هنري الثامن وزوجاته الست

الملك ذو اللحية الزرقاء

figure
الملك المِزْواج: هنري الثامن.

يعد الملك هنري الثامن من ملوك إنجلترا العظام الذين خدموا بلادهم بإخلاص، وعملوا على رفعة شأنها، ولكنه على الرغم من حبه لبلاده وتفانيه في العمل لمصلحتها، وعلى الرغم من التقدم الذي وصلت إليه إنجلترا في عهده، فإن الكُتَّاب حتى من أبناء جنسه لا يرحمونه إذا جلسوا لكتابة سيرة حياته، فذكروا حوادث زواجه وطلاقه، وإعدامه لزوجاته المتعددات، حتى إن كثيرًا منهم لقبوه باسم الملك ذي اللحية الزرقاء، نسبة إلى بطل الأسطورة القديمة المشهورة الذي كان يصيد النساء ثم يقتلهن بعد أن ينال منهن كل ما يريد.

كاترين أراجون

أغرم الملك هنري الثامن بتغيير زوجاته حتى بلغ عددهن ستًّا، وقد كانت أولى زوجاته «كاترين أراجون». وهي إسبانية الأصل، وكانت زوجة لأخيه أرثر الذي مات وهو في عنفوان شبابه.

فلما تولى هنري الثامن الحكم رغب في الزواج بأرملة أخيه؛ لأنه كان يعجب بجمالها على الرغم من أنها كانت أكبر منه سنًّا. وقد قضت كاترين إلى جانب الملك هنري الثامن مدة تبلغ نصف حكمه الذي وصل إلى ٨٣ عامًا، ولكنها أخفقت في أن تلد له ذكرًا يرث العرش من بعده، كما أنه ما لبث أن شعر بالرغبة في التجديد.

آن بولين

ووقع نظر الملك في ذلك الوقت على «آن بولين»، وكانت فتاة بارعة الجمال، صغيرة السن؛ فأسرت قلبه لحسنها وخفتها. كانت آن من أسرة متواضعة، إلا أنها نظرًا لجمالها عينت وصيفة شرف للأميرة ماري شقيقة الملك عند سفرها إلى فرنسا في عام ١٥١٤، وقد عادت في عام ١٥٢٢ فذاعت شهرتها في دوائر البلاط الإنجليزي، وقد عرفت في ذلك الوقت بخفة الروح، وحضور البديهة. ولما رأت تعلق الملك بها بدأت أطماعهما العظيمة، وصممت على أن تصبح ملكة إنجلترا، فرفضت بكل إباء عروض الملك غير الشريفة، وكانت كلما رفضت ازداد هو حبًّا لها، وكان أول ما فعله أن أنعم على والدها بلقب سير.

في ذلك العهد كانت في إنجلترا نهضة نسوية قوية تهاجم نساء العهد السابق نصيرات الجمود والقديم مثيلات كاترين أراجون، وكان لهذه النهضة ألوانها المتعددة، وأغراضها الجديدة، ونزعاتها المتطرفة، وحرياتها المبتذلة؛ ولذلك شعر هنري، وهو تحت تأثير ذلك الجو، برغبة قوية تدفعه إلى التخلص من زوجته كاترين والزواج من الحسناء آن بولين.

وكان الملك يطارد آن بولين في حجرات القصر وردهاته وهو يشعر برغبة جامحة في البقاء إلى جانبها، ولكن الفتاة كانت تفر منه، وتتخلص من مطاردته بسرعة الغزال الشارد أمام صياده؛ ولذلك لم يجد بدًّا من الاستقرار عند فكرة الزواج منها، بعد أن يئس من الحصول على شيء منها دون زواج.

ولكن ما العمل والديانة الكاثوليكية تحرم الطلاق، بل وأي عذر ينتحل لطلب الطلاق من كاترين أراجون؟

لم يكن من الصعب على هنري الثامن مدفوعًا بغرامه القوي بآن بولين أن يجد عذرًا يلتمس به الطلاق، فأخذ يدعي أن ضميره دائم الاضطراب لزواجه بكاترين أراجون أرملة أخيه على الرغم من تحريم الدين، وقال: إنه يشك في أن شقيقه ارتاح لعقد مثل هذا الزواج، بل لا بد أن المسكين يتعذب في قبره وهو يرى زوجه المحبوبة قد انتقلت إلى ذراعي شقيقه.

ولم يكن غريبًا بعد أن رأى الملك آن بولين وعَشِقها، وصمم على الزواج منها، أن يستيقظ ضميره ليؤنبه على الزواج من كاترين أراجون أرملة أخيه بعد سنوات طويلة من هذا الزواج.

وتم طلاق الملك من زوجته الأولى كاترين أراجون في عام ١٥٢٤، بعد أن عارضت البابوية في روما، فلم يأبه هنري لمعارضتها، وبعد أن امتنعت عن المصادقة على الزواج الجديد، فلم يكن منه إلا أن أحدث انقلابًا من أخطر الانقلابات التي انتابت المسيحية في أوروبا، فقد جعل أسقف كنتربري الإنجليزي يعقد الزواج الجديد، وفصل الكنيسة الإنجليزية عن كنيسة روما، وصار ملك إنجلترا منذ ذلك الوقت هو رأس الكنيسة. وكل ذلك من أجل عيني آن بولين الحسناء.

ولئن كان الملك هنري الثامن قد ألحق ظلمًا كبيرًا بكاترين أراجون لما طلقها، فإن شكسبير الشاعر الخالد قد أنصفها في روايته الكبيرة عن الملك المزواج «هنري الثامن»، فرسمها على أحسن صورة للمرأة والزوجة الكاملة. وقد بلغ من طيبة قلب كاترين أن سامحت وهي على فراش الموت ذلك الرجل الذي خان عهدها دون أن تلحق به أي أذى، فكتبت إليه تقول له وهي تودعه:

إنني لا أزال أحبك أكثر من أي شيء آخر في الحياة!

وتم زواج هنري الثامن من آن بولين، وارتقت إلى مقام كاترين، فصارت الملكة، وقد كان الزواج سريًّا في بادئ الأمر — عقد في أوائل يناير من عام ١٥٣٣ — ولكن ما لبثت آن بعد ذلك أن تُوِّجت. وتُكوِّن خطابات الملك إليها مجموعة من أبدع خطابات الغرام التي تبادلها ملك مع حبيبته.

وقد ولدت له في شهر سبتمبر الأميرة اليصابات التي ارتقت عرش إنجلترا فيما بعد، إلا أن هنري كان يميل دائمًا إلى التغيير والتجديد، فما لبث أن سئم آن بولين، كما أن خفتها لم تكن تروقه بالمرة، ولم يكن يلتمس لها العذر بسبب صغر سنها، كما أنه غضب عليها لما لحظ أنها لم تشعر بأقل تأثر عندما بلغها نبأ وفاة الملكة السابقة كاترين أراجون.

وفي إحدى الحفلات لحظ أن السير هنري نوريس يتقرب منها، ويبدي لها إعجابًا بريئًا؛ فانفجر غضبه، وأمر بإرسالها إلى برج لندن في اليوم التالي استعدادًا لمحاكمتها بتهمة الخيانة. وقد أمر بتأليف مجلس خاص من ٢٤ لوردًا، انعقد وقرر إدانتها، وخيِّر الملك بين إحدى عقوبتين: إحراقها حية أو قطع رأسها! واختار الملك العقوبة الثانية فنفذت فيها، وفي اليوم التالي تزوج هو من جين سيمور.

جين سيمور

وقد عاش الملك هادئًا قانعًا إلى جانب جين سيمور التي أفلحت في أن ترزقه بولد أسماه الأمير إدوارد، وسُرَّ بمولده سرورًا عظيمًا. والظاهر أن الله أراد أن ينقذ جين سيمور من هنري الثامن قبل أن يغدر بها كما غدر من قبل بكاترين أراجون وآن بولين، فماتت المسكينة بعد مولد الطفل بأسبوع واحد، وكتب الملك إذ ذاك يقول:

كأن الله أبى إلا أن يمزج سعادتي بالحزن على من كانت السبب في منحي هذه السعادة!

فهل كان يشعر بالأسف على وفاة جين سيمور حقًّا؟ إن عواطفه المتقلبة تجعلنا نشك في صدق هذه العبارة.

آن كليفز

ولم يسرع الملك بعد وفاة جين سيمور بالزواج كما جرت عادته بذلك، بل ظل شهورًا يعيش وحده حتى ظن الناس أنه قد زهد الزواج واكتفى بثلاث زوجات، ولكنهم كانوا على خطأ؛ إذ إنه ما لبث أن تزوج بآن كليفز بعد أن رأى صورة لها من ريشة هولبين المصور المشهور.

ولم ترق له الحياة إلى جانب آن كليفز من بادئ الأمر، على العكس من سابقاتها اللاتي كان يشعر إلى جانبهن بسعادة عظيمة في بدء الزواج.

وقد ذكر العارفون أسبابًا كثيرة لهذه الكراهية التي شعر بها الملك نحو آن، ولكن الحياء يمنع من سردها، وأمر هنري الثامن بإلغاء زواجه من آن كليفز، ولكنه عفا عنها فلم يقدمها للمحاكمة؛ إذ لم يكن الذنب ذنبها، بل كان ذنب كرومويل مستشاره، فأمر بقتله!

أما آن كليفز فلم تأسف على هذا الطلاق الذي أعاد إليها حريتها، فاستأنفت حياة البذخ والإسراف والعبث دون أن تهتم لشيء.

كاترين هوارد

وكانت الزوجة الخامسة هي كاترين هوارد، حفيدة دوق نورفوك الثاني، ولما تزوجها الملك في عام ١٥٤٠ كانت لا تزال في العشرين من عمرها، ومن الطبيعي أنها كانت متصلة قبل زفافها إلى الملك ببعض الشبان، إلا أن هنري الثامن لم يرق له ذلك، فما وصل إلى علمه أنها كانت على اتصال قديم بكولبيبر حتى أمر بقتلها في عام ١٥٤٢؛ أي بعد عامين من زواجها.

ودافعت المسكينة عن نفسها فقالت: إنها أخلصت للملك منذ زُفَّت إليه، وليس من حقه أن يسألها عن شيء مضى، إلا أن الملك لم يأخذ بدفاعها هذا؛ فأمر بقتل جميع الذين جاء ذكرهم فيما روى عنها وعن غرامياتها.

وأعدمت كاترين هوارد، واعترفت ساعة قتلها بحبها لكولبيبر فقالت: «إنني أموت ملكة! ولكنني كنت أفضل على ذلك أن أموت وأنا زوجة حبيبي كولبيبر! ألا فليغفر الله لي! أيها الناس، صلوا من أجلي!»

كاترين بار

وكان هنري الثامن قد تقدم في السن لما اختار كاترين بار زوجة سادسة له، وقد تخيَّرها صغيرة السن أيضًا. وكانت ماهرة على كثير من الدهاء؛ ولذلك فقد كان تعامله معاملة الأم لطفلها الصغير حتى اطمأن إليها، وقد أفلحت بسياستها هذه في أن تعيش بعد موته، وقد كانت هي الوحيدة التي تمكنت من ذلك من بين زوجاته، ويقال: إنه حاول الغدر بها في يوم من الأيام، فوقَّع أمرًا بإرسالها إلى السجن، ولكنه في الوقت الذي كان يوقِّع فيه هذا الأمر كانت هي قد هربت من القصر.

ولعل الملك المزواج هنري الثامن هو الوحيد من بين الملوك الذي تزوج من ست نساء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤