جوسيبي أنجاريتي (١٨٨٨–١٩٧٠م)

صباح

أتجلَّى
باللامحدود.
(١٩١٧م)

أبديٌّ

وبين زهرةٍ مقطوفة،
وزهرةٍ مهداة،
يكون ما لا يمكن التعبير عنه؛
(وهو) العدم.

الميناء المدفون

هنالك يصل الشاعر،
يتَّجه إلى النور وينثر حوله
كل أغانيه،
سيبقى لي
من هذا الشعر
عدمٌ لا ينفد سِرُّه.
(١٩١٦م)

عالم

من موج هذا البحر
صنعت لي
نعشًا من النضارة.
(١٩١٦م)

متعة

أشعر بدبيب الحمَّى
من هذا الفيض
من النور،
أقطف هذا اليوم
كفاكهةٍ حلوة
تزداد حلاوة.

•••

سأحس الليلة
عضَّة ندم
مثل نباح تائه
في عمق الصحراء.

ليلةٌ أخرى

في هذي الظلمة،
بيديَّ الباردتَين
كأنهما الثلج
سأميِّز وجهي،
وأراني مهجورًا
في اللامتناهي.
(١٩١٧م)

صفاء

بعد الضباب
تنجلي النجوم
واحدًا فواحدًا،
أستنشق
النضارة
من زرقة السماء١
أحسُّ أنني
طبيعةٌ زائلة٢
تُساق خلف
نورٍ خالد
في دَورة الأبد.
(١٩١٨م)

ضراعة

حين يتمُّ خلاصي
من وهم الشهوات الخدَّاعة٣
في جوٍّ صافٍ ومعافى،
حين أحسُّ بأني صرتُ
خفيف الوزن،
هبني يا ربي أن أتعذب.
(حين أشاهد)
غرق سفينة هذا اليوم٤
مع صرختي الأولى.

امرأةٌ بدوية

امرأةٌ تنهض واقفة وتغنِّي،
تتبعها، تسحرها الريح،
تمدِّدها فوق الأرض
إلى أن ينفذ فيها الحلم الحق.
عاريةٌ هذي الأرض،
رحمٌ هذي المرأة،
هوجاء هذي الريح،
وهذا الحلم
هو الموت.

حراسةٌ ليلية

طوال الليل
ملقًى بجوار
رفيقٍ مذبوح،
فمُه العابس
يتَّجه إلى ناحية البدر،
وفي كفَّيه احتقن الدم،
وتغلغل سرًّا في صمتي
(في أرقي طول الليل)
كتبتُ رسائل حب.
أبدًا لم أتشبَّث بحياتي
أكثر مني في تلك الليلة …
(الميناء المدفون، ١٩١٥م)
تصرخين
أختنِق …
(قصيدةٌ أخرى من كلمتين كتبها بعد موت ابنه مباشرة ولكنه أخفاها عن زوجته الحزينة ولم ينشرها إلا بعد وفاتها في سنة ١٩٥٨م)

•••

أتجلَّى
باللامحدود …

قصيدةٌ شهيرة من كلمتين اثنتين. وبالرغم من دقَّتها وإيجازها وتكثيفها النادر في الشعر الغربي والشرقي على السواء، باستثناء نماذج متفرقة من الشعر الصيني والياباني القديم؛ فهي تختزن شحنات هائلة من الشوق المطلَق واللامتناهي، وتطلق من فمها الكتوم طاقات وإشعاعات لا حدَّ لجمالها ورهافتها وتغلغلها في تراثٍ شرقي وغربي عريق من تصوُّف النور أو «الإشراق» الذي لا يتَّسع المقام لتتبع جذوره وساقه وفروعه من الزرادشتية إلى الكتابات الغنوصية والهرمسية في القرون الأولى للمسيحية، ومن الأفلاطونية الحديثة، إلى القديس أوغسطين وبونا فنتورا والفلاسفة والمتصوفة المسيحيين والمسلمين في العصر الوسيط من الفارابي وابن سينا والغزالي إلى السهروردي المقتول وابن عربي، ومن رامبو أكبر رُوَّاد الحداثة في الشعر الغربي إلى عددٍ كبير يصعب حصره من شعراء النور والإشراق الشرقيين والغربيين …

وشاعرنا الذي كتب هذه القصيدة — أو قُل هذا الكنز الصغير الثمين — وحاول فيها أن يعبِّر عن توق المحدود إلى اللامحدود، هو «جوسيبي أنجاريتي» أحد رُوَّاد الحداثة الكبار في الشعر الإيطالي والأوروبي الحديث والمعاصر، صحيح أن هذه «القصيدة» فلتةٌ نادرة في شعره وفي كل ما ألِفناه من شعر، ولكن الصحيح أيضًا أن نفس الدقة والصرامة، والهمس والكتمان، والإيماء والإيحاء — بدلًا من الثرثرة أو حتى التعبير المعقول والمفهوم! — هي الطابع الغالب على كل قصائده التي نشرها في حياته الغنية بالألم والعذاب والإحباط، وذلك من ديوانه الأول «الميناء المدفون» (١٩١٦م) إلى مجموعته الأخيرة «مفكرة العجوز» (١٩٦٠م).

وأنجاريتي جدير بالاهتمام من جانبنا نحن المصريين والعرب لسببٍ بسيط هو أنه وُلِد بالإسكندرية وعاش بها ما يقرب من ثلاثة وعشرين عامًا قبل أن يتركها إلى روما ومنها إلى باريس لاستكمال دراسته ثم التورط في مجزرة الحرب العالمية الأولى التي قرَّبَته من الموت والألم والدم وتعاسة المصير الإنساني، وجعلَته يكتب أُولى قصائده وهو مختنق في تراب الخنادق، محاطٌ بدويِّ المدافع، مُعرَّض في كل لحظة لقصف القنابل وأمطار الرصاص. ظل شعره منذ تلك الأيام العصيبة سجلًّا فنيًّا لقصة حياته أو سيرة شعرية ضمَّت — بلُغة الشعر الجوهرية المفارقة للغة الطبيعة ولغة العلم والتواصل اليومي — شذراتٍ مبتورة ومتناثرة من واقع حياته ولغته التي أصبحَت بدَورها شظايا مكسورة من حطام الواقع الطبيعي والعملي والنفسي والفكري الذي اضطربَت فيه حياته بين القليل من الأمل والفرح والكثير الكثير من الألم وخيبات الأمل؛ لذلك لا نعجب إذا رأيناه بعد ذلك يصرُّ على وضع هذا العنوان الثابت على طبعات أعماله الكاملة وهو «حياة إنسان».

بدأ أنجاريتي دراسته بالإسكندرية في معهد دون بوسكو الديني، وهو المعهد نفسه الذي دخله مارينيتي (١٨٦٦–١٩٤٤م) زعيم المستقبلية الذي وُلِد كذلك بالإسكندرية. وواصَل الصبي الصغير دراسته في مدرسة «جاكو» السويسرية التي كانت من أرقى المدارس الثانوية في الإسكندرية. وفي هذه المدرسة حدَّثه بعض أساتذته المستنيرين لأول مرةٍ عن الأدباء الجدد في فرنسا، فأقبل على قراءة أقرب الكُتاب والشعراء والمفكرين إلى قلبه في تلك السن المبكرة مثل بودلير ومالارميه وليوباردي ونيتشه …

ويبدو أن ميوله القوية إلى التمرد والثورة قد شدَّته للتردد على المعسكر الأحمر. وهو فرع التجمع الدولي للفوضويين في الإسكندرية، وكان يديره صديقه الأكبر منه سنًّا، والأكثر منه عنفًا وحماسًا وهو إنريكوبيا، وكان حلقة الوصل بين أنجاريتي وبين شُداة الأدب والفن الأجانب الذين كانوا مقيمين في الإسكندرية، وعلى رأسهم الشاعر العظيم اليوناني الأصل قسطنطين كفافيس وزملاؤه الذين كانوا يشاركون في تحرير مجلتهم «لا غراماتا» — أي الأدب — التي كانوا يصدرونها في الإسكندرية.

في هذه الفترة المبكرة راح أنجاريتي يروِّج للأفكار الفوضوية والثورية، وينشر المقالات السياسية والأدبية في الصحف الأجنبية المحلية، مع بعض الأقاصيص القصيرة والترجمات الأولى التي جذبته نصوصها في ذلك الوقت، لا سيما لبعض قصص إدجار آلن بو، التي ترجمها عن الترجمة الفرنسية التي قام بها شاعره الأثير وشديد التأثير عليه وهو مالارميه (الذي ترجمه بعد ذلك، كما ترجم لعددٍ كبير من الشعراء ترجمةً مبدعة يضعها النقاد جنبًا إلى جنب مع شعره، مثل بودلير وفاليري وسان جون بيرس ويسنينين وجونجورا وشكسبير — السوناتات — ووليم بليك …)

واللافت للنظر أنه لم يفكر في تلك الفترة من حياته في كتابة بيتٍ واحد من الشعر، وأنه لم يبدأ في ذلك — كما سبق القول — إلا في ظلام الخنادق وعلى الأضواء الخاطفة من بروق القنابل ورعود المدافع …

غادر أنجاريتي الإسكندرية في سنة ١٩١٢م إلى باريس عن طريق إيطاليا وفي نيَّته — كما كان الحال مع كاتبنا الرائد العظيم توفيق الحكيم! — أن يدرس الحقوق إرضاءً لأمِّه الحبيبة واستجابة لإلحاحها عليه … وترسو به الباخرة في ميناء برينديزي، ويقيم فترةً قصيرة في روما، ثم يستقر إلى حينٍ في فلورنسا بالقرب من أصدقائه الذين كان يراسلهم من الإسكندرية، ويساهم في تحرير مجلتهم «الصوت»، ويصل في الخريف إلى باريس، ويقيم في فندقٍ متواضع الحال — في شارع دي كارم! — مع صديقه العربي الذي عرفه في مصر وهو محمد شعيب الذي اختار بعد ذلك أن يموت بإرادته ورَثاه صديقه بقصيدة من عيون شعره وهي «في ذكراه» … كان أصدقاؤه في فلورنسا قد حمَّلوه رسائل وتوصيات يقدِّم بها نفسه لبعض الأدباء المشهورين في باريس مثل الشاعر الكاثوليكي شارل بيجي وعالم الاجتماع جورج سوريل، إلا أنه أخذ يتردد على المقاهي والصالونات الأدبية والفنية، ويعقد — بفضل رقَّته وسماحته وإنسانيته العميقة — أواصر المودة والصداقة الحميمة مع عددٍ كبير من الشعراء والرسامين والنحاتين (مثل جيوم أبولينير وماكس جاكوب وسان جون بيرس وبيكاسو وموديلياني ودي كيريكو وبرنكوزي) كما راح يتردد على بعض محاضرات الأدب والفلسفة في جامعة السوربون والكوليج دي فرانس مثل مؤرخ الأدب لانسون وهنري برجسون فيلسوف الديمومة والشعور المباشر والتطور الخلَّاق وغيرها من الأفكار الملهمة التي كان لها تأثيرٌ كبير على شعره، لا سيما على مجموعة قصائده «عاطفة الزمن» (١٩٣٣م).

ويرجع إلى إيطاليا في سنة ١٩١٤م للحصول على شهادةٍ تؤهله لتعليم الفرنسية، ويستقر في ميلانو حيث يؤدي الامتحان بنجاح ويبدأ العمل بالتدريس، ويُستدعَى للاشتراك في الحرب العالمية الأولى، ويُرسَل به إلى الجبهة النمسوية ثم إلى الجبهة الفرنسية في منطقة شامبني، وفي أثناء ذلك يكتب أُولى قصائده من الخندق، وهي قصيدة «الميناء المدفون» — في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر سنة ١٩١٥م — ثم يضمُّ إليها قصائد أخرى سابقة أو لاحقة، وينشرها بفضل أحد أصدقائه في ثمانين نسخة يهديها — من باب العرفان والامتنان — إلى أصدقائه في فلورنسا وميلانو …

وتنتهي الحرب الأولى، أو مجزرة الإخوة الأوربيين، ويصل إلى باريس مع إعلان الهدنة في سنة ١٩١٨م، ويغتنم الفرصة لزيارة أصدقائه القُدامى. ويُسرع إلى بيت «أبولينير» حاملًا معه هدية من السجائر التوسكانية التي كان يحبها، فيُفاجأ بأن صديقه يحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة … ويبقى في هذه السنة في باريس ويشتغل بالصحافة، وتصدر مجموعة قصائده «فرحة السفن الغريقة»، وقد اختزل العنوان بعد ذلك بحوالي عشر سنوات (١٩٣١م) في هذه الكلمة العسيرة الدالة «الفرح»، وقد استطاع أن يقدِّم فيها مواقف درامية ووجودية مشحونة بكل ما أفاض القول فيه — بعد كيركجارد — فلاسفةُ الوجود أو الوجودية التي لم تشع بين الناس إلا بعد الحرب العالمية الثانية، مثل هيدجر وياسبرز ومارسيل وأبانيانو وسارتر وميرلو بونتي ومالرو وكامي وغيرهم: مواقف اليأس — والأمل أيضًا! — والقلق والاغتراب والاكتئاب والبحث عن الوجود الذاتي الأصيل والحميم، والحب والتعاطف والتوق الدائم للنور الباطني والحرية والصمود في مواجهة الموت والخراب الذي تسببَت فيه حربان أو مجزرتان عبثيتان، وعبَّر الشاعر عن هذا كله أو عن بعضه في كلماتٍ مقتصدة — كالشفرات الملغزة والموحية — تنمُّ عن نزعةٍ حسية شديدة الحساسية والتعاطف إلى حدِّ التوحد والاندماج مع الطبيعة بكل كائناتها — حتى العشب والحجارة والحصى والموج والزبد! — وتغمرها مع ذلك روحانية شفافة معذبة تنقيها من كل شائبةٍ مادية (وهو الدرس الخالد الذي تعلَّمه شاعرنا من قراءته وترجمته لمالارميه) وترتفع بها فتندفع بلُغتها — أو بحطام لُغتها الشحيحة المتشظية — نحو آفاق المطلَق لإشباع ما وصفه «بالنهم إلى الله» أو نحو ظلمات العدم التي لا تخلو أنفاقها من بصيص من نور الأمل …

(راجع على سبيل المثال قصيدته «صفاء» التي تجدها مع هذه السطور …) والمهم أن هذه القصائد الأولى التي كتب معظمها أثناء الحرب هي يومياتٌ روحية وشهاداتٌ شعرية على اكتشاف الإيقاع والنغمة والكلمة «المحفورة» — على حدِّ تعبيره — كالهوَّة في لحمه ودمه …

في تلك السنة أيضًا — ١٩١٩م — يتزوج الفرنسية جان ديبوا التي كانت نِعم الزوجة والأم والأخت والحبيبة التي يمكن أن يتمناها الأديب. ويكتب أُولى مقالاته المطوَّلة عن بتراركا شاعر عصر النهضة، ويعقد عرس صداقةٍ حميمة مع بعض الداديين ومع أندريه بريتون زعيم السريالية وصاحب بيانها الشهير، كما يشيِّع في نفس السنة جنازة صديقه الرسام الرائع البائس موديلياني …

ويرجع في سنة ١٩٢٠م إلى إيطاليا ليستقر في روما مع زوجته التي الْتحقَت بوظيفة معلمة للغة الفرنسية، ويضطره شظف العيش لقبول تكليفٍ من قسم النشر والمطبوعات بوزارة الخارجية الإيطالية بتحرير نشرةٍ يومية باللغة الفرنسية يستمر في الإشراف عليها عشر سنوات كاملة، بجانب الكتابة في بعض الصحف والمجلات لمواجهة الضرورات القاسية … وفي هذه السنة أيضًا أسعده الحظ بالتعرف على أندريه جيد وجيمس جويس والفيلسوف كروتشه والالتقاء بهم عدة مرات …

وتظهر في سنة ١٩٢٣م طبعةٌ جديدة ﻟ «الميناء المدفون» مع مقدمة لموسوليني زعيم الفاشية يشيد فيها بشعر أنجاريتي المتميز بالعاطفة الصادقة والألم العميق والبحث عن الحقيقة وراء المظهر، والمتسم باللغة الهامسة التي تحرص على السرِّ وتلوذ بالكتمان (وقد خلَت الطبعات التالية من هذه المقدمة التي سببَت له بعد ذلك عنتًا كثيرًا واتُّخذَت قرينة لتوجيه تُهم هو في الحقيقة أبعَد الناس عنها).

وتُولَد ابنته الأولى «آن ماريا» في سنة ١٩٢٥م، ويُشرف على تحرير مجلة «معايير» التي كانت منبرًا لكبار مجدِّدي اللغة والأدب مثل جويس وكافكا وإليوت وموزيل وباسترناك … ويتحول في عام الرحمة (نسبة إلى إحدى قصائده التي تحمل هذا العنوان) أي في عام ١٩٢٨م إلى الكاثوليكية بعد أعوام من التِّيه الفوضوي مع الحركات التي ذكرناها منذ بداية القرن، وفي هذا العام نفسه يلتقي في روما بأمه التي غابت عنه وغاب عنها سنواتٍ طويلة، وتلهمه أبياتًا مشهورة من قصيدته «الأم» التي يتمثل فيها الموت في صورة «مريمية» أو مسيحية خالصة …

وفي سنة ١٩٣٠م يقوم بجولة في الجنوب الإيطالي وبعض البلاد الأوروبية على نفقة صحيفة الشعب التي أخذ يراسلها بمقالاتٍ متفرقة في الأدب والسياسة، ويُولَد ابنه أنطونيو فيفرح به فرحًا غامرًا يحجب عنه المأساة الأليمة التي تنتظره بعد ذلك بسنواتٍ قليلة، كما يبلغه نبأ وفاة أمه في الإسكندرية ويرجع إلى مصر في سنة ١٩٣١م خلال أسفاره المتصلة، ويبقى فيها فترةً قصيرة أوحَت إليه بعد ذلك بكتابة حوالي مائة صفحة عن حياته في مصر جعل عنوانها «كرَّاسةٌ مصرية» … وفي تلك الأثناء وبعدها يتعرض لهجماتٍ نقدية قاسية — مع بعض زملائه من رُوَّاد الحداثة مثل مونتاله وكواز يمودو وبونتمبللي وسابا — وتوجه إليهم وإليه بوجهٍ خاصٍّ تهمة الغموض والإلغاز، بل يُعرَف بعد ذلك بريادة مدرسة «الهيرميتزم» (الإلغاز) — نسبة لهيرميس رسول الآلهة الإغريق إلى البشر، وإلى الكتابات الهرمسية الغامضة الأسرار — بينما تنطق الحقيقة بأنها تهمة لا يصدقها من يصبر ويبذل الجهد الضروري لقراءة شعره المتميز — كما قلت — بالقصد والإيماء والإيحاء، والبعد عن الثرثرة والكلمات والأوزان والإيقاعات الطنانة والزخارف المتكلَّفة التي غرق فيها الشعر الإيطالي قبله هو وزملاؤه (لا سيما عند دانونزيو).

ويبدأ الاعتراف برائد التجديد والحداثة، ويحصل شاعرنا على جائزة «الجوندليير» (الجندول!) التي تمنحها مدينة البندقية. وتصدر في العام التالي — ١٩٣٣م — مجموعته الشعرية «عاطفة الزمن»، كما يصدر بعد ذلك بسنةٍ واحدة المجلد الأول من أعماله الكاملة الذي يحوي عددًا لا بأس به من ترجماته المبدعة، وتصله في سنة ١٩٣٦م دعوة لشغل كرسي الأدب الإيطالي بجامعة ساو باولو بالبرازيل، فيقبل الدعوة بسبب ظروفه العائلية والاقتصادية … ويُلقي هناك محاضرات عن عظام الشعراء والكُتاب الإيطاليين من منطلق حرصه على تأسيس فنٍّ شعري جديد وكلاسيكي في وقتٍ واحد … ويخبئ له القدر في سنة ١٩٣٩م محنة لن ينجو من تأثيرها بعد ذلك أبدًا، وإن انعكست ظلالها الطويلة الحزينة — بعد مغادرته للبرازيل التي لم يكتب فيها بيت شعرٍ واحدًا وعودته إلى بلاده — على قصائد ديوانه «الألم» (ميلانو ١٩٤٧م)، فقد مات ابنه أنطونيو ذو التسع سنواتٍ نتيجة الْتهابٍ شديد في الزائدة الدودية أدَّى إلى انفجارها وأعجز الطب المتخلف عن إنقاذه، ويبدو أن موت ابنه في هذه السنة وموت زوجته بعد ذلك (في سنة ١٩٥٨م) قد كانا أفجع أحداث حياته وأكبرها تأثيرًا على رؤيته التي ازدادت مع التقدُّم في العمر قتامة واكتئابًا، كما ازداد في نفس الوقت نصيبها من الروحانية والشوق اللاهب إلى المطلق …

وفي سنة ١٩٤٢م يُعيَّن عضوًا بالأكاديمية الإيطالية، وتدعوه جامعة روما لشغل كرسي «المشاهير» للأدب الإيطالي المعاصر الذي سيحتفظ به — برغم حقد الحاقدين وتآمر المتآمرين عليه بعد انتهاء الحرب — حتى وفاته. والجدير بالذكر أنه استهلَّ محاضراته في جامعة روما بمحاضرة عن شاعره الأثير «ليوباردي» (١٧٩٨–١٨٣٧م) — أمير التشاؤم والغناء الحزين في الشعر والنثر الإيطاليَّين! — كما بدأ في العام نفسه في إعداد الطبعة الكاملة لأشعاره تحت هذا العنوان الدالِّ الذي سبقَت الإشارة إليه: «حياة إنسان».

وفي سنة ١٩٤٧م يُقدَّم مع غيره لمحكمة «تطهير» أقامها اتحاد الكُتاب الإيطاليين فلا تثبُت عليه أي تهمة. وحاول بعض الموتورين إقصاءه عن كرسي المشاهير، فما كان من الجامعة إلا أن ثبَّتَته عليه ورجَته مواصلة دروسه ومحاضراته … ولا يخرج من هذه الاستفزازات التي أوهنَت قواه ودمَّرَت أعصابه إلا بالانغماس في الحياة والعكوف على إنتاجه الشعري والترجمي ومتابعة لقاءاته وحواراته وأسفاره … ويصدر أحب كتبه إلى قلبه، وهي مجموعة الألم التي تضمَّنَت مرثياته لابنه ولعدد من أعزائه الذين سقطوا في الحرب، ولوطنه نفسه الذي تجرَّع الذل والهوان على أيدي الفاشيين الإيطاليين، ثم على أيدي النازيين الألمان الذين احتلوا روما وغيرها من المدن قبل انتهاء الحرب بحجَّة الدفاع عنها ضد هجوم الحلفاء …

وبين عامَي ١٩٤٩ و١٩٥٦م يحصل على عدة جوائز أدبية، ويصدر الناشر موندادوري ترجمته لمسرحية «فيدر» لراسين وكتابه «فقير في المدينة» الذي دوَّن فيه ذكريات رحلاته المختلفة، وذلك بجانب شذرات من ديوانه «الأرض الموعودة» (والمقصود بها إيطاليا نفسها التي وعدَت بها الآلهة بطل ملحمة فيرجيل «الإنيادة» …) كما يصدر واحد من آخِر دواوينه صرخة ومناظر ريفية …

ويكمل السبعين من عمره في سنة ١٩٥٨م فتمنحه مدينة لوكان — التي انحدر منها أبوه وأجداده — لقب مواطن شرف، كما تُخصص «مجلة الأدب» أحد أعدادها لتكريمه، لكن قاصمة الظهر كانت هي وفاة زوجته نتيجة فشلٍ كبدي قديم، وهي الزوجة التي قال عنها في تعقيبٍ متأخر على مجموعته الشعرية «الفرح»: «كانت زوجتي هي رفيقة عمري التي بلغَت الغاية في التفاني والتسامح والصبر، حيثما جاءني الإلهام الشعري كانت دائمًا بجانبي، لم تتشكك فيَّ أبدًا، قاست معي ومِن أجلي وكانت منبع شجاعتي …»

وفي سنة ١٩٦٠م يحصل على جائزة «مونتفلترو» الأدبية، وتصدر مجموعته الشعرية «مفكرة العجوز» مع شهادات لكُتاب وشعراء من مختلف أرجاء العالم يبيِّنون فيها تأثُّرهم به وانطباعهم عنه … ثم يقوم برحلات بالطائرة مع عدد من أصدقائه يطوفون فيها بمعظم بلاد العالم، وكان قد سبق له في شهر مايو سنة ١٩٥٩م أن زار مصر — التي وصفها ذات مرةٍ بأنها هي «حُلمه المألوف» — زيارةً خاطفة، وكتب تقريرًا عن هذه الزيارة في الشهر نفسه في صحيفة إل موندو (العالم). ولا شك أن الهدف الوحيد من هذه الزيارات كان هو التعزِّي عن غياب زوجته عن حياته، على الرغم من حضورها الميتافيزيقي والصوفي وراء حدود الزمن النسبي في كثير من قصائده المتأخرة، وعلى رأسها قصيدته البديعة «للأبد» التي كتبها في شهر مايو سنة ١٩٥٩م وبعد رحيل زوجته بعدَّة شهور …

وتصدر مذكرات رحلاته في كتابه «الصحراء وما بعدها» الذي استكمل فيه ما بدأه في كتابه السابق «فقير في المدينة»، وأضاف إليه ترجماته عن الشعر البرازيلي …

ويُنتخَب في سنة ١٩٦٢م رئيسًا للجمعية الأوربية للكتاب، ويرأس المؤتمر الذي عقدَته هذه الجمعية في مدينة ليننجراد (سان بطرسبورج) في سنة ١٩٦٣م، كما يلتقي بخروتشوف ويشهد بنفسه الصراع الدائر بين الستالينيين وأعداء الستالينية من المجدِّدين والثائرين الأحرار، ويدافع في جلسات المؤتمر بشجاعة عن حرية الإنسان وكرامته في حضور عددٍ كبير من الأدباء الكبار من بينهم شولوخوف وسارتر وسيمون دي بوفوار …

وبين سنتَي ١٩٦٤ و١٩٦٨م يسافر إلى الولايات المتحدة لإلقاء عددٍ من المحاضرات في جامعة كولومبيا بنيويورك، وهناك يتعرف على الشاعر الأمريكي الزنجي الأصل جنسبرج ويتصادق كالعادة معه، وتكرمه الدولة الإيطالية في قصر كيجي — بمناسبة بلوغه الثمانين من عمره — مع الشاعرَين أويجينيو مونتاله وسلفاتور كوازيمودو — الذي حصل بعد ذلك على جائزة نوبل في الآداب — وذلك في حضور رئيس الوزراء. ويصدر له كتاب «حوار» أجرَته معه الكاتبة البرازيلية برونا بيانكوه، وتصدر مجلة «هيرن» عددًا لتكريمه، كما يصدر الناشر الفرنسي جاليمار مجموعة مقالاتٍ منتخبة تحت عنوان «براءة وذاكرة». ويتابع رحلاته إلى بعض البلاد — سويسرا وألمانيا والولايات المتحدة — ويظهر المجلد الأول من أعماله الكاملة مع شروح ودراسات لتلميذه ليوني بيتشوني …

وتأتي آخر ليلة في سنة ١٩٦٩م فيكتب آخر قصائده التي تستهل فجر اليوم الأول من أيام السنة الجديدة التي ستشهد وفاته — على أثر أزمةٍ قلبية داهمَته في نيويورك بعد تسلُّمه جائزة من جامعة أوكلاهوما — ويرجع إلى بلاده للاستشفاء في «سالزو ماجوري» ثم يباغته ذلك الأسود الملثَّم الذي لا مهرب منه في مدينة ميلانو في الليلة الفاصلة بين الأول والثاني من شهر يونيو، وتُقام له جنازةٌ متواضعة في كنيسة سان لورنزو في روما دون أن يكلِّف أي مسئول نفسه بحضورها لتوديع أعظم شاعرٍ مجدد عرفَته إيطاليا الحديثة …

تلك كانت نبذة عن حياة أنجاريتي وشعره، كتبتُها للتعريف به كما كتبتُ كتابًا متواضعًا عنه يمكن أن يرجع إليه القارئ لمعرفة المزيد عنه وعن إبداعه المتهم ظلمًا بالغموض (يا إخوتي – قصائد مختارة من شعر أنجاريتي، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، العدد ٦٦ من سلسلة آفاق الترجمة، ص١٤٦، ٢٠٠٠م) وكلي أمل أن يقبل إخوتنا وأبناؤنا من دارسي الأدب الإيطالي على تقديم هذا الشاعر السكندري من جوانبه المختلفة وفاءً له ولأنفسنا …

١  حرفيًّا: من لون السماء.
٢  حرفيًّا: صورةٌ زائلة، أو رسمٌ زائل.
٣  أو من سرابها البرَّاق الذي يعشي البصر، حرفيًّا: من عشى الشهوات …
٤  أي خيبة الأمل في هذا اليوم …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤