الفصل التاسع

إلى أين يتَّجه عِلم الجريمة؟

في هذه المقدمة القصيرة جدًّا لعلم الجريمة، ركَّزتُ على عددٍ من المسائل الأساسية. ما الجريمةُ؟ كم يبلغ حجمُ الجرائم الموجودة وكيف نعرفه؟ كيف يمكننا تفسيرُ الاتجاهات الطويلة المدى في الجريمة؟ مَن يرتكب الجريمة؛ ومتى يتوقَّفون؟ ولماذا؟ وكيف نكافح الجريمةَ أو نمنعها؟ وفي هذه المرحلة، آمُل أن نكونَ متفقين في الرأي على أن هذه الأسئلة مهمة ومثيرة للاهتمام، وأن علم الجريمة لديه بالفعل بعضُ الإجابات المدروسة لبعضها. لكن ماذا يحمِل المستقبل؟

بالوصول إلى هذا الجزء من الكتاب، ستكون قد أصبحتَ أيضًا على دراية بحقيقة أن علمَ الجريمة له تأثيراتٌ وأصول تمتد إلى فروع معرفية متنوعة. وكما ذكرتُ في البداية، أعتقد أن هذه نقطةُ قوة أكثرُ منها نقطة ضعف. وهناك العديد من الفروع لعلم الجريمة، وغالبًا ما يكون لها مسمياتها الخاصة مثل: علم الجريمة الثقافي، وعلم الجريمة الواقعي، وعلم الجريمة النقدي، وعلم الجريمة التجريبي، وعلم دراسة الجريمة. وتشير المسميات عمومًا إلى ميولٍ نظرية مختلفة، وفي بعض الأحيان تشير إلى تحيُّزات أو تفضيلات منهجية مختلفة، بالإضافة إلى المعاني المختلفة لما يُعتقَد أنه قضايا علم الجريمة الأساسية.

تشير المسميات أيضًا، بدرجةٍ ما، إلى مواقفَ سياسية مختلفة، أو على الأقل المواقف التي لها آثارٌ سياسية وعواقبُ محتملة مُتبايِنة. ففي الفصل الثامن، على سبيل المثال، لاحظنا صعودَ نُهُج المنع الظرفي للجريمة المتَّسمة بالعقلانية، والتي تتأثَّر بالاختيار، وتركِّز على الفرص في وقتٍ تراجع فيه الإيمان بأعمال علم الجريمة التقليدية، ذات التوجُّه الاجتماعي. وتضيف الأعمال المتباينة مجموعاتٍ مختلفة تمامًا من الأولويات إلى نشاط علم الجريمة؛ إذ يركِّز منعُ الجريمة على الأحداث والمواقف؛ ويركِّز علم الجريمة الاجتماعي على الظروف الاجتماعية التي قد نفهم في ظِلِّها الجريمة، والعدالة الجنائية، وسياسة العِقاب؛ ويركِّز علم الجريمة النفسي على المجرمين وميولهم. وفي بعض الأحيان تكون هذه التناقضات كافيةً للبعض ليقول إن النُّهُج المختلفة تمثِّل نماذجَ مختلفة.

كثيرًا ما انتقد أصحابُ النزعة الاجتماعية نَهج المنْع الظرفي للجريمة لافتقاره الاهتمامَ بما يعتبرونه أسسًا هيكلية عميقة للإجرام. وهم يرون أن حركة المنع الظرفي للجريمة تتجنَّب التعاملَ مع الأسباب الجوهرية للجريمة بتجنُّب التركيز على المشاكل الاجتماعية الأساسية، وأبرزُها تلك المرتبطة باللامساواة الاجتماعية. ولذلك، فإن ممارسيها، في أفضل الأحوال، بعيدون عن السياسة في النهج الذي يتبعونه في أعمالهم؛ وفي أسوأ الأحوال، يدعمون ببساطة الوضعَ الراهن، مما يسمح للظلم الاجتماعي واللامساواة الاجتماعية بالاستمرار دون اعتراض. في المقابل، يدافع علم دراسة الجريمة وحركةُ المنع الظرفي للجريمة ردًّا على هذه الانتقادات بأنها حركة صارمة، وعملية، وفعَّالة. عِلاوةً على ذلك، فهي ليست فريسةً «لعلم اجتماع المُستضعفِين»؛ أي الانحياز غير النقدي للجاني في مواجهة نظام اجتماعي ظالم وقَمْعي.

لا شك أن هناك عددًا من الملاحظات المحتمَلة التي يمكن استخلاصها من هذا. وأودُّ أن أسلِّطَ الضوء على اثنتَين منها فقط. الملاحظة الأولى هي أن ممارسةَ علم الجريمة — بغضِّ النظر عن مدى طريقة فَهْم هذا المصطلح — تثير حتمًا أسئلةً عن السياسة والأخلاق. إن نشاط علم الجريمة يُعتبر سياسيًّا لا محالة، بدءًا من موضوع الدراسة، مرورًا بالنهج المُتَّبع في البحث، وصولًا إلى أهداف ذلك البحث (الصريحة أو الضمنية). ولا يَقتصر الأمر على أن الجريمة، التي تُعتبر محورَ تركيز علم الجريمة، ظاهرةٌ سياسية، غالبًا ما يناضل من أجلها السياسيون لتحقيق مكاسبَ انتخابية، ولكن الخيارات المُتضمنة في كيفية «ممارسة» علم الجريمة تعكس بالضرورة قِيمًا اجتماعية مُعيَّنة. تتمثَّل الملاحظة الجلية الثانية في أن علم الجريمة — كما هو الحال في جميع الاستقصاءات الأكاديمية أو العلمية — يسير في سياق ظروف تاريخية وسياسية مُعيَّنة. إن تاريخ علم الجريمة نفسه يمكن، بل لا بد، أن يُفهَم جزئيًّا من منظور سياسي. فظهوره في توقيتٍ مُعيَّن، وبالطرُق التي ظهرَ بها، والاتجاه التطوُّري الذي اتخذه، يعكس طبيعةَ العصر. إن صعود حركة المنع الظرفي للجريمة والانحدار النسبي في تأثير مجموعة متنوِّعة من علوم الجريمة الاجتماعية عكسا جزئيًّا المناخَ السياسي المعاصر؛ إذ جاء ظهورهما في فترةٍ تزايدَ فيها التركيزُ في جميع مناحي الحياة على المسئولية والاختيار الفرديَّين، وتزايدَ أيضًا الإحباطُ من نظام الرعاية الاجتماعية وانتقاده. وبينما أكتب — في أعقاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب الرئيس ترامب، واستمرار الاضطرابات الاقتصادية — يبدو المناخ السياسي أكثرَ سخونة من أي وقتٍ مضى. ولا شكَّ أن العلوم الاجتماعية، بما فيها علم الجريمة، ستفكِّر مليًّا في هذا الأمر بطرُق مختلفة ومُعقَّدة.

لقد بدأتُ هذا الكتاب بالتنويه إلى الجوهر الإشكالي لعلم الجريمة؛ أيْ حقيقة أن جزءًا من الموضوع الذي يتناوله، وهو الجريمة، ليس مفهومًا بسيطًا مباشرًا كما قد يبدو للوهلة الأولى. وقد كانت إشكاليته بالدرجة التي دفعَت البعضَ إلى الدعوة إلى التركيز على شيءٍ مختلف تمامًا؛ كالتركيز مثلًا على «الضرر» بدلًا من الجريمة. وعلى الرغم من أنني لم أقتنع بعدُ بأن هذا سيحُلُّ المشكلة، فإنه يثير بلا شك قضايا مهمةً للغاية لعلم الجريمة، في الحاضر والمستقبل. وأهمُّ هذه القضايا بلا شك إخفاقُ علم الجريمة المستمر في إيلاء جرائم أصحاب النفوذ الاهتمامَ الكافي.

يمكن رؤيةُ هذا الإخفاق بعدة طرُق. ولعلَّه يتضح في أبسطِ أشكاله في انشغالِ علم الجريمة المتواصل بالجرائم العادية التي تملأ محاكمَ معظم المجتمعات المتقدِّمة وسجونها بالتبعية، وقلةِ تركيزه على الجرائم — حيثما يتم تعريفُها على أنها جرائم — أو الأضرار التي يتسبَّب فيها الأثرياء وأصحاب النفوذ. ويمثِّل ما أشار إليه خبراءُ علم الجريمة تقليديًّا بجرائم «الموظفين الإداريين» و«الشركات» نسبةً ضئيلةً من اهتمام علم الجريمة. وهذا يعكس نزوعَ علم الجريمة بسهولة شديدة لقبول «الجريمة» كما تُعرِّفها الدولة، بدلًا من التفكير على نطاقٍ أوسَعَ في موضوعها، بما في ذلك «الجرائم» التي ترتكبها الدولة. وبالتأكيد يرى النقادُ أن معظم مجالات علم الجريمة المعاصر لا تُحقق تحقيقًا كافيًا في الوضع الراهن.

ومن ثَم، يمكن القول: إن علم الجريمة لا يزال يُولي اهتمامًا نقديًّا غيرَ كافٍ لعواقب الليبرالية الجديدة. وقد ذهب روبرت راينر، أحدُ أكثر النقاد دأبًا وتأمُّلًا في هذا الصدد، إلى أنه بالرغم من أهمية الشواغل التقليدية لعلم الجريمة بلا شك، فإن «الجرائم المالية هي الغالبة على عصرنا الحالي». ولكن كم عددُ المِنَح الدراسية لعلم الجريمة، على سبيل المثال، التي ركَّزَت على الأزمة المالية العالَمية التي بدأت بمشاكلَ في نظام الرهن العقاري الثانوي في الولايات المتحدة منذ أواخر عام ٢٠٠٧ وانهيار بنك «ليمان براذرز» في سبتمبر ٢٠٠٨؟ مرَّة أخرى، الإجابة عددٌ قليل نسبيًّا، وهذا يعكس الاهتمامَ الذي كان محدودًا إلى حدٍّ ما، حتى وقتٍ قريب، لعلم الجريمة المعاصر بالاقتصاد السياسي. فلحُسن الحظ، هناك دلالات واضحة على أن هذا قد بدأ يتغيَّر، لا سيَّما فيما يتعلَّق بالدراسة المقارنة للعِقاب. ويمكن للمرء أن يأمُل في أن يشهد المستقبلُ القريب لعلم الجريمة ازدهارًا في الأعمال التي تُعيد التعامل مع قضايا الاقتصاد السياسي، وأن يركِّز على سوء سلوك أصحاب النفوذ بقَدْر تركيزه على جرائم الضعفاء ومخالفاتهم.

إن علمَ الجريمة الذي يفعل ذلك سيحتاج أيضًا إلى إيلاء عدم المساواة العالَمية مزيدًا من الاهتمام. فقد سيطر على علم الجريمة، على مدارِ معظم تاريخه، أعمالُ العالَم الناطق باللغة الإنجليزية، ولم يكُن هذا الكتاب استثناءً للرؤية الأنجلو أمريكية الشمالية إلى حدٍّ كبير لاهتمامات علم الجريمة، رغم أنه يفترض أنه قد صار واضحًا الآن أن هذه الأعمال ليست متشابهة. ففي السنوات الأخيرة، بدأت مجموعةٌ متزايدة من الباحثين في تطوير منظور «جنوبي»، يسعى إلى توسيع نطاق رؤية علم الجريمة أو، كما يُقال، «إنهاء الاستعمار وإضفاء الطابع الديمقراطي عليه». ويذهبون إلى أن التركيز الشمالي التقليدي لعلم الجريمة كان يميل إلى إهمال ظواهر مثل تأثير الاستعمار، والأحداث التاريخية التي غالبًا ما تكون شديدةَ الاختلاف، وممارسات الشُّرطة لضبط الأمن والعِقاب وتسوية النزاعات التي توجد في الثقافات الأخرى، ممَّا يستوجب بالتبعية إعادةَ توجيه اهتمامات علم الجريمة.

إن اهتمامات علم الجريمة ضخمةٌ بالفعل. فهي تشمل مسائلَ تتعلَّق بعلم الاجتماع وعلم النفس والقانون والعلوم السياسية والاقتصاد والتاريخ وعلم الأحياء، على سبيل المثال لا الحصر. وتتراوح تساؤلاته الأساسية ما بين التساؤلات الفلسفية العميقة إلى التساؤلات العملية بوجه عام. وتُستمَد أساليبه من كلٍّ من العلوم الاجتماعية والفيزيائية. وفي جوهره، يظلُّ تركيز علم الجريمة على أشكال السلوك البشري التي نتعامل معها باعتبارها إجراميةً أو منحرفة، أو التي تُسفِر عن تلك الأضرار التي تستدعي التدخُّل. ولكنَّ الطبيعةَ السريعةَ التغيُّر للعالَم الذي نعيش فيه تشكِّل تحدياتٍ هائلة لخبراء علم الجريمة. فالعولمة، وطبيعة القوة الاقتصاديةِ المتزايدةِ التعقيدِ والعابرة للحدود، والتنقُّل المتنامي للأشخاص عَبْر الحدود طوعًا وقسرًا، وانتشار تأثير الإنترنت ونفوذه، وتقنيات الاتصال الجديدة، والمخاطر الشديدة التي يشكِّلها التغيُّر البيئي، كلها عوامل تثير تساؤلات ضخمة لعلم الجريمة. وهي تساؤلات لا يمكننا تجاهلها. والارتقاء إلى مستوى هذه التحديات يضمن مستقبلًا مثيرًا لعلم الجريمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤