فائدة من أفكوهة١

ذكرني الجزء الثاني من كتاب الرافعي بجزئه الأول، وكنت قد رأيته ولم أقرأه إلا إلمامًا. فلما تناولته هذه المرة كان أول ما انفتح لي فيه فصل في مناطق العرب.

فقرأت منه إلى قوله: «وكذلك وجدوا اللغة الهيروغليفية القديمة، وهي من أقدم اللغات المعروفة ليس من حروفها في المنطق «ب ج د ز ظ ض» بل أنت ترى الدليل الذي لا سبيل إلى رده في هذه الحروف الطبيعية الخالدة التي لا يُزاد فيها ولا يُنقص منها، وهي ما يتهيأ في منطق الحيوان السائم فإنها على قدر الحاجة الحيوانية مما لا يتجاوز معنى الإحساس الذي هو النطق الباطني.»

وكأنما بدا للمؤلف أن بين القول بصدور اللغة في الحيوان عن الإحساس، وبين كونه يتعلم حرفًا أو أحرفًا من لغة الناس، تناقضًا ولبسًا لا يحسن أن يترك بغير تفسير واستدراك، فكتب في الهامش: «أما الحيوان المروض المأخوذ بالعناية والتعليم والتلقين فقد يقتبس جملة من حروف اللغة التي يعلم بها، وبذلك تأتي لبعض الألمانيين أن ينطق كلبه بألفاظ خالصة من اللغة الألمانية، ولكنها في الجملة من حاجات الكلب الطبيعية كالأكل والشرب فلا تخرج عن معنى الإحساس أيضًا.»

وهذه أفكوهة لا ضير على الأديب الرافعي، ولا على أحد سواه في أن نتخذ منها فائدة أو نقيس عليها مثلًا نبين به طريقة بعض الناس في القياس.

•••

الكلام في مخارج الحروف. فكان سبيل الرافعي بعد أن ذكر لغة الهمج وأتى على ما ينطقونه من الحروف وما لا ينطقونه، ثم أطنب فذكر لغة الحيوان «الطبيعية الخالدة» أن يقارن بين اللغتين، فإن توسع فليبين كيف ترقت لغة الهمج عن لغة الحيوان ويُظهر منزلة الأصول الصوتية الأولى من اللغات قاطبة، وإلى أي حد تتقارب فيها أصوات الحيوان وأصوات الإنسان. ولكنه جاء إلى هذا المسلك المأبور فأغلقه حين قضى على حروف الحيوان بأنها لا يُزاد فيها ولا ينقص منها. وإنما كانت جملة معترضة جاء بها لتحلية الكلام فاعترضت كما ترى بينه وبين سبيله. وأحب الرافعي أن يكون عميقًا في حكمه، بعيد الملاحظة في رأيه، فأعرض عن آلات النطق في الحيوان ونزل إلى مقر الإحساس منه. فمد بسبب بين خفة الحرف أو ثقله على اللسان، وبين ما سماه النطق الباطني، ولما علم أن العلماء سهلوا على جهاز النطق في الكلاب أن يتحرك ببعض الألفاظ الأوروبية لم يعلل ذلك بأن جهاز النطق في الحيوان مهيأ للتحسن والاكتمال، ولا بأن الأصوات الحيوانية أصل نمت منه فروع اللغات الإنسانية. بل رأى أن ذلك إنما كان لأن الكلمات التي تعلمها الكلب «كانت في الجملة من حاجاته الطبيعية كالأكل والشرب فلا تخرج عن معنى الإحساس أيضًا.»

وعلى هذا فالكلب لم يعِ من الألفاظ إلا ما هو من معنى الطعام؛ لأن إحساس الحيوان قاصر على ما يتصل بمأكله ومشربه، وما ناسب ذلك من الشهوات التي يضيق نطاقها كلما انحط المخلوق في مرتبة الخلق، وليس لأن العالِم الألماني خفف عليه نطق الكلمة بالتعود والمران. كذلك يقول الرافعي! فلو أن العالم عالج تلقينه اصطلاحًا هندسيًّا أو أخلاقيًّا لما نبس به؛ لأنه ليس من حاجاته الطبيعية. نعم ولو كان هذا الاصطلاح قريبًا في حروفه من كلمة في معنى الطعام كالمقاربة التي بين كلمتي سمك وسمك وعظم وعظم! كذلك لو عالج العالم الألماني أيضًا أن يلقن نملة أو برغوثًا ما لقنه ذلك الكلب لما استعصى عليه ذلك؛ لأن الأكل والشرب من حاجات النمل والبراغيث كما أنها من حاجات الكلاب، ولا عبرة بالبون البعيد بين آلات النطق في الكلب وبين آلاته في النملة أو البرغوث، فإن هذا لا يضعف من ذلك الإحساس الطبيعي أو النطق الباطني!

وكما سهل على الكلب أن يتلفظ بكلمات الأكل والشرب في اللغة الألمانية، كذلك يسهل عليه أن يتلفظ بما يقابل هذه الكلمات في لغات العالم أجمع، وهي كلمات يتألف من مجموعها معجم ضخم يشتمل على مخارج الحروف الآدمية من أثقلها إلى أخفها. فمن أين للكلب هذه القدرة؟ أوَيكفي أنه يسغب ويظمأ لتكون قوة النطق فيه كما هي في الإنسان؟

•••

هذا مثال من أقيسة الرافعي. وإن الرافعي ليعلم كما نعلم أنه منشئ مكين، ولكنه يحس من نفسه اضطراب القياس، ويظن أن الناس يحسون منه ما يحسه من نفسه، فيُكثر من القياس كما يُغالي الفقير بظاهره ليستر فقره، وهو كلما عمد إلى الاستقراء والاستنتاج وقع في مثل هذا الخطأ.

ونحن لم نقل عبثًا في مقالنا عن جزئه الثاني أنه أعمل القلم ولم يُعمل الرأي، ولكننا نقول الآن: إنه ما كان ليستطيع أن يصنع غير ذلك. فإن شاء عددنا كتابه كتاب أدب، ولكنا لا نعده كتابًا في تاريخ الأدب؛ لأن البحث في هذا الفن متطلب من المنطق والزكانة ومعرفة «النطق الباطني» ما يتطلبه الرافعي نفسه ولا يجده في استعداده.

الظواهر والبواطن

ليس بين ظواهر الأشياء وبواطنها حد فاصل، فكل البواطن ظواهر مكشوفة لو أحسن النظر إليها من الجهة المثلى، وكل الظواهر بواطن خفية لو أسيء النظر إلى تلك الجهة منها. ومن البديهات عند قوم ما يعد أسرارًا مغلقة عند قوم آخرين.

الشر الدخيل

من الناس من يفعل الخير لأنه لا يجد حجة يسوغ بها عمل الشر، أو يواري بها فعل السوء، وليس يزعه عن اختلاق تلك الحجة إلا بلادة حس وجمود عقل. أما من هم أمهر من ذلك من الأشرار وأطبع على الأذى فيخلقون الحجة في كل حين، ويفعلون الشر كلما وجدوا حجة له.

ذم الحياة

إن الذين يذمون الحياة هم الراغبون في حياة خير منها، لا الراغبون في الموت كما يتوهم الكثيرون، وربما كان ذو النقمة والسخط على الحياة أرغب فيها ممن يرضون عنها ويرتعون في صفوها ونعيمها. كما يكون المقامر الخاسر أرغب اللاعبين في ملازمة مائدة اللعب إلى النهاية.

كل ذي عاهة جبار

يُؤْثر الإنسان أحيانًا أن يكون عرضة للمقت والغيظ على أن يكون عرضة للرحمة أو الاستخفاف، وهذه علة ما يرى من أصحاب العاهات والمثالب المقبوحة من تعمد إسخاط الناس واستنفاد صبرهم. يحاولون الهرب من رحمتهم إلى نقمتهم، ومن إحسانهم عليهم بالعطف إلى مساواتهم لهم بالمنازلة.

١  المؤيد ١٦ مايو ١٩١٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤