عادل قرشولي (١٩٣٦م–…)

قصائد من ديوانه: «هكذا تكلم عبد الله …»

وقال لي:
أقرب من قرب اليد للبدن،
ومن قرب الحدقة للعين،
أقرب من قرب الذكرى للذاكرة،
ومن قرب الطفل لصدر الأم،
يبقى البلد النائي١
بالنسبة لك.

•••

لكني قلت:
الغربة ما هي عني بغريبة،
في الجذر تعشش هذي الغربة،
ودوامًا
يتوجه شوقي للمطلق،
يدعوني في ليلات الوحدة
خلف تخوم جبال سبعة.

حكاية الشوق

وقال لي:
لا تدعِ الغربة تصطادك
في شبكتها،
انظر للآخر وتمعَّن فيه ببطء،
عندئذٍ لن تقوى أبدًا لحظات الغربة
أن تنفذ في داخلك
وتتخبط حائرة فيه.

•••

وقال لي:
كمِثل راقصٍ على الحبال
يقف المهاجر الغريب
فوق حافة السكين
ظمآن
بين مطر
ومطر …

•••

وقال:
حتى فوق العشب الناضر
يتيبَّس
فرعٌ مبتور.

•••

وقال لي:
أشرِق في سنبلة
وستشرق فيك
الشمس.

•••

لكني قلت:
الماضي يحمل (أسرار) الأبدية
يطويها في لحظتي (الزمنية)
وبغير الأبدية
تصبح هذي اللحظة
شطًّا (مهجورًا)
وبلا بحر.٢

•••

وقال لي:
تقبَّل ما يأتيك
ولا تنتظره،
رحِّب بالموت
وعِش.

•••

وقال لي:
بين الأزل الأقدم
والأبد اللامتناهي
أنت الجسر،
فلا تنأَ بنفسك،
لا تنأَ عن الطرفين.

الموت

لكني قلتُ:
من أعماقٍ لا تُسبَر
تطلع جنية
وشعاعًا
بعد شعاع
(تتجلى لي)
وتضيق عيوني عاجزة
لا تقدر أن تتملَّاها —
دويُّ النور لهذا الفجر
على (شط) البحر.

•••

وقال لي:
خناجر شقَّت وجدانك،
لأنك دومًا
تشتاق إلى الشوق
حين يغيب الشوق.
وقال:
الأمل يعضُّك،
والأرق (يمضُّك)
حتى ينعس فيك الشوق.
لكني قلت:
لو نام الشوق بقلبي لخشيت
أن يطعنني الخنجر أثناء النوم
فلا أشعر
بالألم (المُر).

البدن

وقال لي:
في حضن العالم مكنون،
لا متناهٍ هذا البدن،
ومترامٍ كالبحر،
كالزغرودة،
كالأفق،
كوطن تلجأ له
أطراف أصابع منفية،
وإذا يتمدَّد
فوق فراشٍ ضيِّق
يبدو أشبه بالحدقة
في عينٍ ضيقة النن.

استشعار الطقس

في صبح يومٍ باكر،
وفجأةً،
حين تمرُّ السحب الملبَّدة،
وتحضن الحرارة المطر،
قبل وميض البرق،
قبل أن يدوِّي الرعد،
سوف يكفُّ هذا القلب
عن وجيبه
وعندها ينهمر المطر،
عندئذٍ تغدو السماء
صافيةً زرقاء،
عندئذٍ تغرِّد الطيور،
والشمس ترتفع
لذروة الحبور.

ربما كان المبرر المقبول لوجود هذه القصائد التي انسكبَت من قلم شاعرٍ عربي وقلبه، في كتاب يضم باقةً مختارة من زهور الشعر الغربي في عصورٍ مختلفة، هو أنها كُتبَت في الأصل بالألمانية. ولا يتسع المقام للدخول في الجدل النقدي الذي احتدم — قبل وحدة شطرَي ألمانيا وبعدها — حول الأدب الذي يكتبه بالألمانية بعض الأجانب الذين تربوا في أحضان لغةٍ أمٍّ أخرى (كالعربية والفارسية والتركية وغيرها من اللغات الأوروبية والآسيوية لبعض الأدباء المقيمين في ألمانيا)؛ فالمهم في تقديري المتواضع هو أن يكون الأدب أدبًا قبل كل شيء، ويكون الشعر شعرًا حقيقيًّا تتوافر فيه الشروط الفنية والجمالية والإنسانية لكل شعرٍ جدير بهذه التسمية. ولقد شعرتُ قبل سنواتٍ قليلة بوشائج القرب الحميم من شخص وشعر شاعرنا السوري الأصل، والمقيم في مدينة ليبزيج منذ أكثر من أربعة عقود من الزمان. ولعلِّي قد تذوقتُ منه أكثر مما يتذوقه قارئه الألماني الذي طالما انبهر به؛ صوره الفنية الموحية بروح الشرق وعبق تراثنا الشعري العربي، وآلام الغربة التي يدور حولها عددٌ كبير من قصائد هذا الشاعر العربي المتمسك بجذوره وهويته، ورسائل وطنه الأصلي الحبيب المستمرة إلى دمه وعقله وقلبه … ولذلك عكفتُ قبل حوالي العام على شعره ونثره، ودراساته ومقالاته وحواراته ومواقفه الصادقة الشجاعة — في أحاديثه وكتاباته وتصريحاته للجرائد والمجلات الألمانية — التي طالما دافع فيها وما يزال يدافع عن الحق العربي والقضايا العربية في مواجهة «الآخر» الألماني والغربي الذي لم يستطع حتى اليوم أن يتخلص من «مركزيته» الأوروبية المتعالية ولا من تحيزاته الموروثة — منذ عهد الإغريق! — وأفكاره المغلوطة عن الشرق عمومًا والعرب والمسلمين بوجهٍ خاص. وكان أن أصدرتُ كتابي المتواضع «الزيتونة والسنديانة» (القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة آفاق عالمية، سبتمبر ٢٠٠١م) وجعلتُه مدخلًا لحياته وكفاحه الطويل في الغربة — التي ما تزال غريبة! — ولإبداعه الشعري (الذي صدر منه حتى الآن ديوانان بالعربية وخمسة دواوين بالألمانية هي: كحرير من دمشق ١٩٦٨م، وعناق خطوط الطول ١٩٧٨م، ووطن في الغربة ١٩٨٤م، ولو لم تكن دمشق ١٩٩٢م، وهكذا تكلم عبد الله ١٩٩٥م، وهو الديوان الأخير الذي نقلتُه بأكمله إلى العربية، واقتبستُ منه بعض قصائده لتُنشَر في هذا الكتاب).

وقد لخصتُ كفاح عادل قرشولي العلمي والأدبي في صورتَين أو استعارتَين أعتقد أنهما مفتاحان صالحان للدخول إلى عالمه الإبداعي والنقدي الواسع الخصب: «الجسر» الذي حرص على إقامته منذ بداية حياته ودراسته وتدريسه في ألمانيا الشرقية السابقة وحتى اليوم الحاضر، وهو الذي مدَّه بكل المحبة والفهم والأريحية بين ثقافتنا العربية وثقافة الآخر الألماني التي تشربَّها وتعمَّق فيها وكتب شعره بلُغتها، و«الشجرة» التي تمد ظلالها في دمشق العريقة وعلى الحي الكردي الذي نشأ فيه وهي شجرة الزيتون، والشجرة الأخرى التي نجح في مَد جذورها في ليبزيج، عاصمة الكتب والمثالية الألمانية، وألقَت بظلالها الوارفة الحنون عليه وعلى أولاده وأحفاده من زوجته وراعيته العظيمة الكريمة المستعربة «ريجينا قرشولي» التي ترافقه منذ سنواتٍ طويلة على درب الحياة والترجمة من العربية إلى الألمانية لبعض روائع القصة والرواية الحديثة (للطيب صالح، وصبري موسى، وجمال الغيطاني، وإبراهيم أصلان، وسحر خليفة، وغيرهم) ومن شاء المزيد من التفصيل فليرجع إلى الكتاب السابق الذكر.

١  البلد النائي — بالنسبة للشاعر المقيم في ليبزيج بألمانيا منذ أكثر من أربعة عقود — هو وطنه سوريا الشقيقة وموطنه الأصلي في أحد أحياء دمشق.
٢  تصرفتُ قليلًا في هذه المقطوعة البديعة التي تلمس مشكلة اللحظة التي شغلَتني زمنًا طويلًا وما زالت تشغلني … والكلمات الموضوعة بين قوسين إضافةٌ مني للنص الأصلي الذي وجدتُ فيه أصفى تعبيرٍ شعري عمَّا سميتُه «باللحظة الخالدة» التي نعاين بَرقها الخاطف في لحظات الإبداع والحب والسكينة … إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤