أبولو بلفيدير

figure
أبولو بلفيدير.

أبولُّو بلفيدير

مبتهجًا بالنصر على «بيثون»،
بسهم منه أردى هذا التنين،
يجيء الآن ومعه جعبته،
والجعبة ملأى بسهامٍ ليس تطيش.
جميل في وقفته تمتدُّ ذراعه
بالقوس تدلَّت من يده،
وخفيفًا ينسدل رداؤه،
فيشفُّ عن الجسد الرائع،
والغصن الناعم،
وكأن شباب الآلهة
تموَّج في الخدِّ الناصع.
لكنَّ حميَّة هذا البطل تفور
وتدفئ وجهه،
والوجه حليقٌ لامع
يسمح بعذوبة بسمة،
والبسمة سمحة،
مُزِجَت بالفرحة
من أجل النصر،
فإذا ما مرَّت فوق الجبهة
نذر الشر،
فهي الحكمة والغضبة
وجلال القدر!

أتعرف من هو هذا الشاب الجليل الجميل؟ هذا الفارس الذي يطلق من عينيه الغاضبتين الثائرتين سهامًا أفظع من تلك التي تطلقها يداه من قوسه ولا تطيش أبدًا …؟

إنه هو نفسه أبولُّو، إله النور والفن والعقل والوضوح والاعتدال في الأساطير الإغريقية، ذلك الذي سوَّى اليونان بينه وبين هليوس إله الشمس ذاته، وجعلوه ربًّا للنبوءات التي يبلِّغها للبشر النادرين عن طريق كاهنة معبده القائم في «دلفي» التي عُرِفَت باسم بيثيا، أو يهب القدرة على التنبؤ للبشر المختارين مثل كاسندرا (زرقاء اليمامة الإغريقية!) التي طالما تنبأَت بالكوارث وحذَّرت منها بلا فائدة …

هو أبولُّو الذي وُلِد لكبير الآلهة زيوس من أمه ليتو، والشقيق التوءم للآلهة أرتميس، ربة الصيد والحياة الطبيعية … وكما وُلِد في منطقة دلفي، في جزيرة ديلوس فقد أقام فيها معبده المقدَّس وقتل — بسهمه — التنين بيثون الذي كان يقيم في المنطقة نفسها ويحمي نبوءة أمه الأرض «جايا» … ولا يقتصر دور أبولُّو على حماية النظام ورعاية الحدود — في مقابل ديونيزيوس رب الخمر والنشوة والعواطف المضطرمة الجياشة — وإنما تجاوَز ذلك إلى رعاية ربَّات الفنون نفسها، وقبل كل شيء فن الموسيقى والإنشاد، بل شمل بحمايته الزرع وحيوان الحقل والبشر أيضًا من الأوبئة والشرور؛ إذ كان فن الشفاء كذلك تحت مظلَّة رعايته …

وهذا التمثال المرمري المحفوظ بالفاتيكان والمعروف في تاريخ الفن باسم «أبولُّو بلفيدير» هو نسخةٌ رومانية من الأصل البرونزي الإغريقي الذي أبدعه الفنان ليوخاريس في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد (حوالي ٣٤٠ق.م.) وقد تصور مؤرخ الفن فنكلمان (١٧١٧–١٧٦٨م) أنه يعبِّر عن المثل الأعلى للفن القديم — الإغريقي والروماني بوجهٍ خاصٍّ — ثم تحول العلماء عن هذا الرأي في نهاية القرن التاسع عشر مع تزايُد الاكتشافات الأثرية للأصول الفنية. أثَّر هذا العمل المبدع على الفنون المختلفة تأثيرًا مذهلًا ربما لا تزال حلقاته تتابع حتى يومنا الحاضر؛ فقد تجلى هذا التأثير في نحت رودان وثورفالدسن، وفي تصوير بعض الرسامين الكبار مثل كراناخ الكبير وفيرونيز وديلاكروا، وفي حفر على النحاس لألبريشت دورر، وفي عملَين أوبراليَّين للموسيقي لولي (أبولُّو ودافني) ولموتسارت نفسه (أبولُّو وهياسنتوس).

والتمثال — كما تراه — يصور أبولُّو في حركة سيره الواثق المعتدل، وجهه الناصع وعيناه الثائرتان يتابعان السهم الذي أطلقه لتوِّه من القوس التي يحملها في يده اليسرى، على رأسه تاج من الشعر المضفور، وحول رقبته وكتفَيه رداء لا يستر عُريه، ولكنه يضاعف من نُبله، وربما كانت يده اليمنى — وهذا شيءٌ أحسه ولا أقطع به! — تلمس رأس أسد أحناها الخوف والرهبة والإجلال للإله الفتيِّ البطل … الإله الذي يتضح من نظرات عينَيه كم هو غاضب على فساد عالمنا الموبوء بالحقد والشر والغرور (تذكر أنه أردى بسهامه جميع أبناء نيوية المتكبرة فظلَّت تبكي عليهم حتى استحالت حجرًا، وأنه قتل التنين الذي كان يحرس بؤرة النبوءات الكاذبة كما سبق القول، إلى غير ذلك من أعماله البطولية التي لم تقلل من دوره كحامٍ للعقل والفن والنور والصحة ومزارع الحقول من الفئران) …

ألهم التمثال البديع عددًا من الشعراء منهم هذا الشاعر الإنجليزي جيمس طومسون (١٧٠٠م في إدنام بمقاطعة ركسبور جشاير حتى ١٧٤٨م في ريتشموند بمقاطعة سري) وقد كتب هذه القصيدة سنة ١٧٣٦م، ونُشِرَت مع بقيَّة أعماله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤