يوهانيس بيشر (١٨٩١–١٩٥٨م)

عشب

أنا أحني رأسي لك
يا عشب،
دعني أضرع وأصلي لك
يا عشب!
اغفر لي إن كنت نسيتك،
واغفر لي إن دست عليك،
أنا أحني رأسي لك،
أحني رأسي لك يا عشب،
مهما نرتفع ونعلو فوقك
فقريبًا نتمدَّد تحتك،
ذاك يقين
لا يعدله في قوته في قسوته شيء،
ينمو العشب.
ينمو العشب.
أنا أحني رأسي لك يا عشب!

ربما يتصور القارئ لهذه القصيدة أن صاحبها شاعرٌ متفلسف يميل بفكره ووجدانه للاعتقاد في «وحدة الوجود» … غير أن هذا التصور أبعد شيء عن الحقيقة. والحقيقة أن «بيشر» بدأ حياته مع الأدب شاعرًا تعبيريًّا صارخ الانفعال واللغة والصور، ثم اتجه إلى الاشتراكية حتى صار علَمًا من أعلام ما سمِّي بعد الحرب العالمية الثانية بالواقعية الاشتراكية، وكرَّس شعره الغزير —ونثْره أيضًا — ليكون «سلاحًا» فعَّالًا لبناء مجتمعٍ اشتراكي وديمقراطي عادل يُقام على أنقاض الخراب النازي، ويبشر بالأخوة البشرية وإحياء قيم «التراث» الإنساني الأصيل في الأدب الألماني …

وُلِد بيشر في ميونيخ، ومات في برلين الشرقية (عاصمة جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة)، كان أبوه قاضيًا ثم رئيسًا لمحكمة، مما جعله يعيش في وسطٍ «برجوازي» ويتمرد منذ الصغر على نمط الحياة والتنشئة «المتسلطة» أو «السلطوية» …

وبعد حصوله على الثانوية في سنة ١٩١٠م وقع سوء تفاهم بينه وبين صديقته فأطلق الرصاص عليها وحاول الانتحار، متأثرًا في ذلك بحبه اليائس من ناحية، وبنموذج الكاتب المأساوي العظيم هينريش فون كلايست (١٧٧٧–١٨١١م) الذي اتفق مع حبيبته على الانتحار ونفَّذا الاتفاق بالفعل في المنطقة الواقعة بين برلين وبوتسدام وتقع فيها اليوم بحيرة الفانزيه … وبعد أن اندملَت جراحه بدأ دراسة الفلسفة والطب في جامعات ميونيخ ويينا وبرلين، ولكنه لم يكمل دراسته. ولمَّا اشتعلَت نيران الحرب العالمية الأولى رفض الانخراط في سلك التجنيد، وانضم في سنة ١٩١٧م إلى الحزب الاشتراكي المستقل، ثم إلى الاتحاد المعروف باسم اتحاد اسبرتاكوس، إلى أن استقر رأيه على الانضمام في سنة ١٩١٩م إلى صفوف الحزب الشيوعي …

وعندما أصدر في سنة ١٩٢٥م ديوانه «الجثة على العرش» أُلقِي القبض عليه ووُجِّهَت إليه تهمة الخيانة العظمى … وأخذَت القضية تجرر أذيالها لمدة ثلاث سنوات حتى أُفرِج عنه بعد تدخُّل عدد من أدباء العصر المرموقين مثل مكسيم جوركي وتوماس مان وبرتولت بريشت … زادت هذه الأحداث من تحمسه للشيوعية ومن إيمانه بأن الأدب من أقوى أسلحة العمل الحزبي المنظَّم الذي يهدف إلى إلغاء الطبقية وتحقيق الخلاص على يد الطبقة العاملة … وشارك في سنة ١٩٢٧م في المؤتمر الأول للكُتَّاب الثوريين الذي انعقد في موسكو، ثم أصبح رئيسًا لاتحاد الكُتَّاب البروليتاريين الثوريين، ورأس تحرير المجلة التي كان يصدرها باسم «المنحنى اليساري».

واستولى النازيون على السلطة فهاجر من بلاده في سنة ١٩٣٣م، وأقام في الاتحاد السوفييتي منذ سنة ١٩٣٥م حتى انتهاء الحرب العالمية، ثم رجع إلى بلاده في شهر يونيو سنة ١٩٤٥م، وأسس في برلين مجموعة من الأنشطة الثقافية، من أهمها الاتحاد الثقافي للتجديد الديمقراطي لألمانيا، ودار النشر الشهيرة «دار التعمير» (الأوفباو) والمجلة الأدبية المرموقة «المعنى والشكل» التي أدَّت دَورًا ملحوظًا في نشر الأدب الاشتراكي الجاد. وفي سنة ١٩٤٩م وضع النشيد الوطني لجمهورية ألمانيا الديمقراطية (وقد لحَّنه الموسيقي الشهير هانز آيزلر، الذي لحَّن عددًا كبيرًا من أغاني بريشت وأوبراته …) ثم تولَّى رئاسة أكاديمية الفنون من سنة ١٩٥٢م إلى سنة ١٩٥٤م وعُيِّن في هذه السنة الأخيرة أول وزير للثقافة، وظل يشغل هذا المنصب حتى وفاته في سنة ١٩٥٨م.

لا شك في أن بيشر قد كافح كفاحًا شاقًّا لتحقيق تصوراته وطموحاته عن الثقافة الإنسانية والأدب التقدمي أثناء شغله للمناصب والمهام السابقة الذكر، ولكن لا شك أيضًا في أن حرصه على النزعة التعليمية و«تجنيده» للأدب والفن في خدمة أهداف الحزب الاشتراكي الموحَّد وإثارة الجماهير وتحطيم المجتمع البرجوازي وإحياء التراث الإنساني للأدب الألماني والتبشير باليوتوبيا الشيوعية؛ قد أوقعه في سخفٍ خطابي كثير، وإن كان هذا لا يمنع من القول بأن بعض أغانيه وأناشيده ذات النغمة الشعبية البسيطة قد شاعت على ألسنة الناس، وأن بعض قصائده التي تغنَّى فيها بالثورة وزعمائها — مثل قصيدته المطوَّلة على قبر لينين ١٩٢٤م — كانت طاقةً دافعة للحماس الثوري ووقودًا زاد من اشتعال الأمل والحلم الاشتراكي الذي سرعان ما لفَّه الموظفون البيروقراطيون وسماسرة الحكم والحزب الواحد في أكفان الروتين الممل والاختناق الفظيع، كما قذف القهر والفقر باليوتوبيا الاشتراكية في فراغ العدم والضياع، وغطَّاها بجليد التحجُّر والجمود …

وﻟ «بيشر» أعمالٌ أخرى روائية (مثل سيرته الذاتية بعنوان وداع التي رصد فيها تحوُّله من البرجوازية إلى الثورة الاشتراكية)، ومذكرات شخصية ومقالات أدبية (مثل دفاع عن الشعر — ١٩٥٢م — والمبدأ الشعري ١٩٥٧م) تدلُّ — شأنها شأن الكثير من أعماله السابقة — على مدى الجناية على الأدب والفن من جراء تسخيرهما للأغراض السياسية والدعائية بحجة الالتزام، في الوقت الذي يُجبَران فيه على الوقوع في نير الإلزام، وفي تقديري أن تسخير الشعر أو «تجنيده» لخدمة أغراض أخرى غير الشعر نفسه — في جوهره الجمالي والإنساني الحق — قد جنى على هذا الشاعر الكبير نفسه وحرمه من تفتيح زهرات طاقاته اللغوية والأدبية التي كانت قمينة بأن تجعله من أكبر شعراء العصر …

(راجع إن شئت المزيد من أشعاره في الجزء الثاني من كتابي عن ثورة الشعر الحديث، القاهرة، أبولُّو، ١٩٩٨م.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤