الفصل الأول

بِنية الأساطير

أهمية «الأسطورة الحية»

منذ أكثر من نصف قرن، أسس العلماء الغربيون لدراسة الأسطورة في منظور يختلف اختلافًا بيِّنًا عن منظور القرن التاسع عشر، مثلًا. فبدلًا من أن يتعاملوا مع الأسطورة، كما فعل مَن سبقهم من العلماء، بالمفهوم العادي للكلمة؛ أي بمعنى «حدُّوتة» أو «تلفيق» أو «تخيُّل»، فهموها مثلما كانت مفهومةً في المجتمعات القديمة، حين كانت الأسطورة، على العكس، تدل على «تاريخ حقيقي»، بالإضافة إلى أنها كانت نموذجًا يُحتذى، وقصة حافلة بالمعنى، يُنظر إليها بأعلى درجات الاعتبار لما تتصف به من قُدسية. لكن هذه القيمة الدلالية الجديدة التي مُنِحتها كلمة «الأسطورة mythe» تجعل من استعمالها في اللغة الدارجة أمرًا يبعث على شيء من الالتباس؛ لأن هذه الكلمة تُستعمل اليوم بمعنى «التخيُّل fiction» أو «الوهم illusion» كما تُستعمل بالمعنى المتعارف عليه خصوصًا عند علماء الإثنولوجيا١ والاجتماع وتاريخ الأديان؛ أي بمعنى «المأثور المقدَّس، الوحي الأولي، النموذج المثالي.»

سوف نلحُّ فيما بعدُ على تاريخ المعاني المختلفة التي اكتساها مصطلح «الأسطورة» في العالم القديم ثم في العالم المسيحي (الفصلان الثامن والتاسع من هذا الكتاب) كلُّنا يعلم أنه منذ إكسينوفان — وهو أول مَن نقد العبارات «الميتولوجية» التي استخدمها هوميروس وهزيود في وصف الآلهة — قام الإغريق بإفراغ «الميثوس» تدريجيًّا من كل قيمة ميتافيزيقية أو دينية. فبعد أن وضعوا الميثوس (= الأسطورة) في تضاد مع اللوغوس (= الكلمة، العقل)، ثم مع «ستوريا» (= التاريخ)، انتهت الميثوس إلى الدلالة على «كل ما ليس له وجود حقيقي». ثم عمدت اليهودية-المسيحية، من جهتها، إلى رمي كل ما ليس له سند من الكتاب المقدَّس، في عهديه القديم والجديد، في سلَّة «الأكاذيب».

على أننا لا نريد أن نفهم «الأسطورة» بهذا المعنى (رغم أنه الأكثر استعمالًا في اللغة الدارجة)؛ فالذي يهمنا ههنا ليس تلك المرحلة العقلية، أو اللحظة التاريخية، التي أصبحت فيها الأسطورة ضربًا من «الخيال»، بل الذي يهمنا في المكان الأول هو المجتمعات التي تكون — أو كانت حتى عهد قريب — الأسطورة فيها «حية»، بمعنى أنها تُتيح نماذج للسلوك البشري، وتُضفي على الوجود قيمة ومعنى. إن فهمًا لبِنية ووظيفة الأساطير في المجتمعات التقليدية المعنية لا يقتصر على توضيح مرحلة في تاريخ الفكر البشري، بل هو أيضًا فهم أفضل لفئة من معاصرينا.

حسبنا مثال واحد، وأعني به مثال «عبادات الحمولة cargo cult» التي نجدها في أوقيانوسيا. قد يصعب علينا تفسير جملة من الحركات الغريبة بدون الاستعانة، بمسوغاتها الميطيقية. فهذه العبادات التنبؤية والألفية (= انتهاء العالم وبدايته ثانية في كل ألف سنة) تعلن اقتراب مَقدم عهد خرافي من الثراء والغبطة. فيه سوف يستعيد الأهالي الأصليون السيادة على جزرهم، لن يكدحوا ولن يشتغلوا أبدًا؛ لأن الأموات سوف يعودون على متن سفينتهم الضخمة مُحمَّلة بالبضائع، شبيهة بالحمولات الهائلة التي يستقبلها البِيض في مرافئهم. ولعل هذا يفسر لماذا تتطلب هذه الأديان القضاء على الحيوانات الأهلية وعلى آلات الحراثة وغيرها من جهة، وعلى بناء المخازن الواسعة لكي تُودَع فيها المؤن التي سوف يأتي بها الموتى من جهة ثانية. عبادة أخرى من هذا القبيل تتنبأ بمَقدِم المسيح على قارب محمَّل بالبضائع، وأخرى تنتظر مَقدِم «الأميركي». عهد فردوسي جديد سوف يبدأ، وأتباع هذه الديانة سوف يُخلَّدون. وعبادات أخرى تنطوي على الإتيان بالفواحش؛ لأن المحرمات والممنوعات تفقد سبب وجودها، وتفسح المجال للحرية المطلقة. إن جميع هذه الأفعال والاعتقادات نجد تفسيرها في «أسطورة خراب العالم يعقبه خلق جديد وابتداء عصر ذهبي»، وهي أسطورة سوف نتوقف عندها فيما بعد.

في عام ١٩٦٠م وقعت في الكونغو أحداث مشابهة بمناسبة استقلال البلاد. في إحدى القرى، رفع الأهلون سقوف الأكواخ لكي يُتيحوا لأسلافهم أن يمطروهم بقطع النقود الذهبية. وفي قرية أخرى، لم يتركوا غير الطرق المؤدية إلى المقبرة لكي يسمحوا لأسلافهم بالوصول إلى القرية. حتى إسرافات الدعارة كان لها معنًى ما دامت كل النسوة، على ما تقول الأسطورة، سوف يصبحن مِلكًا لكل الرجال في يوم «العهد الجديد».

من المحتمل جدًّا أن تصبح حوادث من هذا النوع نادرة الوقوع مع مرور الأيام. وقد نذهب إلى أن هذا «المسلك الميطيقي» سوف ينقرض عقب الاستقلال السياسي الذي تناله المستعمرات القديمة. لكن ما سوف يحدث في المستقبل البعيد نوعًا لن يساعدنا على فهم ما قد حدث توًّا. ما يهمنا قبل كل شيء إدراك معنى هذا المسلك الغريب، وفهم سبب هذه الإسرافات ومبرراتها. ذلك أن فهمها معناه الاعتراف بها بوصفها وقائع بشرية، وقائع ثقافية، خلقًا خلقته الروح، لا انفجارًا باثولوجيًّا (= مَرضيًّا) ندَّ عن الغرائز أو البهيمية أو الصبيانية. ما من خيار آخر. إما أن نعمل على إنكار هذه الإسرافات والانتقاص منها أو نسيانها باعتبارها حالات استثنائية من «الوحشية»، سوف تنقرض تمامًا عندما «تنحصر القبائل». وإما أن نكلف أنفسنا عناء فهم السوابق الميطيقية التي تُفسر وتُبرر إسرافات من هذا النوع وتُضفي عليها قيمة دينية. هذا الموقف الأخير هو، في رأينا، الوحيد الذي يستحق الأخذ به. وليس كالمنظور التاريخي-الديني ما يتيح لمثل هذه الأوجه من السلوك أن تسفر عن نفسها بوصفها وقائع ثقافية، وأن تفقد صفتها المضلة أو الرهيبة؛ صفة لعب الصبيان أو صفة فعل غريزي صِرف.

الاهتمام ﺑ «الأساطير البدائية»

الأساطير موجودة في جميع الأديان المتوسطية والآسيوية العظمى، لكن من الأفضل ألا نباشر درس الأسطورة انطلاقًا من الميثولوجيا الإغريقية أو المصرية أو الهندية، ذلك أن أكثرية الأساطير الإغريقية قد قام هزيود وهوميروس والمنشدون ونُسَّاخ الأساطير بروايتها و — بالتالي — تعديلها وتفصيلها وتبويبها. أما المأثورات الميثولوجية في الشرق الأدنى والهند فقد جرى تفسيرها مرارًا وتكرارًا وبذلَ أهل اللاهوت وخدَّام الطقوس عناية فائقة في صوغها صياغة بلغت حدَّ الكمال. إلا أن هذا لا يعني أن الأساطير العظمى قد فقدت «حقيقتها الميطيقية» ولم تَعُد سوى «أدب» من الآداب أو أن المأثورات الميطيقية في المجتمعات التقليدية قد حافظت على طابعها الأصلي، لم يُحرِّفها الكهان ولا الشعراء؛ فالميثولوجيات «البدائية»، شأنها في هذا كشأن الميثولوجيات العظمى التي آلت إلى النقل بواسطة الكتابة (هذه الميثولوجيات «البدائية» التي عرفها الرحالون والمبعوثون الأوائل في المرحلة الشفوية) هي ميثولوجيات ذات «تاريخ»؛ بعبارة أخرى، لقد دخلها التغيير والتحوير وازدادت غِنًى على مرِّ العصور، تحت تأثير ثقافات أخرى عالية، أو بفضل عبقريات خلاقة توفرت لأفراد معينين يتمتعون بمواهبَ استثنائية.

ومع ذلك، يُفضَّل مباشرة درس الأسطورة في المجتمعات القديمة والتقليدية، على أن نتولى فيما بعد درس ميثولوجيات الأقوام التي لعبت دورًا هامًّا في التاريخ. ذلك لأن أساطير «البدائيين» ما زالت تعكس حالة بدئية، على الرغم من تعرض هذه الأساطير للتغيير والتحوير على مرِّ الزمان. زِد على ذلك أن هذه الأساطير تتعلق بمجتمعات ما برحت الأساطير فيها حية، تؤسس لكل سلوك وكل نشاط يقوم به الإنسان وتجد له المبررات. إن دور ووظيفة الأسطورة يمكن أن يلاحظهما ويصفهما (أو إن كان ذلك ممكنًا حتى عهد قريب) عالم الإثنولوجيا وصفًا دقيقًا. بمناسبة كل أسطورة وكل طقس من أساطير وطقوس المجتمعات التقليدية، أمكننا أن نسأل الأهلين عن المعاني التي يمنحونها لأساطيرهم وطقوسهم، وأن نتعلم منهم جزئيًّا على الأقل. طبعًا، هذه «الوثائق الحية» المسجلة في سياق التحقيقات التي أُجريت على الأرض لا تحل لنا جميع المصاعب التي تواجهنا، لكن لها ميزة عظيمة إذ تُعيننا على طرح المشكلة بطريقة صحيحة، أي على وضع الأسطورة في سياقها الاجتماعي–الديني الأصلي.

محاولة تعريف الأسطورة

لعلَّ من الصعب إيجاد تعريف للأسطورة يَقبله جميع العلماء ويكون في نفس الوقت في متناول غير أصحاب الاختصاص. ولعلنا نتساءل من ناحية أخرى، هل يمكن إيجاد تعريف «واحد» شامل لجميع نماذج الأساطير وجميع وظائفها، في جميع المجتمعات القديمة والتقليدية؟ الأسطورة واقعة ثقافية بالغة التعقيد، يمكننا أن نباشرها ونفسرها في منظورات متعددة، يُكمل بعضها بعضًا.

شخصيًّا، التعريف الذي يبدو لي أقل التعريفات نقصًا، لأنه أوسعها، هو التعريف التالي: الأسطورة تروي تاريخًا مقدسًا؛ تروي حدثًا جرى في الزمن البدئي، الزمن الخيالي، هو زمن «البدايات». بعبارة أخرى، تحكي لنا الأسطورة كيف جاءت حقيقةٌ ما إلى الوجود، بفضل مآثر اجترحتها الكائنات العليا، لا فرق بين أن تكون هذه الحقيقة كليَّة كالكون cosmos مثلًا، أو جزئية كأن تكون جزيرة أو نوعًا من نبات أو مَسلكًا يسلكه الإنسان أو مؤسسة. إذَن، هي دائمًا سردٌ لحكاية «خلق»: تحكي لنا كيف كان إنتاج شيء، كيف بدأ وجوده. لا تتحدث الأسطورة إلا عما قد حدث فعلًا، عما قد ظهر في كل امتلائه. أما أشخاص الأساطير ﻓ «كائنات عليا». نعرفهم بما قد صنعوه في الأزمنة القوية، ذات التأثير الفعال، وهي أزمنة «البدايات». فالأساطير تكشف، إذَن، عن الفعالية المبدعة لهذه الكائنات العليا، وتميط اللثام عن قدسية أعمالهم (أو عن مجرد كونها أعمالًا «خارقة»). باختصار، تصف الأساطير مختلف أوجه تفجر القدسي (أو «الخارق») في العالم. وليس كهذا التفجر للقدسي ما «يؤسس» للعالم حقًّا ويجعله على ما هو عليه اليوم.

أكثر من ذلك، عقب تدخُّل الكائنات العليا، صار الإنسان إلى ما صار إليه اليوم، كائنًا فانيًا، ذكرًا وأنثى، كائنًا ثقافيًّا.

سوف نعمد فيما بعدُ إلى تكملة هذه الإشارات القليلة الأولية وإلى تلوينها. لكن الذي علينا أن نُبيِّنه بدون تلكؤ هو واقعة تبدو لنا أساسيةً: تعتبر الأسطورة تاريخًا مقدسًا، وبالتالي «تاريخًا حقيقيًّا»؛ لأنها ترجع دائمًا إلى «حقائق». فالأسطورة الكوسموغونية (التي تتحدث عن نشأة الكون) أسطورة «حقيقية»، يبرهن عليها وجود العالم. وأسطورة أصل الموت، هي أيضًا، أسطورة حقيقية، موت الإنسان برهان عليها. وهكذا دواليك.

وبما أن الأسطورة تحكي لنا بوادر الكائنات العليا وتُجلِّي قدرتهم، تصبح عندئذٍ النموذج المثالي لجميع أوجه النشاط البشري المحمَّل بالمعنى. عندما سأل المبعوث الإثنولوجي، إستريلوف، الأوستراليين من الأرونطا عن أسباب قيامهم باحتفالات معينة أجابوه بصوت واحد: «لأن الأسلاف أمروا بذلك». أما «كاي» غينيا الجديدة، فكانوا يرفضون أن يُعدِّلوا من طريقة معيشتهم ويشتغلون، معللين ذلك بقولهم: «هكذا فعل أسلافنا ونحن نفعل مثلما فعلوا.» ولما سُئل المنشد من «الناواهو» عن أسباب أحد تفاصيل الاحتفال، أجاب: «لأن القديسين فعلوا ذلك على هذا النحو في أول مرة.» وإننا لنجد نفس التبرير في الصلاة التي تُصاحب طقسًا بدائيًّا معمولًا به في التيبت: «كما انتقل إلينا منذ بدء خلق الأرض، كذلك يجب علينا أن نُضحِّي … كما فعل أسلافنا في الأزمنة القديمة، كذلك نحن نفعل اليوم.» لقد كان هذا أيضًا هو التبرير الذي ساقه أهل اللاهوت وخُدَّام الطقوس من الهندوس: «يجب أن نفعل ما فعلته الآلهة في البدء.» «هكذا فعل الآلهة، هكذا يفعل الناس.»٢
كما بيَّنا في مكان آخر،٣ حتى أوجه السلوك ومختلف الفعاليات الدنيوية التي يقوم بها الإنسان تجد نماذج لها في بوادر الكائنات العليا. عند «الناواهو» يلتزم النساء الجلوس وسيقانهن تحتهن في وضع منحرف أو جانبي. أما الرجال فيلتزمون الجلوس في وضع تكون فيه سيقانهم متصالبة أمامهم؛ لأنه يقال أن المرأة المتغيرة الطباع وقاتل الهُولات قد اتخذا هذا الوضع عند الجلوس. وتتناقل إحدى قبائل أوستراليا. وهم الكراجيري، مأثورًا ميطيقيًّا مفاده أن كائنَين عُلويَّين قد وضعا في زمن الحلم الأساس لجميع عاداتهم وجميع أوجه السلوك (مثلًا، طريقة طهي الحبوب أو صيد حيوان بالعصا، الوضع الخاص الذي يجب اتخاذه عند التبول).

لا جدوى من إيراد أمثلة أكثر مما ذكرنا. كما بيَّنا في «أسطورة العود الأبدي»، وكما سوف نرى ذلك بصورة أفضل فيما يلي، أن الوظيفة الرئيسية للأسطورة هي الكشف عن نماذجَ مثالية لجميع الطقوس وجميع أوجه النشاط البشري المحملة بالمعنى، كالغذاء والزواج والعمل والتعليم والفن والحكمة. هذا المفهوم ليس قليل الأهمية من أجل فهم إنسان المجتمعات التقليدية. ولسوف نتوقَّف عنده فيما بعد.

«القصة الحقيقية» – «القصة الزائفة»

نُضيف أنه في المجتمعات التي لا تزال الأسطورة حيَّةً فيها، يميز الأهلون تمييزًا تامًّا الأساطير (القصص الحقيقية) من الحدوتات والحكايات التي يُسمونها «قصصًا زائفةً».

يميز «البوني Pawnee» بين «القصص الحقيقية» و«القصص الزائفة»، ويضعون في مرتبة «الحقيقية» جميع القصص التي تتناول أصول العالم، وهي قصصٌ أشخاصها كائنات إلهية، فائقة، سماوية أو نجمية. يأتي بعد ذلك في المرتبة مباشرةً الحكايات التي تروي المغامرات العجيبة التي قام بها البطل القومي، وهو فتًى متواضع النشأة، ما يلبث أن يصبح مخلِّصًا لشعبه، ينقذه من الهُولة monstre، وينشله من الجوع والفقر أو غير ذلك من الجوائح، ويجترح مآثر أخرى تتصف بالنبالة والكرم. ثم تأتي القصص التي تتعلق بالسحر وكيف اكتسب هذا الساحر أو ذاك قواه الخارقة، وكيف نشأت هذه الجمعية الشامانية٤ أو تلك. أما القصص «الزائفة» فهي التي تروي المغامرات والأعمال الأخرى التي قام بها «القويوط»، وهو ذئب البراري. باختصار، في القصص «الحقيقية» تكون علاقتنا بالمقدس وبما يفوق الأشياء الطبيعية. أما في «الزائفة» فبمضمون دنيوي؛ لأن «القويوط» شعبيٌّ جدًّا في هذه الميثولوجيا مثلما هو في مثولوجيات أميركا الشمالية الأخرى؛ حيث يظهر في هيئة مُحتال وغشَّاش ونصاب وختَّال.
كذلك يميز «التشيروكي» بين الأساطير المقدسة «نشأة الكون، خلق النجوم، أصل الموت» والقصص الدنيوية التي تفسر، مثلًا، غرائب تشريحية أو فيزيولوجية معينة لدى الحيوانات. كذلك نجد نفس التمييز في أفريقيا؛ فالهيريرو Héréro يرون أن القصص التي تروي بدايات مختلف بطون القبيلة قصصٌ حقيقية؛ لأنها تحكي وقائع حدثت فعلًا، على حين أن الحكايات التي تتصف بشيء من الهزلية لا أساس لها من الصحة. أما في توغو Togo فالأهلون يعتبرون أساطير الأصول «صحيحة بإطلاق».

إن هذا هو السبب الذي من أجله تُحظر رواية الأساطير كيفما اتفق؛ فعند كثير من القبائل، لا تُتلى الأساطير أمام النساء أو الأطفال، أي أمام غير المستلمين. عمومًا، يقوم الشيوخ بنقل الأساطير إلى المريدين، في أثناء خلوتهم في الغابة، وهذا جزءٌ من إعدادهم لاستلام الأسرار. ويُبيِّن بدنغتون، فيما يتعلق بالكاراجيري، أن الأساطير المقدسة التي لا يجوز أن يعرفها النساء لهي الأساطير التي تتعلق بصفة رئيسية بنشوء الكون، ولا سيما مؤسسة احتفالات استلام الأسرار.

بينما يجوز رواية «القصص الزائفة» في كل زمان ومكان، لا يجوز أن تُتلى الأساطير إلا «في زمان مقدس» (عمومًا، في الخريف أو الشتاء، وفي الليل فقط)، كما أشار إلى ذلك بتاكسوني. وقد ظل يحتفظ بهذه العادة أقوامٌ تخطَّوا المرحلة القديمة من الثقافة. فعند التركو-منغول وأهل التيبت، لا تصح تلاوة الأناشيد الملحمية من دورة «جيسور» إلا ليلًا وفي الشتاء؛ لأن التلاوة أشبه بسحر فعَّال، تساعد على اكتساب مزايا من كل نوع، ولا سيما التوفيق في القنص والظفر في الحرب … قبل التلاوة تُعَد باحة يُذرُّ فيها دقيق شعير محمص، يجلس حولها المستمعون، ثم يقوم الشاعر بتلاوة الملحمة التي تدوم بضعة أيام. وقد قيل إنه في أثناء تلاوة هذه الملحمة شوهد على الباحة آثار حوافر حصان «جيسار». وعلى هذا، أن التلاوة تستثير البطل على الحضور الفعلي.

ما تكشف عنه الأسطورة

التمييز الذي يعتمده الأهلون بين القصة الصحيحة والقصة الزائفة على جانب كبير من الأهمية. فكلا النوعين من الرواية يحكي «قصة»؛ أي يروي سلسلة من الحوادث جرت في ماض بعيد. لكن على الرغم من أن أشخاص الأساطير هم بعامة آلهة وكائنات عليا، وأشخاص «الحواديت» أبطال أو حيوانات عجيبة، إلا أن هؤلاء الأشخاص جميعًا يجمعهم عنصر مشترك ألا وهو أنهم لا ينتسبون إلى عالم كل يوم. ومع ذلك فقد أحس الأهلون أنهم حيال «قصص» مختلفة جذريًّا. ذلك أن كل ما ترويه الأساطير إنما يعنيهم مباشرة، على حين أن «الحواديت» contes والخرافات ترجع إلى حوادث، حتى حين أحدثت تغييرات في العالم (كالخصائص التشريحية أو الفيزيولوجية لدى حيوانات معينة)، لم تغير شيئًا في الشرط البشري، بما هو كذلك.٥

في الحقيقة، لا تحكي لنا الأساطير أصل العالم والحيوان والنبات والإنسان وحسب، وإنما تحكي لنا أيضًا جميع الحوادث البدئية التي على أثرها أصبح الإنسان على ما هو عليه اليوم، أي كائنًا فانيًا، ذكرًا وأنثى، عضوًا في جماعة، مجبورًا على العمل لكي يعيش، ويعمل وفق قواعد معينة. ولئن كان العالم موجودًا، وكان الإنسان موجودًا؛ فلِأن الكائنات العليا أبدت عن فعالية مبدعة في «البدايات». لكن حوادث أخرى حدثت بعد خَلق العالم والإنسان، والإنسان مثلما هو عليه اليوم هو النتيجة المباشرة لهذه الحوادث الميطيقية؛ لقد كوَّنته هذه الحوادث. الإنسان فانٍ؛ لأن شيئًا قد حدث في ذلك الزمان. فلو أن هذا الشيء لم يحدث، لما كان الإنسان فانيًا، ولأمكنه أن يوجد أبدًا كالحجارة، أو أن يُبدِّل جلده دوريًّا كالأفعى، وبالتالي أن يجدد حياته، وأن يرجع عودُه على بدئه. وأسطورة نشأة الموت تروي ما قد حدث في ذلك الزمان، وفيما هي تروي ما قد حدث تفسِّر لماذا أصبح الإنسان فانيًا.

كذلك، إن كانت قبيلة معينة تعيش على صيد السمك، فما ذلك إلا لأن كائنًا أعلى، كائنًا فائقًا، قام في الأزمنة الميطيقية بتعليم أسلافهم كيف يصيدون السمك ويشوُونه. والأسطورة تروي قصة الصيدة الأولى التي صادها ذلك الكائن الفائق، وهي بهذا تكشف لنا عن فعل قام به كائن فائق علَّم الناس كيف يقومون بدورهم، ثم تُفسر لنا لماذا يجب على هذه القبيلة أن تأكل السمك على هذا النحو.

ولعلنا نستطيع أن نورد من هذه الأمثلة الشيء الكثير. لكن الأمثلة المتقدمة كافية لأن تُبين لنا لماذا كانت الأسطورة على هذه الدرجة من الأهمية في نظر الإنسان القديم، على حين لم تكن الحكايات والحواديت في مثل أهمية الأسطورة. فهذه الأخيرة تعلِّمه «القصص» البدئية التي كوَّنته وجوديًّا، وكوَّنت كل ما له علاقة بوجوده وطراز وجوده الخاص في الكون الذي يخصه مباشرة.

ولسوف نرى بعد قليل الآثار التي رتَّبها هذا المفهوم على سلوك الإنسان القديم. لنلاحظ أن الإنسان القديم، وشأنه في هذا كشأن الإنسان الحديث الذي يعتقد أن التاريخ قد كوَّنه، يعلن أنه نتيجة عدد معين من الحوادث الميطيقية. إن أيًّا منهما لا يعتبر نفسه «معطًى»، صُنع مرة واحدة إلى الأبد، كما تصنع آلة على نحوٍ نهائي. ولعل إنسانًا حديثًا يفكر على النحو التالي: إنني أنا كما أنا اليوم لأن عددًا معينًا من الحوادث حدثت لي. لكن هذه الحوادث ما كانت لتحدث لولا اكتشاف الزراعة قبل ٨٠٠٠–٩٠٠٠ عام، ونمو الحضارات البلدانية في الشرق الأدنى القديم، وفتح الإسكندر الكبير لآسيا، وتأسيس أوغست للإمبراطورية الرومانية، وتنوير غاليلي ونيوتن لمفهوم الكون، فهما اللذان مهَّدا الطريق أمام الكشوفات العلمية، وأعدَّا لنهضة الحضارة الصناعية، وقيام الثورة الفرنسية، وانتشار أفكار الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي «خربطت» العالم الغربي بعد الحروب النابوليونية، وهلُمَّ جرًّا.

ولعل البدائي يقول عن نفسه: «إنني أنا كما أنا لأن سلسلة من الحوادث قد حدثت قبلي.» فقط، يجب أن أضيف على الفور: حوادث حدثت «في الزمان الميطيقي» وهي التي تكوِّن «تاريخًا مقدسًا»؛ لأن أشخاص الدرامة ليسوا من البشر، بل كائنات عليا، كائنات فائقة. أكثر من هذا، بينما لا يشعر الإنسان الحديث، في الوقت الذي يعتبر نفسه فيه نتاجًا لمسار التاريخ العالمي، أنه ملزمٌ بأن يعرف هذا التاريخ في كليته، يشعر إنسان المجتمعات القديمة أنه ملزمٌ لا بتذكر التاريخ الميطيقي لقبيلته وحسب، وإنما بتحيين قسم كبير منه دوريًّا. هنا ندرك أهم فرق بين إنسان المجتمعات القديمة والإنسان الحديث، ألا وهو عدم قابلية الحوادث للارتداد، وهو ما يشكل العلامة المميزة للتاريخ في نظر هذا الأخير، إلا أنه ليس بالأمر البديهي في نظر الإنسان القديم.

فتح الأتراك مدينة القسطنطينية في عام ١٤٥٣م، وسقط الباستيل في ١٤ تموز من عام ١٧٨٩م، إن هذين حدثان لا يقبلان الارتداد. لا شك أن ١٤ تموز إذ أصبح عيدًا قوميًّا للجمهورية الفرنسية، صار يُحتفل سنويًّا بذكرى الاستيلاء على الباستيل، إلا أن الحدث التاريخي لا يتحين بالمعنى المخصوص للكلمة. أما إنسان المجتمعات القديمة فيعتقد أن ما حدث في الأصل قابل لأن يتكرر بقوة الطقوس. الأساسي في نظره إذَن هو أن يعرف الأساطير. لا لأن الأساطير تُتيح له تفسيرًا للعالم ولأسلوب وجوده الخاص فيه وحسب، وإنما لأنها تتيح له؛ إذ يتذكرها ويُحينها، قدرة على تكرار ما فعلته الآلهة أو الأبطال أو الأسلاف في الأصل. إن معرفة الأساطير تعني تعلُّم سر أصل الأشياء. بعبارة أخرى، لا يتعلم المرء كيف جاءت الأشياء إلى الوجود وحسب، وإنما أين يجدها وكيف يجعلها تعود إلى الظهور عندما تختفي.

ما معنى «معرفة الأساطير»

تتكون الأساطير الطوطمية الأوسترالية، في أغلب الأحيان، من رواية روتينية نوعًا ما للحجَّات التي قام بها الأسلاف الميطيقيون أو الحيوانات الطوطمية. يروون كيف ظهرت، في «زمن الحلم»، هذه الكائنات العليا على الأرض، وقامت برحلاتها الطويلة، متوقفةً أحيانًا لكي تُغير أو تُبدل في المشاهد الطبيعية، أو تخلق حيوانات أو نباتات معينة، ثم اختفت تحت الأرض. لكن معرفة هذه الأساطير شيء جوهري في حياة الأوستراليين؛ تُعلِّمهم كيف يكررون بوادر الخلق التي ابتدرتها الكائنات العليا، وتبعًا لذلك كيف يضمنون تكاثر هذا الحيوان أو هذا النبات.

يُلقَّن المريد هذه الأساطير في أثناء استلام السر. أو بالأحرى، «يُحتفل» بها، أي «تُحين». «عندما يمر الفتيان بمختلف احتفالات الاستلام (أو المُسارَّة)، تجري أمامهم سلسلة من الاحتفالات التي، فيما تتخذ هيئة احتفالات عبادية بالمعنى المخصوص للعبارة، لا ترمي مع ذلك إلى تكثير وتربية الطوطم الذي تتعلق به، بل إلى إظهار طريقة أداء هذه العبادات للذين سوف يبلغون، أو الذين بلغوا، مبلغ الرجال.»

هكذا نرى أن «القصة» التي تحكيها الأسطورة تتكوَّن من «معرفة» من طراز باطني، لا لأنها سرية ويجري تلقينها في أثناء المسارَّة وحسب وإنما لأن هذه «المعرفة» مصحوبة أيضًا بقوة سحرية-دينية. إن معرفة أصل شيء، حيوان أو نبات … إلخ. تساوي اكتساب قدرة سحرية عليه، بفضلها نستطيع أن نسيطر عليه، وأن نكثِّره، ونخلقه من جديد بالإرادة. يعتقد هنود «الكونا» Cuna أن الصياد السعيد الحظ هو مَن يعرف أصل الطريدة. وإذا اتفق أن تأهلت حيوانات معينة؛ فلِأن السحرة قد عرفوا سرَّ خلقها. كذلك يستطيع المرء أن يقبض على الجمر أو يمسك بثعبان سامٍّ، إذا كان يعرف أصل النار والثعابين. وفي إحدى قرى «الكونا»، وهي قرية تيانتيكي، فتًى عمره أربعة عشر عامًا، يدخل النار وحيدًا فلا يحترق؛ لأنه يعرف سر النار. وكثيرًا ما كان يُرى أشخاص يمسكون حديدًا أحمر وآخرون يروِّضون الثعابين. إن هذا اعتقاد واسع الانتشار ولا يختص بنموذج معين من الثقافة. ففي تيمور، مثلًا، عندما يُزرع حقلٌ للرز يأتي إلى الحقل شخص يعرف التقاليد الميطيقية المتعلقة بالرز. «يُمضي الليل كلَّه في الحقل قابعًا في كوخ، يتلو الأساطير التي تفسر كيف حدث امتلاك الرز (أسطورة أصل) … الذين يفعلون هذا ليسوا من الكهان.» بتلاوة أسطورة الأصل، يُجبر الرز على أن يطلع طلوعًا حسنًا، قويًّا، ممتلئًا، مثلما كان عندما ظهر لأول مرة. لا يُذكِّره بالطريقة التي خُلق بها بغية «تعليمه»، بل تعليمه كيف يجب أن يسلك. يجبره سحريًّا على العودة إلى الأصل، أي على تكرار خلقه النموذجي.

يروي «الكاليوالا» كيف جرح العجوز «فينا موانن» نفسه جرحًا بليغًا في أثناء انشغاله في صُنع قارب. عندئذٍ أخذ ينسج تعويذات على طريقة جميع المتطببين الذين يستخدمون السحر. تلا نشأة سبب جرحه، لكنه لم يستطع أن يتذكر الكلمات التي تحكي قصة بداية الحديد، وهي الكلمات التي يمكنها أن تشفي الفجوة التي فتحتها شفرة الفولاذ الزرقاء. ثم، بعد أن التمس العون من سحرة آخرين، صاح فيناموانن: «الآن تذكرت أصل الحديد!» وبدأ التلاوة التالية: «الهواء هو الأول في الأمهات. الماء (هي) بِكر الإخوة، والنار (هو) الثاني، والحديد أصغر الثلاثة سنًّا. إن «أوكو»، الخالق العظيم، فصَلَ الأرض عن الماء وأطلع الشمس في الأقاليم البحرية، لكن الحديد لم يكن قد وُلد بعد. هكذا ولدت الحوريات الثلاث اللائي أصبحن أمهات الحديد.» لنلاحظ، في هذا المثال، أن أسطورة أصل الحديد تُشكل جزءًا من أسطورة نشأة الكون، وهي نوع استطالة لهذه الأخيرة. تستوقفنا هنا ملاحظةٌ نوعيةٌ عن أساطير الأصول بالغة الأهمية، سوف نتولَّى درسها في الفصل التالي.

الفكرة التي تقوم على أن العلاج لا يؤتي مفعوله إلا إذا عُرف أصله فكرة واسعة الانتشار. نعود الآن إلى الاستشهاد بإرلاند نوردنسكيولد: «كل تلاوة سحرية يجب أن تتقدمها تعويذة تحكي أصل الدواء المستعمل، وإلا لا يفعل فعله … لكي يفعل العلاج فعله، يجب معرفة النبات، والطريقة التي زرعته بها المرة الأولى.» في الأناشيد الطقسية التي يُرتلها «الناخي» na-khi، التي نشرها ج. ف. روك، يقال صراحةً: «إذا لم يُروَ أصل الدواء، لا يصح أن يُستعمل.» أو: «إذا لم يُروَ أصله، لا يجوز الكلام عنه.»

سوف نرى في الفصل التالي، مثلما رأينا في أسطورة فينا موانن التي تقدَّم ذِكرها، أن أصل الأدوية وثيق الصلة برواية أصل العالم. نعود فنؤكد هنا أن الأمر يتعلق بمفهوم عام يمكننا أن نصوغه على النحو التالي: لا يمكن أداء الطقس إذا لم يُعرف «أصله»، أي الأسطورة التي تحكي كيف كان تأثيره في المرة الأولى. في أثناء الخدمة الجنائزية، يرتل الشامان من «الناخي» ما يلي:

«الآن نحن نصحب الموت ونعرف الحزن من جديد
نرقص من جديد ونصرع الشياطين أرضًا
إذا لم نعرف من أين جاء الرقص
يجب ألا نتكلم عنه
وإذا جهلنا أصل الرقص
لا يمكن أن نرقص.»

يذكِّرنا هذا على نحو غريب بما يعلنه الأويتوتو في بروس: «هو ذا كلام (أساطير) أبينا، كلامه بالذات. بفضل هذا الكلام نحن نرقص، وما كان ليوجد رقصٌ لو لم يعطنا كلامه.»

في معظم هذه الحالات، لا يكفي معرفة أسطورة الأصل، بل يجب تلاوتها، بذلك نعلن نوعًا ما علمنا بها، وتظهر للعيان. لكن هذا ليس كل شيء: حتى تُتلى أسطورة الأصل، أو يُحتفل بها، يُفسح المجال لكي يشيع الجو المقدس الذي جرت فيه هذه الحوادث العجيبة. فالزمن الميطيقي، زمن الأصول، زمن «قوي»، يتميز بالحضور الفعَّال والخلاَّق الذي قامت به الكائنات العليا. وبتلاوة الأساطير يُصار إلى استعادة هذا الزمن الأسطوري، وتبعًا لذلك يصبح المرء «معاصرًا» للحوادث التي جرت في ذلك الزمان، ويقتسم مع الآلهة والأبطال حضورهم. على وجه الإجمال، يمكننا القول إن الإنسان إذ «يعيش» الأسطورة، يخرج من الزمن الدنيوي، الكرونولوجي، ويدخل في زمن مختلف نوعيًّا، زمن «مقدس»، وفي نفس زمن بدئي، قابل للاستعادة دومًا. هذه الوظيفة التي تقوم بها الأسطورة، وقد بيَّناها بجلاء في «أسطورة العود الأبدي»، سوف نُبيِّنها بصورة أفضل في سياق التحليلات التي سوف نتولاها فيما يلي.

معنى ووظيفة الأساطير

هذه الملاحظات الأولية كافية لتوضيح خصائص معينة من الأسطورة. بصفة عامة يمكننا القول إن الأسطورة، كما عاشتها المجتمعات القديمة، تتكوَّن (أولًا) من رواية أفعال قامت بها كائنات عليا، وأن هذه الرواية تُشكِّل (ثانيًا) قصة حقيقية بإطلاق (لأنها تتعلق بحقائق)، وهي قصة مقدسة (لأنها من عمل كائنات عليا). والأسطورة (ثالثًا) تتعلق دائمًا ﺑ «خلق» شيء جديد؛ فهي تحكي لنا كيف جاء شيءٌ ما إلى الوجود، وكيف وُضعت قواعد لمسلك معين أو مؤسسة معينة أو طريقة معينة لأداء عمل. إن هذا «الخلق» لهو السبب الذي من أجله تكوِّن الأساطير النموذج المثالي لكل فعل بشري محمل بالمعنى. ثم إننا إذ نعرف الأسطورة (رابعًا) فإنما نعرف «أصل» الأشياء، وتبعًا لذلك نصل إلى السيطرة عليها والتحكم بها حسب إرادتنا. لكن هذه المعرفة ليست معرفة «خارجية»، «مجردة»، بل معرفة يمكن أن «تُعاش» طقسيًّا، إما برواية الأسطورة احتفاليًّا، أو بأداء الطقس الذي يُعطيها المبرر. والأسطورة (خامسًا) «تُعاش» على نحو أو آخر، بالمعنى الذي فهمته القدرة المقدسة المجيدة التي اتصفت بها الحوادث التي يُصار إلى إحياء ذكراها وتحيينها.

تنطوي «معايشة» الأساطير، إذَن، على خبرة دينية حقيقية، من حيث تميزها من الخبرة العادية التي نختبرها في حياتنا اليومية. وترجع «دينية» هذه الخبرة إلى كونها تحين الحوادث الأسطورية المجيدة ذات الأهمية، وتجعلنا نشهد من جديد الأعمال الخلاقة التي قامت بها الكائنات العليا، نتوقف عن الوجود في عالم كل يوم، وندخل في عالم مشبع بحضور الكائنات العليا. فالمسألة ليست مسألة إحياء لذكرى حوادث ميطيقية، بل تكرارها. شخوص غائبة تحضر، ونحن نصبح معاصرين لهم. وهذا ينطوي أيضًا على أننا لا نعود موجودين في الزمن الكرونولوجي، بل في الزمن البدئي الذي جرت فيه الحادثة أول مرة. ولهذا السبب يمكننا القول أن زمن الأسطورة هو «الزمن القوي»، «الزمن المقدس»، الزمن العجائبي الذي يُخلق فيه الشيء جديدًا قويًّا، وبكل امتلائه. أن نعيش ذلك الزمان ثانية، أن نستعيده في أكثر ما يمكن من الأحيان، أن نشاهد من جديد الأعمال الإلهية، أن نلتقي الكائنات العليا ثانية، وأن نتعلم منهم درسهم الخلاق – إن هذا لهو الرغبة التي نستطيع أن نقرأها واضحة في جميع التكرارات الطقسية للأساطير. على وجه الإجمال، تكشف الأساطير عن أن للعالم والإنسان والحياة أصلًا فائقًا للطبيعة وتاريخًا فائقًا للطبيعة، وأن لهذا التاريخ معنًى وقيمة وأنه نموذج يُحتذى.

لا بدَّ لنا قبل أن نختم هذا الفصل من إيراد الفقرات الكلاسيكية التي حاول فيها برونسلاف مالينوفسكي أن يستخلص طبيعة ووظيفة الأسطورة في المجتمعات البدائية: «الأسطورة، منظورًا إليها بما فيها من عنصر غني بالحياة، ليست تفسيرًا يُراد منه تلبية فضول علمي، بل هي حكاية تُعيد الحياة إلى حقيقة أصلية وتستجيب لحاجة دينية عميقة، وتطلعات أخلاقية، وواجبات وأوامر على المستوى الاجتماعي، بل وحتى متطلبات عملية. في الحضارات البدائية، تملأ الأسطورة وظيفة لا غنى عنها؛ تُفسر وتُبرز وتُقنن المعتقدات، تحامي عن المبادئ الأخلاقية وتفرضها، تضمن فاعلية الاحتفالات الطقسية، وتُتيح قواعد عملية لاستعمال الإنسان. الأسطورة، إذَن، عنصر جوهري في الحضارة الإنسانية. ليست تخريفًا لا طائل وراءه، بل حقيقة حية لا ينفك يلجأ إليها الإنسان، ليست عرضًا لمشاهد مصورة، بل صياغة حقيقية للدين البدائي وللحكمة العملية … جميع هذه القصص (= الأساطير) في نظر الأهلين هي تعبير عن حقيقة أصلية، أكبر وأغنى من الواقع الراهن، حقيقة تعين الحياة الفورية وفعاليات البشر ومصائرهم. والمعرفة التي يمتلكها الإنسان عن هذه الحقيقة تكشف له معنى الطقوس والأعمال على الصعيد الأخلاقي، وبنفس الوقت عن الأسلوب الذي ينبغي عليه أداؤها.

١  ethnologie جاء في «المنهل»: سلالة (علم يبحث في أصول السلالات البشرية). (المترجم)
٢  إلياد، أسطورة العود الأبدي.
٣  إلياد، أسطورة العود الأبدي.
٤  الكهانة والعرافة والتنبؤ بالمستقبل. (المترجم)
٥  طبعًا إن ما يُعتبر «قصة حقيقية» لدى قبيلة قد يصبح «قصة زائفة» لدى قبيلة مجاورة. إن سياق «تجريد الأسطورة» سياق يمكن أن نشهده في المراحل القديمة من الثقافة. إن ما يهمنا هنا هو أن «البدائيين» يُحسُّون الفرق بين الأساطير (القصص الحقيقية) والحواديت والحكايات (القصص الزائفة). راجع الملحق الأول بهذا الكتاب. (المؤلف)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤