فينسنت فان جوخ وباول سيلان

figure
حقل القمح والغربان.

حقل القمح والغربان (أ)

سرب الغربان
يحطُّ على أمواج القمح،
زرقة أي سماءٍ هذي؟
العليا؟ السفلى؟
آخر سهم تطلقه النفس،
خفقانٌ أقوى،
لمعانٌ أقرب،
وهنا وهناك،
يتجلَّى العالم.

حقل القمح والغربان (ب)

ليس سماءً ما تبصره العين،
بل هي كُتَل سحاب،
زرقاء وسوداء،
ومثقَلة بالأنواء.
خطرٌ وهواجس وعذاب وعناء،
قل لي: ممَّ القلق؟
تكلم،
هل تشعر بالخطر المحدِق؟
الجبل الوعْر تشقَّق،
والحقل حريق،
ذهبيٌّ يسطع،
قلبي
— وهو غراب الجوع —
يحلِّق فوق الأرض،
وينعق …

هذه الألوان الحية المتوهجة … وهذه الأمواج الزاخرة الطاغية المتوقِّدة بلهيب الحياة وانفجارات النور … وهذه الحساسية المضطرمة بالألم الكوني والعذاب الميتافيزيقي والمرض النفسي والعقلي … أيمكن أن يكون حقل القمح المحترق هذا الذي تطير فوقه الغربان وتنعق كالنذر السوداء، أيمكن أن يكون لأحد غير فينسنت فان جوخ (١٨٥٣–١٨٩٠م)؟ وتسأل أو تقرأ قليلًا فتعرف أنها آخر لوحةٍ رسمها الفنان قبل أن يُقدم على الانتحار في أحد حقول القمح بالقرب من بلدة أوفير — سور — أواز؛ إذ أطلق الرصاص على نفسه ومات متأثرًا بجرحه بعد ذلك بأيامٍ قليلة … ونتذكر لوحاته المتأخرة التي رسمها بعد وصوله إلى باريس، وتحوُّله تحولًا تامًّا بعد تبنِّي الأسلوب التأثيري والاهتمام بطريقة التنقيط التي كان يتبعها أحد كبار التأثيريين وهو «سورا»، واتجاهه إلى رسم الزهور الشهيرة والوجوه والجسور ومقاهي باريس الرقيقة الحال ورُوَّادها من الفقراء والصعاليك، ثم تتذكر أو تقرأ عن المرحلة الأخيرة التي قضاها في «أوفير» ووقع فيها تحت تأثير النوبات العصبية الملحَّة، مما زاد من حيوية ألوانه وتوهجها بالقلق والتمزق، واضطراب أشكاله التي تشبه دوامات نارية تجرف معها كل شيء، وبالأخص هذه الصورة الأخيرة لحقل القمح مع الغربان …

والقصيدة الأولى عن هذا الحقل الرائع المخيف كتبها شاعرٌ ألماني كبير هو باول سيلان (١٩٢٠–١٩٧٠م) تحت عنوان: تحت صورة لفينسنت فان جوخ، ونُشِرَت في سنة ١٩٥٦م في العدد الثالث من المجلة الأدبية الشهرية «أكسينته». وليس عجيبًا أن يهتم «سيلان» بهذه الصورة، فشِعره، مثل فن فان جوخ، غنيٌّ بالألم الكوني والميتافيزيقي، رهيف وحسَّاس ومقتصِد ومقطر إلى أبعد حد، وكأنه تنويعات على الصمت، أو قطرات من المطر في ليلٍ شديد السكون ومفعَم بالحس الفاجع بالقدر الفردي المظلم … وقد ارتبط شعره بتراث الرمزية والسريالية، لا عن رغبةٍ منه في محاكاتهما، بل لاستخدام عناصرهما المتنافرة، والغنية بالصور والأنغام الموحية، في إبراز رعب النازية وفظائع معسكرات الاعتقال، أي في التعبير عمَّا يستحيل التعبير عنه باللغة، والإيحاء بما يستحيل تصوُّره، مما جعل لغته المقتصدة أشبه بالشفرات ذات المعاني المتعددة والمحيِّرة إلى حد الانغلاق في كثير من الأحيان. وقد تزايد اغتراب الشاعر الذي عكسَت نصوصه — على حدِّ تعبيره — بقايا مرئية ومسموعة من عالمٍ مشوَّه ومحرَّف، إلى حد أن أقدم على الانتحار بإلقاء نفسه في نهر السين في اليوم العشرين من شهر أبريل — وربما في اليوم الخامس من شهر مايو — سنة ١٩٧٠م …

أما القصيدة الثانية، التي يقول صاحبها — الشاعر ألبريشت جوز (١٩٠٨م–…) — أنه كتبها بعد مشاهدة حقل القمح والغربان في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين وإن لم ينشرها إلا في سنة ١٩٥٨م في ديوانه «قصائد»، فإنها تلمس تأثير المرض العصبي والهواجس المتسلطة على الفنان الممزَّق إلى حدِّ اليأس والعدمية. والشاعر لا يرى فيها سماءً زرقاء ولا سوداء، بل كُتَلًا مختلطة من السُّحب المثقَلة بالأنواء، والناطقة بأحاسيس الخطر والخطل التي راحت تطارد الفنان وتكوي جلده بسياطها النارية.

ويدير الشاعر حوارًا قصيرًا وبسيطًا مع الفنان فيسأله عما يقلقه، ويرجوه أن يفصح له عن طبيعة الخطر المحدق به. وتأتي السطور الستة الأخيرة على هيئة صورٍ تقريرية محايدة تعبِّر عن الوضع الخانق كما تتكتمه في وقتٍ واحد؛ جبل وعر يتشقَّق، حقلٌ ذهبي يسطع، قلب — أشبه بغراب الجوع — يحلِّق فوق الأرض وينعق …

أهناك ما يمكن أن يوحي بالاختناق والتمزق أكثر من هذه الصور التي تتوالى أو تتجاور كالسحب الزاحفة المتراكمة الخرساء؟ ومع ذلك فإن التفسير النفسي أو المرضي لا يصلح ولا يكفي للوفاء بحق القِيم الجمالية الحية التي تنطق بنفسها عن فنٍّ مأساوي آسر وفريد …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤