مشيناها خطًى … شهادة يجب التوقُّف أمامها١

عصام العريان

لا تكاد تبدأ في قراءة هذه السيرة الذاتية حتَّى تنهمك فيها، ولا تتركها حتَّى تنتهي منها، ولا تُفارق الابتسامة الساخرة شفتَيك بينما يوشك الدمع أن ينهمر من عينَيك على أحوال آلت إليها مصر في عهد الجمهورية. سواء في ثورة ناصر، أو انفتاح السادات، أو عصر مبارك الذي لا أجد له تسميةً إلا سطوة الأمن على كل شيء.

درستُ التاريخ في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ولم يسعدني الحظ بالتتلمذ على الأستاذ الدكتور رءوف عبَّاس لسببين؛ الأول: أنَّني كنت منتسبًا من وراء القضبان أثناء قضائي مدة عقوبة خمس سنوات من المحكمة العسكرية، والثاني: أنَّ الدكتور ترك رئاسة القسم وتفرَّغ للجمعية المصرية للدراسات التاريخية، ولكني الْتقيته في موسمها الثقافي لعام ٢٠٠٤م عندما تفضَّل واستضافني في ندوة مع آخرين.

هذه السيرة الممتعة بأسلوبها السهل الممتنع تشدُّك إلى نصف قرن من الزمان يشهد عليه د. رءوف، بدءًا من نشأته في بيت مصري مُكافح بسيط، وانتهاءً بانتقاله إلى العيش بالعاشر من رمضان، ليتفرَّغ لبحوثه ولنشاط الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، مرورًا بدراسته وعمله وحصوله على الدكتوراه ونشاطه في الجامعة كأستاذ للتاريخ الحديث ورحلاته الخارجية.

هذه شهادة مهمة جدًّا، وتكمن أهميتها في أنَّها تأريخ لدور ثورة يوليو الاجتماعي؛ لأنَّها تأتي من إنسان يشعر بعظيم الامتنان ليوليو ودورها، بينما هو ليس من دراويشها — كما يصف نفسه — ولذلك يكشف ويُعرِّي كثيرًا من السلبيات القاتلة في جميع المجالات؛ الاقتصادية: حيث عمل في القطاع العام؛ والسياسية: حيث راقب النشاط السياسي عن قُرب، والتعليمية: حيث كان في أكبر جامعة مصرية؛ والاجتماعية: حيث كانت رسالته العلمية في الماجستير والدكتوراه عن العُمَّال والطبقة العمالية والنقابات العمالية؛ والأمنية: حيث استُدعي لمقابلة أمن الدولة بسبب لقاءاته المُتكرِّرة للقيادات النقابية ورعايته لإحداها … إلخ.

بدأ د. رءوف سيرته تحت إلحاح أصدقائه الذين كان يحكي لهم بأسلوبه الشائق بعضًا من أطراف هذه السيرة والمواقف الطريفة ذات الدلالة التي مرَّ بها في حياته، ونشط للكتابة بعد إحجام، رغم اعترافه بأنَّ تجربته في الحياة غنية بمرها وحلوها … وقد كانت كذلك بالفعل.

وختم سيرته باعترافه بأنَّه لو أطلق لقلمه العِنان لتحوَّل هذا العمل القيم — الذي يصفه بالمتواضع — إلى سفر ضخم، الأهم — من وجهة نظري — تجربته الجامعية والشخصيات التي عايشها.

وهنا أُطالب د. رءوف — كأحد طلابه وكمواطن مصري — بأن يتفرَّغ الآن لتحويل هذه السيرة الذاتية إلى تأريخ لهذه الفترة من حياتنا، وهي من أهم الفترات التي مرَّت بها مصر، لا أُطالبه بكتابة تاريخ ثورة يوليو — وهو من الأهمية بمكان — ولكني أُطالبه بمزيد من التفصيل لكثير من الأمور التي مرَّ عليها عابرًا، لعل هذا التفصيل يفتح شهية آخرين لكتابة شهادتهم على التاريخ والعصر؛ فيجتمع لنا — ونحن على أبواب الألفية الثالثة — حصيلة تُمكِّن جيلنا نحن وجيل أولادنا أن يُقيِّما — بإنصاف — تجربةً أثَّرت في تاريخ مصر كل التأثير.

آن لأستاذ التاريخ أن يتخفَّف من القضايا الإدارية — وهي المتعلِّقة بالجمعية المصرية للدراسات التاريخية — لينجز ما يتمنَّاه هو بتقديم الأعمال العلمية التي خطَّط وأعدَّ مادتها، وأن يعكف على هذا العمل الشامل الذي يُغطِّي تطوُّر المجتمع المصري في العصر الحديث.

كانت هذه السيرة الذاتية اللذيذة شاهدةً على كثير من القضايا:
  • المجتمع المصري قبل يوليو ومعاناة الفقراء في الحياة والتعليم.

  • التدهور الذي أصاب الجامعات المصرية، والفساد الخلقي الذي نخر في البيئة الأكاديمية المصرية.

  • الانحراف السياسي الذي أصاب جميع التنظيمات السياسية التي أنشأتها ثورة يوليو؛ فلم تُغنِ عنها شيئًا.

  • الفساد الضخم الذي صاحب أكبر حركة تأميمات ومصادرات اقتصادية تمَّت لصالح الشعب، فإذا بالشركات المؤمَّمة تُصبح — كما وصفها — «عزبًا لرؤسائها».

  • تأميم الحركة النقابية وتحجيم دَورها وغياب الرقابة الشعبية.

  • مصادرة العمل الأهلي والاجتماعي وابتزاز موظفي الشئون الاجتماعية وفساد كثير من الجمعيات الأهلية.

  • إرهاب أجهزة البوليس السياسي (أمن الدولة) الذي وصل إلى الباحثين، هذا في الستينيات فما بالك اليوم؟!

  • الوحدة الوطنية وما طرأ عليها في عهد الثورة.

وأهم من ذلك كله رحلة كفاح بإصرار وعزيمة وإيمان قوي واعتزاز بالنفس قلَّ أن نجدهما في هذا العصر.

وهي لذلك مثال للشباب في عصرنا هذا يجدر أن يقتدي بها حتَّى لا يُصاب باليأس والقنوط وهو يرى مصادرة حقه في التعبير والنشاط.

ولم ينسَ الكاتب أن يُغطِّي تجاربه في الحياة خارج مصر سواء في اليابان التي أُعجب بها كل الإعجاب ونشر عنها دراسةً لا أدري لماذا لا نجدها الآن وقد عانى هو في توزيعها، أو في الخليج بالدوحة، أو في رحلة علمية يهتم بها جدًّا إلى أمريكا. وهنا أهمس … مطالبًا د. رءوف بنشر نص المحاضرة، التي ألقاها في أمريكا حول «عوامل قيام الحركة الإسلامية السياسية بمصر» باللغة العربية.

لقد خسرت الحركة الإسلامية المصرية نصيرًا قويًّا — كما أُحس من خلال الحديث — لصالح الحركة اليسارية بسبب احتكاك الدكتور باليسار أكثر منه بالإسلاميين؛ حيث كانت رسالتا الماجستير والدكتوراه سببًا لذلك، وبسبب غياب الحركة في السجون أثناء فترة التكوين الرئيسية التي شكَّلت وجدانه، لكن ما تزال هناك فرصة.

د. رءوف أمتعني شخصيًّا، وأزعج الكثيرين، وأنا من هواة قراءة التراجم للاستفادة من تجارب حياة الآخرين قديمًا وحديثًا، وأمتع كل القراء والمحبين له، الذين تناولوا هذه السيرة بالتعليق. وإنَّني أشكر أستاذ مصطفى نبيل — رئيس تحرير كتاب الهلال — على نشر هذه السيرة الذاتية في سلسلة «كتاب الهلال» وإتاحتها بسعر معقول للشباب الذين أهدى إليهم الكاتب عمله … متمنيًا أن يجدوا فيه ما يُفيد، كما أهداه إلى الذين يُسمِّمون أمامهم الآبار لعلهم يتعظون، وأظن — وبعض الظن إثم — أنَّهم لن يتعظوا.

هؤلاء وغيرهم سينزعجون جدًّا من هذه السيرة الذاتية؛ لأنَّها شديدة القسوة، كاملة الصراحة؛ فهو لم يتوانَ عن ذكر الناس بأسمائهم في مرارة واضحة على تدهور القيم الأكاديمية وانهيار الأخلاق، خاصةً في الجامعة.

ولقد سمعت من بعض الذين احتكُّوا برواياتٍ ذكرها الكاتب ما يُخالف ما قاله، واتهامًا صريحًا له بأنَّه يسعى للانتقام، ويُظهر نفسه بطلًا بينما الحقيقة غير ذلك … وأدعو هؤلاء وغيرهم أن يكتبوا سيرهم وذكرياتهم لكي تكتمل أجزاء الصورة أمام الجيل الذي عاش متفرِّجًا؛ فهذا هو حق الأجيال على الروَّاد.

كانت النشأة لأسرة فقيرة لعامل بالسكة الحديد، وشابها اغتراب مُبكِّر ليعيش مع جدته لأبيه الغاضبة دائمًا، التي لم يتوانَ عن وصفها بصفات شديدة القسوة لأنَّها كانت قاسيةً عليه بسبب خلافها مع أمه، في صراحةٍ نادرة قلَّ أن تجدها في السِّير والتراجم. وكانت معاناته في صباه امتدادًا لمعاناة والده نفسه، الذي كان سلبيًّا في حياة صاحبنا؛ فلم يُقدِّم له إلا العون المادي في حدود استطاعته، ولم يشعر الطفل لا بحنان الأب والأم ولا بالدفء الأسري … نظرًا لضيق ذات اليد والفقر الشديد، وأيضًا لكثرة التنقُّلات التي مرَّ بها الأب، ولكراهية جدته لأبيه التي نشأ في كنفها لأمه. وهكذا نشأ عصاميًّا تقريبًا، ونحت في الصخر حتَّى يُعلِّم نفسه ويستمر في مسيرته العلمية، حتَّى إنَّه يذكر كيف تحوَّلت حياته عندما قدَّم له موظف طيب — اسمه عبد الحكيم أفندي — معونةً مادية عندما زاره ليُساعده في الحصول على عمل، وعندما ألقى نظرةً على استمارة نجاحه في الثانوية العامة بمجموع ٦١٫٥٪، قال: خسارة تضيع فرصة دخول الجامعة. وبعد أن شرح له ظروفه قدَّم الرجل — بعد الإطراق والحوقلة — مظروفًا صغيرًا فيه رسوم تقديم للجامعة (٣ جنيهات) … قائلًا: هذا قرض حسن أُقدِّمه لك اليوم لترده لي حين ميسرة. وأقسَمَ بالطلاق ألَّا يسمح له بالانصراف إلا إذا قَبِل القرض، فاضطُر إلى القَبول وانصرف حزينًا باكيًا غارقًا في إحساس عميق بالعجز وقلة الحيلة.

ويُسجِّل جواب والده الذي كان مُصرًّا على البحث عن عمل وعدم الالتحاق بالجامعة بصورة صريحة: «لا يُكلِّف الله نفسًا إلا وسعها … لا شأن لي بك، حسبي الله ونعم الوكيل.» وفي بقية المسيرة لا نجد ذكرًا لهذه الأسرة الصابرة إلا عندما يُشير الكاتب على مساعدته لهم ببعض المال، ومساعدته لشقيقه الأصغر في السفر في بعثة دراسية … هل كان ذلك لأنَّ أقاربه أيضًا تنكَّروا له، ولم يُقدِّم له أحد مساعدةً تُذكر سوى ابنة خالة أبيه؟

هذا الجو الأسري الصعب — الذي نشأ فيه الكاتب — كان له انعكاس على حياته كلها فيما بعد؛ فلا نجد إلا صداقات محدودةً يُمكن حصرها، ولا نجد حياةً اجتماعية للكاتب، ولكن نجد صدامات مُتعدِّدةً طوال سيرته العلمية التي لا يذكر بالخير فيها إلا ثلاثة أساتذة تقريبًا خاصم أحدهم (د. محمد أنيس) طوال حياته العلمية، وكذلك لا نجد تلاميذ يذكرهم بالفخر إلا واحدًا أو اثنَين.

للنشأة أثر كبير في حياة الإنسان، كانت تلك هي البداية التي أثمرت عصاميةً واعتزازًا شديدًا بالنفس.

في احتفال المكتبة الأكاديمية «دار نشر» السنوي تحدَّث العالم الجليل أ. د. محمد القصاص … مشيرًا إلى سؤال يؤرِّقه وهو: لماذا تخلَّفت مصر في الخمسين سنةً الماضية، ضاربًا بالمثل ﺑ ٣ وقائع:
  • أقامت كلية العلوم بجامعة القاهرة مرصد القطامية، وكان الثالث في العالم قبل أمريكا الشمالية، كان ذلك عام ١٩٥٠م.

  • ساعد الاتحاد السوفيتي مصر في إقامة المفاعل الذري جنبًا إلى جنب مع الهند عام ١٩٥٤م. أين الهند الآن وأين المشروع النووي المصري؟

  • الهند لديها أسلحة ذرية وهيدروجينية، ومصر تُحوِّل المشروع النووي في الضبعة إلى منطقة سياحية.

  • كان ترتيب قسم الكيمياء بعلوم القاهرة عام ١٩٦٠م تقريبًا العاشر على مستوى العالم، والآن ليس له ترتيب تقريبًا.

المفارقة كانت في حضور السيدة الدكتورة هدى جمال عبد الناصر بمناسبة إصدار الدار للمجلد الأول من خُطب الرئيس جمال عبد الناصر في مشروع توثيقي ضخم. اكفهرَّ وجهها وتغيَّر أثناء الحديث الصريح للدكتور القصاص الذي لا يُجادل أحد في إخلاصه وعلميته ومنهجيته؛ فهو العالم الدولي وأحد أبرز علماء البيئة في العالم كله.

عقَّب أ. د. يونان لبيب رزق — أستاذ التاريخ الحديث — الذي كرَّمته دار النشر بمناسبة حصوله مع آخرين على جائزة مبارك … مُحاولًا الإجابة عن سؤال د. القصاص، وعزا ذلك إلى عدة عوامل منها: غياب روح الفريق الجماعية، والأنانية، وعدم القدرة على المثابرة والمتابعة.

هذا السؤال وتلك الإجابة يُضيفان إلى ما قاله د. رءوف عبَّاس في سيرته عن التدهور الحاد الذي أصاب الجامعات المصرية والمجتمع المصري عامة، ويُعيد سؤالًا آخر للدكتور جلال أمين — عالم الاقتصاد المشهور: ماذا حدث للمصريين في خمسين عامًا؟

١  جريدة آفاق عربية، العدد ٦٩٤، ٣ من فبراير ٢٠٠٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤