اللحظة المواتية (كايروس)

figure
رب اللحظة المواتية.

كايروس.

– النحت البارز من أي مكان؟
– محفوظ في متحف «تروجير» من أعمال البلقان.
– ومن الفنان؟
– ليسيبوس.
– والمسكن والعنوان؟
– في سيكيون.
أتقدم منه، أتأمله، أسأل باستغراب:
– من أنت؟
– رب اللحظة … كايروس.
– قل لي يا رب اللحظة:
لِمَ تخطو حذرًا فوق أصابع قدميك؟
– لأني لا أتوقف أبدًا عن سيري.
– ولماذا ينبت في القدمين جناحان؟
– لأني أسرع في العدو من الريح.
– ولماذا تحمل سكينًا في يمناك؟
– كي أعلن للإنسان
أن لا شيء سواي أحدُّ من السكين …
– ولماذا تتدلى خصلة شعر
من فوق جبينك؟
– لأني، وبحق زيوس،
أدعو من يلقاني
أن يمسك بي توًّا،
وأحذره أن يتردد لثوانٍ.
– ولماذا تبدو رأسك صلعاء من الخلف؟
– ليعرف هذا المسكين الفاني
أن «الآن»
إن عبر فلن يرجع أبدًا …
أبدًا لن يجد الإنسان
بعد ضياع الفرصة
غير الحسرة والخذلان …
ولأني إن أسرعتُ وطارت بي قدماي
– لا تنسَ ففي قدميَّ جناحان! …
ثم عبرتُ بمن في الماضي كان
— أي في لحظة زمن فاتت أو لحظات —
يتلهف للقائي،
لن يدركني أبدًا،
لن أسعده بلقاءٍ ثان.
– يا رب اللحظة قل لي أيضًا:
لم سوَّاك الفنان؟
– أحرى بك أن تسأل: ولمن؟
فأجيبك فورًا:
ولمن غيرك يا ابن الأرض،
لمن غيرك يا إنسان؟!

تُنسَب القصيدة للشاعر الهلينستي بوزيديبوس الذي وُلِد في بيلا من أعمال مقدونية حوالي سنة ٢٧٥ق.م. وينتمي لمدرسة الإسكندرية، وقد كتبها على هيئة حوارٍ شيِّق متأثِّرًا بنحتٍ بارز على الرخام صاغه الفنان الإغريقي ليسيبوس — الذي عاش في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد في سيكيون من شبه جزيرة المورة أو البيلوبونيز، ووصلتْنا منه، أو من مدرسته الفنية، تماثيل عديدة من خلال نُسَخ رومانية صُنِعَت على أصولها القديمة (مثل تمثال أيوكسيومينوس المحفوظ بالفاتيكان، وتمثال هرقل الفارنيزي وهيرميس الجالس — الموجود في نابولي — والمتعبد — أو المتبتل — في متحف برلين) ويذكر عن هذا المثال أنه خرق «القانون» الفني والشكلي الذي نَظَّر له أحد كبار الفنانين الإغريق في ذروة العصر الكلاسيكي، وهو بوليكليت الذي يُذكَر اسمه مقرونًا بالفنان الشهير فيدياس؛ إذ يُلاحَظ أنه (أي ليسيبوس) قد عمَّق البعد الثالث في أعماله النحتية، وأضفى عليها مسحةً طبيعية جعلَته علامةً مميزة في تاريخ الفن على القرب من الطبيعة والواقع، الأمر الذي مهَّد للفن الهلينستي وعنايته بالشكل الطبيعي الحي، ولا بُد أن وقوف الشاعر السكندري أمام النحت الرخامي البارز قد أذهله بحضوره الجارف، وألهمه هذا الحوار المتسائل عن أصله وطبيعته وغايته، وكأنه يخاطب إنسانًا حيًّا مثله، وإن كان في قدمَيه جناحان تجعلانه أشبه بفرسٍ بشري يسرع في سَيره كالريح، ولكن يقف لمن يغتنم فرصة مروره ولا يتردد لحظةً واحدة عن الإمساك «برب اللحظة المواتية» من خصلة الشعر المتدلية من رأسه، أما السكين التي يحملها في يده فتقول للإنسان: إني أحدُّ ملمسًا من هذه السكين، من يضيعني يظل يتألم من جرح لا يندمل أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤