في الزورق١

جولة في الماء محدودة وجولة في السماء غير محدودة. مسافة على الأرض تُذرع بالأشبار والأميال، ومسافة أخرى في عالم لا تعرف أوائله ونهاياته ولا تُقاس أعماقه وآفاقه. تلك هي الرحلة المزدوجة التي أقضيها كلما ركبت الزورق الصغير على النيل.

وربما استخدمت هذا الزورق كما كان «دارون» يستخدم سفينته «البيجل»؛ أي لتبديل الهواء وجمع المواد الأولية لتبديل المذاهب والأسماء، ولعمرك أين الزورق النكرة من «البيجل» المعرفة؟ وأين راكبه من «دارون»؟ شتان شتان، وهيهات هيهات، ولكن فيما عدا ذلك فجولتي في زورقي هذا رحلة، وجولة دارون في سفينته تلك رحلة مثلها! وقد أتى هو بنتيجة ولم أعد أنا بغير نتيجة. فماذا كشف دارون في سفينته؟ ألا يقولون: إنه احتقب في أوبته ألف حجة وحجة على أن الصالح للبقاء يبقى وأن غير الصالح للبقاء لا يبقى؟ ألا يقولون: إن الأحياء يتخاصمون كثيرًا ويتنازعون البقاء فيما بينهم كبيرًا وصغيرًا؟ ألم يقولوا … لا أظنهم قالوا أكثر مما تقدم.

إذن أؤكد لهم أن الزورق الصغير قد يصل بهم إذا شاءوا وشاءت لهم الأقدار إلى حقيقة أصدق من حقيقة دارون، وأرفع منها قدرًا، وأقدم منها عهدًا، وألطف على السمع وقعًا. وأن الزورق الصغير لا يبعد عليه الكرسي الذي تسأل أمامه الطبيعة عن أسرارها، ولا المنبر الذي تخطب من فوقه قائلة بأفصح ألسنتها وأجهر أصواتها: إن الصلاح للبقاء كلمة لست أعرفها لأنني لست أعرف الصلاح للفناء! وإن الأحياء لا يتنازعون ولكنهم يلعبون، نعم يلعبون بملء نفوسهم مرتاضين رائضين، كما يتصارع الصبية جذلين ضاحكين، وكما يتناجز ممثلو المسرح جادين أو هازلين. وإن استغراقهم في اللعب حتى تخال لعبهم جدًّا، ونسيان أنفسهم في تمثيل الخصومة حتى تحسب خصومتهم حربًا، إن هو إلا الشغف بإجادة الصنعة وبراعة الإتقان، وإنه هو هذا الذي يجعلهم أحق بنشوة الرياضة وتصفيقة الاستحسان.

لم تقل الأعشاب ولا الهوام ذلك لدارون! ولكن هل تراه سألها عنه أو استقصى خبرها فيه؟ لو طلب منها أن تقول لقالت، ولكنه اكتفى بما وعى فسكتت. وهي لا تجيب حتى تسأل، ولا تبذل جوابها كله لأول سؤال.

نعم يلعب الأحياء ولا يتنازعون، وليس الأمر بمجهول فيُعلم، ولا بمخفي فيظهر، ولا بمردود فيُقام عليه البرهان. ألا نرى الفرسان يتهالكون شوقًا إلى قصبة منصوبة في العراء يسعد بها من يحرزها ويتحسر عليها من يخذله الجد دونها؟ بلى نراهم فلا نقول: إن أولئك الفرسان المغاوير يقلقون بالهم، ولا أن الناس يُهلِّلون لهم ويعجبون بهم من أجل تلك القصبة. ولعلهم بعد إذ يحرزونها يلقونها في التراب.

وهذه السماء والأرض وما بينهما تنبثق كلها عن حياة لا نظير لها في تراكيب هذه الأكوان، ثم يذهب أبناء الحياة يتخاطفون بينهم لقيمات من الخبز، أو أشبارًا من الأرض، أو قطعًا من الحجارة اللامعة، فماذا يقول الناظرون؟ يقولون: إنها بغيتهم التي فيها يتنازعون، وإليها يتسابقون، ومن أجلها يخلقون؛ يقولون: إنهم يجدون ولا يلعبون …

فحذار! فلعلهم أيضًا يلقونها بعد إذ يحرزونها في التراب.

•••

زورقي الصغير لم يُغيِّر خريطة الأرض، ولكني قانع به وراضٍ عنه. فما كشف لي موقع قدم لم تطأه قبلي ألف قدم وزيادة، ولا مر بي على حبة رمل واحدة يحق لي أن أطلق عليها اسمي دون أسماء الرحالين من قبلي. ولكنه ضاق من ناحية واتسع من نواحٍ لا عداد لها. فكم من بقعة في السماء ضللت عنها فهداني إليها، وكم من ساحة من ساحات الرفيق الأعلى قربني إليها وكان قد أقصاني عنها غبار الدهر وعجاجة وقائعه! ولقد أفسح الرحالون رقعة الأرض وضيقوا شقة الخيال، فاليوم تسكن أصغر جزيرة في أقصى الدنيا، ولكن لا جبال قاف بمأهولة، ولا قصور المردة بمعمورة. كلا، ولا بحار العجائب بمطروقة الأثباج، ولا هي بزخارة الأمواج، من وراء ذلك الرتاج. تداعت وأقفرت ونضبت فهي اليوم طلول دارسة، وبلاقع خاوية، وبقايا متصدعة، وحاشا لزورقي أن يصنع ذلك الخراب أو يغير على ذلك العالم العجاب، فلا يزال له إلى عالم الخيال منفذ، وبينه وبين وادي الجنة سلام، ورب قارة رهيبة يُحار فيها الدليل ويسكت فيها سليمان طرقتها به ولم يعرف لنا خبر، ولم يسمع لتسليمنا ولا لتوديعنا نأمة أو صدى، ولئن صدقتني الذاكرة لقد عرفت في جولة من جولات هذا الزورق أين كان مولد الجن الأولى، أو عرفت على الأقل كيف ينبغي أن يكون.

ففي مفترق الجزائر الثلاث٢ وُلدت بلا شك قبيلة كبيرة من قبائل الجن الوسيمة الوادعة، وفي تلك البقعة بلا شك هي قائمة إلى اليوم تعيش وترتع وتتوالد وتقضي حقوق الحياة، وإنها وايم الله بقعة خليقة بالجن والجن خليقة بها. يشارفها القادم من بعيد فيغلبه الصمت فلا يتكلم إلا همسًا ولو كان من أصخب خلق الله لسانًا وأطوعهم للثرثرة عنانًا، وإنه ليضحك ويطرب ويتغنى ويصفق ويهلل ما شاءت له خفة الهواء في انطلاقه ومرح الماء في اصطفاقه، حتى إذا اقترب من تلك البقعة الحرام تبدلت حاله حالًا، ونزع عن خفته مختارًا، وسرى إلى أجزاء نفسه السكون مسرى النعاس في مفاصل النائم المكدود، فإذا هو مقبل بجوارحه كلها ينصت ويُصغي، ثم ينصت ويُصغي، ثم ينصت ويُصغي؛ درجات من الصغو تهبط كل طبقة منها إلى طبقة أعمق منها غوارًا وأظلم جوفًا وأبعد ركزًا — وهل يُصغي الإنسان إلى لا شيء؟ إن اللاشيء يصبح شيئًا متى أصغى إليه الإنسان.

وأذكر أنني طرقت مرة ذلك الوادي الصامت. أذكر كيف احتوانا نطاقه المسحور كما تحتوي حبائل الطلسم أسيرتها، وشملنا منه ما يشمل وراده من سكينة مخيمة على جوانبه، ومن همسات تتخلله تزيد الصمت صمتًا، والهيام هيامًا، وتسمعها أو هي تسمعك نفسها على غير انتباه منك، فكأنما ترد عليك في الحلم بين وسوسة خافتة من جانب الشجر، أو هتفة مفردة من طائر محلق في الجو لا يكاد يتبعها بثانية، أو خفقات الفراش فوق ورقة طافية تتهادى في النهر، أو غمغمة الماء على قاب ذراع منك، وكأنه في أقصى الأرض؛ حركات ترسلها الأذن قبل أن تمسكها، وتعليقات على حواشي السكون تمر لحظة بعد لحظة، وكأنما هي الجيل يمر بعد الجيل.

وفاضت هذه السكينة على نفس النوتي فتسايلت منها في صورة حكاية مبتكرة لطيفة. حكاية ذات وقائع ومفاجآت جرت له مع الجان في هذه البقعة، على مشهد من أمه التي ماتت وأخيه الذي لا يزال صبيًّا. وقد أطمعه السكوت مني فأطال وأطنب وافتنَّ وأغرب، ثم رابه هذا السكوت فأردف حكايته بأقسام كثيرة على صدق كلامه.

قلت: لا عليك يا أخا النوبة، ولا ريب عندي في صدقك. إن المكان مهيأ لسكنى أصحابك كما أرى، فإن كانت الدنيا تعوزها بعد هذه الخلائق المقنعة فأي ذنب في ذلك عليك؟ إنه ذنب الدنيا.

•••

وفي ذات يوم، قبل مرسانا على بر المدينة شاء الله أن يختبرنا بمحنة من محن السندباد البحري، فتغيَّر الجو، وغامت أطراف الأفق، واختلف مهب الريح، فكثر قيام النوتي وقعوده بين مقدم الزورق ومؤخره، وراح الزورق يترنح ذات اليمين وذات الشمال، ويتكفأ بين الشرق والغرب تكفؤ السكران، وأصبحنا نتقدم عشرين خطوة في كل ميل نعبره من هذا الشاطئ إلى ذاك، فقلت للنوتي: ما لك لا تستقيم في السير؟

قال: لو استقمنا لغرقنا، أوَلا ترى الريح؟

لو استقمنا لغرقنا! ذكرتني كلمته هذه برأي في الإصلاح الاجتماعي والأدبي لعالِم من علماء القطرين المعدودين مثله لي على أثر اختلاف على طرق الإصلاح ومذاهب الناس فيه، فكان يقول: أعرف لعبور التيار طريقتين؛ فطريقة المجازفة، وهي أن يلقي الإنسان بنفسه في غمار اللجة فيندفع من جانب إلى جانب لا تثنيه زمجرة الموج، ولا خديعة الدوامات، وليس يرتد عن عقبة ولو كان فيها الهلاك، ولا يحيد قيد خطوة عن الخط القويم إلا مغلوبًا على أمره، فقصاراه بعد الجهد أن يلتهمه الماء غريقًا، أو يبلغ الشاطي منهوك الجسد خائر العزيمة، وقد أضاع من راحته أضعاف ما كسب من الوقت والمسافة.

والطريقة الثانية طريقة الأناة والهوادة، وهي أبطأ سيرًا وأقل جرأة، ولكن نجاحها مضمون والخطر فيها قليل. وهي أن ينزل السابح في الماء على مهلٍ، فإذا أحسَّ صدمة من التيار انحرف عن طريقها، وإذا بصر بموجة عالية لا مفر منها تطامن لها، وإذا قذفت به اللجة بعيدًا عن وجهته لم يعاندها مخافة أن تعطبه، وإذا استوثق من السهولة والرفق عاد فاقترب مما كان يزور عنه، فقد يطول على ذلك صبره ومحاولته، ولكنه بالغ في نهاية الأمر مكانًا قريبًا أو بعيدًا من الشاطئ الآخر وهو على يقين من السلامة.

أصاب ذلك العالم الحكيم؛ فإن للسلامة طريقًا غير طريق الغيرة، ولقد نظرت إلى النيل في تلك الساعة، فكأنني أتمثل فيه لجة الإصلاح الدافقة تزأر زئير الضياغم في غابها، وكأنني أشهد سباق المصلحين فيها من قديم العصور؛ فسابح جاش تيار الدم الحي في عروقه بأقوى وأجسر من تياراتها، فخرج ظافرًا على استقامته يهزأ بالعطب وبالتعب، وآخر يتخبط يائسًا ثم يهوي إلى القاع صامتًا لا تفلت منه صيحة استغاثة. هذا على مدى وثبتين من الغاية يجمد كالمشلول لا ترفع يده لتناول كأس النجاة. وذاك على حافة البداية يسرف في ضرباته ولا يدخر منها ضربة لساعة كلاله وفتوره. وأينما ارتمت عيناك قابلتك أذرع ممدودة توشك أن تلحق بأجسادها، وجثث طافية أغمضت أجفانها على هذه الحومة الصاخبة، وغائصون تأكلهم الحيتان فلا تبقي لهم أثرًا، وسابقون يسترهم مثل العثير من رشاش ضرباتهم العاتية، وصرخة واحدة تسمعها من جميع الجهات وهي: إلى الأمام، إلى الأمام.

تلك هي لجة الإصلاح.

وإني لشارد اللب في غوامض هذه اللجة إذ صفرت باخرة، ثم أرسلت إلينا من دواليبها العريضة موجًا كغليان القدر ترك زورقنا المسكين يعلو ويهبط، كأنه كفة ميزان خبطتها يد هوجاء، ثم خرجت في طريقها تشق النهر شقًّا ولا تلتفت يمنة ولا يسرة. فقلت للنوتي: ما بال هذه الباخرة تستقيم في سيرها، ألا تخشى الغرق؟

فابتسم أخو النوبة ولم يزد، ولو أنه اطلع على ما في نفسي لزاد قائلًا: نعم إن للإصلاح طريقتين: طريقة الزورق، وطريقة الباخرة، ولكن الأقوياء لا يعرفون إلا طريقة واحدة وهي طريقة الباخرة.

•••

على أنه يحسن صنعًا إذ لا يطلع على ما في نفسي. فإنه يحاسبني الآن على رحلة واحدة، ولو أنه عرف إلى أين أذهب بزورقه في رحلتي الثانية لعظم الأجر وطال الحساب.

الحياة القلقة

ما أتعس حياة الفطناء المسترشدين بإحساسهم، المهتدين بعاطفة الميل إلى الجمال في نفوسهم، الذين يرون في كل شيء حسنًا، ويرون في كل شيء عيبًا.

إنهم يرغبون في كل شيء؛ لأنهم يعرفون حُسنه، ولا يرضون عن أي شيء؛ لأنهم يلمسون قبحه، ويحيون حياة لا تستقر بين الطلب والنفرة، والشغف والزهد، والراحة والألم، والغبطة والندم.

في الخطابة

الخطباء اثنان: خطيب يسوق الكلام، وخطيب الكلام يسوقه. والأول يملك السامعين ويتصرف بهم ويلعب بعقولهم، وأما الثاني فلا ينال منهم أكثر من إعجاب كإعجاب الأستاذ بتلميذه، أو ثناء يلفظه اللسان ولا يتحرك له الوجدان.

الدين بين الخاصة والعامة

ما حاجة السابح في الجدول إلى نجم القطب؟ إنما يحتاجه الماخر في المحيط، وكذلك العامة لا يحتاجون إلى الدين احتياج الخاصة إليه.

١  نشرت في العدد العاشر من الرجاء.
٢  كتبت هذه المقالة بأسوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤