فريدريش هولدرلين (١٧٧٠–١٨٤٣م)

أُمضِي كل الأيام

أُمضِي كل الأيام على دربٍ غير الدرب،
حينًا للشجر الأخضر في الغابة،
حينًا آخر للنبع،
للصخرة حيث الأزهار مفتَّحة الأكمام،
أنظُر من فوق التلِّ إلى السهل،
لكني لا أجدك أبدًا يا حبِّي
في أي مكان لا أجدك أبدًا في النور،
تتطاير مني الكلمات وتذروها الأنسام،
كلماتي الطيبة وكانت في ماضي الأيام …
حقًّا كم أنت بعيد، ناءٍ يا وجه النعمة،
يخبو نغم حياتك، وأنا لا أملك أن أنصت …
يا أيتها الألحان الساحرة الصوت،
يا من أفرغتِ بقلبي الراحة من نبع الخلد،
ومن كفِّ الأرباب العلويِّين،
طال العهد وغاب «شبَّ الولد وشاب»،
حتى الأرض — وقد كانت تتبسَّم لي —
عابسة الوجه.
الآن أقول وداعًا، عيشي في خير.
روحي كل نهار ترحل عنك تعود إليك،
عيني تبكيك تريق الدمع،
تتمنى يومًا أن تصفو كي ترنو لك،
فتراك هنا وتهنأ بك …

منتصف الحياة

بالكمثرى الصفراء،
والوردات البرِّية،
يتدلَّى الشاطئ
في ماء بحيرة،
أيتها البجعات الفاتنة الحلوة،
خمر القبلات أشاعت فيك النشوة،
وغمسَت رءوسك
في الماء الطاهر.
ويْلي … لو جاء شتاء،
أين سأقطف أزهاري
وأُلاقي نور الشمس
وظل الأرض؟
تبدو الجدران أمامي
باردةً خرساء،
والرايات
ترفرف في الريح.

•••

ربَّاني نغم،
يهمس في البرَّية،
وتعلمتُ الحب
من الأزهار.

أنت أيها الرائي المسكين

أنت العرَّاف البائس،
أنت الرائي المسكين،
سكنَت كل الأصوات حواليك،
فما من صوت
يتردد من أجلك
(أو يهتف ويناديك)
انطفأَت في عينيك الأشواق،
وجرَفك (نهر) النوم إلى الأعماق،
فلا أحد يذكرك الآن،
ولا إنسان يبكيك …

المقطوعات الثلاث لشاعر الاكتئاب والغربة والاغتراب فريدريش هولدرلين (١٧٧٠–١٨٤٣م) والمقطوعة الأولى أغنية لم يُقدَّر لها أن تتم؛ فقد اختنقَت في صدر الشاعر مع غصَّة الفراق الأبدي عن محبوبته، ومع ذلك ظل يناجيها ويراها ويفتقدها في كل ما تقع عليه عيناه، وراح يتعلق بطيفها كما يتعلق الغريق بطوق النجاة. وكيف يصدِّق أن حبيبته «ديوتيما»، التي جسَّدت حلم حياته بالجمال الإغريقي وعالَم الآلهة المباركين، بل أوشكَت أن تتمثَّل أمامه واحدة من تلك القوى العلوية التي طالما حنَّ إليها وناشدها العودة إلى الأرض المعذبة والبشر الفانين، كيف يصدِّق أنه حُرِم منها إلى الأبد، وأنه سيهيم بعدها كما تهيم الظلال في عالم الظلال:

«أنتِ يا من أشرتِ لي قديمًا وأنا على مفترق الطرق/يا من علمتِني بصمتك وأوحيتِ لي في هدوء/أن أرى العظَمة وأغنِّي للآلهة الصامتة/أنت يا ابنة الآلهة …/هل تتجلِّين لي وتحيينني كما كنتِ تفعلين؟/وهل تلهمينني الحياة والسلام من جديد؟»

ولكن هل ستستطيع ديوتيما أن تفعل ذلك حقًّا، فتدب فيه الحياة، ويحلِّق جناحاه، ويهتف بفرحته لعودة الربيع واخضرار الأرض، أم ستتركه في يأسه وحيرته، يمضي من درب إلى درب، حينًا للشجر الأخضر في الغابة، حينًا آخر للنبع … حتى يحاصره شتاء الاكتئاب، ولا يدري أين يقطف أزهاره، ولا أين يلاقي نور الشمس وظل الأرض، وتطبق عليه الجدران الباردة الخرساء، في سجن الجنون الذي لن يغادره طوال الأربعين سنة الأخيرة من عمره؟

ثم مَن هي هذه المحبوبة التي خلع عليها الشاعر اسم الكاهنة الإغريقية القديمة «ديوتيما» التي أطلق أفلاطون لسانها بالحكمة في محاوَرة «المأدبة» وجعلها تعلِّم سقراط ما لم يكن يعلم من أسرار الفلسفة والحب الفلسفي؟ ومن هو هذا الشاعر الذي ساقَه القدر إلى طريقها كما ينساق المتجوِّل في النوم، واندفع نحوها حين تصوَّر أن الرؤيا تتحقق والنبوءة والحلم؟ إنه هولدرلين الذي وهب الشعر حياته، وعاش له وبه، وضحَّى في سبيله بكل شيء فأعطاه الشعر بعض أسراره الغامضة، وجعله العرَّافَ الناطق بلسانه والرائي المعبِّر عن رؤاه، وهو الذي عاش غريبًا في عصره وبين أهله على الأرض التي اغترب عنها الآلهة الخالدون وهجروها؛ فراح يتغنى بهم ويحتفل بموكبهم المنتظَر ويناشدهم العودة للبشر المعذَّبين وينشدهم ما ألهموه إياه من أغنيات ومرثيات وأناشيد مثقلة بالرموز والنبوءات والإشارات حتى تحقق في شخصه وشعره ما اصطلح القدماء على فهمه من كلمة الشاعر؛ فهو الذي باركَته الآلهة بوحيها، فأصبح الوسيط بينها وبين الفانين من أبناء الإنسان، وهو الساحر والمتنبئ بالمستقبل، وهو المنقذ في أوقات المحَن والأخطار، والمترنِّم بصوت الشعب وآلامه … ولا عجب بعد ذلك في أن يسميه البعض شاعر الشعر أو شاعر الشعراء، وأن يعتبره البعض أعظم شاعر على الإطلاق في لغته، وأن يقول عن نفسه بعد أن خيَّم عليه ليل حُزنه ووحدَته وغربته الطويلة: أنت العرَّاف البائس، أنت الرائي المسكين، انطفأَت في عينيك الأشواق، وجرفك نهر النوم إلى الأعماق، فلا أحد يذكرك الآن، ولا أحد يبكيك …

•••

وُلِد هلدرين في العشرين من شهر مارس سنة ١٧٧٠م في بلدة لاوفين على نهر النيكار، في منطقة اشفاين المعروفة بجبالها العالية وغاباتها الغامضة التي غرسَت في سكانها حب الوطن والحنين الدائم إليه، مثل حنينهم الصوفي للتوحُّد مع الطبيعة والحلم بعالمٍ مثالي موغِل في البعد والخفاء والطموح إلى الحقيقة والجمال والجلال …

فقدَ أباه في الثانية من عمره، وبعد أن انتقلَت أُسرته للإقامة في مدينة نورتنجن مات كذلك أبوه في العماد، الذي كان عمدة هذه المدينة، قبل أن يكمل التاسعة، وأصرَّت أمه — متأثِّرةً بأبيها الذي كان قسيسًا وبتديُّنها وتقواها الشديدة — أن يسلك طريق التعليم الكنسي ليصبح بدَوره واعظًا أو عالمًا في اللاهوت، وهكذا تقلَّبَت به الحياة بين مدارس الأديرة في دنكندورف (١٧٨٤م) وماولبرون (١٧٨٦م) إلى أن توجه إلى معهد توبنجن الذي كان وقفًا مخصَّصًا لدراسة الفلسفة واللاهوت، واشتهر بخشونة الحياة وصرامة النظام السائد فيه، وهناك تعرَّف على صديقَي صباه هيجل وشيلنج فيلسوفَي المثالية الألمانية فيما بعد، ورافقهما السكن فترةً من الوقت في حجرةٍ واحدة، كما ألَّف مع زميلَيه نويفر وماجيناو حلفًا أدبيًّا كانوا يتبادلون فيه الأحاديث والأشعار والأحلام … وأتاح له الجو الثقافي المتوهج بالحماس للثورة الفرنسية التي أجَّجَت قلوب الطلاب الشُّبان بنيران السخط على الأوضاع الفاسدة في بلادهم، وملأتها بعواصف الطموح إلى الحرية والوقوف في وجه الركود والاستبداد الجاثم على صدر شعبهم، والتوق لتأسيس أدب وفلسفة جديدة تكون بمثابة الثورة العقلية والفكرية والأدبية المقابلة للثورة الفرنسية. أتاح له كل ذلك — بعد أداء الامتحان النهائي في المعهد السابق الذكر — أن يصرف النظر عن العمل الكنسي، ويتفرغ تمام التفرُّغ للشعر والحياة مع الكلمة ومن أجلها. واضطُر إلى العمل بالتدريس الخصوصي الذي كان يلجأ إليه في ذلك الحين كل كاتب أو شاعر لا يجد الرعاية من ملك ولا أمير ولا دوق، كما اضطُر لتحمُّل المعاملة المهينة التي كانت تجعل من مؤدِّب الصغار شيئًا لا يزيد كثيرًا عن الطباخ أو الخادم والأجير …

وتوسَّط له الشاعر شيلَّر — الذي رعاه وعطف عليه في البداية ونشر له الصيغة الأولى لروايته هيبريون في مجلة «تاليا» التي كان يصدرها — فالْتحق بعائلة السيدة شارلوته فون كالب في منطقة تورنجن وقضى سنتَين معلِّمًا لأولادها. وكانت هذه السيدة محِبة للأدب والفن وعلى علاقةٍ طيبة بأسرة شيلَّر الذي اعتبره هولدرلين مثَله الأعلى وتأثر به إبداعه الشعري المبكِّر الذي اتسم بالتجريد وغلب عليه التأمل الفكري والنغمة الخطابية العالية. ثم ساقه القدر بين سنتَي ١٧٩٦ و١٧٩٨م للعمل في مدينة فرانكفورت في بيت رجل من رجال البنوك والأعمال يُدعَى جونتارد. وهنا لقي — ما يقرب من ثلاث سنوات — من الفظاظة والمهانة ما لم تحتمل نفسُه الحيية الوديعة، وصبر على النزيف المستمر من جرح الكبرياء؛ لأن القدَر عوَّضه بالنعمة الوحيدة التي ذاقها في حياته … فقد أحب ربة البيت وأم الصغير الذي كان يعلِّمه، وهي سوزيته جونتار (١٧٦٨–١٨٠٢م) وبادلَته السيدة الرقيقة حبَّه اليائس، ومدَّت يدها الحنون لتنتشل روحه من بحر ظلمات الاكتئاب، وصور له الحب الملتهب والحماس الشعري المتوهج أنه وجد في «ديوتيما» نموذج الإنسانية الجميلة الطاهرة، وأن الروح الإلهي الخالد لا يتمثل فحسب في الطبيعة الحية، بل يحيا كذلك في ديوتيما التي يعيش بقُربها ويعبدها ويقدِّسها، وكأنما هي مثال للجمال والانسجام والحكمة طالما داعب أحلامه ورؤاه، أو هي الروح الإغريقية نفسها التي تغنَّى بها واشتاق لعودتها وتعزَّى بها عن محنة وجوده وسط الظلم والتجاهل والجحود والفساد والطغيان. ولكنه اضطُر أخيرًا لمغادرة البيت الذي تخيل أن رؤياه تحقَّقَت فيه، غادره مدحورًا ومُهانًا وافترق عن المحبوبة التي حبسَت لوعتها في صدرٍ عشَّش فيه السلُّ وافترس عمرها بعد ذلك بسنواتٍ قليلة …

غابت ديوتيما إلى غير رجعة، وصار الفراق عنها هو مأساة وجوده: «آه! أين أنت يا حبيبة؟ أخذوا مني عيني، وقلبي فقدتُه بفقدها، لهذا أهيم هنا وهناك، مقضيًّا عليَّ بأن أعيش كما تعيش الظلال، وكل شيء يبدو بلا معنى.»

وظل بالفعل يهيم كالظل من عمل إلى عمل: ذهب إلى مدينة هومبورج القريبة حيث عاش سنتين لقي فيهما الرعاية في ظل أسرةٍ إقطاعية كان صديقه فون سينكلير يعمل مشرفًا على ضِياعها، وباء مشروع إصدار مجلة يمكنه من التفرغ للكتابة بالفشل الفظيع، واضطرَّته الحاجة للعمل لفتراتٍ قصيرة كمعلم أو مربٍّ خصوصي في سويسرا ومدينة بوردو الفرنسية (من ١٨٠١ إلى ١٨٠٢م) … واضطربَت أحواله الذهنية والنفسية بعد عودته من بوردو إلى بلده سَيرًا على الأقدام عبر جبال الألب، وقضى فترة استشفاء مع عائلته في نورتنجن حتى عثر له سينكلير على وظيفة أمين مكتبة في مدينة هومبورج، شغلها (من سنة ١٨٠٤–١٨٠٦م) دون أن يمارس أي عمل على الإطلاق نتيجة اشتداد المرض عليه، والغريب أن الفترة الزمنية التي بدأ فيها مرض الاكتئاب يسيطر عليه، وهي التي امتدَّت من ١٧٩٨م إلى حوالي ١٨٠٤م قد شهدَت أخصب إنتاجه وأبدعه، وكأنما كانت مرحلة صعودٍ لاهث نحو الذروة التي هوى ساقطًا منها في ليل الجنون الطويل؛ فقد كتب عددًا كبيرًا من أناشيده الكبرى، ومن بينها أنشودته الشهيرة خبز ونبيذ، وأتمَّ روايته الوحيدة «هيبريون» التي يصور فيها قضايا عصره وصراعاته والتناقضات التي عانت منها بلاده من خلال مشاركة بطله في كفاح بلاد اليونان في عام ١٧٧٠م للتحرر من الاحتلال التركي، وذلك على خلفيةٍ من صورةٍ مثالية للعصر الإغريقي القديم، ولحياة التجانُس والتصالُح بين الإنسان والطبيعة، وحضور «الإلهي» في كل شيء يتجلَّى لعينَي الإنسان الذي اتَّحد مع الكل الخالد في وحدةٍ جمالية وشعرية وصوفية متكاملة …

كما ترجم مسرحيتَي أوديب ملكًا وأنتيجونا ﻟ «سوفوكليس»، وكذلك بعض أناشيد «يندار» الأوليمبية عن اليونانية ترجمة شاعرية تدخل في دائرة الإبداع والمحاكاة الخلَّاقة، وذلك فضلًا عن عكوفه على صياغة مسرحيته عن أنبادوقليس التي بقيَت — بعد ثلاث محاولات لصياغتها — شذرةً ناقصة، وهي عن ذلك الفيلسوف الطبيعي والكاهن والساحر والطبيب والمصلح الثائر الذي وُلِد في أجريجنت عاصمة صقلية حوالي سنة ٤٩٠ قبل الميلاد وطردَه أهلها بعد أن أوشكوا أن يؤلِّهوه أو يتوِّجوه على عرش مدينتهم، فما كان منه إلا أن مات تلك الميتة التي ألهمَت العديد من الشعراء؛ إذ ألقى بنفسه في فوهة بركان «إتنا» وترك حذاءه بجانبه ليدل على موته العجيب الذي ربما استجاب به لنداء الأرض الأم، أو اتحد عن طريقه بالروح الإلهية «التي تنبثق وتلمع نارًا من أعماق الأرض، وعبر به عن الشوق الصوفي إلى رحم الوجود، والحنين للارتماء بين أحضان الطبيعة المباركة والأصل المقدس.»

وأخذ الشاعر يندفع — مثل بطله أنبادوقليس — إلى هاوية اللهب المقدس الأسود الذي لن يخرج منه أبدًا، وبدأت ظلمات الجنون الاكتئابي — أو الاكتئاب الجنوني — تلتفُّ حوله وتطوِّقه يومًا بعد يوم، حتى سلَّمه أهله وأصدقاؤه في سنة ١٨٠٦م إلى مصحَّة الأمراض العقلية في مدينة توبنجن. ولمَّا يئس الطب من شفائه، تطوَّع نجارٌ طيِّب يُدعَى إرنست تسيمر بتسلمه والتعهد برعايته مدى الحياة في بيته، وعاش هولدرلين في برجٍ عالٍ من هذا البيت ما يقرب من أربعين عامًا، أشبه بالظل الحيي الوديع، أو الشبح الهائم في ليلٍ طويل. وتخلَّت عنه الآلهة المباركة التي طالما ناجاها وناشدها ألا تتخلى عن البشر المعذَّبين ولا عن الشعراء المساكين، فلم تلهمه إلا ببعض الأبيات المضطربة التي غاب عنها الوعي وهجرها الجلال وضنَّ عليها وحي الشعر في زمنه الضنين …١
١  راجع المزيد عن حياته وعددًا كبيرًا من عيون قصائده في كتابي المتواضع عنه، دار المعارف بالقاهرة، سنة ١٩٧٤م، سلسلة النماذج الغربية، وكذلك الكتاب الذي وضعه عنه المفكر والشاعر اللبناني الكبير فؤاد رفقة مع مختارات من شعره …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤