الليل

figure
الليل لميكيل أنجلو.

(أ) عن ليل ميكيل أنجلو

الليل في تمثال،
مستغرق في نومه هناك،
في حجَرٍ قد صاغه المثَّال،
في هيئة الملاك،
ها أنت ذا تراه،
والنوم قد كساه بالجمال والجلال،
حياته في نومه،
ونومه حياة،
إن كنت لا تصدق الكلام،
أيقظْه كي يقرئك السلام!

(ب) ليل ميكيل أنجلو

يا من تقف الآن أمامي،
هل تعجب مني حين تراني،
وأنا الليل الراقد،
في الحجر البارد،
يتردد فيَّ النفَس الهابط والنفَس الصاعد؟
أنا مثلك حيٌّ وحياتي
في هذا النحت الفتَّان الخالد،
إن كنت تراني لا أتحرك،
لا يخرج من شفتِي حرفٌ واحد،
لا تُلقِ الذنب على الفنان،
فطبعُ الليل هو الكتمان،
وقلب الليل كقلب العابد.

(ج) رَد

أحبُّ ما أحببتُ من دنياي أن أنام،
وبعد ما جرَّبتُ من مرارة الأيام،
قررتُ أن أمجِّد الحجر،
فضَّلتُ للإنسان أن يكون
صنمًا،
وأن يعيش عيشة الأصنام،
فإن طغى الزمان واكفهَر،
وعمَّ فيه العار والدمار والقذَر،
فالخير كل الخير أن يعيش كالعميان،
ويغلق الآذان،
أرجوك … لا تنبِّه الحجر،
وإن فتحتَ فاك فاحترِس،
وكن على حذَر!

تتغنى القصائد الثلاث بالنحت الذي أبدعه فنان عصر النهضة العظيم ميكيل أنجلو بوناروتي (١٤٧٥–١٥٦٤م) في عام ١٥٢١م لكي يزيِّن ضريح جوليانو ميديتشي في فلورنسا.

والقصيدة الأولى لمُعاصر ميكيل أنجلو الشاعر والدبلوماسي المثقف جوفاني سنتروتزي (١٥١٧–١٥٧٠م) الذي عاصر ازدهار الحركة الإنسانية، وانتفع بثمرات التراث اليوناني والروماني التي بعثها الإنسانيون لتكون نماذج حية وموحية للمحاكاة الخلَّاقة، وبالإنتاج الأدبي والفني الرفيع الذي نفخوا فيه من جمال الطبيعة وجلال المثل الإنساني الأعلى.

وهذه القصيدة التي استوحاها من «ليل» مُعاصره الكبير تعكس اهتمامه في إنتاجه الشعري بالإبيجرام (القصيد الموجز) والسوناتة، فهي مقتصدة في كلماتها، تكاد أن تكون تقريرية محايدة، وتترك للمتلقي أن يحرك سكونها، ويملأ بالمشاعر فراغها ويعير كلماتها أجنحة الخيال. ولا يفوت الشاعر أن ينهي قصيدته — التي ترجمها الشاعر الألماني الكبير راينر ماريا رلكه — بالنهاية المألوفة للإبيجرام، وهي المفارَقة الخاطفة التي من شأنها أن تدفع القارئ للابتسام …

والقصيدة الثانية لجامباتيستا مارينو (١٥٦٩–١٦٢٥م) الذي يُعدُّ من أبرز ممثِّلي الحركة التي عُرفَت في الأدب والفن الإيطالي بين سنتَي ١٥٢٠ و١٦٠٠م باسم «المانيرية»، وقد اهتمَّت في الرسم بالوجه الإنساني، ولجأَت للألوان الفاقعة المعبرة عن القلق والاضطراب، وربما تأثَّرت في ذلك بظروف العصر الذي هزَّته ثورة الإصلاح الديني والإصلاح المضاد، ورعب وإرهاب محاكم التفتيش، مما جعلها تبتعد عن روح الفن التي ميَّزت عصرَي النهضة والباروك التي تقع من الناحية الزمنية بينهما. والقصيدة التي بين أيدينا هي إحدى القصائد العديدة التي نشرها الشاعر سنة ١٦١٩م في ديوانٍ سمَّاه «الجاليريا» أو المعرض الفني، واستوحاها من لوحات وأعمال فنية شاهدها أو ضمَّها إلى مجموعة تُحَفه الخاصة. وإذا كانت القصيدة السابقة الذكر تكتفي بالوصف الخالص، فإن «ليل ميكيل أنجلو» ترسل الكلام على لسان التمثال نفسه الذي يؤكد للمتلقي أنه حيٌّ تتردد فيه الأنفاس، وإذا كان صامتًا لا يتكلم فتلك هي طبيعة الليل الذي يميل للكتمان، وينصرف قلبه للتعبُّد والصلاة …

ويأتي ردُّ ميكيل أنجلو نفسه — الذي كان شاعرًا مُجيدًا بجانب كونه رسَّامًا ونحَّاتًا ومهندسًا معماريًّا عبقريًّا — على «إبيجرام» مُعاصره ستروتزي أشبه باعترافٍ قصير يكشف فيه اللثام عن مشاعر الغضب والسخط التي تملَّكته تجاه الأوضاع السياسية في مدينة فلورنسا في الفترة التي طُرِدَت فيها عائلة الميدتشي من المدينة وانخرط هو نفسه في صفوف المدافعين عن الجمهورية قبل أن ترجع تلك العائلة وتستولي عليها من جديد. ويبدو أن سخطه قد نما وامتدَّ حتى شمل الوضع البشري بأكمله؛ بحيث تمنى أمنية الشاعر العربي القديم أن يكون حجرًا تنبو عنه حوادث زمنه، وأن يعيش كالصنم الأعمى والأخرس والأصمِّ ليستطيع أن يتحمل طغيان الشر والعار والدمار في عصره وفي كل العصور …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤