقي من الفلسفة ولا يتقيد بالدين، وهذا الفرق ظاهر الأثر في شعر الرجلين. وخصلة أخرى لم تلتفت إليها دائرة المعارف وهي أن أبا العتاهية على كثرة ما استعان بالدين في زهده الذي ملأ به ديوانه كان فاسقًا مستهترًا بالمجون بخلاف أبي العلاء الذي استملى الفلسفة واتهمه الناس بالزندقة والإلحاد، فإنه لم يمل إلى الهوى، ولم يذهب مذهب المجون.»

وترى الكاتب هنا يُوافق دائرة المعارف ليخالف مرجليوث وسلمون، ولكنه لم يشأ أن يوافق الدائرة كل الموافقة، فذكر أنه التفت إلى شيء لم تلتفت إليه وهو مجون أبي العتاهية. على أنه عاد بعد ذلك فاقتدى بالدائرة في مقارنتها بين المعري وأبيقور وقال: «أبو العلاء يرى رأي أبيقور هذا كما تدل عليه اللزوميات في مواضع كثيرة نجتزئ منها بقوله:

ولم أعرض عن اللذات إلا
لأن خيارها عني خنسنه

فليس من الغريب بعد ذلك أن يشير أبو العلاء بالاشتراكية في النساء … إلخ.» فكيف إذن تكون مجاراة اللذات روح فلسفة المعري الأخلاقية، ولا يكون ثمة شبه بين شعره وشعر أبي العتاهية لأن هذا ماجن مستهتر باللذات؟ أما نحن فلا يسعنا إلا أن نعجب برأي دائرة المعارف الإسلامية، وأن نسوقه شاهدًا على ما فصَّلناه قبل في تحليل أطوار المزاج السوداوي وما ينتاب أصحابه من الأطوار المتناقضة، ولا نقول كما قال الكاتب: إن المنطق لا يقبل المتناقضات، فيلزم من ذلك أن يكون كل عقل منطقيًّا في كل حالة من حالاته، وأن يكون الطبع جاريًا على منهج العقل في أهوائه ورغباته. وهو خطأ ظاهر لا يقبله المنطق.

وقد حرص هذا الكاتب على أن يوصف بالتدقيق في استقصائه، ومع هذا لا يبالي أن يزعم أن المعري «كان على مذهب الباحثين من علماء الإفرنج في هذه الأيام»؛ أي إنه «يمنع أن يكون الناس مشتقين من سنخ واحد» ولا نعلم نحن أن هذا مذهب الباحثين من علماء الإفرنج، وإنما هو خاطر مرجح عند طائفة منهم، ولا نحسب الكاتب كان يقبل أن ينسب إلى المعري رأيًا كهذا لو أنه قاس درجة العلم في عصره قياسًا دقيقًا (أولًا) لأن القائلين بهذا الرأي من علماء اليوم لم يعمدوا إليه إلا بعد إنعامهم الطويل في درس مسألة الأنواع والأجناس درسًا علميًّا استقرائيًّا، (وثانيًا) لأن كلام المعري كله خلو من كلمة أخرى تسنده، ولعله لم يرد بقوله:

وما آدم في مذهب العقل واحد
ولكنه عند القياس أوادم

إلا أن آدم هذا المذكور في الكتب الدينية ليس بأقدم آباء البشر — يفسر هذا المعنى قوله في بيت آخر:

جائز أن يكون آدم هذا
قبل آدم على إثر آدم

فليس الخلاف بين المعري والمتدينة خلافًا على عدد أصول النوع البشري، ولكن على قدم أولها. وأين هذا من رأي تلك الطائفة من علماء اليوم؟

ونكتفي بهذا القدر إذ كنا لا نقصد إلى نقد الكتاب، وإنما مررنا منه بما له مساس بموضوعنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤