الفصل الثاني

ما هي الجريمة؟

إن التركيز على «الجريمة»، بالنسبة إلى بعض الباحثين النقديين، هو الإشكالية الكبرى في علم الجريمة. قد تتساءل: لماذا يعتبر ذلك مشكلة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تستحق قدْرًا من الاستكشاف المفصَّل بعض الشيء؛ لأنه لن يؤدِّي فقط إلى تحسين فهمنا لموضوع علم الجريمة، بل سيجعلنا نطرح السؤال المهم، وهو: ما الهدف من «علم الجريمة»؟ في الواقع، عند التفكير في هذا الأمر، ذهبَ البعض إلى أن علينا ببساطة التخلِّيَ عن فكرة علم الجريمة تمامًا وتركيز انتباهنا بدلًا من ذلك على مجموعة من الأمور الأخرى، مثل الانحراف بجميع أشكاله، التي قد يتناسب بعضها مع أحد المفاهيم التقليدية لعلم الجريمة، والبعض الآخَر لن يتناسب تمامًا بلا شك.

بادئَ ذي بَدْء، كيف يمكننا تعريفُ الجريمة؟ ماذا يقول القاموس؟ يعرِّفها قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية بأشكال مختلفة على النحو التالي:
  • (١)

    فعلٌ شرير أو مُؤذٍ، إساءة، إثم، لا سيَّما ذو طابع خطير.

  • (٢)

    فعلٌ أو سَهْو يشكِّل إساءةً (عادةً ما تكون خطيرة) ضد أحد الأفراد أو الدولة ويُعاقِب عليها القانون.

إن النظر إلى «الجريمة» باعتبارها انتهاكًا للقانون الجنائي، كما في التعريف الثاني أعلاه، ربما تكون أبسطَ طريقةٍ لتعريف الجريمة. إذَن، خلاصة وجهة النظر هذه أن تلك الأمور التي نسمِّيها جرائمَ هي ببساطةٍ الأشياءُ التي نعتبرها وفقًا للقانون الجنائي أفعالًا قد تؤدِّي إلى فَرْض عقوبة. لكن القانون والأخلاق يتقاطعان في بعض النقاط. ففي القانون الجنائي غالبًا ما يتم التمييز بين الجرائم المُشار إليها باستخدام المصطلح اللاتيني mala in se، أو جرائم تُعتبر خاطئة في حد ذاتها، وتلك التي يُشار إليها بالمصطلح mala prohibita، أو الجرائم التي تُعتبر خاطئة لأنها محظورة. إيجازًا، هناك بعض السلوكيات — من بينها القتل، والاغتصاب، والسطو، والسرقة — محظورةٌ، وتُعتبر «خاطئة»، في كل مكان تقريبًا، ومجموعةٌ أوسع من الجرائم قد تختلف اختلافًا كبيرًا من ولاية قضائية إلى أخرى ومع مرور الوقت.

بالطبع هناك أيضًا مسائلُ مدنية يمكن أن تؤدِّي إلى فَرْض عقوبات — في إنجلترا، على سبيل المثال، توجد مجموعة كبيرة من الجرائم المتعلِّقة بنقل المهاجرين وتوظيفهم — لكن لا تندرج جميعها تحت مُسمَّى «جرائم». ومن ثَم سيكون النهج الضيِّق القائم على القانون الجنائي المتَّبع في علم الجريمة مقيِّدًا إلى حدٍّ استثنائي. والنظر إلى الجريمة بهذه الطريقة سيقودنا أيضًا إلى تجاهُل بعض التساؤلات الاجتماعية، والسياسية، والفلسفية ذات الأهمية البالغة، أبرزها: لماذا تخضع بعضُ الأمور لعقوبات جنائية دون البعض الآخَر؟ سوف نستكشف هذا لاحقًا فيما يتعلَّق بمخالفات الموظَّفين الإداريين. وأخيرًا، وفي هذا الإطار، فإن التأويل الدقيق والصارم يتعامل مع تطبيق القانون الجنائي بظاهره. فهو لا يتساءل، على سبيل المثال، عن كيفية تطبيق القانون الجنائي وسبب تطبيقه بالطرق التي يُطبَّق بها. فالطريقة التي يُطبَّق بها القانون لها عواقبُ حقيقية جدًّا على الأفراد والجماعات، وقد تؤثِّر أيضًا، بدورها، على طريقة فهْمنا للجريمة والتفكير فيها. لذا، فإن حقيقةَ أن بعض الجرائم يُعاقب عليها، دائمًا، أكثر من غيرها — مثل الاحتيال للحصول على مزايا غير مُستحَقة وسرقة المتاجر مقارنةً بتنزيل محتوًى من الإنترنت بشكل غير قانوني — قد تؤثِّر على طريقة تفكيرنا بشأن هذه الأفعال (هل هناك جريمة أسوأ من الأخرى؟) بل قد تؤثِّر حتى على احتمالية تورُّط الناس في مثل هذه الأعمال.

ماذا لو وسَّعنا نظرتنا، كما حثَّ البعضُ على ضرورة ذلك، وجعَلْنا تركيزَنا على انتهاكات القواعد الأخلاقية والاجتماعية، وليس مجرَّد الانتهاكات القانونية فحسب؟ هذا هو النهج الذي يتبعه أولئك الذين يَصِفون أنفسهم بأنهم «علماء اجتماع متخصِّصون في دراسة الانحراف»، في كثير من النواحي، وربما كان هذا هو النهج الذي كان مُتَّبعًا في علم الجريمة السائد في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والذي لا يزال له تأثير كبير. يسمح هذا النهج لخبير علم الجريمة على الأقل بفحصِ أشكالٍ من السلوك قد تُعتبر غيرَ ملتزمة أو منحرفة، حتى لو لم تكُن دائمًا إجراميةً من الناحية القانونية. وإذا كان اهتمامنا يتمحور حول النظام الاجتماعي والرقابة المجتمعية، فمن المؤكَّد أننا لا نريد أن ننحصر فيما يعرفه المشرِّعون بأنه إجرامي. ولنأخذ «الكتابة على الجدران» (الجرافيتي) مثالًا على ذلك.

نظرًا لارتباط الكتابة على الجدران ارتباطًا خاصًّا بمجموعة متنوِّعة من أنماط الثقافة الفرعية للشباب، وبخاصة الهيب هوب، فقد أصبحَت شكلًا من أشكال الفن الحضري أو مشكلةً اجتماعية (اختَر ما تشاء) على قَدْر كبير من الأهمية، وصار له حضور بارز في العقود الأخيرة. وبالرغم من صعوبةِ تتبُّع أصولها الحديثة، فقد أصبحَت بالتأكيد نشاطًا شائعًا وملحوظًا في مدينة نيويورك في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. في البداية كانت هذه الكتابات تُنفَّذ عن طريقِ مجهولِين، ثم بدأ المشاركون تدريجيًّا في تعريف أنفسهم عَبْر «وسوم»، وعندما أصبح الجرافيتي أكثرَ تعقيدًا وذا أنماط خاصة، زادت إشكالية مجهولية هُوية منفِّذيه. كان الجرافيتي آنذاك بالنسبة إلى الكثيرين عرْضًا عامًّا، بل وشكلًا من أشكال الفن، وبالتدريج اكتسب عددٌ من ممارسيه شُهرة. فالرسَّام جان-ميشيل باسكيا بدأ فنانًا جرافيتيًّا بالوسم SAMO©. وفي عام ٢٠١٠، اختارت مجلة «تايم» فنانَ الشارع البريطاني «بانكسي» ضمن قائمتها لأكثر مائة شخصية مؤثِّرة. وبطريقةٍ ما، أصبح الجرافيتي من الفنون السائدة المألوفة. ولكن بالرغم من هذه الشخصيات العامة المشهورة وفنونها الباهظة الثمن، فلا يزال كثيرٌ من أعمال الجرافيتي يُعَد لا شيء سوى مجرَّد آفةٍ تُشوِّه وسائلَ النقل العام والممتلكات الخاصة. فكيف ينبغي أن نَعُدَّها إذَن؟ هل هي جريمة/عمل إجرامي؟ هل يجب أن تكون محور دراسة لخبراء علم الجريمة؟ والإجابة القاطعة على هذا السؤال الأخير هي: «نعم». وتعود هذه الإجابة إلى عدة أسباب.

يكمُن السبب الأول وربما الأكثر وضوحًا في الإجابة عن السؤال الأول: بالفعل في بعض الظروف تُعامَل الكتابة على الجدران على أنها عمل إجرامي. في الواقع، يمكن أن يخبرنا تصدِّي السلطات للجرافيتي بالكثير عن الرقابة الاجتماعية المفروضة على الأماكن العامة والممتلكات العامة، وحول أفكار الشباب والنشاط الشبابي. السبب الثاني: هو أنه بالنسبة إلى بعض خبراء علم الجريمة، هناك أسئلة مثيرة للاهتمام يُثيرها ردُّ الفعل المجتمعي تجاه أعمال الجرافيتي فيما يتعلَّق بتقنيات مَنْع الجريمة وتأثيرها، وسنعود لمناقشة هذه النقطة بمزيدٍ من التفاصيل في الفصل الثامن. ولكنْ ثمَّة سببٌ آخَر وراء اعتبار الكتابة على الجدران موضوعًا وثيقَ الصِّلة بعلم الجريمة، وهو أنها تُساعدنا على التفكير في حدود السلوك، وبالأخص ما نعتبره سلوكًا «منحرفًا» أو «إشكاليًّا» بطريقةٍ ما. ومن خلال التركيز على حياة أولئك المنخرطين في مثل هذه الأنشطة، نواجه بعض التحديات التي تعترض النظامَ الاجتماعي المعاصر، وربما يدعونا ذلك إلى التفكير مجددًا في الطرُق المختلفة التي يمكن من خلالها ترتيب نظامنا الاجتماعي ومجتمعنا.

النسبية

القضية التالية التي ينبغي علينا مواجهتها هي النسبية التاريخية والثقافية لكثير من الجرائم. بعبارةٍ أكثرَ وضوحًا، نحن بحاجة إلى الإقرار بأنه ليس كلُّ ما كان مُجرَّمًا في يوم من الأيام يبقى كذلك، والعكس صحيح، وليس كلُّ ما هو مُجرَّم في مكانٍ ما يُعامل على هذا النحو في جميع الأماكن الأخرى. وكما أشرتُ ضمنًا، ثمَّة ثلاث طرُق أساسية يمكننا من خلالها التفكيرُ في «نسبية» الجريمة، من خلال النظر في تلك الأشياء التي طالما اعتُبِرت غيرَ قانونية ولكنها لم تَعُد كذلك؛ والأمور التي كانت تُمارَس بحرِّية تامة من قبلُ ولكنها تخضع الآن لقيود قانونية، وأخيرًا، تلك الأشياء التي تُعتبر قانونية في بعض الولايات القضائية ولكنها غير قانونية في ولايات قضائية أخرى.

توجد، بطبيعة الحال، أمثلةٌ عدَّة على أشياءَ كانت غير قانونية في السابق، ولكنها أصبحَت جائزةً مؤخَّرًا. على سبيل المثال، في كلٍّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، كان الإجهاض جريمةً جنائية في السابق. وبعد حملةٍ سياسية مطوَّلة في المملكة المتحدة، جعل قانون الإجهاض لعام ١٩٦٧ إنهاءَ الحَمْل قانونيًّا تحت ظروف محدَّدة. وبالمثل، قضى القرار التاريخي الذي أصدرَته المحكمة العُليا في الولايات المتحدة في عام ١٩٧٣، المعروف باسم قضية «رو ضد ويد»، بأن حقَّ المرأة في الإجهاض يقَع ضمن الحق في الخصوصية بموجب التعديل الرابع عشر. إلى أيِّ مدًى تُعَد هذه التعديلات التشريعية مستقرةً وثابتة؟ تبدو هذه التعديلات مستقرةً إلى حدٍّ معقول في المملكة المتحدة، بالرغم من وجود تحديات، ولكنها تبدو أقلَّ استقرارًا بكثير في الولايات المتحدة حيث كان حكمُ المحكمة دائمًا محلَّ نزاع، وحيث تجرَّأ المنتقِدون لهذه التعديلات مؤخَّرًا بانتخاب الرئيس ترامب والوعد الذي قطَعه بتعيين قضاةٍ محافظين للمحكمة العُليا. ويُعَد تقنين المثلية الجنسية مثالًا آخَر للتغيير في هذا الاتجاه. فقد ألغى قانون الجرائم الجنسية لعام ١٩٦٧ تجريمَ الأفعال الجنسية المِثلية التي تُمارَس سرًّا بين الذكور البالغين (ممَّن تجاوزَت أعمارُهم الحادية والعشرين في ذلك الوقت) في المملكة المتحدة. وفي الولايات المتحدة، ومنذ صدور حكم المحكمة العليا في عام ٢٠٠٣، عُدَّت جميع الأنشطة الجنسية التي تتم بالتراضي بين البالغين من نفس الجنس قانونيةً. أما قبل ذلك فكان هناك تبايُن محلي كبير جدًّا بين الولايات.

ثمَّة مثالٌ ثالث لمثلِ هذا التغيير وهو التغييرات التي أُدخِلَت على الوضع القانوني ﻟ «تمازج الأجناس» أو، بشكلٍ أكثرَ تحديدًا، وجود قوانين تحظر الزواج بين الأشخاص الذين يُعَدون من أعراقٍ مختلفة ثم إلغاؤها لاحقًا. ففي جنوب أفريقيا، في ظل نظام الفصل العنصري، حُظر ما يُسمَّى ﺑ «الزيجات المختلطة» بين عامَي ١٩٤٩ و١٩٨٥. وكانت هناك قوانين تحظر الزواج بين البِيض والسُّود في الولايات المتحدة منذ أواخر القرن السابع عشر. واستمرَّت غالبية الولايات في تطبيق مثل هذه القوانين حتى الحرب العالمية الثانية. وحدث التغيير الكبير في النهاية نتيجةً لدعوى قضائية أقامها الرائعان ميلدريد وريتشارد لافينج، اللذان تحولَّت قصتهما إلى فيلم عام ٢٠١٦ من إنتاج هوليوود (بعنوان «لافينج»). كان الزوجان لافينج قد تزوَّجا رسميًّا في واشنطن العاصمة عام ١٩٥٨، ثم قُبض عليهما لاحقًا بعد بضعة أسابيع في فيرجينيا، حيث لم يُعترف بزواجهما. واعترفا بأنهما «يعيشان معًا بوصفهما زوجًا وزوجة، بما يتنافى مع سلام الولاية وكرامتها» وحُكِم عليهما بالسجن لمدة عام مع إيقاف التنفيذ بشرط مغادرتهما الولاية. بعد بضع سنوات، بعد أن كتبت ميلدريد لافينج رسالةً إلى المدَّعي العام، روبرت كينيدي، أقام الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية دعوى نيابةً عنها. وبعد ما يقرب من ثلاث سنوات، وصلَت قضيتهما إلى المحكمة العُليا التي حكمَت في النهاية لصالح الزوجَين لافينج في يونيو ١٩٦٧. ومع ذلك ظلَّت قوانين مكافحة تمازُج الأجناس في الدساتير (حتى وإن كانت غير سارية) في العديد من الولايات، لتصبح ولاية ألاباما آخِرَ ولاية تحذف أخيرًا كلَّ ذكرٍ لمكافحة تمازُج الأجناس من دستورها في عام ٢٠٠٠.

إن إنهاء الحَمْل، وممارسة الجنس بالتراضي بين الرجال، والزواج بين أفراد من «أعراق» مختلفة، كلُّها رسائلُ تذكيرية واضحة بأن العديد من الأشياء التي أصبحَت قانونية الآن كانت تُعامَل على أنها «جرائم» حتى وقت قريب جدًّا. إذَن، ماذا عن التغييرات التي حدثَت في الاتجاه المقابِل؛ أي الأمور التي كانت تُمارَس بحرِّية من قبلُ ولكنها تخضع الآن لعقوبة جنائية؟ اسمحوا لي أن أعرِض ثلاثة أمثلة مختلفة للغاية. المثال الأول، وربما الأوضَح، يتعلَّق بتجريم موادَّ معيَّنة، كان يُطبَّق خلال القرن العشرين. كثيرٌ من القرَّاء على معرفة بالمحقِّق الخيالي، شيرلوك هولمز، ووَلَعه بالكوكايين، وهي مادة سمحَت له بالهروب من «الروتين الممل للوجود». وأغلب الظن أن آرثر كونان دويل، مبتكِر شخصية هولمز، كان يتعاطى الأفيون، وبالتأكيد كان تشارلز ديكنز معروفًا بتدخينه. فقد كان الأفيون مُتاحًا مجانًا في إنجلترا حتى أواخر ستينيات القرن التاسع عشر، وخلال العصر الفيكتوري لم يكُن هناك سوى القليل من الإدانة الأخلاقية لمثل هذه الأنشطة، ولم تبدأ المحاولات الجادة للسيطرة عليها إلا في أوائل القرن العشرين. فقد اعتبرت الولايات المتحدة تصنيعَ الهيروين، واستيراده، وحيازته غير قانوني في منتصف عشرينيات القرن الماضي، ولكن لم تدخل الحركة العالَمية لحظر الهيروين حيِّزَ التنفيذ بشكل كامل إلا في منتصف القرن. وتتمتَّع معظم البلدان المتقدِّمة الآن بمجموعةٍ شاملة ومعقَّدة من المحظورات المتعلِّقة بمجموعة من المواد، ولا يزال ما يُسمَّى ﺑ «الحرب على المخدرات»، رغم الجدل المتزايد الدائر حولها، يستهلك مواردَ ضخمة.

يُعتبر التبغ من المواد الأخرى التي تخضع الآن لقَدْر كبير من الرقابة في دولٍ كانت تُستخدَم فيها ويُستمتَع بها دون قيد. وفي المجتمعات التي يحظر فيها القانون الآن التدخينَ في الأماكن المغلقة، مثل أماكن العمل، والحانات، والمطاعم، أو حتى في السيارات التي بها أطفال، تزداد صعوبة تخيُّل أنه كانت هناك فترة زمنية يُروَّج فيها للتبغ بوصفه مُنتَجًا صحيًّا. ففي أواخر أربعينيات القرن الماضي، أطلقَت شركة «آر جيه رينولدز» للتبغ في الولايات المتحدة حملةً إعلانية تحت شعار «مزيد من الأطباء يدخِّنون سجائر «كاميل» أكثر من أي نوع آخَر». ومع تزايُد الأدلة بشكل تراكُمي على الأثر الصحي السلبي للتدخين خلال خمسينيات القرن الماضي، تزايدَت صعوبة استغلال مهنة الطب بهذه الطريقة. ولكن في منتصف التسعينيات من القرن الماضي أصبحَت كاليفورنيا أولَ ولاية تفرض حظرًا على التدخين في جميعِ أماكن العمل المغلقة، بما في ذلك الحانات والمطاعم. لا توجد مثلُ هذه المحظورات مطلقًا في جميع الولايات؛ بل إن أكثرَ من عشرين ولاية ليس لديها حظرٌ على مستوى الولاية، وربما يكون التبايُن الاستثنائي في القوانين واللوائح التي تقيِّد التدخينَ في بعض الأماكن في مناطقَ معيَّنةٍ من أمريكا دون غيرها مثالًا توضيحيًّا رائعًا يبيِّن كيف أن القانون ليس دليلًا صريحًا للسلوكيات التي نعتبرها إشكاليةً وربما نرغب في معاقبة مرتكبيها.

يتعلَّق المثال الأخير بالاغتصاب في إطارِ العلاقة الزوجية. ففي الولايات المتحدة، أصبح هذا الأمر غيرَ قانوني الآن في جميع الولايات الخمسين، لكنه لم يكُن كذلك قبل عام ١٩٩٣. بدأت عملية تجريم الاغتصاب الزوجي في منتصف السبعينيات، ولكنه لم يُحظَر في جميع أنحاء البلاد إلا بعد مرور عَقدَين تقريبًا. وفي إنجلترا، لم يكُن لمثل هذه الجريمة وجودٌ حتى عام ١٩٩١. وأدَّى التغيير في القانون عام ١٩٩١ إلى دفع إنجلترا للاصطفاف مع مجموعة من البلدان الأخرى من بينها فرنسا، وكندا، والسويد، والدنمارك، والنرويج، والاتحاد السوفييتي، وأستراليا. وقبل هذا التحوُّل، كان الوضع كما قال أحد القضاة الإنجليز في القرن السابع عشر:

لا يمكن إدانةُ زوج بارتكاب جريمة الاغتصاب في حق زوجته الشرعية؛ لأنه بموجب عَقد الزواج وموافقتهما المتبادلة، منحَت الزوجة نَفْسها لزوجها، وهو أمرٌ لا يمكنها التراجُع عنه.

وعلى الرغم من أن حقوق المرأة قد أدَّت إلى تجريم الاغتصاب الزوجي في كثيرٍ من دول العالَم المتقدِّم، فإنه لا يزال هناك العديد من البلدان لا توجد فيها مثل هذه الجريمة. فقد ذكرَت صحيفة «ذا تايمز أوف إنديا»، على سبيل المثال، في أواخر عام ٢٠١٦ أن وزير الدولة للشئون الداخلية، هاريبهاي تشودري، قال إنه لا يمكن تجريمُ الاغتصاب الزوجي في الهند بسبب ارتفاع معدَّل الأمية، والفقر، والمعتقدات الدينية المتطرِّفة، و«قُدسية» الزواج. وأشارت إحدى الدراسات الدولية إلى أنَّ عُنف الشريك الحميم يُعتبر أكثرَ أشكال العُنف التي تتعرَّض لها النساء شيوعًا على مستوى العالَم، ونتيجةً لذلك ذهبَ الباحثون مؤخَّرًا إلى أن تجريم العنف الجنسي ضد النساء في العلاقات الحميمة يجب أن يكون بندًا محوريًّا في «جدول أعمال حقوق الإنسان لتحقيق المساواة بين الجنسَين». إن الاغتصاب الزوجي لا يوضِّح بدقةٍ فقط أن المعايير تتغيَّر بمرور الوقت مع دخول بعض الأمور التي لم تكُن خاضعة للعقاب ضمن نطاق القانون الجنائي الآن، ولكنه يوضِّح أيضًا حقيقةَ أنه غالبًا ما يكون هناك تبايُن كبير بين كل ولاية قضائية وأخرى. وفيما يتعلَّق بالنقطة الأخيرة سنذكر سريعًا بعضَ الأمثلة التوضيحية الأخرى.

لا تزال أكثر من عشرين دولة في العالَم تطبِّق قوانين الردة: وهي قوانين تُعاقِب الأشخاصَ على التخلي عن عقيدتهم الدينية أو الارتداد عنها. وتقع هذه الدول بشكلٍ أساسي في أفريقيا، والشرق الأوسط، وجنوب/جنوب شرق آسيا، ولدى العديد منها قوانين ضد الرِّدة تتضمَّن عقوبة الإعدام، وإنْ كان يبدو أن إيران هي الدولة الوحيدة التي أعدمَت كلَّ مَن أُدين بمثل هذه الجريمة في السنوات الأخيرة. ولا تزال مجموعة كبيرة ومتنوِّعة من البلدان، مثل الهند، وأيرلندا، والكويت، والفلبين، وبولندا، تطبِّق قوانين ازدراء الأديان، التي تُعاقِب على التعبيرات التي يُنظَر إليها على أنها تُسيء إلى المقدَّسات، أو تشوِّهها، أو تحمل ازدراءً لها. ولكن في كثير من أنحاء العالَم تُعتبر هذه القوانين منافيةً لاعتبارات حقوق الإنسان. وبالفعل ترى الأمم المتحدة، نظرًا لأنَّ كلًّا من «حرية الدِّين أو الاعتقاد» و«حرية التعبير» تدخل في نطاق حقوق الإنسان المهمة، أنه ينبغي اعتبارُ قوانين ازدراء الأديان «قيدًا إشكاليًّا».

من أشكال النشاطات الأخرى التي تخضع لأنماطٍ مختلفة من التنظيم الدعارةُ. والواقع أننا هنا بحاجة إلى التفكير الحاذق الذي يتجاوز مجرد التمييز بين الولايات القضائية التي تسمح بمثل هذا النشاط وتلك التي لا تسمح به. يمكن القول عمومًا: إن الدول التي تُجرِّم الدعارة تتخذ ثلاثة مواقف ذات اختلافات طفيفة. أولًا: هناك دول تسعى إلى «حظر» الدعارة قَدْر الإمكان من خلال تجريم كل جانب من هذا النشاط. على النقيض من ذلك، هناك الموقف «الرافض لتجريم الدعارة» الذي ينظر إليها باعتبارها مشكلةً اجتماعية، ولكنها لا تتطلَّب تدخُّلًا قانونيًّا إلا عندما تكون السلامة العامة أو النظام الاجتماعي مُهدَّدَين بطريقةٍ ما. وهناك فئة فرعية مرتبطة برفض التجريم لا تتركَّز مخاوفها على بائعات الهوى ولكن على أشخاصٍ آخَرِين، مثل القوَّادين والعملاء. ويمكن تقسيم الولايات القضائية التي تتخذ نهجًا أكثرَ تسامحًا أو أقلَّ تدخُّلًا إلى ولايات «تمنع تجريم الدعارة» وتُنظِّمها بوسائل أخرى غير القانون الجنائي، وولايات «تُقنِّن» هذا النشاط على وجه التحديد وتُعامله كما تُعامل جميع المهن الأخرى.

أخيرًا، وفيما يتعلَّق بمسألة التجريم، هناك ما يُمكن أن نُطلق عليه «النسبية التطوُّرية» أو القانون المتدرِّج حسب العمر. إن التعامل مع البشَر لا يسير بالطريقة ذاتها مع الجميع عندما يتعلَّق الأمر بالعدالة الجنائية. وبوضوح أكثر، ثمَّة تمييزٌ بين البالِغين، والأحداث، والأطفال الأصغر سنًّا. فنحن نعامل البالِغين، عدا استثناءات معيَّنة، كما لو كانوا قادرين على تحمُّل المسئولية الكاملة عن أفعالهم. على النقيض من ذلك، نعطي الأحداثَ مساحةً أكبرَ قليلًا، بافتراض أنهم يحتاجون إلى مزيد من الحماية والرعاية أكثرَ ممَّا نسمح به للبالغين الذين انتهكوا القواعد. أخيرًا، يوجد في معظم الولايات القضائية حدٌّ للسِّن لا يتم اعتبار الأشخاص دونه مسئولين جنائيًّا عن سلوكهم. ويُشار إلى هذه السِّن عمومًا ﺑ «سن المسئولية الجنائية» واختلافُها من بلد إلى آخَر من شأنه توضيحُ الكثير ممَّا ذكَرْناه حتى الآن؛ إذ تتراوح بين السابعة في بعض الولايات الأمريكية (وتصل إلى الثانية عشرة في البعض الآخَر) والعاشرة في إنجلترا، وويلز، وأستراليا، والخامسة عشرة في الدنمارك، والسادسة عشرة في إسبانيا، والثامنة عشرة في البرازيل.

وبشكلٍ أعمَّ، تختلف الدول اختلافًا ملحوظًا في معاملتها للمجرمين، لا سيَّما الأصغر سنًّا. ففي عام ١٩٩٣، في إنجلترا، كان هناك صبي يبلغ من العمر عامَين، يُدعى جيمس بولجر، يتسوَّق مع والدته. وبينما كانت تتسوَّق في أحد المتاجر، غاب عنها برهة. ومع انصراف انتباهها عنه اختُطف جيمس. وبعد بحث طويل، وبعد مرور عدة ساعات، عُثر عليه ميتًا بالقرب من خط سكة حديدية على بُعد أميال قليلة. كان قد تعرَّض لاعتداء وحشي. الأمر الأفدح أن الجانِيَين كانا أيضًا صبِيَّين في العاشرة من عمرهما وقتَ وقوع الحادث. ونظرًا لأن سن المسئولية الجنائية في إنجلترا في ذلك الوقت كانت عشرة أعوام، فقد كان الصبيان، نظريًّا، مُؤهَّلَين للمثول أمام محكمةٍ جنائية. بعد عام واحد فقط من تلك الواقعة، أيْ في عام ١٩٩٤، تعرَّضَت فتاة في النرويج تبلغ من العمر خمس سنوات، تُدعى سيليا ريدرجارد، لاعتداء خطير للغاية من قِبل صبيَّين في السادسة — صديقين كانت تلعب معهما — لدرجة أنها تُوفيت متأثرةً بجِراحها. في النرويج، تبلغ سن المسئولية الجنائية خمسة عشر عامًا؛ لذا لم يكُن هناك أيُّ مجال للمقاضاة والمحاكمة الجنائية. لا مجال للمقارنة بين القضيتين على الإطلاق في هذا الصدد. لكنَّ هناك أمورًا أخرى كاشفة فيما يتعلَّق بالقضيتين. ففي النرويج، بُذلت جهودٌ ضخمة لحماية الصبيَّين، لضمان عدم الكشف عن هويتهما مطلقًا، وتلقيهما المساعدةَ والدعم. وعلى الصعيد القومي، اعتُبرت القضية حادثةً مأساوية عابرة، تستلزم تدخُّل الخبراء. على النقيض من ذلك، كُشف سريعًا عن هُوية الجانيَين في قضية بولجر، وتعرَّضا لمعاملة عِدائية للغاية في وسائل الإعلام، واعتُبِرا من أعراض مشكلةٍ أوسَع وأعمَق في المجتمع البريطاني، ومثَلَا أمام المحكمة، وحُكم عليهما بالسَّجن مُدَّة طويلة. وعلى الرغم من أن القضيتين ليستا مجرَّد قصة عن سِن المسئولية الجنائية، فهما تقدِّمان تبايُنًا واضحًا في الطُّرق التي تتعامل بها الولايات القضائية المختلفة مع الجرائم التي يتورَّط فيها صِغار السن. ربما كان من الممكن أن يكون هناك تبايُن أكبر لو وقعَت مثل هذه الجريمة في الولايات المتحدة. فهناك، كان الاحتمال الوارد أن يقضي الجانيان عقوباتِ سَجنٍ أطولَ بكثير — إذ أُطلق سراحهما في سِن الثامنة عشرة في إنجلترا — وربما لم يكُن ليُفرج عنهما أبدًا.

محور تركيز العدالة الجنائية

من الملاحظات الأخرى التي قد نرصدها من هاتين القضيتين أنه من خلال عملية سير العدالة الجنائية — الشُّرطة، والمُدَّعين العموميِّين، والمحاكم — «يتشكَّل» المجرمون. والمقصود هنا أن الأشخاص يمرون بعملية اعتقال، واتهام، ومقاضاة، وفَرْض عقوبة، حال ثبوت الإدانة؛ ومن ثَم نعتبرهم «مجرمين». ولعلَّ من الإسهامات العظيمة، وربما أعظمها على الإطلاق، لعلم الجريمة الاجتماعي في منتصف القرن العشرين، هي تركيز الانتباه على عمليةٍ أشرتُ إليها بالفعل بمُسمَّى «التجريم». فمن خلال التركيز على الطُّرق التي يرتبط بها مُسمَّى «جريمة/إجرامي» بسلوكيات مُعيَّنة، ومن ثَم بأشخاصٍ بأعينهم، يمكننا أن نبيِّنَ بوضوح لماذا يجب النظر إلى الجريمة باعتبارها اجتماعيةَ المَنشأ. إذا بدأنا من هذا المنظور، فنحن مُضطرون بذلك إلى التساؤل عن الكيفية التي تصل بها سلوكيات مُعيَّنة إلى حدِّ توصيفها بالمنحرفة أو الإجرامية، ولماذا تزيد أو تقل احتمالية أن يكون أفرادٌ بأعينهم أو مجموعات بعينها هم أولئك الذين ينطبق عليهم وَصْف المنحرف/المجرم، والتساؤل عن العواقب التي قد تنجُم عن تطبيق مثل هذه المُسمَّيات. لو كانت سِن المسئولية الجنائية في إنجلترا عام ١٩٩٣ اثنَي عشر عامًا لَمَا كان من الممكن محاكمةُ المجرمَين الصغيرَين في قضية بولجر. وكان لا بد من اتخاذ شكل آخَر من أشكال التدخُّل وما كانا سيكتسبان وَصْف «مجرم». هل كانت حياتهما ستختلف نتيجةً لذلك؟ بكل تأكيد.

إنَّ طرْح أسئلة حول ما يُطلق عليه وَصْف «جريمة» ومَن يُطلق عليه وَصْف «مجرم»، يستدعي بالضرورة التفكيرَ مليًّا في أهمية السُّلطة. مَن الذي يضع القواعد؟ وعلى مَن تؤثِّر القواعد، أو مَن الذي تشمله بالحماية؟ هل تُطبَّق القواعد على قدَمِ المساواة، وإذا لم يكُن الأمر كذلك، فلماذا؟ وما عواقب ذلك؟ لعل أسهلَ طريقة للقيام بذلك هي النظر في كيفية تطبيق القانون على أي تقسيم اجتماعي أساسي، على سبيل المثال: الدَّخل والثروة، والنوع، والعِرق. لنأخذْ مثالَين سريعَين. أولًا: استخدام سلطة الشُّرطة الأساسية؛ ما يُطلَق عليه اسم «التوقيف والتفتيش» في أمريكا وما يُضاهيه في المملكة المتحدة. مَن الذي تميل الشُّرطة إلى توقيفه؟ في عام ٢٠١٥، في مدينة نيويورك، بلَغَ عدد عمليات التوقيف التي أجراها ضباط الشُّرطة ٢٢٩٣٩ عملية. ومن بين الأشخاص الذين أوقفَتهم الشُّرطة، كان ١٢٢٢٣ منهم من أصحاب البشَرة السوداء (٥٤ في المائة)، و٦٥٩٨ من أصول لاتينية (٢٩ في المائة)، و٢٥٦٧ من أصحاب البشَرة البيضاء (١١ في المائة). كل هذا في مدينة أكثر من ٤٠ في المائة من سكانها، وفقًا لتَعدادها السكاني، من ذوي البشَرة البيضاء وحوالي ربع سكانها من ذوي البشَرة السوداء. تُظهِر البيانات الرسمية في إنجلترا وويلز أن معدَّل التوقيف والتفتيش (عدد الأشخاص الذين استوقفتهم الشُّرطة وفتَّشَتهم لكل ١٠٠ ألف نسمة) يبلغ نحو ١٥ للأشخاص ذوي البشَرة البيضاء و٦٥ للأشخاص ذوي البشَرة السوداء. بعبارة أخرى، يزيد الفرق على ٤٠٠ في المائة.

إن الطُّرُق التي تُجرَّم بها مجموعاتٌ مُعيَّنة على نحوٍ غير متناسب — لتجد نفسها أكثرَ عُرضة للمحاكمة والعِقاب — من المحتمل أن توضِّح شيئًا مهمًّا حول التوجُّهات الاجتماعية والافتراضات المُعمَّمة المتبنَّاة تجاه مجموعات أو فئات مُعيَّنة من الناس. لنأخذِ الأستراليين الأصليين مثالًا على ذلك. بشكل عام، يبدو أن احتمالية سَجن البالغين من السكان الأصليين في أستراليا تزيد بمقدار ١٤ مرة على احتمالية تعرُّض السكان غير الأصليين للسَّجن. ويبلغ معدَّل احتجاز الأحداث من السكان الأصليين ما يقرب من ٤٠٠ شخص لكل ١٠٠ ألف شخص؛ أيْ نحو ٣٠ مرة أعلى من معدَّل الأحداث من السكان غير الأصليين. ما أسباب ذلك؟ أحد الاحتمالات، بالطبع، هو أنهم متورِّطون بشكلٍ أكبر في الجريمة. وهناك بعض الأدلة التي تدعم ذلك، على الرغم من أن مثل هذا التورُّط المفرط يمكن تفسيره على الأرجح بأن «عوامل الخطر» (سوف نستكشف هذه العوامل بمزيد من التفصيل في الفصل الثالث) أكثرُ تمركزًا بين هذه المجموعات السكانية. وما يُضاهي ذلك أهمية، إن لم يكُن أهم منه بكثير، هو الاستهداف المتعمَّد لهؤلاء الأشخاص من قِبل الشُّرطة والسُّلطات الأخرى. فقد وجدَت إحدى الدراسات التي أُجريت في ولاية نيو ساوث ويلز أنه عند سن الثالثة والعشرين، تلقَّى أكثرُ من ثلاثة أرباع السكان الأصليين تحذيرًا من الشُّرطة، أو أُحيلوا إلى «جلسة» من جلسات محاكمة الشباب، أو أُدينوا بارتكاب جريمة في المحكمة. في المقابل، كانت نسبة السكان غير الأصليين ممَّن واجهوا ذلك ١٧ في المائة. لذلك ربما لن يكون الأمر صادمًا عند اكتشافِ أن عدد السكان الأستراليين الأصليين في سجون نيو ساوث ويلز قد زاد أكثرَ من الضِّعف بين عامَي ٢٠٠١ و٢٠١٥.

يتعلَّق المثال الثاني للتركيز التفاضلي لمنظومة العدالة الجنائية بردِّ فعلِ السلطات إزاءَ مختلف أنواع الاحتيال المالي. ففي إنجلترا، تتولَّى «إدارة الإيرادات والجمارك الملكية» مسئوليةَ تحصيل الضرائب والتحقيق في الامتثال لدفعها. ومن بين دافعي الضرائب، ثمَّة فئةٌ صغيرة تُقدَّر بنحو ٠٫٠٢ في المائة من إجمالي دافعي الضرائب، يُطلَق عليهم «أصحاب الثروات الضخمة». وتصل الضرائب المفروضة على هذه الثروات، التي تُعتبَر محاطة ﺑ «المخاطر»؛ وهي مَخاطر تتعلَّق بالأساس بتهرُّب هؤلاء الأفراد من دَفْع الضرائب إلى مليارات الجنيهات الإسترلينية. فقبْل عام ٢٠١٦ بخمس سنوات جرى التحقيق في ٧٠ قضية، خضعَت اثنتان منها للتحقيق الجنائي، وانتهَت واحدة بمحاكمة جنائية ناجحة. في المقابل، يَمثُل حوالي ثمانية آلاف إلى تسعة آلاف شخص أمام المحكمة كلَّ عام بسبب ما يُشار إليه بالاحتيال، للحصول على مزايا غير مستحقة — أي الادعاء كذبًا بأحقيتهم في الحصول على معوناتٍ اجتماعية لا يحق لهم الحصول عليها أو التقاعُس عن الإبلاغ عن التغييرات الطارئة على ظروفهم الشخصية — وينتهي نحو خَمسٍ في المائة من هذه القضايا بعقوبة السَّجن. عندما يتعلَّق الأمر بأغنى المجرمين، فإن الملاحقات القضائية نادرة، وحتى في هذه الحالة ينصبُّ اهتمامُ الدولة على استرداد الخسائر، وليس بأشكال العِقاب الأخرى. ويكمُن جزء من تفسير ذلك في صعوبةِ تأمين محاكمات ناجحة في مثل هذه القضايا. ومع ذلك، تزداد احتمالية التعرُّض للمحاكمة الجنائية عندما يتعلَّق الأمر بأفقر المجرمين إلى حدٍّ كبير، على الرغم من تدنِّي قيمة الخسائر المتضمنة.

تشير أدقُّ التقديرات إلى أن الاحتيال للحصول على مزايا غير مستحقة قد يصل إجمالًا إلى ما يقرب من ٢٫٤ مليار جنيه إسترليني سنويًّا. في المقابل يشير المصدر نَفْسه إلى أن الاحتيال في القطاع الخاص يكلِّف الاقتصادَ البريطاني أكثرَ من ١٤٠ مليار جنيه إسترليني سنويًّا على أقل تقدير. وكما ذكرتُ سابقًا، فإن الملاحقات القضائية نادرة، ويُرفَض الكثير من دعاوى الضرر المرفوعة ضد الشركات باعتبارها آثارًا جانبية مؤسِفة لمشروع ناجح. وكما فعل عددٌ من خبراء علم الجريمة، من الممكن اتخاذُ وجهةِ نظر مختلفة تمامًا، وعدمُ اعتبار المشكلات التي تُسبِّبها الشركاتُ انحرافاتٍ هامشية، بل هي جوهر عملها وأساسه. وبالنظر إلى التهديد الذي يُقال إنها تشكِّلُه على مصالحنا، فهذا يعني ضرورةَ رفضِنا لوجودها من الأساس.

جريمة أم ضرر؟

حتى الآن بحثنا قليلًا في مفهوم «الجريمة»، وطرَحْنا مجموعةً من الأسئلة حول ما قد يعنيه، وأوضحنا، كما آمُل، أنها ليسَت فكرة مباشرة كما قد تبدو للوهلة الأولى. في الواقع، وكما أشرتُ سابقًا، هناك مَن يرون أن الجريمة تنطوي على إشكالية كبيرة لدرجةِ أنهم يشكِّكون في علم الجريمة بأكمله. والسؤال هو: هل يوجد بديل؟ حسنًا، الاقتراح الأكثر شيوعًا هو أننا يجب أن نحوِّل تركيزنا من «الجريمة» إلى «الضرر» الناجم عنها. أحدُ أسباب القول بذلك هو الفرضية القائلة: إن الجريمة، التي تُعَد الموضوعَ الأساسي لعلم الجريمة، ليس لها «واقع وجودي». والمقصود بذلك هو الفكرة الواضحة تمامًا القائلة: إن مجموعة السلوكيات، والأفعال، والأحداث، وما إلى ذلك التي نَصِفُها ﺑ «الإجرامية» لا تشترك معًا في أي شيء جوهري غير حقيقةِ أننا نعتبرها إجرامية. وهذا يعني أنها تنطوي على ترابُط زائف، وتعطي إحساسًا بأن الأشياء التي ندرُسها، نحن خبراءَ علم الجريمة، لها انتماء واحد، عندما يكون الواقع مختلفًا تمامًا. فما الذي يربط، على سبيل المثال، بين القيادة تحت تأثير الكحول، والدعارة، وتعاطي القُنَّب، والاغتصاب، وسرقة الهُوية، والقتل المتسلسل (بخلاف ورودها في القانون الجنائي)؟

نتيجةً لذلك، قد نهتم بالقَدْر نَفْسه بأحد موضوعات الدراسة الرئيسة الأخرى في علم الجريمة وهو: المجرمون. يشير المصطلح إلى أن هؤلاء الأشخاص يشتركون في شيءٍ ما، أيْ إن هناك قاسمًا مشتركًا بينهم. وهذا صحيح من منظورٍ ما؛ فلا بد أنهم قد أُدينوا بارتكاب جريمة جنائية لتوصيفهم مجرمين. لكن هل يشتركون في أي شيء آخَر خلاف ذلك؟ غالبًا ما نتحدَّث من الناحية العامة والسياسية كما لو كانوا يشتركون في شيء، بل في الواقع نتصرَّف من هذا المنطلق. وقد كان، ولا يزال، هناك بعض الخبراء في علم الجريمة يبدو أنهم يتَّبعون هذا النهجَ في التفكير. لكن دعونا نرجع خطوةً إلى الوراء. هل يمكن ﻟ «المجرمين» بطريقةٍ ما أن يكونوا طبَقة منفصلة، مختلفة دستوريًّا (وراثيًّا، وبيولوجيًّا، ونفسيًّا، واجتماعيًّا) عن «غير المجرمين»؟ يوجد ما يقرب من ٢٥٠ مليون بالِغ في الولايات المتحدة. هل ترغب في تخمين عدد الأشخاص الذين لديهم سجلٌ جنائي على نحوٍ تقريبي (إذ من الصعب معرفةُ ذلك بدقة)؟ مليون؟ عشرة ملايين؟ لا، يُرجَّح أن ٦٥ مليون بالِغ في الولايات المتحدة لديهم سجل جنائي. أي إن أكثرَ من ربع الأمريكيين البالغين أُدينوا بارتكاب جريمة جنائية واحدة على الأقل، وإن كان معظم هذه الجرائم صغيرًا نسبيًّا ولا يدخل في عِداد أخطر الجرائم. وبالطبع، لا تُوزَّع هذه الأشياء بالتساوي؛ لذا فإن النسبة قد تكون أعلى بشكل ملحوظ بالنسبة إلى بعض الفئات العمرية أو المجموعات.

أما زلتَ تعتقد أنه من الممكن أن يكون «المجرمون» (أي الأشخاص الذين لديهم سجلٌ جنائي) مختلفين دستوريًّا عن «غير المجرمين»؟ تخميني هو أنهم ليسوا كذلك على الأرجح. وفي حالِ لم تكُن قد اقتنعتَ بعدُ، فدعني أوضِّح لك العبثَ المُطلَق في معاملة «المجرمين» كما لو كانوا فئةً منفصلة من الناس، وكأنهم مختلفون على نحوٍ ما عن بقيتنا جسديًّا، أو أخلاقيًّا، أو سلوكيًّا. اطرح على نفسك سؤالًا بسيطًا واحدًا: هل ارتكبتُ أنا أو أحدٌ من أفراد عائلتي المقربين، واحدًا على الأقل، من الأفعال التالية: تدخين القُنَّب؛ قيادة سيارة مع وجود نسبة كحول عالية في الدم؛ سرقة شيء من متجر؛ تنزيل موسيقى أو غيرها من المواد مجانًا برغم وجوب الدفع مقابلها؟

هذه أربع جرائم فقط من بين عشرات الآلاف من الاحتمالات. ولكن حتى مع هذه القائمة المحدودة للغاية، هل كان جوابك «لا»؟ إذا كان الأمر كذلك، إذَن تهانينا، فأنت واحد من أقلية صغيرة من الناس سيجيبون الإجابةَ نَفْسها. والسبب واضح. فكلُّ هذه الأشياء، التي يمكن أن يؤدِّي أيٌّ منها، نظريًّا، إلى توجيه اتهامات جنائية، شائعة جدًّا. وليس من السهل تقديرُ نسبة السكان الذين قاموا بأيٍّ من تلك الأفعال المدرجة بالقائمة، ولكن يمكننا وضعُ بعض التقديرات. على سبيل المثال:
  • تدخين القُنَّب: يشير تقرير المخدرات العالَمي إلى أن نسبة الأشخاص الذين يتعاطون القُنَّب مرةً واحدة على الأقل سنويًّا كانت خمسة في المائة في ألمانيا، و١٢ في المائة في كندا، و١٥ في المائة في إيطاليا ونيوزيلندا. وبالطبع تزداد نِسَب تعاطي القُنَّب مدى الحياة عن تلك النِّسَب. وتشير «الدراسة الاستقصائية للجريمة في إنجلترا وويلز» إلى أن أكثرَ من ثلث (٣٦ في المائة) البالغين استخدموا مخدرًا غيرَ مشروع في مرحلةٍ ما من حياتهم.
  • قيادة سيارة مع وجود نسبة كحول عالية في الدم: في استطلاعات الإبلاغ الذاتي، أفاد ما يتراوح بين ربع ونصف المشاركين أنهم قادوا السيارةَ بعد ساعات قليلة من تناول مشروب كحولي. هذا لا يعني أنهم «تجاوزوا الحدَّ المسموح به»، ولكن هذا يعني، وفقًا لجميع الاحتمالات، أنهم كانوا عُرضة للخطر.
  • سرقة شيء من متجر: تشير دراسات الإبلاغ الذاتي، التي يوجد منها عدد قليل جدًّا، إلى نتائجَ شديدة التبايُن، لكن الدراسات الأكثر موثوقية تشير إلى نتائجَ تتراوح بين ٢٥ و٥٠ في المائة.
  • تنزيل موسيقى أو غيرها من المواد مجانًا رغم وجوب الدفع مقابلها: مرة أخرى، هذا أمرٌ يصعُب تقديره، كما قد تدرك. فقد قدَّر تقريرٌ وارد من أستراليا، وهي دولة يبلغ عدد سكانها حوالي ٢٣ مليون نسمة، أن نحو ثلاثة ملايين أسترالي زاروا أهمَّ موقعين إلكترونيين للتحميل في شهر واحد في عام ٢٠١٤. هذا لا يعني أنهم جميعًا، أو حتى معظمهم، قد نزَّلوا بالفعل موادَّ بشكلٍ غير قانوني. من ناحية أخرى، كان هذا شهرًا واحدًا فقط في عام واحد، وفي موقعَين فقط من بين آلاف المواقع.

آمُل أن تكون هذه المناقشة المُوجَزة، على أقل تقدير، قد أقنعَتك بأننا بحاجةٍ إلى توخِّي الحذر الشديد عند مناقشة مصطلحات مثل «جريمة» و«مجرم»، وبالتأكيد عند مناقشتها على النطاق الأعم.

ولكن ماذا عن السؤال الأكثر تحديدًا حولَ ما إذا كان من الممكن تمييز المجرمين الأكثر خطورة — القتلة والمغتصبين، على سبيل المثال — عن الأشخاص الآخَرين؟ مرَّة أخرى، على الرغم من أن الإجابة هي «لا» قاطعة، فإن الصورة مُعقَّدة. فهناك مجموعة كبيرة ومتنامية من الدراسات تشير إلى أنه قد يكون هناك عددٌ من عوامل الخطر المرتبطة بأشكال السلوك الإجرامي الأخطر والأقل تكرارًا. على سبيل المثال، يرتبط ما يُشار إليه غالبًا بارتكاب الجريمة «في سنٍّ مبكرة» — أي البدء بشكل أساسي في مرحلة مبكرة من الحياة — ارتباطًا وثيقًا بزيادة احتمالية التورُّط لفترة طويلة في ارتكاب جرائم في مرحلة لاحقة من الحياة، بالإضافة إلى زيادة احتمالية التورُّط في جرائم جسيمة، أو عنيفة، أو خطيرة. وهناك عدد من العوامل الأسرية، لا سيَّما التفكُّك الأسري، والعنف داخل المنزل، والإيداع في دُورِ رعايةٍ بعيدًا عن الأسرة، ترتبط كلها بزيادة خطر ارتكاب جرائم خطيرة وعنيفة في مرحلة لاحقة من الحياة. وبالمثل، يُعتبر تعاطي الكحول أو أي مواد مخدرة أخرى في سنٍّ مبكِّرة عاملَ خطر رئيسًا آخَر.

بالإضافة إلى هذه الأمور، يوجِّه خبراء علم الجريمة اهتمامهم الآن على نحوٍ متزايد إلى العوامل البيولوجية والنفسية في تفسير ارتكاب الجرائم الخطيرة، وخاصة الجرائمَ العنيفة البالغة الخطورة. ويمثِّل هذا، من بعض النواحي، عودةً إلى بعض اهتمامات خبراء علم الجريمة الأوائل في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فقد قلَّ شيوع الاهتمام بمثل هذه الأمور في النصف الثاني من القرن العشرين — إذ أصبحَت في الواقع غيرَ دارجة إلى حدٍّ بالغ — لكن العوامل التي غالبًا ما يُطلق عليها الآن عوامل «بيولوجية اجتماعية» عادت بقوة إلى جدول أعمال علم الجريمة. ومرة أخرى، تُحدِّد مثل هذه الدراسات مجموعةً من السِّمات التي يبدو أنها ترتبط بنزعةٍ متزايدة نحو الأشكال الأكثر خطورة من الجريمة، خاصة العنف، ونحو التورُّط الممتد في الجريمة. وتشمل عواملُ الخطر هذه عددًا من أوجُه القصور النفسي العصبي أو الإدراكي مثل ضَعف المهارات التنظيمية، ومحدودية فترة الانتباه، وانخفاض الذكاء والذاكرة العاملة، إلى جانب سمات أخرى مثل الاندفاع ومظاهر العدوانية في سنٍّ مبكِّرة. بالإضافة إلى ذلك، ثمَّة عددٌ من العوامل التي تحدُث في وقتٍ مبكِّر جدًّا من الحياة، مثل مضاعفات الولادة، واضطرابات نمو الدماغ الناتجة عن التدخين وتعاطي الكحول أثناء الحَمْل، والتي ترتبط بالعنف، وأحيانًا العنف الشديد، في مرحلةٍ لاحقة من الحياة. غير أنه من الضروري للغاية معرفةُ أن البعض فقط من الأفراد الذين يُظهِرون مثل هذه السِّمات والطِّباع هم مَن سيستمرون في ارتكاب الجرائم إلى أي درجة خطيرة. وتُعتبر عواملُ الخطر مؤثِّرات مهمة أكثرَ منها خصائص مميزة أو سِمات محدَّدة. وسنعود إلى هذه النقطة وما يتعلَّق بها من مسائل في الفصل الثالث.

على الرغم من الانشغالِ المفهومِ محلِّ الجدل بين الجمهور وفي وسائل الإعلام بأخطرِ أشكال الجريمة، فالحقيقة هي أن الغالبية العظمى من الأمور التي تُعتبر إجرامية غيرُ مهمة إلى حدٍّ ما (أي إنها تسبِّب القليل من الضرر). وهذا يثير السؤالَ المهم حول الهدف المنشود من وضع أنظمة العدالة الجنائية والعِقاب. هل هو معاقبة، وإذا أمكن ردعُ تلك السلوكيات التي نعتقد أنها الأسوأ والأكثر خطورة، والتي تسبِّب أكبرَ قَدْرٍ من الأذى والضرر؟ وإذا لم يكُن الأمر كذلك، فما الهدفُ من هذه الأنظمة؟

من بين تلك الأمور التي يُطلق عليها «جريمة»، نادرًا ما ينتهي المطاف بأكثرها خطورة بين يدي منظومة العدالة الجنائية. قد يبدو هذا مفاجئًا ولكن يمكن توضيحه بطريقتَين. أولًا، وبشكل مباشر: هناك أضرار تُسبِّبها الدول القومية من خلال أعمال العنف أو الاحتلال. قد يخضع بعض هذه الأضرار للمعايير، والمعاهدات، والتشريعات الدولية، لكنَّ الكثير منها لن يخضع لذلك. وحتى مع احتمالية تصنيفها على أنها «إجرامية» وخضوعها للعقاب في المحاكم الدولية، فإن احتمالية حدوث مثل هذه المحاكمة نادرٌ جدًّا بالفعل. على سبيل المثال، وصَفَ مركزُ الحقوق الدستورية، وهو منظمة غير حكومية لحقوق الإنسان مقرُّها نيويورك، ما ارتكبَته حكومة الرئيس جورج دبليو بوش من خرق للقانون بأنه «ذو نطاق جسيم». ودعا رئيس الأساقفة ديزموند توتو كلًّا من الرئيس بوش ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير إلى مواجهةِ اتهاماتٍ بارتكاب جرائم حرب في لاهاي. وعلى الرغم من أن رئيس الأساقفة توتو لم يكُن وحيدًا في هذه الدعوة، فلا يتخيَّل سوى قليلين أن أيًّا من الزعيمَين السابقَين سيجد نَفْسه في قفص الاتهام في هولندا. ثانيًا، وكما أشرتُ سابقًا: كثيرٌ من الأضرار التي ترتكبها، على سبيل المثال، الشركات والمؤسسات، نادرًا ما تُلاحَق قضائيًّا، رغم أنها قد تكون إجرامية. وفي السنوات الأخيرة تزايدَ التركيزُ المنصَبُّ على الأضرار البيئية العديدة التي ترتكبها المؤسسات في جميع أنحاء العالَم. وقدَّر أحدُ التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة أنه في عام ٢٠٠٨، كانت أكبر ثلاثة آلاف شركة عامة مسئولة عن أضرار بيئية بقيمة ٢٫١٥ تريليون دولار. وأشار التقرير أيضًا إلى أنه مَهْما كانت جودة وَضْع هذه الشركات نظريًّا، فإنها ستخسر نصفَ أرباحها على الأقل إذا ثبتَت مسئوليتها عن الضرر الذي تسبَّبَت فيه. وقد يغلق بعضها ببساطة. وتُركِّز الآن مجموعةٌ كبيرة من الدراسات الآخِذة في الازدياد، غالبًا ما يُشار إليها باسم «علم الجريمة الأخضر»، على مثل هذه «الجرائم» البيئية.

أخيرًا، ونتيجةً لمثل هذه المساوئ، ربما ليس من المستغرَب أن يذكِّرنا النقادُ بأن العدالة الجنائية ليست بالفاعلية الكبيرة. فغالبًا ما تظل معدَّلات الجريمة مرتفعةً إلى حدٍّ مستعصٍ حتى عند زيادة كلٍّ من مدة العقوبة وشدتها، وبالمثل تزداد نسبة معاودة أو تكرار الفرد ارتكابَ الجرائم بشكل عام على الرغم من استخدام عقوبة السجن وغيرها من أشكال العقوبة. والأسوأ من ذلك، كما يذهب النقاد، أن عاقبة اللجوء إلى استخدام منظومة العدالة الجنائية هي إهمال الوسائل الأقل رسمية، وربما الأكثر فاعلية، للتعامل مع النزاع. فعندما تُعرَّف مسألةٌ ما — لنَقُل نزاعًا بين الجيران انتهى بعنف بسيط — على أنها مسألةٌ جنائية، يتوالى عدد من الأشياء. وتظهر النزعة لمعاملة أحد الطرفَين بصفته مجرمًا والآخَر بصفته ضحية. وغالبًا ما تكون الأمور غيرَ واضحة تمامًا مثل تلك التي يترتَّب عليها نتائجُ واضحة من الإنصاف والعدالة. وبمجرَّد توجيه التُّهم، يُستبعَد الضحيةُ إلى حدٍّ كبير من بقية الإجراءات القانونية. وقد يتسبَّب هذا في حد ذاته في حدوثِ أذًى وضِيق. أخيرًا، في المثال الذي استخدمناه، قد لا يُسوَّى الأمر الذي أدَّى إلى الإجراءات القانونية — أي النزاع بين الجيران — باللجوء إلى المحكمة، بل إن من المحتمل أن يتفاقم بشدة. ويذهب البعض إلى أن ضياعَ فرصة حل النزاعات بوسائلَ أخرى يمثِّل خسارةً كبيرة للمجتمع. ومثل هذه الملاحظات على وَجْه التحديد هي ما أدَّت جزئيًّا إلى نمو الاهتمام بأنظمة العدالة البديلة — كالعدالة التصالحية، على سبيل المثال — وبمجموعة متنوِّعة من المنتديات الأخرى مثل لجان الحقيقة والمصالحة، وما شابهها.

إذَن، ماذا يجب أن نستنتج من كل هذا؟ أولًا: نحن بحاجة إلى التعامل مع فكرة «الجريمة» بحذرٍ شديد. يجب أن نكون مُدركِين لمخاطر الجمع بين أفعال شديدة التبايُن كما لو كان بينها بالضرورة خصائص مشتركة. والأمر نَفْسه ينطبق على مصطلح «إجرامي». ونتيجةً لذلك، لا بد أن نكون حذِرِين من فرضِ حدودٍ شديدة الصرامة على ما يمكن اعتباره موضوعَ البحث في علم الجريمة. فخبراء علم الجريمة يهتمون حقًّا «بالجريمة»، ولكن بالمعنى الشامل الموضَّح في هذا الفصل دون استبعاد الشواغل الأخرى. وسؤالنا التالي هو مَن يرتكب الجريمة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤