ماتياس كلاوديوس (١٧٤٠–١٨١٥م)

الإنسان

طفلًا تتلقاه الأم فترعاه،
وتغذيه على نحوٍ رائع،
يأتي للعالم، ينظر، يسمع،
لكن لا يعرف كم هو غدَّارٌ فاجع،١
يتشهَّى اللذة، يشتاق ويهفو،
يذرف من عينيه الدمع،
يُهان ويُكرَم،
ويحس الفرحة،
ويواجه كل الأخطار،
يؤمن، يتشكك،
يتوهم، يعلم ويعلِّم،
ويصدِّق كل الأشياء
ولا شيء على الإطلاق،
يبني، يهدم،
ويواصل تعذيب الذات،
يغفو، يصحو،
ينمو، يلتهم طعامه،
يكسو الرأس الشعرُ الأسود،
ثم الشعر الثلجيُّ الأبيض،
ويدوم الأمر
— إذا أسعدَه الحظ —
فيبلغ من أعوام العمر ثمانين،
وأخيرًا يرجع للأجداد فيرقد معهم،
لكن لا يرجع (للدنيا) أبدًا،
لا يرجع أبدًا …
(حوالي عام ١٧٧٥م)

إذا كنا في القصيدة السابقة قد لاحظْنا كيف تحوَّل الشاعر، في مواجهة الفساد والسقوط والانهيار الأخلاقي في عصره وبين معاصِريه، إلى واعظ وناصح ومعلم، وربما انتهى إلى الزهد ونشد الوحدة الصوفية مع العالم والله، أو دخل الدير يأسًا أو بحثًا عن النجاة، فإننا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر نجد أمواجًا من الحركات الأدبية الثائرة التي لا يجمع بينها سوى حب الحياة والطبيعة، والتغنِّي بالفردية الجامحة والعبقرية الخلَّاقة الجارفة كالطوفان اللُّجِّي أو العاصفة العاتية التي تحطِّم كل القيود، وتعلن بأقوى الأصوات وأعمقها وأشدها حميميةً أنشودة التمجيد للحرية والحياة والطبيعة والبساطة والأصالة الشعبية السلسة الصادقة. ولا يتسع المجال هنا للحديث — ولو باللمح والإشارة! — إلى حركات ومجموعات طَبعَت هذه الفترة الأدبية والفكرية الخصبة بطابعها؛ فهناك حركة العصف والدفع التي عبَّر عنها كلٌّ من جوته وشيلَّر في شبابهما المبكر إلى جانب عددٍ كبير من الشعراء والكُتاب، وهناك جماعة «أَيْك جوتنجن» مثل بورجر وهولتي وغيرهما اللذين أقسما في سنة ١٧٧٢م يمين الوفاء للصداقة ولأدب الوطنية والحرية والشجاعة والتضحية والوقوف — متأثرين بقدوتَين كبيرتَين هما كلوبشتوك وجيرستنبرج — في وجه أدب «الروكوكو» الزخرفي المتصنع، وضد الشك والعقلانية المسرفة التي صدَّرَتها إليهم الثقافة والأدب الفرنسي.

لكن هذا الشاعر الذي نُورِد إحدى عيون قصائده الروحية الحميمة بقي بعيدًا عن مهبِّ الأعاصير والأمواج الثائرة العاصفة، فعاش عيشة طفلٍ سعيد ونقيِّ الروح رضيِّ القلب على هامش الحياة الأدبية المضطربة، اتفَق له ذلك الشيء النادر الذي يُولَد به الإنسان ولا يمكنه أن يفتعله أو يتصنَّعه مهما تكلَّف من جهدٍ إرادي أو نهمٍ ثقافي؛ فقد جمع إلى نضج الشاعر المطبوع نفسَ طفلٍ سعيد مؤمن بالله أعمق الإيمان، متوحِّد بالوجدان الشعبي البسيط اتحادًا جعله ينهل من نبعه الصافي الدفَّاق، ويعبِّر عنه بلغةٍ ربما بلغَت من البساطة والعفوية حدَّ السذاجة الفطرية الحلوة، وقد عاشت نفسُ هذا الطفل التقيِّ الحساس في حالة إنصاتٍ حميم لأصوات الطبيعة، والشعب، والوجدان العميق التديُّن حتى فاضت بأبسط وأعذب شِعر يمكن أن يهزَّ القلب ويرجَّه رجًّا، وهو شعرٌ يندر أن تجد نظيرًا لبساطته وسحر تأثيره وسلاسة لغته وإيقاعاته وأوزانه وقوافيه في تاريخ الشعر الألماني كله … من هنا أصبحَت تجري بعض روائعه — وما تزال — على لسان الإنسان العادي، كما امتدَّت يد الموسيقى الحنون إلى عددٍ كبير منها لحَّنه بعض أساطين النغم … وذلك مثل قصائده الشهيرة: طلع القمر، والنجوم، وأغنية المهد، وكللوا بالأوراق الخضراء هذا الكأس الحبيب الممتلئ، وعندما يقوم أحد الناس برحلة، فالموت والفتاة (التي لحَّنها شوبرت …) بجانب هذه القصيدة عن الإنسان التي تُقدِّم لنا الحكمة في ثوب السكينة والصفاء والرضا الأسيِّان …

وُلِد ماتياس كلاوديوس (الذي نشر أشعاره وكتاباته في أثناء حياته تحت اسمٍ مستَعار وهو أزموس وأحيانًا باسم رسول فاندسبيكر؛ نسبة إلى المجلة التي أسسها في مدينة فاندسبيك، واستكتب فيها عددًا كبيرًا من أدباء العصر من أصدقائه مثل هيردر وهامان ولافاتر وشتولبرج وفوس وبويه، وغيرهم من أعضاء عصبة أَيْك جوتنجن الذين سبق ذكرُهم) وُلِد سنة ١٧٤٠م في «راينفيلد» لأبٍ قسيس وفي أسرةٍ شديدة الورع، وتقلبَت به حظوظ الحياة بين دراسة اللاهوت والحقوق والعلوم السياسية في يينا حتى أصبح سكرتيرًا لدوق هولشتاين في كوبنهاجن، ثم مشاركًا في تحرير جريدة هامبورج الجديدة ومؤسِّسًا ومحرِّرًا لمجلة رسول فاند سبيك التي سبق ذكرُها، وأقامت رسالتها على نشر الأدب المسيحي والأخلاقي في أسلوبٍ شعبي بسيط، وأخيرًا تقلَّد — بتوسُّط من هيردر — وظيفةً في المجلس البلدي في مدينة دارمشتات وعمِل مؤدِّبًا أو معلِّمًا لأبناء الفيلسوف ياكوبي، ومراجِعًا لبنك هولشتاين في ألتونا بالقرب من هامبورج، إلى أن حصل على منحة من ولي عهد ملك الدانمارك تكفيه لكي يعيش حياةً متواضعة يكرِّسها لشعره ورسائله وقصصه وكتاباته النثرية …

١  في الأصل: غدار ماكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤