فيدريكو غرسيه لوركا (١٨٩٨–١٩٣٦م)

الصمت

أنصِت، يا ولدي، للصمت،
صمت متموِّج،
صمتٌ
تنزلق الوديان خلاله،
والأصداء،
ويشدُّ جباهًا
نحو الأرض.
(١٩٢١م)

وداع

إن متُّ
خلُّوا شرفتي مفتوحة،
الولد الصغير
يأكل برتقالة
(من شرفتي أراه)
والزارع (الفقير)
يحصد قمحه
(من شرفتي أراه)
إن متُّ
خلُّوا شرفتي مفتوحة!
(١٩٢٧م)

بِركة صغيرة١

نظرتُ لنفسي في عينيك،
وفكري في روحك،
(دِفْلى بيضاء).

•••

نظرتُ لنفسي في عينيك،
وفكري في ثغرك،
(دِفْلى حمراء).

•••

نظرتُ لنفسي في عينيك،
ولكن سبَق الموت خطاي إليك،
(دِفْلى سوداء).
(عن ديوانه: الأغاني الأولى، ١٩٢٢م)

أغنية مالقية

الموت
يدخل يخرج
في الحانة،
تمرُّ خيول سوداء
وحشود أناسٍ مشئومين
فوق دروبٍ غائرة
للقيثارة …
وتفوح روائح ملح
ودم نساء
في المسك المحموم
لزهر الفُل
على شط
البحر النائي،
الموت
يدخل يخرج،
يخرج يدخل
في الحانة،
الموت …

هو واحد من أعظم شعراء العالم، ولعله أن يكون أعظم شاعرٍ إسباني في القرن العشرين. لم يكن مصرعه الدامي وحده وراء «أسطورته» الرائعة، بل يرجع المجد الذي عرفه في حياته وبعد موته إلى أنه وُلِد شاعرًا بالفطرة، يفكر من خلال الصورة، ويرى العالم وينطق ظواهره الحية بلسان طفلٍ بريء مسحور وحزين، وكأنه وترٌ مشدود في قيثارة ترتجف بجراح الخليقة، في «جوقةٍ» مأساوية تنشج ببكاء الجماد والنبات ودموع الحيوان والإنسان …

وُلِد لوركا في فونتي فاكيروس (عين البقَّارين) وقُتِل — لأسبابٍ لا تزال مجهولة أو موضع جدلٍ شديد — في بداية الحرب الأهلية الإسبانية بالقرب من غرناطة. كان أبوه يملك ضيعةً صغيرة فنشأ في أسرةٍ ميسورة الحال، ودرس الحقوق في جامعة غرناطة، ثم سرعان ما اشتهر بتأسيس مسرح الجامعة وإدارته، وهو «مسرح الكوخ» الذي كان يتجوَّل بفرقته على شاحنة تطوف بالقرى والمدن الإسبانية، وتقدِّم الروائع الكلاسيكية في صيَغٍ حديثة أعدَّها لها بنفسه، فكان له تأثيرٌ كبير على النهضة المسرحية، وعليه هو نفسه ككاتب وشاعرٍ مسرحي. وكان للوركا نشاطٌ ثقافي واسع تمثَّل في تأسيس العديد من النوادي الثقافية في مدنٍ إسبانية مختلفة، وفي توثيق عُرى الصداقة مع عددٍ كبير من الشعراء والأدباء والموسيقيين (مثل مانويل دي فايا) والمصوِّرين (مثل سلفاتور دالي) …

بدأ لوركا حياته الشعرية في ديوانَيه «الأغاني الأولى» (١٩٢١م) و«أغاني» (١٩٢١–١٩٢٤م) متأثرًا بشعر خيمينيث؛ فقدَّم فيهما قصائد رقيقة وحسَّاسة تشكو عذاب الفرد وأشواقه إلى الحب، ثم ما لبِث أن ظهر تأثُّره العميق بالتراث الشعبي الإسباني وأغاني الغجر وشخصيتهم المضطهَدة على مرِّ العصور، والمعذَّبة الملتهِبة بالعواطف الوحشية والأسرار الغامضة (الغناء العميق — الأندلسي — ١٩٢١م، والديوان الغجري ١٩٢٤–١٩٢٧م)، وقد أتاحت له هذه القصائد أن يعبِّر عن احتجاجه على ظُلم القانون والمجتمع لهم، وأن يساعد على إثارة قضيتهم أمام الرأي العام والمسئولين عن السلطة.

سافر في سنة ١٩٣٩–١٩٤٠م في رحلة إلى الولايات المتحدة، وتعرَّف على المجتمع الرأسمالي بكل ما فيه من عنف وقلق وفساد وآلية ونفعية وتجرُّد من الإنسانية، وعبَّر عن سخطه عليه في ديوانه «شاعرٌ في نيويورك» (١٩٤٠م).

أُسنِدَت إليه بعد تأسيس الجمهورية الإسبانية إدارة فرقةٍ مسرحية كتَب لها بعض مسرحياته التي أحدثَت ثورة في المسرح الإسباني، ومن أهمها وأشهرها ثلاثيته التراجيدية: عرس الدم، يرما، بيت برنارد ألبا، وهي تصور في أنغامٍ حادة ونبراتٍ ملتهبة كيف تقف التقاليد البالية عقبة في طريق المحبِّين وتخنق شخصية الإنسان. واهتمام لوركا في هذه المسرحيات بمشكلات الحب وأقدار النساء بوجهٍ خاص، وتصويره لها من الناحية الأخلاقية المثالية دون اكتراث بالنواحي الاقتصادية والسياسية، لا يقلِّل من شأنه ككاتبٍ مسرحي وشاعرٍ ثوري مجدِّد، أضاف إلى الأدب الإسباني والعالمي كنزًا من أغلى الكنوز التي يعتزُّ بها القرن العشرون، ويستنكر من أجله الجريمة البشعة التي أودَت بشبابه (وطالما حدس بها في كثير من قصائده عن الغجر والفرسان، وفي مرثيته البديعة لصديقة مُصارع الثيران إجناثيو سانتشه ميخيَّاس (١٩٣٥م)).

أما عن مصرع لوركا المحرِق للقلب فقد سلَّمتُ في فترة من حياتي (أثناء عملي في الجزء الثاني من كتابي عن ثورة الشعر الحديث) بأنه قُتِل على أيدي الفاشيين من أنصار فرانكو أو على يد كتائب الفالانج، وكنتُ في ذلك متأثرًا ببعض المراجع الأجنبية أو الكتابات العربية في الستينيات التي أطلقَت أحكامها بغير تروٍّ ولا حذر، ثم عدلتُ عن رأيي السابق بعد قراءة المقدمة الرائعة التي مهَّد بها أستاذنا الدكتور محمود علي مكي لترجمته البديعة للمجلد الأول من أشعار لوركا الكاملة — الذي نشره المجلس الأعلى للثقافة في إطار المشروع القومي للترجمة بمناسبة الاحتفال بمرور مائة عام على ميلاد لوركا — وقد رجَّحتُ رأي المترجم المبدع الذي أرجع مصرع الشاعر — الذي ما يزال يكتنفه الغموض — لداء الحسد الشائع بين أهل غرناطة الذين ينقمون على المتفوق تفوُّقه، وعلى الناجح نجاحه، وأترك الكلام للمترجم الكبير حيث يقول (ص١٠، ١١ من المجلد الأول للأعمال الشعرية الكاملة):

«… وهنا يحق لنا التساؤل: أترجع هذه المكانة البارزة التي تبوأها لوركا في عالم الأدب إلى قيمة ما خلَّفه من آثار؟ أم كان لمصرعه المأساوي وما دار حوله من جدل لم ينقطع حتى الآن دخلٌ في ذلك؟ لقد قُتِل لوركا في ظروفٍ كان الغموض يكتنفها، وما زال الكثير منها تتعاوره فروض وتفسيرات متناقضة، بسبب ما نُسِب إلى شاعرنا من دَور في الصراع السياسي الذي بدأ يتفجر على أرض إسبانيا متحوِّلًا خلال أيامٍ قليلة إلى تلك الحرب الأهلية الرهيبة التي خضبَت أرض البلاد على مدى ثلاث سنواتٍ كاملة. ومن هنا تولَّدَت أسطورة لوركا «المناضل السياسي» الذي أصبح «استشهاده» راية يرفعها أعداء النظام السياسي الذي قُدِّر له الانتصار في الحرب الأهلية. ولا شك في أن الشعبية المستفيضة التي نالتها شخصية لوركا والرواج الكبير الذي أُتيحَ لأدبه لم يكونا بمعزل عن تلك «الأسطورة»، غير أنه ينبغي ألا نبالغ في هذا التفسير؛ فقيمة أدب لوركا في حدِّ ذاتها لم تكن بحاجة إلى مثل هذه التفسيرات لكي يتبوأ المكانة الرفيعة التي جعلَت منه ذلك العلَم الشاهق في دنيا الآداب الإسبانية …»

ثم يقول العالم الكبير في ختام مقدمته:

«نعم، كان الحسد هو الذي قتل لوركا! … هذا الحسد الذي حدَّثنا لوركا نفسه عنه في قصيدته عن مقتل أنطونيو الكامبوريو على أيدي أبناء عمومته؛ لأنهم كانوا يحسدون فيه ما لم يحسدوه في غيره، وكأن ذلك الغجري كان مرآة يرى فيها شاعرنا نفسه! …»

(راجع الترجمة الكاملة لأشعار لوركا والمجلد الأول (الأغاني الأولى، أغاني، قصيدة الغناء العميق، والديوان الغجري) من ترجمة الدكتور محمود علي مكي، والمجلد الثاني (ديوان التماريت، بكائية في مصرع أجناسيو ميخياس، ومختارات) من ترجمة الدكتور محمود السيد علي، مع ترجمة ديوانه «شاعر في نيويورك» للأستاذ ماهر البطوطي) القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ١٩٨٨م.

١  عن ترجمة أستاذنا الدكتور محمود علي مكي، مع تصرُّفٍ طفيف، انظر: فيدريكو غرسيه لوركا، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الأول، ترجمة: محمود علي مكي، ص٨٦، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، العدد ٥٦، ١٩٩٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤