تقديم

(١) عندما تعيش أكثر من نصف حياتك مع الشعر وللشعر، وتعكف عكوف العاشق المتأمِّل — على مدى أربعة عقود من الزمان على الأقل! — على قراءته ودراسته ونقْل عددٍ كبير من نماذجه الشرقية والغربية إلى لغتك الأم؛ فلا بُد أن يتفق لك ما اتفق لي دون إرادةٍ أو قصدٍ منك؛ إذ تفرض بعض القصائد نفسها عليك، تدعوك وتلحُّ عليك أن تسبغ عليها الثوب العربي وتنطقها بلسانٍ عربي وتصوغها صياغةً منظومةً وموقَّعة في وزنٍ أقرب ما يكون إلى الوزن والإيقاع الأصلي … وهذا الكتاب الذي بين يديك يضمُّ بين دفَّتيه مجموعةً كبيرة من القصائد والمقطوعات المنظومة لأكثر من أربعين شاعرًا وشاعرة طبعوا مسيرة الشعر الغربي، وأثَّروا على بعض تحولاته المهمة منذ القرن السادس قبل الميلاد حتى أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، وذلك من العصر اليوناني القديم وبداية الشعر الغنائي، مرورًا بالعصر الوسيط وعصر النهضة وشعر الحكمة التعليمي في القرن السابع عشر إلى شعر التجربة الباطنة في القرن الثامن عشر، وبعض رُوَّاد الحداثة الشعرية في أواخر القرن التاسع عشر، حتى بعض أعلام الشعر العاطفي والتأمُّلي والسياسي في القرن العشرين ممن لا يزال بعضهم أحياء يُرزقون ويُبدعون …

(٢) من حقك — بغير شك — أن تسألني: على أي أساسٍ أقمتَ اختيارك لهذه القصائد، وما المنهج الذي اتبعتَه أو المعيار الذي اعتمدتَ عليه؟

والسؤال مشروعٌ بغير شك؛ لأن كل اختيارٍ يقوم بالضرورة على رأيٍ أو موقفٍ معيَّن، ويقصر نفسه — أمام بحر المادة الذي يبدو بلا شاطئ — على عصرٍ أو عصورٍ بعينها، واتجاهات ومدارس بذاتها. والمختارات الشعرية في كل اللغات والآداب، وعلى تعاقُب العصور والتيارات، تظل على الدوام محدودةً بحدودٍ مختلفة، وتبقى في النهاية جزءًا من كلٍّ أوسع وأشمل. وربما يكتسب المختار قيمته وأهميته، ويستمد حيويته وتميُّزه عن غيره وبقاءه عبر العصور من كون هذا الجزء المنتقَى أو المقتطَف شبيهًا «بالجرم الصغير» الذي وصفه شاعرنا القديم بأن فيه «انطوى العالم الأكبر» …؛ أعني أن يكون الجزء الذي وقع عليه الاختيار أشبه بباقة الزهور المعبرة عن بستانٍ كامل، أو بمجموعةٍ من اللآلئ — أو حتى الأصداف وقِطع المحار! — التي تعكس مدى عمق البحر وجلال أسراره وتنوُّع أمواجه ورياحه وتياراته المصطخبة الجيَّاشة بالكنوز والنفائس وبالنفايات أيضًا …

وأُجيب على سؤالك فأقول ببساطة وتواضعٍ صادق: إنني لم أختر هذه النماذج، وإنما هي التي اختارتني وفرضَت نفسها عليَّ، لا جِدال في أن ثقافتي وتكويني العقلي والوجداني واللغات التي أستطيع القراءة بها واللحظات التي التقيتُ فيها بهذه القصائد — أو بالأحرى تحاورتُ معها فتخلقَت فجأةً، أو بعد تجربة اختمارٍ طويلة، ثم تفتقَت عن هذه النماذج المتفاوتة في قيمتها ودرجة التوفيق أو عدم التوفيق في «إعادة إنتاجها» (ولا أقول في إعادة إبداعها؛ لأن هذه الكلمة أكبر بكثير من محاولاتي المتواضعة!) أقول: لا جدال في أن هذه العوامل كلها — مع عوامل أخرى ظاهرة أو خفية يصعب حصْرها أو التصريح بها — قد تدخلَت بطبيعة الحال في اختيار كل قصيدة وكل شاعرٍ اقتربتُ منهما أو اقتربا مني، والمهم بعد كل شيء أن هذه المختارات هي التي اختارتني، وأن حدود ثقافتي وقدراتي و«شروط» وجودي وحظوظي من الحياة قد عملَت عملها في إنجاز عملية الاختيار المتبادل ورسم حدودها الضرورية وتسيير جدليتها الواعية وغير الواعية …

وأستأذن القارئ في تقديم شهادةٍ بسيطة، وربما تبدو مضحكةً — لتأكيد ما سبق قوله في موضوع الاختيار — فقد حاولتُ كثيرًا، ولكن لدقائق معدودة، أن أطرح شبكتي العروضية المتواضعة والمتهالكة على قصائد آثرتُها بالحب، وشعرتُ دائمًا بقربها من القلب، وتمنيتُ لو تستجيب للنظم طواعيةً ودون إكراه — حاولتُ هذا مع قصائد لشعراء أحببتُهم وعشتُ معهم وترجمتُ عنهم من قبلُ، مثل: إلوار ولوركا وجوتفريد بِن وإنجبورج باخمان وباول سيلان (ولكلٍّ منهم قصيدةٌ واحدة في هذه المجموعة) … وغيرهم، والأغرب من ذلك أنني حاولتُ قبل سنواتٍ طويلة — وكانت بالطبع محاولةً طائشة! — أن أنظم بعض القصائد أو مجرَّد أبياتٍ أو مقطوعات من قصائد تُعَدُّ في تاريخ الأدب والشعر علاماتٍ بارزةً على تحولات «الشعرية» الغربية، ونُقط تحولٍ فارقة في مسيرة الشعر الغربي بأسْره، وأقصد بذلك — على سبيل المثال لا الحصر — قصائد معروفة ومشهورة بصعوبتها وأهميتها مثل: السفينة السكرى لرامبو، والمقبرة البحرية لفاليري، والأرض اليباب لإليوت، ومرثيات دوينو لريلكه، وبعض القصائد والأغنيات القصصية — البالادات — التي سحرت لُبِّي، وما زالت تسحرني وتجذبني لترنيمها من حينٍ إلى حين، وذلك من فرانسوا فيون إلى جوته وشيلر وبريشت وغيرهم، لكنني تراجعتُ عن تلك المحاولات الطائشة على الفور، ولم أعُد إليها أبدًا، لا لأنني لم أنظم أبدًا إلا تلك القصائد التي نظمَتني — إذا جاز هذا التعبير — ولا لأن نظْم إحدى تلك الروائع العسيرة أمرٌ لا يصح أن يقدم عليه إلا شاعرٌ كبير في لغته فحسب، بل لأن المحاولة نفسها ستجني لا محالة على النص الأصلي، وستلجأ حتمًا إلى تحريفه أو الإضافة إليه والحذف منه، أو على أقل تقديرٍ إلى إبداعه إبداعًا جديدًا — ربما يكون بعيدًا عن الأصل بُعْدَ ترجمة فيتزجيرالد الإنجليزية لرباعيات الخيام عن الأصل الفارسي وربما أكثر وأسوأ! — والأوفق في كل الأحوال هو نقْل هذه الروائع في أسلوبٍ نثري وغنائي أمين ودقيق وحسَّاسٍ بقدر الإمكان كما فعلتُ مع الأمثلة السابقة ومئاتٍ غيرها في كتبي المتواضعة التي سبَق أن قدمتُها عن الشعر الغربي، ومن أهمها: «ثورة الشعر الحديث» بجزأَيه، وعزائي الوحيد عن عدم ورُود نماذج لأولئك الشعراء الذين أخلصتُ لهم الحب هو أنني قدمتُ لهم في كتبي السابقة ترجماتٍ نثريةً عديدة ربما يفوح منها عبقُهم الخاص …

(٣) مع أن الاختيار لم يتم بناءً على أي أفكارٍ مسبقة ولا انطلاقًا من أي اتجاهٍ نقدي أو مذهبي أو أيديولوجي محدَّد، بل كان ثمرة اللقاء والحوار المباشر وتقمُّص روحٍ لروح — وكل ترجمةٍ شعرية هي نوعٌ من تقمُّص الأرواح على حد قول شوبنهاور! — فقد لاحظت بعد إتمام الكتاب أنه يُعبِّر إلى حدٍّ ما، وبصورةٍ متواضعة لا تطمح لأي درجةٍ من درجات الكمال أو حتى ما يُسمَّى «بالتغطية» لمذهبٍ أو تيارٍ أو عصرٍ بعينه — أقول لاحظتُ أنه — أي هذا الديوان الذي اشترك في تأليفه أكثر من أربعين شاعرًا وشاعرة! — ربما يعطي فكرةً مبدئيةً عن مسيرة الشعر الغربي وبعض تحولاته المهمة على امتداد أكثر من ألفَي سنة … فهناك — على ما بدا لعَين البصر والبصيرة برغم الهرم والكلال الواضحَين — خيوطٌ رفيعة ودقيقة — إلى حدِّ الخفاء في معظم الأحيان — يمكن أن تربط شِعر الحب المعذب الأسيان عند سافو — من القرن السادس قبل الميلاد — بشعر الحب وتجربة الحزن والفراق الأليم عند جوته وهلدرين وبعض المعاصرين والمعاصرات من أمثال: أنجاريتي وإ. باخمان وإلزه لاسكر شيلر وجيزيلا كرافت. وهناك خيطٌ دقيق، ولكنه أكثر وضوحًا وأشد متانة، بين شعر التمرُّد والثورة السياسية عند ألكايوس من القرن السادس قبل الميلاد أيضًا، وبين الكثير من الشعر السياسي والكفاحي عند شاعرَين معاصرَين، انحصر معظم جهدهما فيما يمكن أن نسميه شعر المقاومة للاستبداد والحرب والظلم بكل أشكاله، وهما: برتولد بريشت وإريش فريد. وهناك إلى جانب ذلك كله نماذج مختلفة تعبِّر عن اتجاهاتٍ وتياراتٍ وحركاتٍ ومدارس متنوعة، نماذج مما اصطُلِح على وصفه بالشعر الكلاسي أو الرومانسي أو الرومانسي الجديد أو الرمزي أو التعبيري أو الحداثي أو الهيرميتيكي — أي الشعر الذي اتُّهم بالغموض والإلغاز مثل شعر أنجاريتي — أو من الشعر السياسي الذي لم يتسع الكتاب لأكثر من ثلاثة أو أربعة نماذج قديمة وحديثة منه كما سبق القول …

(٤) سيشعر القارئ — الذي تفضَّل مشكورًا بمتابعة بعض إنتاجي السابق — بأن هذا الكتاب يُعيد نشر قصائد سبَق نشْرها في عددٍ من كتبي السابقة. هذا حقٌّ أعترِف به ولا أنكره، وربما كان أمرًا لا مفرَّ منه بالنسبة لكاتبٍ قضى معظم حياته مع الشعراء الخُلَّص، أو بالأحرى مع الفلاسفة الشعراء والشعراء الفلاسفة (وذلك بحكم لقمة العيش والتخصص في تاريخ الفلسفة!)، ولم يكن من الممكن أن يخلو هذا الكتاب من عددٍ من النماذج الشعرية التي وردَت في صيَغ منظومةٍ في أحد كتبي التي خصصتُها للشعر والشعراء، وهي إما كتبٌ مستقلة وضعتُها عن شعراء قدامى ومحدثين ومعاصرين مثل: سافو، وجوته، وهولدرلين، وبريشت، وأنجاريتي، وعادل قرشولي، أو هي كتبٌ عن الشعر الغربي الحديث بدءًا من رُوَّاد الحداثة الكبار — بودلير ورامبو ومالارميه — إلى الشعر في القرن العشرين — (كما في كتابي المتواضع «ثورة الشعر الحديث» ١٩٧١–١٩٧٣م) — أو عن تطوُّر الشعر الألماني بوجهٍ خاصٍّ بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف استطاع — مع الأنواع الأدبية الأخرى — أن يعبِّر عن «أدب الأطلال»، ويساعد في انتشال الواقع الأدبي والاجتماعي الألماني من هاوية العدم والخراب (وذلك في كتاب «لحن الحرية والصمت: الشعر الألماني بعد الحرب العالمية الثانية» ١٩٧٤م)، أو في كتبٍ خصصتُها لحركة أدبيةٍ محدَّدة، مثل كتاب «التعبيرية: صرخة احتجاج في الشعر والقصة والمسرح» (١٩٧١م) أما الكتاب الذي حرصتُ على اقتباس بعض النماذج الدالَّة منه وإعادة نشْرها فهو كتاب «قصيدة وصورة: الشعر والتصوير عبر العصور» (سلسلة عالم المعرفة، ١٩٨٧م) الذي قصدتُ من ورائه محاولة التأصيل — في أدبنا العربي — لفرعٍ جديدٍ نسبيًّا من فروع النقد الأدبي الحديث، وهو ما يُسمَّى ﺑ «قصيدة الصورة» الذي يُعنَى بدراسة ومتابعة القصائد التي قالها الشعراء — منذ العصر الإغريقي والروماني حتى يومنا الحاضر — عن أعمال مختلفة من الفن التشكيلي، سواء كانت صورًا ورسومًا أو أعمالًا نحتية، أو جداريات بارزة أو غائرة، أو أعمالًا تتصل بفنون الخزف والزجاج والعمارة وفنون التعبير — في تصوير الكتب وتغليفها — عن أعمال أدبية معيَّنة (كالرسوم واللوحات والصور التي لا آخر لها عن إلياذة وأوديسة هوميروس، أو عن الكوميديا الإلهية لدانتي، أو فاوست لجوته، وذلك بطبيعة الحال على سبيل المثال لا الحصر)، أردتُ إذَن من ذلك الكتاب أن يشارك في تأصيل هذا الفرع الأدبي والفنِّي لدَينا، ولفتُّ أنظار إخوتنا وأبنائنا من المبدعين والنقاد في الأدب والفن التشكيلي على الاهتمام به والدعوة لتنميته وازدهاره بعد بداياته المتواضعة على يدَي جبران على سبيل المثال، لكنني اكتشفتُ — أو بالأحرى تأكَّد لي اكتشافٌ قديم! — أنني أحد الصارخين في البرِّية ممن تموج بهم الساحة الأدبية والثقافية العربية …

(٥) وأود أن أؤكد للقارئ الكريم أن جميع النماذج التي أُعيدُ نشْرها في هذا الكتاب قد تمَّت مراجعتها مرةً أخرى على الأصل، وزُوِّدَت بشروحٍ جديدةٍ لم يسبق نشْرها، هذا إلى جانب أن الكتاب يحتوي على نماذج عديدةٍ لم يسبق نشْرها على الإطلاق لشعراء كثيرين — من القدماء والمحدثين والمعاصرين — لم يسبق أن اشتغلتُ بهم ولا كتبتُ أو ترجمتُ عنهم، مع تأكيد ما سبق أن قلتُه من أن النماذج السابقة قد زُوِّدَت في هذه الطبعة بمداخل ومقدمات وشروحٍ جديدةٍ تُلقي الأضواء على النص والشاعر والعصر، وتُحاول أن تلمس جوهر الشعر نفسه وتُحلل بنْيتَه وتُلقي الضوء عليه.

وأكرر ما سبق أن رددتُه من أن تجربتي بالقصيدة وشرْحي لها لا يصدران عن أي أفكارٍ نظرية أو نقدية أو مذهبيةٍ مُسبَقة، وإنما ينبعان — قبل كل شيء، وبعد كل شيء — من نبْع «التعاطُف» مع ذلك الكيان اللغوي والوجداني والبياني المنغَّم المتفرِّد الذي نُطلق عليه اسم القصيدة الشعرية، ثم من حواري الدائم مع هذا الكيان الشفاف الرقيق، الذي يشبه وجه عروس يكشف كل خمار يرفعه العريس عن وجهها عن محاسن جديدةٍ في الوجه الجميل المحبوب أو الغامض المحجوب … ومعلومٌ أن الحوار الحقيقي لا يجوز أن يُقطَع فجأةً ولا أن يُوجَّه إلى نتيجةٍ نهائيةٍ وأخيرة. إنه عمليةٌ متصلة لا ترتبط بوجود الشاعر — الذي قد تفْصلُنا عنه مئات السنين — بل ترتبط بقدرتنا نحن على الانفتاح على نصِّ القصيدة نفسها وتبادُل الحديث معها وتجاوُب الأسئلة والردود بيننا وبينها، ولذلك فإن جميع الشروح التي يقدمها هذا الكتاب هي أبعد ما تكون عن الزعْم بأنها نهائية أو وحيدة. إنها مجرَّد مقاربات أو تفسيرات أو تأويلات واجتهادات لا تنفي إمكان قيام مقاربات وتفسيرات واجتهادات أخرى، ربما بعدد القراء أنفسهم على اختلاف عصرهم وثقافاتهم وموهبتهم وخبرتهم ومعرفتهم بالشعر وتطوُّره وفنونه … إلخ، ولعلِّي — إن كان لا بُد من تحديد منهجٍ أدبي أميل إليه أكثر من غيره — أن أكون قريبًا من المنهج «الهيرمينوطيقي» — أي التفسيري أو التأويلي الذي كنتُ — قبل سنواتٍ لا تقل عن عشر — قد اطلعتُ على تاريخه وأُسسه ومناهجه، واستعنتُ به في محاولة قراءة وفهم وتفسير نصوص أدبٍ قديمٍ لحضارةٍ قديمة، وهي النصوص التي عُرفَت بنصوص أدب الحكمة البابلية (قدمتُها في كتابي المتواضع: جذور الاستبداد — قراءة لأدبٍ قديم — سلسلة عالم المعرفة، ديسمبر ١٩٩٤م) والمهم من هذا كله أن ندخل دائمًا في حوارٍ متصل ومتعاطف مع ذلك السرِّ المكشوف — والتعبير لجوته! — السرُّ الوجداني المنغَّم الذي نُسمِّيه القصيدة الشعرية، والذي نحاول من خلال سبْر أغواره اللغوية والبيانية والدلالية والصوتية والشكلية أن نتذوقه ونعرفه، ونعرف من خلاله أنفسنا والواقع الثقافي والاجتماعي والطبيعي المحيط بنا، والمحدِّد لطبيعة وجودنا وتذوُّقنا وتلقِّينا، سواء تقبلْنا ذلك أو تمردْنا عليه …

(٦) يُقدِّم لنا الشاعر راينر ماريا ريلكه (١٨٧٥–١٩٢٦م) أحد المشاهِد التي رآها وعايَنها أثناء رحلته الشهيرة إلى مصر وآثارها التليدة (وذلك في أوائل سنة ١٩١١م) والمشهد في حد ذاته شهادةٌ صادقة على رؤيته للشعر، وتعبير عن موقفه من وظيفة الشاعر ومكانته في هذا العصر وفي كل عصر؛ فهو يحكي لنا عن رحلةٍ نيلية قام بها في قارب عادي من تلك القوارب البسيطة المتهالكة التي يعبُر بها السواحُ النيلَ من شاطئه الشرقي إلى الشاطئ الغربي، يمسك بالدفة الخشبية الصغيرة صبيٌّ أسمر صغير، أو عجوزٌ نحيل لوحَت الشمس اللاهبة وجهه الضامر، وكادت أن تحرق ملامحه الصخرية الطيبة البائسة، كان القارب الصغير متجهًا إلى المرسى الخشبي المتواضع عند معبد فيلة (قبل نقله إلى موقعه الحالي …)، وما هو إلا أن عصفَت الريح، وارتفع الموج وهاج، واضطرب القارب الهرم بمن فيه وما فيه، وكافح «المراكبية» المساكين، والعرق يتصبب في وجوههم المجعَّدة وجلابيبهم البيضاء السوداء المتهرئة المتآكلة، بأذرعهم السمراء البارزة العروق التي تحاول بالتجديف الصامت أن تعدل ميزان القارب المترنح ذات اليمين وذات الشمال، وتحافظ على الإيقاع — الذي يوشك أن يختل ويسقط في هاوية الغرق الذي يهدد الجميع — بينما يلتقطون أنفاسهم ويخرجونها في شهقاتٍ قصيرةٍ موجعة — فجأةً أطلق الرجل العجوز الممسك بالدفة عقيرته بالغناء — لا شك أنه أخذ يردد موَّالًا صعيديًّا قصيرًا أو راح يكرر اسم الجلالة في إيقاعٍ متلاحقٍ تدوي به الحناجر الجافَّة، وتخفق له القلوب الفزِعة الواجفة، وترتفع الأصوات وتتواءم الإيقاعات، ويأنس المراكبية للإنشاد الجماعي، ويجدون فيه الأمان والعزاء في مواجهة الخطر المحدق الذي كاد الغناء أن ينسيهم إياه، وبينما يبذل الملاحون جهدهم اليائس لمقاومة الأمواج، تحاول أغنية العجوز أن تقاوِم يأسهم، إنهم يريدون السيطرة على العنصر الثائر القريب منهم والمهدد بابتلاعهم، في الوقت الذي تحاول فيه أغنية الشاعر — أو موال العجوز الصعيدي! — أن يربط القارب بالغاية البعيدة، ويشيع الأمل في النفوس الخائفة بقربه منهم، أو على الأقل بأن جهدهم لن يضيع بغير طائل … ويعقِّب ريلكه على هذا المشهد أو هذه الحكاية بقوله: لست أدري لماذا ولا كيف حدث لي هذا، لكنني أدركتُ فجأةً موقف الشاعر، وعرفتُ مكانته ووظيفته في هذا العصر. لا بأس أن ينكر عليه الناس كل مكان آخر ما خلا هذا المكان. هنا ينبغي عليهم أن يتحملوه، أي لا يضنُّوا عليه بمغامرة البحث عن الشاطئ المجهول، ومرافَقة الملاحين التائهين بالإنشاد والغناء، وإرسال سحابةٍ هادئة من المعاني والرموز فوق رحلة المصير المظلم المَخُوف … وليس المعنى الكامن وراء هذا كله ولا المراد به — في تقديري المتواضع — أن النجاة والخلاص — خلاص الشعر والعالم معًا — مرهون بوجود عدد من البلابل والقبرات والعصافير؛ إذ ليس الشعر هو المعادل الإنساني لغناء البلابل والعصافير! وإنما المقصود منه فيما أتصوَّر هو حاجة الشعر والناس معًا إلى صوت «النَّحْن» الذي يتردد في شعرٍ غنائي وجماعي، لا سيما في أوقات المِحن والكوارث التي تلمُّ بالجماعة والوطن، إلى حدِّ أن يصبح إمكان الوجود نفسه في خطر، ويدوي سؤال هاملت المعروف على لسان المجموع لا على لسان الفرد الواحد أو الأنا أو الذات الوحيدة: هل نكون أو لا نكون؟ إن للشعر مقومات أساسية لا يمكن أن ينهض بدونها؛ فالشعر — كما يقول الناقد الكبير المرحوم محمد مندور١ — لا بُد أن يثير فينا إحساسات جمالية وانفعالات وجدانية، وإلا فَقَدَ صِفتَه. ولتحقيق هذه الأهداف، هناك عدة وسائل أو خصائص لا بُد من توافرها فيه: كالوجدان في مضمونه، والصور البيانية في تعبيره، وموسيقى اللغة في وزنه.
وأحسب أن الناقد الكبير كان يقصد الشعر الغنائي أو شعر الاتجاه الوجداني كما سمَّاه ناقدٌ كبيرٌ آخر هو الدكتور عبد القادر القط رحمة الله عليه، وهذا الشعر — كما هو معلومٌ ومتَّفق عليه بحكم تقاليده العريقة عندنا وعند غيرنا، وفي الشرق والغرب على السواء — هو ذلك التعبير الشعوري المباشر لأنا شعرية، حقيقية أو متخيلة، تغدو هي الشرط والمكوِّن الأساسي الذي لا غنى عنه ولا وجود بغيره للشعر الغنائي. (لنتذكر هنا أن الشعر عندنا — في أحد معانيه على الأقل — يأتي من الشعور،٢ وأن كلمة الشعر عند الغربيين مشتقة من الكلمة الدالة على العُود أو القيثارة — الليرا ومنها الليريك — التي تعني في وقتٍ واحدٍ الآلة الموسيقية المعروفة وقيثارة القلب الإنساني التي يعزف عليها الوجدان بأنامل اللغة المنغمة إيقاعاته الذهبية الحزينة أو المفرحة …)

أريد أن أخلص من هذا إلى أن «الأنا»، التي يقوم عليها وينبع منها الشعر الغنائي، لم تعد دائمًا بالضرورة — وتحت تأثير تيارات الحداثة وما بعد الحداثة! — هي الأنا الفردية بل ولا الأنا الإنسانية المعبرة عن أحزانها وأفراحها الذاتية؛ فقد أصبحَت عند كثيرٍ من شعراء العصر الغربيين (لا سيما ابتداءً من رامبو ومالارميه وفاليري وإليوت وأتباعهم والمتأثرين بهم) في معظم الأحيان «أنا» محايدة أو باردة أو كلية عامة طرحَت عنها النزعات البشرية المألوفة، وانطلقَت بحثًا عن معادلات الانفعالات والعواطف المباشرة من الصُّوَر والرموز في منظومات وتكوينات الموضوعات والأشياء والكلمات … إلخ، ولست أريد الوقوف عند هذه القضية (وهي اطِّراح النزعة البشرية أو المشاعر العاطفية المباشرة عند الشاعر الغربي الحديث) بعد أن عرضتُ لها في أحد فصول كتابي السابق الذكر عن «ثورة الشعر الحديث»، وبيَّنتُ أنها أحد المبادئ أو الشروط المؤسسة للتجديد الحداثي منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم الحاضر …

(٧) إذا سلَّمْنا بأن الشعر الغنائي تعبيرٌ عن الوجدان؛ ليشفي الشاعر نفسه — كما يقول محمد مندور — أو ليخلِّصها من كروبه وأزماته بحيث يصبح إنتاجه الشعري كله — كما قال جوته عن نفسه — نوعًا من الاعتراف الكبير؛ فلا بُد أن نسأل بعد ذلك عن طبيعة هذا الوجدان: هل هو الوجدان الفردي فحسب، أم أن من الممكن أن يكون الوجدان الجماعي أيضًا؛ بحيث لا يتحدث الشاعر عن آلامه وآماله وأشواق روحه الخاصة فحسب، بل يتحدث أيضًا عن آمال شعبه وآلامه وأشواق روحه «باعتبار أن وجدان الشاعر لا يمكن أن يكون ذاتيًّا خالصًا في الأحوال العادية وفي غير حالات الانعزال أو الانطواء المرَضي أو الأثرة المسرفة أو الغفلة التي لا تجعله يدرك أن وجدانه جزء من وجدان مجتمعه، متأثرٌ به مؤثرٌ فيه، وأن الشاعر مهما كانت أصالته إنما يتكون من رواسب ماضيه وماضي قومه وإشعاع حاضرهم وإرهاصات مستقبلهم» …٣

لم يعُد من الممكن ولا من الطبيعي أن يبقى شعرنا الغنائي العربي شعرًا ذاتيًّا وفرديًّا كما كان على الدوام (ربما باستثناء بعض الأعمال النادرة في شعرنا الجديد الحرِّ التي حلَّت فيها «النَّحْن» محل «الأنا» الغارقة في بحرها الخاص)، ولم يعد من الممكن ولا الطبيعي أن يظل الشعر عندنا «متاع الخواص» بسبب قيوده ولُغَته، لا سيما في أوقات المِحَن العامة ونُقط التحول الحاسمة ومفترقات الطرق التاريخية والحضارية العصيبة التي اعتادت فيها الجماعة أن تتلفَّت حولها بحثًا عن مفكِّريها وشعرائها من «حاملي المصابيح» في النفق المعتم، وأصحاب الأصوات الهادية على الطريق المظلم، في هذه الحالة ينتظر الناس من شاعرهم المعبر عن آمالهم وآلامهم أن يزيح «أناه» الذاتية إلى الوراء قليلًا ويدمجها في «النَّحْن» العامة التي يلتحم فيها أنا وأنت وهم، لا في وحدةٍ صوفيةٍ مجردة، ولا في هتافٍ ثوري زاعق أو هادف، بل في وحدة المصير المهدَّد بالإذلال والمهانة والمواجه في أيامنا — ومنذ الهجمة الهمجية والبربرية لدولة الإرهاب الإسرائيلي وبتشجيع من الإدارة الأمريكية وصمتٍ شبه مطبق من العالم «المتقدم» وغير المتقدم — المواجه بخطر التصفية والإبادة المعنوية والجسدية … لن يمنع أحدٌ شاعرنا من إنشاد قصائد حبه؛ فلم يُوجَد أبدًا ولن يُوجَد أي تعارُض أو تناقُض بين الحب والحرية، وجناحا طائر الشعر الخالد كانا على الدوام هما الحب والحرية (نذكر — على سبيل المثال لا الحصر — بعض قصائد ألوار وأراجون وناظم حكمت ونيرودا ودرويش والقاسم وزياد والبياتي والبردوني وحاوي وأمل دنقل والمقالح والوقيان وغيرهم وغيرهم …) وعندما تصبح «النحن» هي الأساس المتين الذي تقوم عليه السياسة والحياة والعلم والفن والشعر، فلا بُد أن تتغير تبعًا لذلك توجهاتها وموضوعاتها وأساليبها ووظائفها وغاياتها، ولا بُد أن تتحول كلها إلى «قصائد» تمجيدٍ للحياة والجمال والأمل والعدل والمعرفة والحرية، وتكون مقاوِمة لكل أشكال القبح والفوضى والظلم والعدوان على حق الإنسان في الحياة والسلام والغناء …

ولا ننسى أبدًا أن الشعر الحقيقي قد كان — وسوف يظل على الدوام، بحكم طبيعته ووظيفته نفسها — «مقاوَمةً» مستمرةً لأشكال الانحراف والتشوُّه التي ذكرتُها من قُبح وظُلم واستبداد واستبعاد … إلخ، وأنه سيبقى أسلوبًا — بل أنضج الأساليب وأصفاها وأعمقها تأثيرًا وتغييرًا — للحياة والعمل، وللمعرفة والحب والحرية، والإنسانية المستنيرة الراقية التي تهتدي بمنارته في بحر الظلمات التاريخية والواقعية التي كُتِبَ ويُكتَبُ عليها أن تخوضه.

(٨) ليست هذه المجموعة المختارة سوى حلقةٍ واحدة — شديدة التواضع — في سلسلة الترجمات الشعرية التي فازت بها لغتنا وأدبنا في العقود الأخيرة من القرن العشرين. ولا أجدني بحاجة للرجوع إلى الترجمات الأدبية — على نُدرتها الشديدة — في تراثنا الوسيط، بل إنني لا أريد أيضًا — في هذا الحيِّز المحدود — أن أتطرق للترجمات الشعرية التي أنجزها شعراء كبار وشعراء مجددون في العصر الحديث (كترجمة سليمان البستاني في أواخر القرن التاسع عشر لإلياذة هوميروس، أو ترجمة أحمد شوقي ﻟ «بحيرة» لا مارتين وبعض أقاصيص وخرافات لا فونتين على ألسنة الحيوان، أو ترجمة العقاد لمختارات من شعر توماس هاردي، وشكري والمازني وعلي محمود طه وغيرهم لبعض قصائد الشعر الرومانسي الإنجليزي أو الفرنسي، أو ترجمة محمد فريد أبو حديد لقصيدة ماثيو أرنولد القصصية «سهراب ورستم»، وترجمة الدكتور زاخر غبريال، بالشعر المرسَل، لبعض روائع الشعر الإنجليزي عبر العصور، والشاعر بدر شاكر السياب لعددٍ من قصائد أديث سيتويل وغيرها، والشاعر بدر توفيق لرباعيات الخيام عن ترجمة فيتزجيرالد، وذلك كله بالإضافة إلى ترجمة عددٍ لا يُحصَى من بدائع الشعر الغنائي الإنجليزي والقصصي والملحمي لمجموعةٍ كبيرة من ألمع المترجمين العرب عن الإنجليزية الذين لا يمكن الكلام عنهم هنا بالتفصيل؛ لأن ذلك كله يحتاج إلى بحوثٍ خاصَّةٍ ربما كان غيري أقدر على القيام بها) ولكنني سأكتفي بتقديم أمثلةٍ ثلاثة لترجماتٍ شعرية أعتقد أنها كانت موفَّقةً غاية التوفيق، إلى الحدِّ الذي يُنسيك — أو ينسيك عددٌ كبيرٌ منها — أنها مترجَمة، وهذه هي الغاية القصوى والمثل الأعلى لأي ترجمةٍ متكافئة وصادقة ودقيقة، وهي أن تنسيك — لفرط جمالها وانسجام إيقاعها — أنها ترجمة، وإن لم تُنسِك أن الذي قام بها شاعرٌ في لغته …

(٩) وأبدأ بالمثل الأول — الذي لا أتردد لحظةً واحدةً في وصفه بأنه مثلٌ أعلى — وهي الترجمة التي قام بها الصديق الشاعر المرموق وعالم الفلكلور فوزي العنتيل رحمه الله، وصدرَت عن دار الكاتب العربي في القاهرة سنة ١٩٦٨م تحت عنوان «الحرية والحب»،٤ وقدم لنا فيها — بالإضافة إلى القصائد الشعرية والقصائد القصصية المختارة من الشعر الشعبي المجري الذي استقى جميع شعراء المجر من نبعه، كما استلهمه كبار الموسيقيين المجريين مثل بيللا بارتوك وزلتان كودالي — أقول قدَّم لنا قصائد ومقطوعات مختارة لتسعة عشر شاعرًا مجريًّا تبدأ من عصر النهضة إلى منتصف القرن العشرين.

وقد تغلغل فوزي العنتيل في روح هذا الشعر، وحاوَل الحفاظ على أسلوب القصيدة ونبضها وبنيتها وهندستها؛ فترجمته تتراوح بين الالتزام بالشعر الموزون المقفَّى على طريقة شعرنا العمودي أو التقليدي، مع عدم التقيُّد في معظم الأحيان ببحرٍ واحدٍ في القصيدة الواحدة، بل التنقل بين أكثر من بحر حسب الموقف النفسي أو ضرورات المعنى والحوار، أو مراعاة للأصل نفسه — في ترجمته الإنجليزية التي اعتمد عليها — وبين التخفف من قيد القافية والوحدات البيتية المتوالية واللجوء إلى نظام التفعيلة في شعرنا الحر الجديد الذي يصطلح أحيانًا على إطلاق اسم شعر التفعيلة عليه، وذلك كله مع الالتزام الدائم بالأمانة والدقة والحساسية المرهفة في محاولاته الدَّءوب لنقْل المعنى والشعور — بل لخلقهما خلقًا جديدًا — في ثوبٍ عربي، أجمل ما يفتنك فيه أنه ثوبٌ عربي أصيلٌ وخالٍ من الرقع الغريبة، على الرغم من غرابة وقْع الكثير من أسماء الأماكن والأشخاص على أذن القارئ العربي …

ولعل أهم ما جذب الشاعر وعالِم الفلكلور إلى التصدي لهذا الجهد الكبير — مع شعر بلدٍ صغير مكتوب بلغةٍ بعيدة كل البعد عن الانتشار أو العالمية — أنه شِعر أمةٍ شجاعة كافحَت طوال تاريخها — ومنذ القرن العاشر الميلادي على الأقل — في سبيل استقلالها، وعانت منذ القرن السابع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية أقسى ألوان العذاب، وقدمَت أعظم التضحيات في سبيل التحرُّر من نير الاحتلال التركي العثماني والنمسوي والنازي والسوفييتي. وربما كان أعجب ما في هذا الشعر وأقدره على دعوة القارئ للافتتان به وإجلاله وإكباره هو أن أصحابه بغير استثناء من أرباب السيف والقلم، وليس معنى هذا أنهم جميعًا قد سقطوا في ميدان حروب الاستقلال التي لم تنقطع في تاريخ المجر الحديث كما حدث لشاعرها الأكبر والأشهر شاندور بيتوفي (١٨٢٣–١٨٤٩م) وغيره، بل معناه أن هؤلاء الشعراء جميعًا لم يتخلوا لحظةً واحدةً عن الانشغال بهموم شعبهم الفقير المظلوم، والتعبير عن آلام مواطنيهم البسطاء المطحونين من الفلاحين والعمال البؤساء، والرجوع بصفةٍ مستمرة إلى نماذج البطولة والفداء في تاريخهم الوسيط والحديث والمعاصر … ومن يدري؟ لعلَّ ظروفنا السياسية والاجتماعية في الفترة التي ترجم فيها المترجم — أو بالأحرى أبدع! — هذه المختارات، قد كانت من أهم الحوافز التي شجعَته على الإقدام على المحاولة الصعبة والخطرة، وهي ظروف النضال في سبيل الوحدة العربية، ومقاومة الحزن والألم الفاجع الذي أحس به الإنسان العربي بعد النكسة المشئومة، والجهود المشتركة للمفكرين والأدباء والشعراء العرب لإيقاظ الأمة وتنبيهها وتحذيرها وحفز كل قواها المتطلعة إلى التقدم والنهضة للصمود في وجه عدوٍّ إرهابي غادر لم ولن ينقطع إرهابه وغدره حتى يقتنع بأنه يواجه أمةً حرةً وقوية لا تقل عنه قوة … ثم مَن يدري أيضًا؟ … ربما كانت المحاولات المشتركة للشعراء العرب لتجديد شعرنا وتثويره بناءً ولغةً ووظيفةً، ربما كانت وراء محاولة فوزي العنتيل — رحمه الله — الذي شارك بنصيبٍ وافر في مسيرة الشعر العربي الجديد، وكانت ترجمته للشعر المجري جزءًا لا يتجزأ من جهوده الصادقة التي لم يقف النقد عندها — كما هي العادة! — الوقفةَ التي تستحقها عن جدارة.

(١٠) والمثل الثاني للترجمة الشعرية يقدمه كذلك شاعرٌ مبدع هو المرحوم محمد البخاري، الذي نقل لنا عن الفرنسية ديوان شاعر الحرية والثورة والحب والعدل والسلام ناظم حكمت «أغنيات المنفى»٥ وهو الديوان الذي كتبه بعد الخروج من سجنٍ دام ثلاث عشرة سنة متصلةً في خمسينيات القرن الماضي تحت عنوان «المنفى حرفة شاقَّة». ويضم الديوان خمسين قصيدةً أشبه برسائل تفيض بالحب والأمل والعذاب بين المَنافي المختلفة، بعث بها الشاعر إلى زوجته وابنه محمد المقيمين بعيدًا عنه في إستانبول.

وقد نظم منها المرحوم البخاري إحدى وعشرين قصيدة في شعرٍ عذب متدفِّق بالحماس والحنان والصدق، وفي بحرٍ بسيطٍ سهل المأخذ (لعله هو المتقارب أو المتدارك) طالما استخدمه شعراء التفعيلة وصاغوا فيه قصائدهم الغنائية والقصصية، وقد آثر البخاري أن يلجأ للترجمة النثرية النابضة بالغنائية والشاعرية في ترجمة أربع وعشرين قصيدة أخرى، بينما راوَح في بقية القصائد بين الشعر والنثر. ولا تقتصر هذه الترجمة أيضًا على أن تُشعرك بأنها «ليست ترجمة» لخلُوِّها من كل أثر للصنعة والافتعال والمعاظلة، بل تُحس معها — قبل كل شيء — بتوحُّد روح المترجم مع روح الشاعر إلى حدِّ التقمُّص أو الحلول … وذلك شيءٌ متوقَّع من مترجمٍ آمَن بالاشتراكية التي آمن بها وتعذب من أجلها ناظم حكمت، وتبنَّى مبادئها وعاش ودعا في شعره السابق لقضايا العدل والحرية التي كافح المؤلف ونُفِيَ ومات في سبيلها وفي سبيل يوم أجمل لم يأت بعد … والجدير بالذكر أن الشاعر قد سمع بنفسه بعض قصائد هذه الترجمة العربية، وذلك أثناء زيارته للقاهرة ومشاركته في مؤتمر كتاب آسيا وأفريقيا في عام ١٩٦٢م، وتمنَّى أن تصِله مطبوعةٌ في كتاب، لولا أن الأزمة القلبية المباغتة فاجأَته لثالث مرة في بداية عام ١٩٦٣م، وقضَت عليه قبل أن ترى الترجمة النور.

(١١) ونأتي إلى المثل الثالث والأخير للترجمة الشعرية، والطريف فيه أنه لشاعر العامية المصرية الدكتور المهندس أسامة فرحات، الذي أعتقد أنه أحدث في دواوينه الأربعة ثورةً حقيقية في شكل قصيدة العامية ومضمونها الذي يستمده من حياة الناس اليومية وهمومهم وتجاربهم الواقعية، ويثريه ثراءً شديدًا بالإيحاءات الفكرية والثقافية والفلسفية، وينفث فيه من عواطفه الجياشة بالغضب والتمرُّد والسخرية معًا …

والنموذج الذي أقصده هو الذي صدر قبل أحد عشر عامًا (١٩٩٢م) تحت عنوان «مختارات من الشعر الإنجليزي المعاصر»، وأعاد فيه المترجم إبداع قصائد سبق أن أبدعها في ثمانينيات القرن الماضي أربعة عشر شاعرًا من أكبر الشعراء الإنجليز المعاصرين (من أهمهم وأشهرهم فيليب لاركن وأيان هاملتون وشيماس هيني وبيتر بورتر وتيد هيوز وسيلفيا بلاث ور. س. توماس وأدريان ميتشيل وغيرهم ممن قدَّم المترجم في نهاية المجموعة نبذةً موجزة ووافية عن كل واحدٍ منهم …)٦

وقد آثر المترجم، على حدِّ تعبيره، أن تكون ترجمته لهذه المختارات في «صوغٍ شعري»، وحاول قدر الطاقة أن ينقل الجو النفسي للقصائد، والصور الشعرية بها، مع تمثل الأسلوب المتميز لكل شاعر في عرض موضوعه …

وهذه العبارات — التي تتضوع بعبير التواضع الشديد — لا يمكن أن تقلل من أهمية هذه المحاولة التي استحقَّت أن تُوضَع إلى جوار المحاولتين سابقتَي الذكر، ولا أن تغض من الدور المتميز الذي تساهم به في الوصول إلى حلٍّ أمثل للمشكلة الأزلية عن ترجمة الشعر بين المؤيدين لها — على أساس أن ما نكسبه منها لا يقل عمَّا نخسره — والمعترضين عليها بصورةٍ مطلقةٍ بزعم استحالتها (من الجاحظ وعبارته المشهورة في كتاب الحيوان إلى شيلِّي ونزار قباني الذي اشتهرَت عبارته القائلة بأن الشعر نار والترجمة رماد، وغيرهم وغيرهم حتى يومنا الحاضر …) ولأن المشكلة عسيرة، ولأنني قد ناقشتُها في مقالَين طويلَين سبق نشرهما،٧ فإنني أرجع إلى ترجمة أسامة فرحات الشعرية التي لا يسعني إلا الترحيب بها واعتبارها خطوةً إلى الأمام على الطريق الطويل نحو الترجمة التي تقربنا من الأصل بإيقاعه الموسيقي وصوره ومعانيه وبنيته الشكلية، وإن كان من المستحيل بطبيعة الحال أن نصل في أي لغة من اللغات إلى الترجمة المكافئة تمامًا للأصل، أو إلى الترجمة التي يمكن أن تُغنينا بصورةٍ مطلَقة عن الرجوع له في لغته الأصيلة. وتزيد قيمة المحاولة (بجانب المحاولتَين السابقتَين) حين نتذكر أن أصحابها شعراء، وأن ثقافتهم وموهبتهم ومعرفتهم بتراثهم الرسمي والشعبي — أو الفصيح والعامي — قد ساعدَتهم على التغلغل في روح النص الأصلي وتحسُّس جسده اللفظي والصوتي والنغمي … ومن لم يكن شاعرًا في لغته أو مسكونًا بروح الشعر إلى حدِّ العشق أو الجنون؛ ففي الترجمة النثرية الأمينة والحساسة ما يشبع أشواق محبي الشعر ويلبي طموحهم إلى الإبداع الترجمي الذي يلتحم فيه العلم والفن والدقة والذوق المرهف …

ولقد تمكن أسامة فرحات — كما يقول الدكتور ماهر شفيق فريد في تقديمه لهذه المختارات — بفضل دقَّته وإيقاعه الشعري، وموازنته بين الحرية والتصرف، من نقل هؤلاء الشعراء إلى العربية نقْلًا أمينًا وجميلًا في الوقت ذاته … والحق ما قاله الناقد الكبير، ولكني أتمنى أن يُراجع شاعر العامية الموهوب ترجمته الجميلة فيجبر بعض الكسور التي تسللَت إليها (وأدركتُها بحسِّي الموسيقي لا بمقاييس الخليل التي لم أتعلمْها ولم يَعُد في العمر متَّسعٌ لتدارُك ما فات!) وإعادة تنظيم السطور حسب ما جرى عليه الشعراء الجدد في ترتيب نظام التفعيلات. وتبديد سُحب الغموض التي تلفُّ بعض الأبيات والمقطوعات. وليته يتوسع في ذكر قصائد أخرى لشعراء لم يورد لهم سوى قصيدةٍ واحدة، أو يفكر في المستقبل في التركيز على شاعرٍ واحد، كما فعل مصطفى بدوي مع فيليب لاركن وبدر الديب مع أيان هاملتون، حتى نسكن للشعر والشاعر، ونعايشه في بيته وفي عالمه، ونمتلئ بتجاربه ورؤاه وحدوسه وأحلامه …

(١٢) وأخيرًا أتمنى أن تساعد هذه المجموعة المختارة من القصائد على مراجعة بعض الأحكام الشائعة والجائرة عن استحالة ترجمة الشعر من لغةٍ إلى لغةٍ أخرى٨ (أيْ: من نظامٍ صوتي ودلالي محدَّد إلى نظامٍ آخر مختلفٍ عنه)، بحيث يترسخ في وجداننا اليقين بأن ترجمة الشعر بوجهٍ خاصٍّ يمكن أن تكون عملًا إبداعيًّا، إن لم يكافئ الأصل فلن يقل عنه في بعض الأحيان جمالًا وتأثيرًا، وذلك حسب موهبة المترجم وشاعريته وقدرته على تقمُّص روح النص الأصلي وتعمق جمالياته الشكلية والإيقاعية وإعادة إبداعه من جديد … ولست أشكُّ لحظةً واحدةً في أن تذوُّق مثل هذا الشعر (سواء في هذه المجموعة المتواضعة أو في غيرها من المجموعات التي ذكرتُها أو التي لم تبلُغ إلى علمي) لستُ أشكُّ في أنها ستضيف الجديد والثمين إلى خبرة القارئ بنفسه وواقعه الطبيعي والإنساني، وتزيد من رصيد وعيه بالحياة والجمال والحرية والعدل، وتأخذ بيده إلى أرض «الحلم الممكن» لكي يشارك الشعراء في هذا الحلم الإنساني، ويضع يده في أيديهم للعمل على تحقيقه، في وقتٍ أصبح مجرد بقاء الجنس البشري نفسه أو اندثاره موضع استفهام كبير وشديد الإلحاح …
(١٣) لقد آمنتُ — طوال رحلتي مع الحياة والمعرفة والكتابة — بأن الشعر «إنقاذ»، وأن الشاعر «منقذ»، وأن نجاة البشرية ووحدتها وسلامها — لا سيما في أوقات المِحَن وعند نُقط التحوُّل الحاسمة — كامنةٌ فيه على الدوام. وكم أعطيتُ لحكماء وشعراء قدماء ومعاصرين من وقتي وجهدي وحبي (من إيب-أور وتحذيراته المشهورة في أواخر الألْف الثالثة قبل الميلاد بعد انهيار الدولة القديمة في مصر، إلى حكماء بابل والصين واليونان وشعراء كبار تقدم هذه المجموعة بعض أعمالهم، إلى شعراء عرب — ذكرتُ بعض أسمائهم الكريمة من قبل — من زهير بن أبي سُلمى إلى أمل دنقل وصلاح عبد الصبور) وقد تصادَف العمل في هذا الكتاب مع المآسي التي داهمَتنا منذ الهجمة الهمجية الأخيرة لدولة الإرهاب الإسرائيلي التي أيقظَت فيَّ وفي كل عربي الإحساس الفاجع بالعجز والإذلال والمهانة، مع الوعي النهائي بضرورة التغيير والعمل الجدِّي الحاسم والأمين للسير على طريق النهضة، والمقاومة الصامدة لكل ما يعوق تقدُّمنا الذي لا بديل عنه إلا التهميش والانقراض. ولا أكتم القارئ أنني شعرتُ باليأس وعدم الجدوى أو المعنى من كل ما قدمتُ وما قدَّمه جيلي كله من «ثقافة» أعتقد أنها لو كانت «فعَّالةً» ومُغيِّرةً بالقدر الكافي ما وصل حجم المأساة الجماعية إلى الحدِّ الباتر والقاتل الذي وصل إليه. لقد بات من الضروري أن نراجع أنفسنا وحياتنا وثقافتنا وعلمنا وفننا وأدبنا وسائر أنماط نشاطنا وسلوكنا مراجعة جذرية أمينة بغية تأسيس ثقافةٍ فعَّالةٍ وقادرة على تغيير الوعي والواقع تغييرًا حقيقيًّا، ثقافة مقاومة لم يبْقَ أمامنا بديلٌ عنها — كما سبق القول — غير الرضا بالذل والاندثار الذي يستحيل أن يرضاه أي عربي لدَيه ذرة وعي بتاريخه وتراثه وقيَمه وحاضره ومستقبله. ومَن غير الشعراء المحذِّرين والمبشِّرين (أي الفاتيس VATES كما كان الرومان يسمون الشاعر العارف والمنبِّئ والمتنبِّئ) يمكن أن يهدي موكبنا المضطرب في زماننا العربي العاجز المكتئب؟! يحضرني الآن قول الشاعر بريشت في إحدى قصائده المتأخرة: «الشيء الوحيد الذي يجب عليك أن تتأكد منه، هو أنك ستسقط حتمًا عندما تكفُّ عن المقاوَمة …»٩ إن الشعر في صميمه — كما أسلفتُ — مقاوَمة. فقد كان الشعر الحقيقي على الدوام نوعًا من المقاوَمة لكل أشكال القبح والتشوُّه والظلم والاستبداد، وكان — وسوف يظل — غناءً وتمجيدًا للحياة والجمال والإنسان؛ فالشعر — كما قال ألوار — عونٌ على الفعل، وأسلوب للمقاوَمة والعمل والتغيير، وزرع الحقيقة نفسها في قلب الواقع اليومي والعملي لكل الناس؛ فهل سنرتفع — على ضوء مصابيح الشعراء — إلى مستوى وتبعات الموقف الذي سميته «نقطة التحول»؟ وهل سنشْرع بكل الجدِّية والحزم وبطاقة الإيمان والأمل في المشاركة بكل ما يستطيعه كل واحدٍ منَّا في دعم ما وصفتُه بالثقافة الفعَّالة التي تُغيِّر عالمنا المحتاج إلى التغيير؟ وهل آن لشاعرنا العربي — الذي كاد أن يغرق في طوفان الثرثرات النقدية والتجارب النرجسية والعشوائية — أن يستلهم الأسماء التي ذكرتُها والتي لم أذكرها من تراثه وتراث غيره القريب والبعيد، وأن يرسل غناءه الوجداني تعبيرًا عن «الأنا» التي اتحدَت «بالنحن» كما سبق القول، ويشارك بدَوره الأساسي في تحقيق المطلب الذي يتردد على الألسنة والأقلام من إعادة إبداع الواقع؟ وهل سيقدر لهذه المجموعة، أو لبعض أصواتها على الأقل، أن تساهم ولو بنغمةٍ واحدةٍ في الجوقة المأمولة والنشيد الجماعي المنتظر؟

(١٤) والكلمة الأخيرة أتركها للقارئ … فأتمنى أن يستمتع ويفيد — على حد قول هوراس — من هذه المجموعة، كما أتمنى من كل من يملك ناصية العَروض أن يتفضَّل مشكورًا وينبهني إلى الكسور التي ربما تكون قد تسلَّلَت إلى عظام بعض القصائد ويساعدني أيضًا على جبرها …

وفي النهاية أعترف للقارئ بأنني لم أكتشف أن عنوان الكتاب «للحب والحرية» فيه تكرار أو تنويع على عنوان مجموعة الأشعار المجرية التي ترجمها الصديق الشاعر المرحوم فوزي العنتيل وسبق الحديث عنها، أقول: لم أكتشف ذلك إلا مع القراءة الثانية لهذه المجموعة في الشهور الأخيرة، ولعله أن يكون قد رسخ في عمق أعماق وجداني أو لاشعوري ما يقرب من ثلاثين سنة، ولعل الاحتفاظ به والتنويع عليه أن يكونا تحية وفاءٍ للذكرى العطرة للشاعر والعالم المرموق رحمه الله وأرضاه …

أحمده سبحانه على عونه وتوفيقه، وأستغفره وأسأله الصفح عن الخطأ والتقصير، إليه تُرجَع الأمور، وإليه المصير.

عبد الغفار مكاوي
١  محمد مندور، فن الشعر، سلسلة المكتبة الثقافية، العدد ٣٠٥، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٧٤م، ص٣–٤.
٢  من الواضح أن المعنى الاشتقاقي لكلمة الشعر في اللغة العربية يأتي من الشعور، أي أن الشعر هو ما أشعرك، كما كان يقول عبد الرحمن شكري وإخوانه من رُوَّاد التجديد في شعرنا العربي الحديث — وإن كان من الواضح أيضًا أن اتصالهم بالشعر الغنائي والرومانسي الغربي — لا سيما الإنجليزي — هو الذي ردَّهم إلى هذا المعنى الاشتقاقي الخالد (مندور ص٢٩-٣٠).
٣  محمد مندور، فن الشعر، مرجع سابق، ص٣٢-٣٣.
٤  الحرية والحب — مختارات من الشعر المجري — ترجمها إلى الإنجليزية المستشرق إشتفان فودور، واختارها وعرف بأصحابها جيزا كيباش، وترجمها إلى العربية ترجمةً شعريةً المرحوم الشاعر فوزي العنتيل.
٥  أغنيات المنفى، ترجمة وتقديم: محمد البخاري، مراجعة: حسين مجيب المصري، تصدير: طلعت الشايب، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، الطبعة الثانية ٢٠٠٢م، مشاركة في احتفال عالم الثقافة بمئوية ناظم حكمت (١٩٠٢–١٩٦٣م) وذلك عن الطبعة الأولى لسنة ١٩٧١م.
٦  مختارات من الشعر الإنجليزي المعاصر، ترجمة: أسامة فرحات، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٢م.
٧  ترجمة الشعر، مجلة فصول، المجلد الثامن، العدد الثاني، ١٩٨٩م، وكذلك شهادة عن ترجمة الشعر التي نُشرَت كذلك في مجلة فصول سنة ١٩٩٨م.
٨  من هذه الأحكام الظالمة التي يتمثل بها الكثيرون دون تروٍّ نذكر المثل الإيطالي الشهير: «أيها المترجم، أيها الخائن» … وعبارة الجاحظ الشهيرة التي وردَت في الجزء الأول من الحيوان: «الشعر لا يُستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوِّل تقطَّع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حُسنه، وسقط موضع التعجُّب …»، وعبارة الشاعر شيلِّي: «إن ترجمة الشعر محاولة عقيمة تمامًا، مثل نقل زهرة بنفسج من تربة أنبتتها إلى زهرية …» (دفاع عن الشعر، ١٩٥٢م) وأخيرًا مثل عبارة الشاعر الأمريكي روبرت فروست: «إن الشعر هو ذلك الذي يفسد عند الترجمة …»
٩  من إحدى قصائد بريشت التي كتبها في أخريات أيامه وسمَّاها مرثيات بوكو (نسبة إلى المكان السويسري الذي اعتكف فيه لكتابتها)، وتقول أبيات القصيدة القصيرة: لقد تصورت دائمًا أن أبسط الكلمات فيه الكفاية/عندما أقول الحقيقة عما يجري في الواقع فلا بُد أن يتمزق القلب، ولكن الشيء الوحيد الذي يجب أن تتأكد منه … إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤