الفصل السادس

الميثولوجيا والأنطولوجيا والتاريخ

الجوهر يسبق الوجود

الإنسان الديني عنده أن الجوهر يسبق الوجود. يصحُّ هذا على إنسان المجتمعات «البدائية» والشرقية، مثلما يصحُّ على اليهودي والمسيحي والمسلم. لقد وصل الإنسان إلى ما هو عليه اليوم لأن سلسلة من الحوادث قد حدثت «في الأصل». وهذه الحوادث إنما ترويها الأساطير، وهي إذ تفعل ذلك فلكي تُفسر له كيف تُكوَّن على هذا النحو، ولماذا. وعند الإنسان الديني أن الوجود الحقيقي الأصلي إنما يبدأ في اللحظة التي يطَّلِع فيها على هذا التاريخ البدئي ويسلِّم بنتائجه. والتاريخ البدئي هو دائمًا تاريخٌ إلهيٌّ لأن أشخاصه هم الكائنات العليا والأسلاف الميطيقيون. مثلًا، الإنسان فانٍ لأن سلفًا ميطيقيًّا قد أضاع الخلود بغبائه، أو لأن كائنًا أعلى قرر أن ينتزعه منه، أو لأنه وجد نفسه، على أثر حادث ميطيقيٍّ معين، ممنوحًا في وقت واحد الجنس والموت … إلخ. ويذهب بعض الأساطير إلى أن الموت قد نجم عن حادث أو إهمال: رسولٌ من عند الله ينسى الرسالة، أو حيوانٌ يصل متأخرًا بسبب من كسله … إلخ. طريقة مثيرة للتعبير عن عبثية الموت. لكن، في هذه الحالة أيضًا، يظل التاريخ «تاريخًا إلهيًّا»، لأن صاحب الرسالة كائنٌ عُلويٌّ، يستطيع، إذا شاء، أن يمحو خطيئة رسوله.

إذا صحَّ أن الحوادث الجوهرية قد حدثت في الأصل، فإن هذه الحوادث ليست هي نفسها في جميع الأديان. ﻓ «الجوهري» في اليهودية-المسيحية هو درامة الفردوس التي أسست للشرط البشري الراهن. وفي بلاد الرافدين، الجوهري هو تشكيل العالم بواسطة أشلاء هُولة بحري، تعامات، وخلق الإنسان من دم كبير الشياطين، كنغو، مختلطًا مع شيء من تُراب (باختصار، مع مادة مشتقة مباشرة من جسد تعامات، وفي أوستراليا، يرتد «الجوهري» إلى سلسلة من الأفعال قامت بها الكائنات العليا في «زمن الحلم».

لا يسعنا هنا أن نأتي على ذِكر جميع الموضوعات الميطيقية التي تمثل «الجوهري» بالنسبة إلى مختلف الأديان، أعني الدرامة الأصلية التي كوَّنت الإنسان وجعلته على ما هو عليه اليوم. حسبُنا أن نذكِّر بأهم النماذج. كذلك أن ما يهمنا في هذه النقطة من البحث هو قبل كل شيء الكشفُ عن مواقف «الإنسان الديني» من هذا الجوهري الذي يسبق وجوده، على افتراض أن هناك مواقف متعددة، لأن محتوى هذا «الجوهري» الذي بُت به في الأزمنة الميطيقية، يختلف بين رؤية دينية وأخرى، كما قد رأينا لتوِّنا.

دِيُوس أوسيُوس

كثيرٌ من القبائل البدائية، وخصوصًا مَن توقف منها عند مرحلة جمع الغذاء والقنص، تعرف كائنًا أعلى، لكنه لا يكاد يلعب دورًا في الحياة الدينية. ثم إنهم لا يعرفون عنه إلا القليل، والأساطير المتوفرة لديهم ليست بالكثيرة، فضلًا عن اتصافها بالبساطة. يعتقدون أن هذا الكائن الأعلى قد خلق العالم والإنسان، لكنه سرعان ما هجر مخلوقاته وانسحب إلى السماء. وأحيانًا ليس هو الذي قام بفعل الخلق، بل كائنٌ إلهيٌّ آخر، لعله «ابنه» أو ممثِّله، هو الذي قام بهذه المهمة. لقد تناولنا في غير مكان موضوعَ تحوُّل الكائن الأعلى إلى ديوس أوسيوس»، أما هنا فسنقتصر على بضعة أمثلة.١ عند «السلكنام» في أرض النار، الله، ويسمونه عندهم «ساكن السماء» أو «الذي في السماء»، هو إله أزليٌّ، كليُّ المعرفة، كليُّ القدرة، إلا أن الخلق قام به الأسلاف الميطيقيون، الذين هم أيضًا مخلوقات الكائن الأعلى وكان خلقهم قبل أن ينسحب إلى ما وراء النجوم. هذا الإله يعيش في معزل عن الناس: لا يكترث بشئون العالم؛ لا تماثيل له ولا كهَّان. ولا يتوجَّهون إليه بالدعاء إلا في المرض «أنت، في عليائك، لا تأخذ ولدي مني، فهو ما زال بالغ الصغر.» ويقرِّبون له القرابين خصوصًا في أثناء العواصف والأعاصير.

اليوروبا في ساحل الرقيق يؤمنون بإله واحد في السماء اسمه أولوروم (حرفيًّا: «مالك السماء»). وهو الذي بعد أن بدأ خلق العالم، ترك مهمة متابعة خلقه وحكمه إلى آله آخر أدنى منه، اسمه أوباتالا. أما هو فقد تخلَّى نهائيًّا عن الشئون الأرضية والبشرية. وليس هذا الإله الأعلى معابد ولا تماثيل ولا كهَّان، فقد أصبح «ديُوس أوسيوس» إلا أنهم مع ذلك يدعونه في آخر ما يلجئون إليه وقت الملمات.

الإله الأعلى عند الهيرورو، واسمه إنديامبي، بعد أن سلَّم البشر إلى آلهة أدنى، انكفأ إلى السماء. «لماذا نقرِّب له الذبائح، ليس عندنا ما يوجب الخوف منه لأنه، خلافًا لموتانا، لا يؤذينا أبدًا.»٢ هذا ما فسَّره لنا واحدٌ من الأهالي. والكائن الأعلى عند الطُومبوكا أكبر من أن «يشغل نفسه بأمور الإنسان العادية». أما زانغبيه (الأب العالمي) عند «الإيويه» EWE فلا يدعونه إلا في أيام القحط: «أيتها السماء (أو أيها السماء)، التي يتوجب علينا شكرُها، شديدٌ هو القحط، ألا فلتمطري فتنتعش الأرض وتزهر الحقول.»٣ إن ابتعاد الكائن الأعلى عن العالم والإنسان، وعدم اهتمامه بهما، قد عُبِّر عنه بطريقة مدهشة تتناقله قبيلة «جيرياما» في أفريقيا الشرقية؛ إذ يصفون إلههم كما يلي: «مولوغو (الله) في الأعلى، أرواحنا في الأسفل!» ويقول «البنطو»: «بعد أن خلق الله الإنسان لم يعد يهتم به أبدًا.» ويكرر «النغرلو»: «لقد ابتعد الله عنا!»٤
كما رأينا من الأمثلة المتقدمة، يبدو أن الكائن الأعلى قد فقدَ الحضور الديني؛ فهو غائبٌ عن العبادة، والأساطير تبين أنه قد انسحب بعيدًا عن الآدميين، وأنه قد أصبح «دُيوس أوسيوس». ثم إن هذه الظاهرة يمكن أن نتحقق منها في أديان الشرق القديم والعالم الهندي-المتوسطي، وهي دياناتٌ أكثر تعقيدًا: بدلًا من الإله الخالق السماوي، الكليِّ المعرفة، الكليِّ القدرة، يحل محلَّه إلهٌ مخصبٌ، زوجٌ للإلاهة العظمى، التي هي مجلى القوى التوليدية في العالم.»٥

من بعض النواحي، يمكن القول إن الإله المفارق هو أول مثال عن «موت الله» الذي أعلنه نيتشيه في جنون ظاهر. الإله الخالق الذي يبتعد عن العبادة ينتهي إلى النسيان. إن نسيان الله، كمفارقته المطلقة، تعبيرٌ مرنٌ عن عدم حضوره، الديني، أو، وهذا يؤدي إلى نفس النتيجة، عن «موته». إن غياب الكائن الأعلى لا يُترجم بفقر الحياة الدينية. على العكس، يمكن القول إن «الأديان» الحقيقية إنما تظهر بعد غيابه؛ فالأساطير الأكثر ثراءً والأشد درامية، والطقوس الأكثر إسرافًا، والآلهة والإلاهات من كل نوع، والأسلاف الميطيقيون، والأقنعة والجمعيات السرية، والمعابد والكهان … إلخ. كل هذا إنما نلقاه في الثقافات التي تعدَّت مرحلة الجمع والصيد الصغير، وحيث يكون الكائن الأعلى إما غائبًا أو مندمجًا مع أشخاص إلهية أخرى اندماجًا شديدًا لا يعود معه التعرُّف عليه أمرًا ممكنًا.

إن «كسوف الله»، الذي تكلم عنه مارتن بوبر Buber، وابتعاد الله وصمته اللذَين يستوليان على بعض اللاهوتَيين المعاصرَين؛ كل هذا ليس بالظاهرات الحديثة. ولقد كانت مفارقة الكائن الأعلى دائمًا عذرًا يسوِّغ به الإنسان عدم مبالاته به. حتى حين يظل الناس يتذكرونه؛ فإن بُعده بُعدًا شديدًا يبرر كل نوع من أنواع عدم المبالاة، إن لم يبرر عدم المبالاة الكلية. من ذلك مثلًا، قبيلة «الفانغ» في أفريقيا الاستوائية التي تقول هذا ببساطة، لكن في كثير من الشجاعة:
«الله (انزام) فوق، والإنسان تحت.
الله هو الله، والإنسان إنسانٌ.
كلٌّ عند نفسه، كلٌّ في بيته.»٦

هناك وجهة نظر قال بها جوردانو برونو: «الله، بما هو مطلقٌ، ليس عنده ما يصنعه معنا.»

ومع ذلك هناك مجالٌ لملاحظة أخرى: يحدث أن يتذكَّر الناس الكائن الأعلى، المنسي أو المهمل، خصوصًا عندما يتهددهم خطرٌ آتٍ من الأقاليم السماوية (قحط، عاصفة، أوبئة … إلخ.) وإذا عدنا إلى الأمثلة التي أوردناها فيما تقدَّم، وجدنا أن الناس لا يدعون هذا الإله المنسي إلا إذا نفدت موارده، وباءت بالفشل جميع الخطوات التي اتخذوها تجاه الآلهة الأخرى. الإله الأعلى عند «الأورافون»٧ يقال له «ذرمش». في الملمَّات يذبحون له ديكًا ويتوَّجون إليه بهذا الدُّعاء: «لقد حاولنا كلَّ شيء، لكن لم يزل لدينا أنت لكي تنقذَنا … أيُّها الإله، أنت خالقُنا، فارحمنا!» كذلك كان العبريون يبتعدون عن يهوه ويقتربون من البعليم والعشتروت كلما سمح لهم التاريخ بذلك؛ أي كلما عاشوا حقبة من السلام والرخاء الاقتصادي النسبي، لكنهم كانوا ما يلبثون أن يرجعوا إليه كلما دهمتهم النكبات التاريخية. عندئذٍ، صرخوا إلى الأبدي وقالوا: لقد أخطأنا إذ هجرنا الأبدي وعبدنا البعليم والعشتروت؛ لكن الآن، خلصنا من أيدي أعدائِنا فنعبدك (صموئيل الأول ١٣: ١٠).

لكن حتى عندما يختفي الإله الأعلى عن العبادة ويغيبه النسيان، تظل ذِكراه حيَّة، لكن مموَّهة أو منحطَّة، في الأساطير والحكايات المتعلقة ﺑ «الفردوس» البدئي، وفي استلام الأسرار وتلاوات الشامانيين والعرَّافين، وفي الرمزية الدينية (رموز مركز العالم والطيران السحري والصعود والرموز السماوية ورموز النور … إلخ.) وفي بعض من نماذج الأساطير الكوسموغونية. ولعلنا نستطيع أن نتكلم كثيرًا عن مشكلة نسيان كائن أعلى على مستوى «واعية» الحياة الدينية الجماعية وبقائها حيَّة مقنعة على مستوى «الخافية»، أو على مستوى الرمز، أو، أخيرًا، في الخبرات الوجدية التي يختبرها بعض الممتازين. لكن بحث هذه المشكلة يبعدنا كثيرًا عما نحن بصدده. حسبُنا أن نقول إن بقاء كائن أعلى حيًّا في المرموز أو في الخبرات الوجدية الفردية ليس بدون نتائج بالنسبة للتاريخ الديني عند البشرية القديمة. أحيانًا، تكفي خبرة مماثلة أو التأمل المستديم في رموز سماوية، حتى تستطيع شخصية دينية قوية أن تكتشف الكائن الأعلى من جديد. وليس كهذه الخبرات أو التأملات ما يجعل الجماعة برمتها أن تجدد حياتها الدينية جذريًّا في حالات معينة.

ملاك القول إن «الجوهري»، في جميع هذه الثقافات البدائية التي عرفت كائنًا أعلى ونسيتها بعض النسيان، يتكوَّن من هذه العناصر المميزة: أولًا، الله خلق العالم والإنسان ثم انسحب إلى السماء. ثانيًا، يصحب هذا الانسحاب أحيانًا انقطاع الاتصال بين السماء والأرض، أو ابتعاد كبير من جانب السماء. وفي أساطير معينة، يشكِّل القرب الأوَّلي للسماء وحضور الله على الأرض اجتماعًا لشروط فردوسية (يجب أن نضيف إليها الخلود الذي كان ينعم به الإنسان في الأصل، وعلاقاته الودية مع الحيوانات وانتفاء ضرورة العمل). ثالثًا، يحتل مكان هذا الإله المفارق، ديوس أوسيوس، المنسي نوعًا، آلهة مختلفة يجمعها عنصر مشترك هو أنها أقرب إلى الإنسان، تُعينه أو تعذبه على نحو أكثر مباشرةً وأكثر اتصالًا.

مما يلفت النظر بهذا الصدد أن إنسان المجتمعات القديمة، وهي عمومًا جدُّ حريصة على عدم نسيان أفعال الكائنات العليا التي تحدثه عنها أساطيرها، قد نسي أن الإله الخالق قد أصبح إلهًا مفارقًا. فالخالق لا يبقى حيًّا في الديانة إلا عندما يمثُل في هيئة «دميورج»، أو كائن عُلوي أعطى البرية شكلها المألوف «العالم»؛ هذه هي حالة أوستراليا. بمناسبة احتفالات تجديد العالم، يُصار إلى استحضار هذا الكائن العُلوي طقسيًّا.

والسبب مفهوم: هنا، «الخالق» هو خالق الطعام أيضًا. فهو لم يخلق العالم والأسلاف وحسب، وإنما خلق أيضًا الحيوان والنبات الذي يسمح للكائنات البشرية بالعيش.

الإله القتيل

يعرف تاريخ الأديان، إلى جانب الآلهة العليا الخالقة التي ما تلبث حتى تصبح آلهةً مفارقةً ويغيِّبها النسيان، آلهة أخرى تختفي من على سطح الأرض، لكنها تختفي لأن الناس قد قتلوها (أكثر تحديدًا، قتلها الأسلاف الميطيقيون). خلافًا ﻟ «موت» الإله المفارق، الذي يترك فراغًا سرعان ما يملؤه أشخاص دينيون آخرون، يكون مصرع هذه الآلهة ذا صفة إبداعية. على أثر موت هذه الآلهة يظهر شيءٌ هامٌّ جدًّا للوجود البشري. أكثر من هذا: هذا الشيء الهام، أي الخلق الجديد، يشترك في ماهية الألوهة المقتولة، وبالتالي يُديم وجودها. فالألوهة تبقى حيَّة في الطقوس التي تُحين قتلها دوريًّا، ذلك القتل الذي حصل «في ذلك الزمان». وفي حالات أخرى، تبقى حيَّةً في الأشكال الحية (حيوانات، نباتات) التي انبثقت من جسدها.

والألوهة المقتولة لا تُنسى أبدًا، على الرغم من إمكان نسيان تفصيلات معينة من أسطورتها. ومما يساعد على عدم نسيانها أن البشر لا غنى لهم عنها. وسنرى بعد قليل أنها تكون في حالات كثيرة ماثلةً في جسد الإنسان نفسه، خصوصًا في الأطعمة التي يتناولها. أكثر من ذلك، أن موت الألوهة يغيِّر من نمط الوجود البشري تغييرًا جذريًّا. في أساطير معينة يصبح الإنسان، نتيجة لموت الألوهة، كائنًا فانيًا، ذكرًا وأنثى. وفي أساطير أخرى، يكون القتل مصدرًا لإلهام بمشهد طقسي استسراري، وهو الاحتفال الذي يحول الإنسان من «كائن طبيعي» (طفل) إلى كائن ثقافي.

مورفولوجية هذه الألوهيات بالغة الغنى وأساطيرها كثيرة العدد. ومع ذلك فهناك ملاحظات عامة جوهرية: هذه الألوهيات ليست كوسموغونية؛ ظهرت على الأرض بعد الخلق ولم تبقَ فيها طويلًا؛ قتلها الآدميُّون، ولم تثأر لنفسها ولم تحمل حقدًا على قتلَتها؛ على العكس، بيَّنت لهم كيف يستفيدون من موتها. إن وجود هذه الألوهيات هو في نفس الوقت وجودٌ يكتنفه الغموض ويتَّصف بالدرامية. في معظم الأحيان، لا يعرف أحد عن أصلها شيئًا؛ كل ما يمكن معرفته عنها أنها جاءت إلى الأرض لكي تكون مفيدة لبني البشر، وأن عملها الرئيسي مستمدٌّ مباشرةً من موتها المأساوي. يمكن القول أيضًا إن هذه الألوهيات هي الأولى التي يستبق تاريخُها تاريخ البشر: من جهة، أن وجودها محدود في الزمان، وأن موتها المأساوي مكوِّن للشرط البشري، من جهة ثانية.

في الحالة الراهنة من البحث، من الصعب تحديد المرحلة التي ظهر فيها هذا النموذج من الألوهية. وأن الأمثلة التي تعيننا على هذا التحديد إنما نجدها، كما بيَّن ذلك جنسن، وكما سوف نرى بعد قليل، عند الفلاحين الأولين الذين كانوا يزرعون الدرن. لكننا نجد هذا النموذج من الألوهية أيضًا في أوستراليا، وعلى درجة أقل عند الأفريقيين الذين يعيشون على الصيد والقنص. تقول أسطورة أوسترالية: كان عملاق «لومالوما» في هيئة إنسان وهيئة حوت في نفس الوقت. وصل من جهة الساحل واتَّجه غربًا، وأكل جميع الناس الذين صادفهم في طريقه. الذين بقَوا أحياء تساءلوا عن أسباب تناقص عددهم، فراحو يلتمسون الأسباب فعلموا أن الحوت ممددٌ على الشاطئ وقد امتلأت بطنه. تنادَوا إلى الاجتماع في صباح اليوم التالي، ولما اكتمل جمعهم راحوا يُعمِلون رماحهم في الحوت؛ شقوا له بطنه وأخرجوا منها الهياكل العظيمة. فقال لهم الحوت: لا تقتلوني، لكن قبل أن أموت سأُبيِّن لكم جميع الطقوس الاستسرارية التي أعرفها. قام الحوت بتأدية الطقس أمامهم وبيَّن لهم كيف يجب أن يرقصوا وسائر ما يتعلق بالطقس. ثم قال لهم: «أفعل هذا وأنتم تفعلون مثله؛ كل هذا أعطيكم، وأريكم كل هذا.» بعد أن علَّمهم هذا الطقس، علَّمهم طقوسًا أخرى. ثم انسرب في البحر قائلًا لهم: «بعد الآن لا تدعوني لومالوما، سأُغيِّر اسمي. بل تدعونني نوبول نوبول لأنني الآن أسكن في الماء المالح.»

إذَن، كان هذا العملاق، الإنسان-الحوت، يبتلع الناس حتى يلقنهم الأسرار. أما هؤلاء فما كانوا عالِمين بذلك فقتلوه، لكنه قبل موته (أي قبل أن يتحول إلى حوت نهائيًّا) علَّمهم طقوس استلام الأسرار. وترمز هذه الطقوس في شيء من الصراحة إلى موت يعقبه انبعاثٌ.

وعند «الكاراجيري»، وهم قبيلة أوسترالية أيضًا، يلقى الأخوان «باغاجمبيري» مصيرًا مماثلًا: «في أزمنة الحلم، طلعا من الأرض في هيئة كلب متوحش، ثم ما لبِثا حتى أصبحا عملاقَين من البشر. غيَّرا مناظر البرية وحضرا الكاراجيري، وعلَّموهم طقوس استلام الأسرار في جملة ما علَّموهم. لكن رجلًا (سلفًا مطيقيًّا) قتلهما طعنًا برمح. لكنهما يعودان إلى الحياة بعد أن شربا من لبن أمهما، لكن هذه المرة في هيئة حية مائية، بينما ترتفع روحاهما إلى السماء وتصبحان ما يسميه الأوروبيون بغيوم ماجلان. منذئذٍ والكاراجيري يفعلون ما فعله الأخوان الميطيقيان تمامًا ويحاكون في دقة متناهية ما تلقنوه عن السلف، وفي الدرجة الأولى: مراسم استلام الأسرار.»

وفيما يلي مثالٌ من أفريقيا، يتعلق بجمعية سرية عند قبيلتَين هما: المانجا والباندا. ولدينا من الأسباب ما يجعلنا نذهب إلى أن هذا السيناريو كان موجودًا في مستويات ثقافية أقدم عهدًا. الجمعية السرية اسمها «أنغاكولا»؛ وطقوس استلام؛ الأسرار إنما تحين هذه الأسطورة التي نرويها فيما يلي: كان «أنغاكولا» يعيش على الأرض فيما مضى من الزمان. كانت له بشرةٌ حالكة السواد يكسوها شَعرٌ طويلٌ. لم يكن يعرف أحدٌ من أين أتى أنغاكولا، لكنه يعيش في الأدغال، كان لديه قدرةٌ على قتل إنسان وإحيائه. خاطب الناس مرةً قائلًا: «ابعثوا لي بأناس، سآكلهم وأتقيَّؤهم بعد أن يكونوا قد خُلقوا خلقًا جديدًا!» استجاب الناس لندائه فأرسلوا إليه أناسًا ليأكلهم، لكنه لم يرُد إليهم غير نصف الذين أكلهم، فقرروا القضاء عليه، فأعطوه ليأكل «كميات كبيرة من المنيهوت manihot٨ خلطوا معها كميات من حجارة، فلما أكلها خارت قواه فانقَضُّوا عليه طعنًا بالمُدى والحراب حتى مات». هذه الأسطورة تؤسس للجمعية السرية وتبرز طقوسها. وهناك حجرٌ مقدسٌ، مسطح الشكل، يلعب دورًا كبيرًا في مراسم استلام الأسرار. بحسب المأثور، هذا الحجر المقدس إنما انتُزع من جوف أنغاكولا. يُؤتى بالمستلم فيُجعل في كوخ يَرمز إلى جسد الهولة. هناك يسمع صوتًا حزينًا ينبعث من أنغاكولا، ثم يُجلَد بالسياط ويتعرض لأنواع من العذاب؛ إذ يقال له إنه «دخل الآن في بطن أنغاكولا»، وأنه يجري هضمه. أما المستلمون الآخرون فيُنشدون معًا: «أنغاكولا، خُذ أمعاءنا كُلْها؛ أنغاكولا، خُذ أكبادنا كُلْها!». ثم يعلن معلِّم الأسرار، بعد أن يكون المستلم قد دخل في تجارب أخرى، أن أنغاكولا الذي أكله قد ردَّه الآن.
قلنا أن هذه الأسطورة وهذه الطقوس المتعلقة بها تدخل في زمرة استلام الأسرار الأفريقية الأخرى من النموذج القديم. فالطقوس الأفريقية المتعلقة ببلوغ سن الرشد وتتضمن طقوس الختان تتألف من العناصر التالية: المعلِّم الذي يلقن السر يجسد الوحوش (الشقر) السماوية، و«يقتل» المريدين بختنهم. هذا القتل الاستسراري مؤسس على أسطورة يتدخل فيها حيوان بدئي كان يقتل الآدميين بغية إحيائهم بعد إذ أصبحوا «خلقًا متغيرًا»؛ في النهاية يُقضى على الحيوان نفسه. يتكرر هذا الحدث الميطيقي طقسيًّا بخَتن المريدين؛ فالمريد. إذ «يقتله» الوحش (المتمثل في المعلم الملقن للسر)، ينبعث بعدئذٍ بارتدائه جلده.٩
يمكننا إعادة تشييد البنية الميطيقية-الطقسية على النحو التالي: أولًا، كائن علوي يقتل الناس (بُغية إدخالهم في السر). ثانيًا، الآدميون، إذ لا يفهمون معنى هذا الموت الاستسراري، ينتقمون منه فيقتلونه، لكنهم بذلك يؤسسون لمراسم سرية ذات علاقة بالدرامة البدئية. ثالثًا، يُصار إلى استحضار الكائن العُلوي في هذه المراسم بواسطة تمثال أو شيء مقدس، يُعتقد أنه يمثل جسده أو صوته.١٠

هينو ويلي و«الديما»

تتميز أساطير هذه الطائفة بأن القتل البدئي للكائن العلوي قد أخلى مكانه إلى طقوس استلام الأسرار التي يصل الآدميون بفضلها إلى تحقيق وجود أعلى. ولعل ما يلفت النظر في هذا القتل أنه لا يعتبر جريمةً؛ وإلا لم يُحين دوريًّا في الطقوس. يظهر هذا جليًّا في درس العقدة الميطيقية-الطقسية التي يختص بها أوائل الفلاحين. وقد بيَّن جنسن أن الحياة الدينية عند فلاحي الدَّرن في المنطقة المدارية تتمركز حول الوهيات من نموذج «الديما»، باستعارة اصطلاح «ديما» dema من «مارند-أنيم» في غينيا الجديدة. ويريد «المارند-أنيم» بهذا الاصطلاح الخالقين الإلهيين والكائنات البدئية التي كانت موجودةً في الأزمنة الميطيقية. وتوصف «الديما» أحيانًا بهيئة البشر، وأحيانًا بهيئة الحيوان أو النبات. وتروي الأسطورة المركزية موت الألوهية-ديما على يد «الديما» ومن أشهر أساطير القوم أسطورة الفتاة الهينوويلية، التي قام جنسن بتسجيلها في سيرام، وهي إحدى جزر غينيا الجديدة. وفيما يلي موجزٌ لها:

في الأزمنة الميطيقية كان رجلٌ يسمى «أميتا» تصادف مع خنزير بريٍّ فيما كان في رحلة صيد. غرق الخنزير في بحيرة فيما كان يهَمُّ بالهرب. وجد «أميتا» جوزة (هند) على ناب الخنزير. في تلك الليلة حلم بالجوزة وتلقَّى أمرًا بزرعها، ففعل ذلك من غده. بعد ثلاثة أيام نبتت شجرة جوز، وبعد ثلاثة أيام أخرى أزهرت. تسلق «أميتا» شجرة الجوز لكي يقطف الزهر ويُعِد منه شرابًا. لكنه جرح أصبعه وسال منه الدم على الزهرة. بعد تسعة أيام تبين له أن كان فوق الزهرة مولودٌ أنثى. أخذها «أميتا» ولفَّها بأوراق الجوز. بعد ثلاثة أيام أصبحت البنت صبية مؤهلة للزواج؛ فأسماها «هينوويلي» (غصن الجوز). في أثناء احتفال مارو الكبير، احتلت هينوويلي مركز باحة الرقص، وظلت طوال تسع ليال تُوزع الهدايا على الراقصين. وفي اليوم التاسع حفر لها الرجال حفرة في وسط الباحة، وفي أثناء الرقص رمَوها فيها. ثم غُطيت الحفرة وراح الرجال يرقصون فوقها.

لما كان من الغد افتقد «أميتا» هينوويلي فعلم بأنها قُتلت. عرف مكان جثتها فنبشها وقطعها أشلاء ثم دفنها في أماكن مختلفة، لم يستثنِ منها إلا ذراعيها. أعطت الأشلاء المدفونة على النحو المذكور نباتات لم تكن معروفة حتى يومئذٍ، وخصوصًا الدرن الذي أصبح منذ ذلك الحين الطعام الرئيسي للآدميين. أما الذراعان فقد حملهما «أميتا» إلى ألوهية أخرى، أو «ديما» أخرى، اسمها «ساتين Satene»، التي شيدت برجًا حلزونيًّا ذا تسعة حوالق وأقامت في وسطه. من ذراعي هينوويلي شيَّدت بابًا وجمعت الراقصين. قالت لهم: «بما أنكم قتلتم، لم أعد أرغب في العيش هنا. لسوف أغادركم في هذا اليوم بالذات. والآن، يجب أن تأتوا إليَّ من هذا الباب.» الذي نجحوا في المرور منه ظلُّوا آدميين. أما الآخرون فقد مُسِخوا حيوانات (خنازيرَ، طيورًا، سمكًا)، أو تحولوا إلى أشباح. أعلنت «ساتين» أن الناس لن يلقوها بعد مغادرتها لهم إلا بعد أن يموتوا. ثم توارت من على وجه الأرض.
لقد بيَّن جنسن أهمية هذه الأسطورة من أجل فَهم ديانة الفلاحين الأوائل وصورتهم عن العالم. إن قتل ألوهية-ديما من قِبل الديما، الذين هم أسلاف البشرية الحالية، يضع حدًّا لحقبة (لا يمكن اعتبارها «فردوسية») ويبدأ حقبةً جديدةً هي الحقبة التي نعيش فيها اليوم. لقد أصبح «الديما» بشرًا؛ أي كائنات مذكرة ومؤنثة، فانية. أما الألوهية-ديما المقتولة فتظل باقيةً حيةً في مخلوقاتها التي خلقتها هي (الأطعمة النباتية، الحيوانات، إلخ …) مثلما تبقى في بيت الأموات الذي يجري تحولها فيه، أو في «طريقة وجود الموت»، وهي الطريقة التي أسسها موت هذه الألوهية. ولعلنا نستطيع القول إن الألوهية-ديما «تموِّه» وجودها في مختلف أشكال الوجود التي ابتدأتها بموتها العنيف: المملكة تحت الأرضية، مملكة الأموات، النباتات والحيوانات الطالعة من جثمانها الممزق، الانقسام إلى ذكر وأنثى، الطريقة الجديدة من الوجود على الأرض (أي أن يكون كائنًا فانيًا). إذَن، الموت العنيف الذي ماتته الألوهية ليس موتًا «إبداعيًّا» وحسب، وإنما هو أيضًا وسيلةٌ لكي تظل ماثلة على الدوام في حياة بني البشر، بل وحتى في موتهم. ذلك أن الإنسان إذ يغتذي من النباتات والحيوانات التي طلعت من جثمانها إنما يغتذي في الحقيقة من نفس مادة الألوهية. إن هينوويلي، مثلًا، تظل حيةً في الجوز والدرن والخنازير التي يأكلها البشر. لكن قتل الخنزير ما هو إلا «تمثيل» لقتل هينوويلي، كما بيَّن ذلك جنسن.١١ وما تكرار قتله إلا تذكير بالفعل الإلهي النموذجي الذي جاء منه كل ما هو موجودٌ اليوم على وجه الأرض.
عند الفلاحين الأوائل، «الجوهري» متمركزٌ، إذَن، في هذا القتل الأولي. هذا ولما كانت الحياة الدينية تتكوَّن تحديدًا بإحياء ذكرى هذا الفعل، كانت أعظم الخطايا نسيان حلقة من حلقات هذه الدرامة الإلهية البدئية. واللحظات المختلفة من الحياة الدينية إنما تذكِّر بديمومة الحدث الذي جرى في «ذلك الزمان»؛ وهي، إذ تفعل ذلك، فلكي تساعد الناس على تذكُّر الأصل الإلهي لعالمنا الحالي. وقد بيَّن جنسن١٢ أن مراسم بلوغ سن الرشد إن هي إلا تذكير بأن القدرة على الإنجاب، أعني قدرة الرجال على الإنجاب، مستمدَّة من القتل الأول الميطيقي، فضلًا عن أنها تُلقي الضوء على أن الموت غير منفصل عن الإنجاب. كذلك تذكرنا مراسم الدفن، التي ترتبط برحلة المُتوفَّى إلى مملكة الأموات، بأن هذه الرحلة ما هي إلا تكرارٌ للرحلة الأولى التي قامت بها الألوهية. لكن الذي يُشكل العنصر الأساسي على وجه الخصوص هو تكرار موت الألوهية. فالقرابين البشرية والحيوانية ما هي إلا تذكار رسمي للقتل البدائي. والإدامة (= أكل لحم الآدمي) إنما تفسرها نفس الفكرة التي ينطوي عليها أكل الدرن على وجه الخصوص، وأنهم إنما يأكلون الألوهية دائمًا، على نحو أو آخر.

تبعًا لذلك، إن الاحتفالات الدينية ما هي إلا أعيادٌ للذكرى. «إن تعرف» معناه أنك تعرف الأسطورة المركزية (قتل الألوهية وما ينجم عنه)، والعمل على عدم نسيانها. والدَّنس الحقيقي إنما هو «نسيان» الفعل الإلهي. و«الخطأ» و«الإثم» و«الدنس» إنما هو «عدم تذكُّر» أن الشكل الحالي من الوجود البشري هو نتيجة فعل إلهي. مثلًا، عند «الويمال» القمر هو ألوهية-ديما؛ يُعتقد أنه يحيض عندما يكون هلالًا، ويبقى غير مرئي طوال ثلاث ليال. وهذا هو سبب عزل المرأة الحائض في كوخ خاصٍّ. وكل خرق لهذا المحظور يستوجب الكفَّارة. تأتي المرأة بحيوان إلى دار «الندوة»؛ حيث يجتمع أكابر القبيلة فتعترف بذنبها أمامهم ثم تمضي إلى حال سبيلها. يعمد الرجال إلى الحيوان فيذبحونه ثم يشوونه ويأكلونه. إن هذا الطقس الذي يستوجب ذبح حيوان هو إحياء الأول قربان دامٍ؛ أي إحياء لذكرى القتل البدئي، «يُستغفر منطقيًّا من دنس عدم التذكر بالتذكر الشديد، والقربان الدامي، في معناه الأصلي، إنما هو تذكيرٌ من هذا النوع الشديد.»

«تاريخ» لا «أنطولوجيا»

فيما يتعلق بالنية، جميع هذه الأساطير هي أساطير أصول. لأنها تبيِّن لنا أصل الشرط البشري الراهن، والنباتات الغذائية والحيوانات، كما تبيِّن لنا أصل الموت والمؤسسات الدينية (مُسارَّات بلوغ سن الرشد والجمعيات السرية والقرابين الدامية … إلخ) وقواعد السلوك البشري. في جميع هذه الأديان، «الجوهري» لم يتقرر عند خلق العالم، بل بعد ذلك، في لحظة من الزمان الميطيقي. وإنما يتعلق الأمر دومًا بزمان ميطيقي، لكن لم يعد هو «الأول»، الزمان الذي يمكن تسميته بالزمان «الكوسموغوني». «الجوهري» لم يَعُد متحدًا مع «الأنطولوجيا» (كيف جاء العالم — الواقع — إلى الوجود)، بل مع «التاريخ»، التاريخ الإلهي والبشري في وقت واحد؛ لأنه نتيجة لدرامة قام بأدائها أسلاف البشر وكائنات عليا من نموذج غير نموذج الآلهة الخالقة، القديرة، الخالدة. هذه الكائنات الإلهية قادرةٌ على تغيير نمط وجودها؛ فهي «تموت» وتتخذ لنفسها هيئةً أخرى. وهذا الموت ليس بالفناء، لأنها لا تهلك أبدًا بل تبقى حيةً في خلقها. ثم إن موتها على أيدي الأسلاف الميطيقيين لم يغيِّر من نمط وجودها وحسب، وإنما من نمط وجود البشر أيضًا. منذ القتل الأول، نشأت علاقة لا انفصال لها بين الكائنات الإلهية من نموذج «ديما» وبين بني البشر. إن بينهما الآن نوعًا من «المشاركة»١٣communion : الإنسان يغتذي من الإله، وعندما يموت يتحد به في مملكة الأموات.

ها هي ذي أولى الأساطير المشجية والمأساوية. في الثقافات اللاحقة — وهي الثقافات التي تسمى «ثقافات المعلمين»، ومن بعدُ، الثقافات البلدانية، وهي ثقافات الشرق الأدنى القديم — تطورت أساطير أخرى مُشجية وعنيفة؛ تمحيصها كلِّها يخرج بنا عن موضوع هذا الكتاب. ومع ذلك نذكر أن الكائن الأعلى السماوي، الخالق، لا يستعيد فعاليته الدينية إلا في ثقافات رعوية معينة (خصوصًا عند التوركو-منغوليين) وفي توحيد موسى والإصلاح الزرادشتي والإسلام. فعلى الرغم من بقاء اسم الكائن الأعلى اسمًا مذكورًا — آنو عند أهالي الرافدين، وإيل عند الكنعانيين، وديوس عند هنود الفيدا، وأورانوس عند الإغريق — إلا أنه لا يعود يلعب دورًا هامًّا في الحياة الدينية ولا يحتل غير مركز متواضع في الميثولوجيا (وأحيانًا ينسونه نسيانًا تامًّا، و«ديوس» أظهر مثال على ذلك). لقد عبَّر الإغريق عن «سلبية» أورانوس وغُربته بالجب (= الخصي)؛ إذ غدا «عاجزًا»، وغير قادر على التدخل في شئون العالم. وفي الهند الفيدية، حلَّ «فارونا» محل ديوس، لكن هذا أيضًا ما لبث حتى أخلى مكانه لإله آخر شابٍّ هو الإله المحارب «أوندرا»، بانتظار أن يتلاشى تمامًا أمام فسشنووشيفا. كذلك تخلى إيل عن الأوَّلية إلى بعل، مثلما تخلى عنها آنو إلى مردوخ. باستثناء مردوخ، جميع هذه الآلهة العليا لم تعد آلهةً «خالقةً» بالمعنى الحقيقي للكلمة. فهي لم تخلُق العالم، بل نظَّمته واضطلعت بمسئولية المحافظة على نظامه وخصوبته فقط. هي، قبل كل شيء، آلهة إخصاب؛ شأنها في هذا كشأن زيوس وبعل اللذَين بفضل زواجهما من إلاهات الأرض، يضمنان خصب الحقول ووفرة المحاصيل. أما مردوخ نفسه فليس إلا خالقًا لهذا العالم، على نحو ما هو عليه اليوم. قبل عالمنا هذا، كان ثمة عالم آخر — عالم يكاد أن يكون بعيدًا عن تفكيرنا، لأنه من طبيعة سائلة، أوقيانوس (محيط) وليس كوسموس (كون) — العالم الذي كانت تحكمه تعامات وزوجها، وقد أقامت فيه ثلاثة أجيال من الآلهة.

حسبنا هذه الإشارات القصيرة، فما يهمنا تبيانه بوضوح هو كبرى الميثولوجيات التي تنطوي على تعددية الآلهة، الميثولوجيات الأوروبية-الآسيوية التي تصادفت مع بواكير الحضارات التاريخية، وتُولي اهتمامًا متزايدًا لما حدث بعد خلق الأرض، بل لما حدث حتى بعد خلق (أو ظهور) الإنسان. والتوكيد هنا صار يُلقى على ما قد حدث للآلهة ولم يَعُد يُلقى على ما قد خلقوه. صحيحٌ هناك دائمًا جانب «خلَّاق» على شيء من الوضوح في كل مغامرة إلهية. لكن الذي يظهر في أهمية بتزايد ليس نتيجة هذه المغامرة، بل تتابع الأحداث الدرامية التي تكوِّنها. والمغامرات التي لا حصر لها التي قام بها بعل أوزيوس أوندرا أو زملاؤهم في المجامع التي تخصُّ كُلًّا منهم، إنما تمثل الموضوعات الميثولوجية الأكثر شعبيةً.

نذكِّر أيضًا بالأساطير المشجية التي تتعلق بالآلهة الشابة التي تموت غيلةً أو تُقتل بحادث (أوزيريس، تموز، آتيس، أدونيس … إلخ) ثم تُبعث إلى الحياة ثانيةً، أو تنزل إليهم إلاهة (عشتار) تنقذهم من الجحيم، أو تنزل إليهم ابنة إلهية (برسفون). هذه «المبيتات» هي، مثل ميتة هينوويلي، ميتات «خلَّاقة» بالمعنى الذي نجده في علاقة معينة مع النبات. حول واحدة من هذه الميتات العنيفة، أو نزول ألوهية إلى الجحيم، تكوَّنت فيما بعدُ ديانات الأسرار. لكن هذه الميتات، على ما تشتمل عليه من حزن وألم، لم تحرِّض على إنشاء ميثولوجيات غنية ومتنوعة. هذه الآلهة التي تموت وتُبعث أحيانًا هي مثل هينوويلي قد استنفدت قدرها الدرامي في هذه الحلقة المركزية. وأن موتها، مثل موت هينوويلي، ذو أهمية للشرط البشري: في أعقاب هذا الحدث المأساوي، جاء إلى الوجود المراسم ذات العلاقة بالنبات (أوزيريس، تموز، بوسيفون … إلخ)، أو مؤسسات استلام الأسرار.

الميثولوجيات الكبرى — وهي الميثولوجيات التي صاغها شعراء مثل هوميروس وهزيود، أو شعراء مغفلون كالذين كتبوا المهابهاراتا، أو طقوسيون ولا موتيون (كما هو الحال في مصر والهند وما بين النهرين) — إنما حرَّض عليها ما رواه الراوون عن بوادر ابتدرتها الآلهة. وفي لحظة معينة من التاريخ — وخصوصًا في بلاد اليونان والهند وأيضًا في مصر — بدأت نخبة بالتحرر من الاهتمام بهذا التاريخ الإلهي، ووصلت (كما في اليونان) إلى عدم الإيمان بالأساطير، فيما ظلَّت تدَّعي أنها ما برحت تؤمن بالآلهة.

بدايات نزع الصفة الأسطورية

تُعتبر هذه الحركة أول مثال معروف في تاريخ الأديان عن سياق واعٍ يوصف بأنه «نزع للصفة الأسطورية» démythisation. صحيح أنه كان يحدث حتى في الثقافات القديمة أن تُفرَّغ أسطورة من مغزاها الديني وتغدو خرافة أو حكاية أطفال، لكن أساطير أخرى تظل معمولًا بها. على كل حال، لم تكن المسألة مسألة ظاهرة ثقافية من الطراز الأول اتضح أن آثارها لا حصر لها، على غرار ما كانت عليه الحال في يونان ما قبل سقراط أو في هند الأوبانيشاد. في الحقيقة، لم يَعُد بوسع الميثولوجيات الإغريقية والبراهمانية أن تمثل في نظر النخبة في كلا البلدين ما كانت تمثله لأجدادهم، بعد هذا السياق من «نزعِ صفة الأسطورة».

في نظر هذه النخبة، لم يَعُد «الجوهري» يُبحث عنه في تاريخ الآلهة، بل في «وضع بدئيٍّ» يسبق هذا التاريخ. هنا نشهد جهدًا للذهاب إلى ما وراء الميثولوجيا بما هي تاريخٌ إلهيٌّ، وصولًا إلى النبع الأول الذي انبثق منه الواقع، من أجل التعرف على رحم الوجود؛ المسألة لم تَعُد مسألة أسطورة كوسموغونية، بل أنطولوجية.

إذَن، يمكن الوصول إلى «الجوهري» عن طريق عودة إلى الخلف خارقةٍ للعادة. لم يَعُد الأمر مجرد انكفاء إلى الخلف بواسطة الطقس، بل «عودة إلى الخلف» بالفكر. بهذا المعنى يمكننا القول إن التأملات الفلسفية الأولى مستمدةٌ من الميثولوجيا. فالتفكير المنظم يسعى إلى التعرف على «البدء المطلق» وفهمه، وهو البدء الذي تتكلم عنه الكوسموغونيات وإماطة اللثام عن سرِّ خلق العالم، باختصار، عن سر ظهور الوجود.

لكننا سوف نرى أن «نزع صفة الأسطورة» عن الديانة الإغريقية وانتصار الفلسفة، مع سقراط وأفلاطون، لم يقضِ نهائيًّا على الفكر الأسطوري. من ناحية ثانية، يصعب علينا أن نفهم تجاوزًا جذريًّا للفكر الميطيقي ما دامت هيبة «الأصول» باقيةً بدون مساس ونسيان ما حدث «في ذلك الزمان» — أو في عالم مفارق — يُعتبر العقبة الرئيسية أمام المعرفة أو الخلاص. ولسوف نرى كيف ظل أفلاطون بهذه الطريقة من التفكير القديم. وفي كوسمولوجية أرسطو ما برحت موضوعات ميثولوجية كثيرةٌ حيةً.

يحتمل جدًّا أن تكون العبقرية الإغريقية قد عجزت عن التخلُّص بوسائلها الخاصة من التفكير الأسطوري، على الرغم من أن آخر إله قد أنزل عن عرشه وانحطَّت أساطيره إلى مستوى حكايات الأطفال. ذلك أن العبقرية الفلسفية الإغريقية كانت، من ناحية، تسلِّم بجوهر التفكير الأسطوري والعود الأبدي للأشياء والرؤية الدورية للحياة الكونية والبشرية وأن الروح الإغريقي لم يقدَّر، من ناحية ثانية، أن التاريخ يمكن أن يصبح موضوعًا للمعرفة. ولقد طوَّر الفيزيائيون والميتافيزيائيون الإغريق بضعَ موضوعات إنشائية من الفكر الأسطوري: أهمية الأصل، الجوهر الذي يسبق الوجود البشري، الدور الحاسم الذي تلعبه الذاكرة … إلخ، إن هذا لا يعني، بطبيعة الحال، أنه لا يوجد قطعٌ للاستمرارية بين الأسطورة الإغريقية والفلسفة. لكننا ندرك جيدًا أن التفكير الفلسفي استطاع أن يسخِّر الرؤية الأسطورية للواقع الكوني والوجود البشري ويطيل أمده.

لقد كان اكتشاف التاريخ، وعلى نحو أدق يقظة الوعي التاريخي في اليهودية-المسيحية واتساعه عند هيغل وخلفائه، هو الذي أدى إلى تمثل جذري لهذا النمط الجديد من الوجود في العالم الذي يمثله الوجود البشري، وأدى إلى تجاوز الأسطورة. لكننا نتردد في الجزم بأن الفكر الميطيقي قد قُضي عليه نهائيًّا. بل لقد أفلح في البقاء حيًّا، كما سنرى بعد قليل، على الرغم من أنه قد تغير جذريًّا (إن لم يكن قد تموِّه تمامًا). والشيء الطريف أنه بقي حيًّا في كتابة التاريخ historiographie.
١  M. Eliade, Tralté d’Historie des Religions, pp. 53 sq.
٢  Traité, p. 55.
٣  Traité, p. 55.
٤  Traité, pp. 55-56.
٥  Traité, pp. 66 sq.
٦  Traité, p. 56.
٧  J. G. Frazer, The Worship of Nature (Londres, 1926), p. 831.
٨  جاء في «المنهل»: المنيهوت جنس جنيبات يُستخرج من جذورها دقيق نشويٌّ. (المترجم)
٩  M. Eliade, Naissances, p. 60.
١٠  Ibid., p. 106.
١١  Mythes et cultes chez les peuples primitifs, pp. 139 sq.
١٢  Ibid.
١٣  أو «المناولة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤