كليوباترا ومارك أنطوني

مع يوليوس قيصر

وصلت كليوباترا إلى العرش بوساطة مؤامرة دبرتها ضد شقيقها الذي كان شريكها في العرش تبعًا للتقاليد القديمة، وكانت سنه إبان حكمهما المشترك إحدى عشرة سنة، وسنها ثمانية عشر عامًا، وكانا يحكمان مصر على اعتبار أنها مستعمرة رومانية، واستمر حكمهما المشترك ثلاثة أعوام، ثم حدث أن تخاصما لسبب قد تكون الغيرة هي الباعث الأكبر عليه. وكان من نتائج خصامهما أن شبت الحرب الأهلية بمصر، تلك الحرب التي كانت سببًا في اتصال كليوباترا بحبيبها الأول يوليوس قيصر.

figure
وهناك فك اللفة فخرجت الملكة منها تبتسم.

كان يوليوس قيصر هو سيد العالم في ذلك الوقت، وكان قد انتهى من نزاعه مع بومبي، وكان محور النزاع هو الإمبراطورية الرومانية، وخرج يوليوس قيصر منتصرًا من هذا النزاع، وعاد إلى روما، ولكنه ما لبث أن سمع بحدوث ثورة في مصر أشعلتها قوات بومبي، فأسرع إلى مصر. وأسرعت كليوباترا إلى مقابلة قيصر؛ لأنها عرفت أنه أقوى حليف يمكن أن تعتمد عليه في نزاعها مع شقيقها.

كان قيصر بالإسكندرية، وكانت كليوباترا وجيشها في معزل عنه؛ إذ حرَّم عليها الانتقال، فكيف تصل إلى قيصر؟ أخيرًا رأت أن تكلف خادمها أبلدورس أن يحزمها في لفة كبيرة ويحملها في قارب إلى الشاطئ! وهكذا تم. وحمل أبلدورس اللفة على ظهره، وأخذ يسعى حتى تمكن من المثول بحضرة قيصر وهو يحمل هديته، وهناك فك اللفة ونزلت الملكة تبتسم. وكم أعجب القيصر بذكاء كليوباترا لهذه الفكرة!

كانت سن قيصر إذ ذاك خمسة وأربعين عامًا، وسن كليوباترا واحدًا وعشرين عامًا، ولكن هذا الفرق لم يمنع من توثق العلاقة بين الاثنين. كان قيصر رجلًا قويًّا وجنديًّا شجاعًا، كذلك ظهرت له هي مخلوقًا ناعمًا لطيفًا كفيلًا بأن ينسيه متاعب الحروب؛ إذ كانت صغيرة الجسم، ظريفة الشكل، سوداء العينين والشعر.

ليس من المستغرب بعد ذلك أن يصغي قيصر إلى مشاريع ملكة مصر الصغيرة التي ملكت لبه بسحر جمالها أولًا، ورقة حديثها ثانيًا.

كان للشئون السياسية دخل كبير فيما نشأ بينهما من حب، فإذا كانت كليوباترا قد سعت لأن تعقد محالفة مع قيصر لصالحها وصالح مصر، فقد سعى هو أيضًا لأن يحكم مصر حكمًا قويًّا بوساطة كليوباترا. ومع ذلك يقال: إن قوة الحب الأول تجلت في غرام كليوباترا بقيصر، ذلك الغرام الذي أنساها الشئون السياسية كلها. ولقد قضيا معًا أوقاتًا هنيئة، وكانت الحياة بقصر الإسكندرية سلسلة متصلة من السعادة، وعلى الرغم من مئات المهام التي كانت تثقل كاهل قيصر وتدفعه إلى السفر والرحيل عن مصر، وليس أقلها شأنًا وجود زوجته في روما، على الرغم من ذلك دفعه جمال كليوباترا وسحرها إلى البقاء بمصر، مع أنه كان قد أنهى إخضاع المملكة، ولم يبق أي سبب يدفعه إلى البقاء. مع ذلك ظل بمصر مدة عام كامل، وقبل أن يرحل ولد لكليوباترا منه طفل صغير دعي «قيصرون»؛ أي قيصر الصغير.

قيصرون

ومنذ ولد ذلك الطفل أصبح هو المحور الأساسي الذي تدور عليه آمالها وتصرفاتها حتى نهاية حياتها، وأخذ تأثير يوليوس قيصر عليها في الزوال. لم يلبث قيصر أن أصبح حدثًا قديمًا من حوادث الماضي، وأخذت تستعمل جمالها وذكاءها وقوتها وحيلها في تحقيق أطماعها؛ وهي أطماع الأم التي ترغب في أن يصل ابنها إلى مركزه الحقيقي الجدير به، فهو ابن يوليوس قيصر؛ ولذلك يجب أن يرثه في التربع على عرش العالم.

والظاهر أن حب قيصر نفسه لكليوباترا بعد ولادة «قيصرون» قد نقص؛ إذ كان هو رجلًا عمليًّا وكانت كليوباترا واحدة من خليلاته العديدات، وكان قد عاد إلى روما ليحمل الناس على قبول دكتاتوريته الجديدة. واستدعى كليوباترا إلى روما بعد ذلك لتشاركه مركزه الرفيع، مفضلًا إياها على زوجته الشرعية كالبورنيا، إلا أن وجود كليوباترا بروما سبب فضيحة كبرى؛ إذ ما كان الرأي العام الروماني ليوافق على الزواج الذي قيل إنه تم بمصر.

وكانت كالبورنيا زوج قيصر الأولى من الطبقة العليا، ولها أصدقاء أقوياء النفوذ؛ ولذا عاشت كليوباترا بروما معيشة خليلة للقيصر قليلة الأهمية في منزل يطل على ضفاف التيبر، ولقد احتملت ذل تلك الحياة من أجل ابنها فقط، ولبثت تنتظر انتصار قيصر على أعدائه. ولو تم له ذلك لأصبحت هي ملكة العالم، ولصار قيصرون وارثًا لمملكة لم ير التاريخ مثلها من قبل.

ولكنه لم ينتصر! فلقد سببت قوات قيصر حسدًا عظيمًا بين القوات الأخرى، وأوجدت له أطماعه أعداء كثيري العدد، وانتهى الأمر بأن طعن في يوم من أيام شهر مارس أثناء ذهابه إلى مجلس الشيوخ طعنة قاتلة أردته في الحال.

وهكذا انتهت أحلام كليوباترا، وعادت إلى مصر تحمل ذكريات كثيرة عظيمة التأثير، وعادت تحمل بين ذراعيها وارثًا قويًّا للأملاك الرومانية؛ هو قيصرون، ابن يوليوس قيصر. مات الوالد، إذن فليحي الابنُ وليحتلَّ مركز أبيه! وهكذا ظلت الأم تنتظر سنوح الفرصة لتحقق هذا الأمل.

مارك أنطوني

كان مارك أنطوني أعظم أصدقاء يوليوس قيصر، فلما قتل قيصر أعلن أنطوني أنه سينتقم له من القتلة وفي مقدمتهم بروتس، ولما انتصر عليهم أصبح هو، كما كان يوليوس من قبله، أعظم شخص في العالم، وكان عدوه الوحيد هو أوكتافيوس ابن أخي يوليوس قيصر ووارثه الشرعي، ولكنه ما لبث أن انتصر عليه.

ولما وصل مارك أنطوني إلى تلك المكانة العليا؛ صار واجبًا على كليوباترا أن تعمل على نيل رضائه من أجل مصالحها ومصالح ابنها وأطماعها العتيدة الخالدة.

ولم يكونا، أنطوني وكليوباترا، غريبين عن بعضهما؛ إذ كانا قد تقابلا في روما حيث كانت كليوباترا ملكة لا عرش لها، تقطن بالمنزل المطل على ضفاف التيبر، وكان أنطوني يزورها كثيرًا في ذلك المنزل بصفته من أصدقاء قيصر وأخصائه؛ ولذا كانت كليوباترا حين وصل أنطوني إلى أوج العظمة تعرف جيدًا الرجل الذي تعامله، ولا شك أنها سُرَّت لأنها ستعامل مارك أنطوني؛ إذ كانت تعرف أنه من السهل أن يقع فريسة لمثل جمالها.

إن شخصية مارك أنطوني الحقيقية لم تكن كما رسمها «شكسبير» في روايته «يوليوس قيصر»، بل كان أنطوني أشبه بالتلميذ الحدث كما قال عنه ربيان: «هو كالولد العظيم حقيق به أن يفتح العالم، ولكنه غير قادر على مقاومة أضعف امرأة.» وكان جميل الشكل، قوي الجسم، يعبده جنوده، ويحسده أعداؤه، وتعشقه النساء، كما كان بسيطًا صريحًا طيب القلب، بحيث تعرف كليوباترا كيف تؤثر على عواطفه؟

ولهذا استعدت لكي تمر في طريقه. كانت تطمع في عرش روما لابنها، وكانت على استعداد لأن تقدم لأنطوني مقابل ذلك جمالها وملك مصر؛ ولذا لما وصل أنطوني بجنده إلى طرسيس أقلعت كليوباترا من الإسكندرية في عرض البحر الأبيض وهي في أبهى حلل الجمال والإغراء.

ذهبت إليه في موكبها الملكي في القوارب ذات الشراع الحريرية، والمجاديف المطعمة بالفضة، والعبيد من نساء ورجال يحيطون بها، وكان الموسيقيون يعزفون على آلاتهم، والعود برائحته الجميلة يحترق أمام الملكة البديعة الجمال.

كانت كليوباترا قد قصدت أن تعرض هذه الأبهة. ورسا الموكب الملكي بطرسيس حين أوشك المساء أن يرخي سدوله. وفي اللحظة التي رسا فيها الموكب خرج أنطوني ليقابل ما هيَّأ له القدر، واستقبلته كليوباترا بترحاب عظيم، ودعته إلى مآدبها الفاخرة، فأكلا في الأطباق الذهبية المطعمة بالأحجار الكريمة.

ولما عاد الضيوف إلى أعلى السفينة اشتد إعجابهم حين تذوقوا طعم الخمر المصري، ورأوا المصابيح التي كانت تلقي عليهم أنوارها من بين فروع الأشجار متكاثفة فوق رءوسهم، وتمتعوا فوق ذلك بالحديث الطلي الذي كانت توجهه إليهم الملكة الصغيرة، وظلوا في سمر وسرور حتى نضب الخمر في الأباريق، وانطفأ الضوء في المصابيح.

لهو الإسكندرية

figure
انغمس أنطوني في اللهو والعبث بالإسكندرية.

وفي اليوم التالي تمكنت كليوباترا من أن تحصل من مارك أنطوني على كل ما كانت تريد، وانتهت من الاتفاقيات السياسية التي كنت ترغب في إبرامها مع روما، وعادت إلى مصر تحمل وعدًا من أنطوني بأن يزورها في مصر، ووفى أنطوني بوعده وزارها في مصر سنة ٤١ق.م. وهو على علم بالثمن الذي سيدفعه لهذه الزيارة؛ إذ أصبح أسيرًا في قبضة امرأة جميلة كما كان يوليوس قيصر من قبله.

وانغمس أنطوني في اللهو والعبث بالإسكندرية، وسلَّم نفسه لشيطان السرور الذي كان مستوليًا إذ ذاك على «باريز القديمة». كانت حواسه قد خدعت بكل مظاهر الأبهة والعظمة التي أحاطته بها كليوباترا، فكانا يخرجان للصيد والنزهة في البحيرات معًا، ويسيران في حدائق القصر جنبًا إلى جنب، وكثيرًا ما كانت تقف لتراقب ألعابه وقوته، كما استمرت المآدب الفخمة، ونمت بينهما علاقة حب متينة، وكان كل منهما يرغب في الآخر رغبة قوية؛ حتى إن كليوباترا سلمت نفسها إليه كأية امرأة عادية دون أي اعتبار لمركزها العظيم.

وأودعت كليوباترا في أنطوني تلك الآمال التي كانت أودعتها في الماضي في يوليوس، وأصبح كل أملها أن يصير أنطوني إمبراطور العالم وهي شريكته، على أن يليهما قيصرون.

وبينما كان أنطوني أسيرًا لغرامه بالإسكندرية كانت المسائل تتعقد بروما؛ إذ عاد أوكتافيوس إلى نشاطه، وأخذ أمراء سوريا يثورون ضد الحكم الروماني. وفي شهر فبراير سنة ٤٠ق.م. اضطر أنطوني إلى مغادرة معبودته، ففارقها متحسرًا في شهر مارس، وتركها مثقلة بالأحزان، حُبْلى في توءمين تلدهما في فصل الخريف المقبل، ومرت عليها أربعة أعوام قبل أن تراه ثانية.

بين اليأس والأمل

قضت كليوباترا ثلاثة أعوام بعد أن فارقها أنطوني ولا شاغل لها إلا تثبيت حكمها لمصر، ولم تغفل طول هذه المدة أن تراقب جيدًا ما يجري بالإمبراطورية بالرومانية، حيث كان أوكتافيوس في نزاع مع أنطوني، ولم تنس أبدًا طول هذه المدة أهمية مركز ابنها من يوليوس في هذا النزاع.

وكانت لدى أنطوني مئات المشاغل التي تجعله ينسى كليوباترا ولو مؤقتًا؛ إذ كانت الثورة بسوريا نجحت إلى حدٍّ ما، وكان أوكتافيوس قد ثبت قدمه بإيطاليا منتهزًا فرصة غياب أنطوني بالإسكندرية. وكان أسوأ ما يواجهه أنطوني بعد غضب زوجته فولفيا التي بلغها ما اقترن باسم زوجها واسم كليوباترا من حديث الحب والغرام.

وحدث إذ ذاك أن توفيت فولفيا زوجة أنطوني، وربما كان سبب وفاتها هو ما انتاب قلبها من آلام، ولكن أنطوني استراح من شر غيرتها، ثم تزوج عقب ذلك أوكتافيا، وهي شقيقة عدوه أوكتافيوس؛ وبذلك تمكن من الوصول إلى اتفاق ودي مع أوكتافيوس مؤداه: أن يحكم أنطوني النصف الشرقي من الإمبراطورية الرومانية، في حين يحكم أوكتافيوس النصف الغربي. وولدت لأنطوني من زوجته أوكتافيا بنت صغيرة، هي التي أصبحت فيما بعدُ جدة الإمبراطور الظالم نيرون.

سمعت كليوباترا طبعًا بكل ما حدث في روما، فانتابها ما ينتاب كل امرأة أخرى في موقفها من غيرة وغضب ويأس، بل يمكن أن نتمثلها هنا بامرأة أحبت جزيل الحب، ثم ما لبثت أن تبينت، كما تبينت كثيراتٌ غيرها من قبل ومن بعد، أنها نبذت كامرأة، وخُدعت كملكة وسياسية، علاوة على أنها كانت تعلم جيدًا أن زوجة أنطوني الجديدة، أوكتافيا، صغيرة السن، بديعة الجمال.

ولو كانت كليوباترا امرأة عادية لانتهى كل شيء في سهولة، ولنسي أنطوني ذكرى خليلته القديمة، ولكن كليوباترا لم تكن امرأة عادية — وإذا كان قد فكَّر في أن ينبذها فقد كان مخطئًا في فهم قوتها وتأثيرها — ولم تكن كليوباترا سليلة البطالسة لتتنازل بهذه السهولة عن أطماعها وبلادها وغرامها.

كان على أنطوني أن يخضع سوريا، وكان يعلم أن الأسطول المصري خير من يساعده في إدراك هذا الغرض؛ ولهذا اضطر أن يستدعي كليوباترا إلى مقابلته ثانية، وكان يريد أن تكون هذه المقابلة مقابلة سياسية محضة، كأنه يعتقد أن كليوباترا قد نسيت الماضي بصفحته العاطفية.

وتمت المقابلة بينهما في مدينة أنطاكية بسوريا، ولكنها لم تذهب إليه في تلك المرة كما ذهبت إليه وهو في طرسيس تحوطها مظاهر البذخ والعظمة؛ إذ إن الأعوام التي مرت عليها جعلتها أرجح عقلًا مما كانت، وزادتها معرفة بالرجل. قابلته هذه المرة مقابلة امرأة جرحت كرامتها فاشتد غضبها، وأخذ هو يعتذر إليها بأن المصالح السياسية هي التي أملت عليه تصرفاته، وكانت النتيجة النهائية أن حصلت منه على كل ما تريد، وأغرته على أن يستأنف الحياة إلى جانبها، فعاشا معًا شتاءً بأكمله، وفي فصل الربيع بدأ أنطوني حملته السورية، وفي الخريف وضعت كليوباترا ولدًا.

المحاولة الأخيرة

غير أن أنطوني فشل في حربه فأخذت قوته في الزوال، وبدأ يسرف في الشراب محاولًا أن ينسى همومه، وكانت كليوباترا تمده بالمال والآلات ليستأنف الحرب، وخطر لها أن تزوره بنفسها في أحد الأيام، فوجدته في القرية البيضاء بجوار مدينة صيدا وهو يعالج جروحه، ويحاول أن يغرق أحزانه في كئوس الخمر، فعادت به إلى الإسكندرية.

figure
كانت ترى واجبها في أن تدفع به إلى العمل.

وهنا أصبحت علاقة أنطوني وكليوباترا لا تقوم إلا على قليل من الحب؛ إذ لم تبق في نفسه إلا رغبته في الملكة. أما هي فلم يكن يدفعها إلا الامتثال لرغباته غير مطامعها في سبيل ابنها قيصرون. وكان قد بدأ يفقد نشاطه بعد أن حل به الفشل السياسي؛ فأصبح يميل إلى الكسل والتقاعد.

كانت ترى واجبها في أن تدفع به إلى العمل والنضال حتى يصل إلى مركز إمبراطور العالم، وقد استعملت كل قواها وبراعتها للوصول إلى هذا الغرض، حتى ليقول بلوتارخ، كبير المؤرخين، في ذلك: «إنها حاولت أن توهمه أنها تموت هيامًا به؛ فأخذت تقلل من الطعام حتى بدأ جسمها في النحول والهزال، وكان إذا دخل الغرفة عليها ترفع إليه عينيها بإعجاب وتقديس، وإذا غادرها تُظهر الحزن حتى يكاد يغمى عليها، وتنهمر الدموع من عينيها فتسارع بتجفيفها كأنها ترغب ألا يراها باكية.

وكان كل من يحيط بكليوباترا ينحى باللائمة على أنطوني، ويلومه على عدم إحساسه، وعلى طبيعته التي تميل إلى القسوة وتجعله يترك امرأة مسكينة تتوقف حياتها عليه، وعليه وحده، تموت بهذا الشكل. حقًّا إن أوكتافيا كانت زوجته، ولكن كليوباترا الملكة المتوجة على عدة ممالك قنعت بأن تُعرف كخليلته، فإذا انفصلت عنه لم تكن تقوى على احتمال الحياة بعد ذلك.»

كانت كليوباترا تطالب أنطوني بالإمبراطورية الرومانية ثمنًا لحبها، ووعدها هو بأن يدفع لها هذا الثمن الغالي؛ إذ كان يظن الرومان شعبًا سهل القياد، وكأنه نسي نفسه ونسي وطنه ونسي شعاره، وانقلب حتى أصبح ألعوبة في يد امرأة لا يتحدث عنها الناس بغير ألفاظ الازدراء.

وأخذت تحرضه على أن يخطو خطوة إلى الأمام في سبيل الوصول إلى مركز إمبراطور العالم، وبعثت في نفسه شيئًا من طموحها وحماسها، فاستيقظ من سباته وبدأ يعمل بنشاط، وأقلع في شتاء سنة ٣٣ق.م. من الإسكندرية بأسطوله ومعه كليوباترا يريد غزو روما. وكانت كليوباترا قد أقسمت أمام الجماهير المحتشدة قبل إبحارهما أن تجلس هي وابنها قيصرون في الكابيتول.

وصلت في ذلك الوقت إلى قمة عظمتها، وبدأت الحملة التي كانوا يأملون من ورائها أن يسجد العالم عند أقدام أنطوني، وأخذت كليوباترا تحرض رجلها على أن يطلق زوجته الرومانية أوكتافيا. وكان هذا دليل إيمانها بالنصر القريب. وحكمت كليوباترا مدة من الزمان في أثينا كأنها ملكة العالم، ولكن الأمور بذلك الجيش العظيم لم تكن على ما يرام؛ إذ إنه عندما ظهر جيش أوكتافيوس دب الانقسام في جيش أنطوني، حتى هجر بعض الجنود معسكره، وانضموا إلى جيش الإمبراطور، وأخذ بعضهم يُحرِّض كليوباترا على العودة إلى مصر، ولكنها رفضت وفضلت الانتظار.

وا أسفاه على آمالها التي انهارت! فلقد انجلت موقعة أكتيوم عن هزيمة جيوش كليوباترا وأنطوني، واضطرت الملكة المسكينة إلى العودة في الحال إلى مصر ومعها زوجها البائس الشقي.

هنا يختفي اسم أنطوني بعد أن أصبح قليل الجدوى بالنسبة لكليوباترا، ولكنه اضطر إلى العيش بمصر بما كانت تجود به عليه، وكانت معيشته أشبه بالاستغفار والندم على ما فات. كان قلبها قد صدم، ولكن روحها ظلت حية تدفعها إلى العمل؛ فأخذت تعقد المحالفات لتأمين سلامة الحدود المصرية وتوسيعها إذا أمكن، وأخذت تهب العروش لأبنائها وقوادها.

ولكن القضاء كان يسخر منها، وكانت النهاية تقترب رويدًا، كان أوكتافيوس عدوها العنيد وعدو أنطوني كذلك قد سار إلى مصر.

ظنت كليوباترا أن في إمكانها أن تسحر أوكتافيوس بجمالها كما سحرت يوليوس قيصر وأنطوني من قبله، ولكنها مع ذلك كانت ممن يؤمنون بالحقائق ولا يخدعون بالأوهام، فشغلت بالبحث في خواص السموم حتى تأكدت أخيرًا أنه ليس هناك ما يوازي عضة الأفعى؛ لأنها تسبب النوم العميق أولًا، ثم الموت دون ألم.

هل كان لهذه المرأة مثيل؟

الانتحار

وحانت ساعة التجربة الأخيرة، وسار مارك أنطوني بقوة ضعيفة ليقاوم أوكتافيوس الذي كان يحاول إذ ذاك اختراق أسوار الإسكندرية، وقبل أن تبدأ الموقعة رأى أنطوني فرسانه يهربون دفعة واحدة وينضمون لجيش العدو، فلم يسع فرق المشاة إلا الهرب كذلك، ولم يجد بدًّا هو الآخر من أن يهرب بنفسه إلى قصر الإسكندرية وهو يلعن كليوباترا ويتهمها بالخيانة. ولكن لم يلبث أحد رجاله أن حمل إليه خبر انتحارها، فانتابه الندم وسلَّم لخادمه أيروس سيفه، وطلب منه أن يقتله به، إلا أن أيروس طعن نفسه بهذا السيف وخر قتيلًا وأنطوني يصيح به: حسنًا فعلت يا أيروس! لقد بينت لسيدك كيف يتمم العمل الذي لم تجرؤ أنت على عمله.

وأمسك بالسيف وطعن به نفسه! ولكنه لم يمت في الحال، وكانت كليوباترا التي حملوا إليه خبر انتحارها لا تزال حية ترزق، فلما سمعت بما حل به أسرعت إلى جواره، وأخذت تناديه بالسيد والزوج والإمبراطور حتى لفظ النفس الأخير بين ذراعيها.

figure
إدوارد الرابع.

كان أوكتافيوس المنتصر لا يزال عند أبواب الإسكندرية، ووصل أحد رسله إلى كليوباترا بعد أن كاد يقتل، ولم ينتقم أوكتافيوس لهذه الإهانة، ولكنه لبث ينتظر حتى تسلم الملكة نفسها، وبعد أن عادت كليوباترا من جنازة أنطوني أصابتها حمى شديدة، ولما شفيت وقابلت أوكتافيوس وعرفت أن الرجل الصخري الذي لم يؤثر فيه جمالها سوف يحملها أسيرة إلى روما لتسير في موكب نصره، كانت الصدمة أعظم مما يمكن أن تحتمل، فصممت على الانتحار.

وبعد بضعة أيام، طلبت من أوكتافيوس أن يسمح لها بزيارة قبر أنطوني، فلما سمح لها بالذهاب إلى القبر أخذت تصيح وتبكي وتقبل حجر القبر، وأرسلت خطابًا إلى أوكتافيوس تطلب منه أن يأمر بدفنها إلى جانب أنطوني، فأدرك أوكتافيوس الحقيقة المؤلمة لما وصله هذا الخطاب، وذهب إليها رسله فوجدوها ميتة بعد أن وضعت الثعبان السام في صدرها. وقد طلبت رداءها الملكي وتاجها قبل أن تموت؛ فقد كان التاج أعظم ما حرصت عليه طوال حياتها، وماتت وهي لا تزال في التاسعة والثلاثين من عمرها، بعد أن خلفت في تاريخ العالم مأساة خالدة هي مأساة الحب والأطماع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤