الشعر القصصي الحماسي

١

أستاذي الدكتور العلَّامة

قرأتُ البحث المستفيض الذي نشر تباعًا في عددي أبريل ومايو، وقد تفضل به الشيخ كاظم الدجيلي اعتراضًا على ما كتبتُه في الشعر القصصي الحماسي حينما نشرت عمرية حافظ. أسأل حضرته قبول شكري لما استهلَّ به مبحثه من تجميل ذكري. إني أعتبر ذلك الثناء ناطقًا بسعة حلمه أكثر منه دليلًا على أهليتي. ولكني على كل حال سعيدة بهذه الكلمات المنشطة الآتية من بعيد. ويظهر لي أن العظمة العربية التي اندثر ما كان لها من صرح ومعقل على شواطئ دجلة والفرات ما برحت حية نامية نباهة وخلائق عاليات في نفوس كرام الأهلين.

على أنهُ في أجزاء بحثه الأخرى قد أوقع بي ظلمًا عادلًا … إذا جاز الجمع بين هاتين اللفظتين؛ لأنه لم يكتفِ بإيراد أسماء القصائد والملاحم والعلواءات المدونة في مجموعات الأشعار ودواوين العرب، بل لامني تلميحًا لأني لم أقرأ تلك القصائد التي نظمها عرب الجاهلية ومن عقبهم، ولم يصل إلينا ذكرها إلا بالنقل والتواتر. كذلك لامني لجهلي منظومات قصصية حماسية مخطوطة حفظت في المكاتب الخصوصية، لم يطلع عليها غير حضرته وأفراد قلائل من الأفاضل أمثاله.

أعترف بأني مجرمة في ذلك، ولكنها جريمة أجبر على ارتكابها سائر أبناء العرب، كما ترتكبُ ملايين البشر خطيئة أبينا آدم بنظام الوراثة، بيد أني مستعدة للتكفير عن جريمتي بالصورة الآتية؛ ليؤكد لي حضرته أن تلك المنظومات من نوع الإلياذة وحائزة مثلها لجميع الشروط التي يُعرف بها الشعر الذي يسميه الفرنجة épopée، فأتلقى تأكيده باليقين وأستشهد بتلك المنظومات بعد اليوم على عهدته.

وبكلامي عن «الإيبوبي» عند الإفرنج إنما أعني تلك المنظومات القديمة الطويلة مثيلات إلياذة هوميروس أو التي نسجت على منوالها، وقد ذكرتُ بعضها في سياق الكلام على عمرية حافظ، أما اليوم فقد سرت الفوضى إلى كل شيء، وكما حدث اختلاط محتم بين الدرجات الاجتماعية واللغات، فقد سرى الاختلاط كذلك إلى أبواب الشعر والأدب. فملاحم الإفرنج في العهد الأخير يتغلب فيها العنصر الغنائي فضلًا عن قصرها، وإذا اتصل الباحثون إلى إثبات عربية سفر أيوب قبل أن يبرز عبرانيًّا؛ فلا حاجة بنا إلى غير هذا الأثر العظيم لنكون من أغنى الأمم في الشعر القصصي الحماسي.

أما الجزء المحسوس من مقال الأستاذ، حيث ذكر القصائد المدونة في مجموعات العرب، فيسرني أني وإياه على اتفاق تام في أمرها الجوهري، والاختلاف بيننا إنما هو على الاسم فقط، فحضرته يطلق على هذه المنظومات اسم الشعر القصصي الحماسي، وأنا أسمي بعضها شعرًا وصفيًّا: كقصيدة بشر بن عوانة في مقتل الأسد مثلًا، وقصيدة مزرَّد بن ضرار السعدي في وصف شكته، وأسمي الكثير الآخر شعرًا حماسيًّا. حضرته يقول: إن من قرأ شعر آخيل في الإلياذة، ودرس أشعار عنترة العبسي ومهلهل بن ربيعة وقرابته البرَّاق بن روحان، يرى قرب المبدأ والمغزى بين أبطال العرب الثلاثة وبطل اليونان. ذلك لا ريب فيه، غير أن آخيل فرد واحد من أمة يتكلم كلامًا حماسيًّا، وما كان كل من عنترة ومهلهل والبرَّاق إلا فردًا واحدًا من أمة يتكلم كلامًا حماسيًّا. أبطالنا كأبطال الإغريق بل أشد شكيمة، وكلامهم كعزيمتهم ورجولتهم، قد تفوق بلاغته بلاغة الإلياذة، على أن ذلك لا يكفي لتكوين الشعر القصصي الحماسي الذي وضع له أهل الغرب قواعد وشروطًا، فإن نقص شرط من تلك الشروط، أو تبدلت قاعدة من تلك القواعد، خرجت المنظومة من حيز (الإيبوبي) ودخلت دائرة شعرية أخرى. لذلك قلت يوم كتبت عن عمرية حافظ: إن هذا النوع من الشعر (الحماسي) «عندنا منه كثير كشعر عنترة العبسي مثلًا.»

غريب أن جميع من قرأتُ من المستشرقين يقول بخلو العربية من الشعر القصصي الحماسي، ومنهم من يطنب في وصف جمالها واتساعها وفلسفة قواعدها. وقع في يدي في العام الماضي مجموعة المعلقات مذيلة بشرح ألماني من وضع المستشرق «وولف»، وكنت في مجلس حضره أحد كبار علماء المسلمين عندنا، فصرت اسأله عن معنى بعض الألفاظ غير المألوفة — وما أكثرها في المعلقات! — فكان يهز رأسه أحيانًا ويبسم قائلًا: «لا أدري!» فأبحث إذ ذاك عن معنى الكلمة في الذيل الألماني وأجده. فإذا ما ذكرنا أن عرب الجاهلية كانوا أقرب العرب في جميع العصور إلى نظم الملاحم، وذكرنا أن المعلقات أول تلك الملاحم وأهمها، عجبنا لأمثال وولف هذا، الذين وقفوا حياتهم على هذه الأبحاث، وتعصبوا للغة العربية، وأحبوها حبًّا يفوق حب كثيرين من أهلها لها، كيف ينكرون عليها شيئًا ثابتًا فيها؟ وكيف لا يدري هذا الرجل الذي ذيَّل المعلقات بذاك الشرح الوافي في أي الصنوف الشعرية ينتظم صنف المعلقات؟

ومن جهة أخرى كيف يقول معرِّب الإلياذة في مقدمته: «فلا سبيل إذن للزعم بوجود ملاحم لعرب الجاهلية على نحو ما يراد منها بعرف الإفرنج»؟ وهو الذي قال بعد التلميح إلى أن حرب البسوس عند العرب تقابل الحرب الطروادية عند الإغريق، وذكر ما تناقلته العرب من منظوم بديع لوصف مواقعها، قال: «إننا نجد تلك القطع غير ملتئمة لفقدان اللحمة بينها، فهي كالحجارة المنحوتة قد أحكم صنعها وبقيت ملقاة في أرضها غير مرصوصة بالبناء، ثم إذا نظرت إلى أشهر الرجال والنساء فيها رأيتهم جميعهم شعراء: فكليب يقول الشعر، ومثله زوجته جليلة وأخوه مهلهل، وكذلك مرَّة شاعر وابنه جساس شاعر، وكل ذي شأن في القصة من غريب وقريب شاعر؛ كالحارث بن عباد وجحدر بن ضبيعة، فمجموع شعرهم أشبه من هذا الوجه بالشعر التمثيلي؛ لأن لكل حادثة شاعرًا ينطق بها. بخلاف شعر الملاحم كالإلياذة إذ ترى هوميروس فيها ينطق بلسان الجميع.»

نقلتُ هذه السطور عن مقدمة الإلياذة؛ لأن حضرة الأستاذ استشهد غير مرة في مبحثه بالمقدمة المذكورة، ولأني أرى فيها تعريفًا حسنًا لما جرينا على تسميته شعرًا قصصيًّا حماسيًّا.

نقول: «شعر قصصي حماسي»، ولا نفطن أن أول دليل على تغيبه من عندنا هو تغيب اسم يُنبئ بوجوده؛ كيف لم يهتم العرب الذين وضعوا للمسمى الواحد مئات الأسماء أحيانًا، بإيجاد كلمة تدل على خلاصة ما عندهم من آداب؟ نعم، إنه يوجد كلمة ملحمة، وجمع ملحمة ملاحم … يا حفيظ! لو كنت شاعرًا وعلمت أن إحدى قصائدي ستصبح، بل ستمسي، يومًا ملحمة من الملاحم، لكنت كتبت براءة شرعية بيني وبين القوافي والأوزان بحذافيرها.

ثم إن هذه الكلمة لا تؤدي معنى Epopée مطلقًا، واسم «حماسي» وحده أو «قصصي» وحده يعني نوعًا آخر من الشعر، واسم قصصي حماسي طويل كالشواطئ وهو من وضعنا نحن أبناء هذه الأيام، ولكني أتلقى بسرور كلمة «علواء» التي أشار بها حضرة البحاثة المفضال الأب أنستاس ماري الكرملي، فهي أتم ما استعمل إلى الآن معنى واختصارًا ولفظًا، ولكن إن نحن أخذنا بها وأطلقناها على الشعر القصصي الحماسي، فهي كذلك دليل على غيابه لندرة استعمالها؛ فقد أخبرني من قرأ أكثر كتاب الأغاني أنه لم يرَ لها ذكرًا فيه!

إن غياب «الإيبوبي الإفرنجية» لا يحط من مقام لغتنا؛ لأن في العربية منظومات عالية وشعرًا حماسيًّا بديعًا (مما دعاه بستانيَّ الإلياذة «ملاحم قصيرة») يتفق مع روح الأمة، ولن يصل شعراء الإفرنج إلى الإتيان بمثل ما يميزه من جزالة اللفظ وفخامة المبنى ورصف المعنى والبساطة البليغة: بساطة الروح العربي وبلاغته الخلابة؛ لأن الغربي سيظل أبدًا غربيًا والعربي عربيًّا مهما قرَّبت بين أحوالهما الخارجية أسباب العمران.

ومن طبيعة العربي الهبوط إلى نفسه وتحليل ما يجول فيها من عاطفة وميل ورغبة ومفخرة، فإذا ما أقبل ينشد تغنى بما يهيجه من غضب وكيد وانتقام وحماسة وكرم ونخوة، فكان مبدعًا شعر الحماسة والفخر. أو نظم المراثي أو زفر بما يسعر جنانه من وجد وحنين، فكان مبدعًا شعر الغزل والنسيب. وشعره الوصفي ينتمي دوامًا إلى أحد هذين النوعين؛ لأن الطبيعة العربية لم تهتم قط بالنظريات المجردة، ولم تنزع إلا إلى الأشياء المحسوسة الملموسة، فجاء شعرها الفريد صورة صادقة لجوهرها الوجداني. وكان الشعر القصصي الحماسي عندها متفقًا وسليقتها الخاصة، يجري على منهجه الخاص، خاضعًا لجماله العربي الأنيق الخاص. ولو قام أحد شعراء عصرنا يسرد تاريخ الأمة العربية لجاءت هذه العلواء المجيدة أعظم وأبدع إلياذة في تاريخ الأدب عند جميع الشعوب.

أثبتُ هذا الرأي ليس بصفته رأيًا حسنًا، ولكن بصفته رأيي — كما كان يقول مونتاين، وقد يكون الخطأ نصيبي والصواب في جانب غيري، ولكن الحقيقة كعبة جميع الباحثين، فإنما إياها ينشدون في كل نفي وإثبات، ولو أردت اليوم كتابة ما دَوَّنْتُه بالأمس لما أبدلتُ من الألفاظ الأساسية لفظة واحدة، ولو لم يكن لذلك من سبب سوى حمل الشاعر البغدادي على كتابة تلك الصفحات الممتعة النفيسة الاثنتي عشرة في معارضتي لكفى.

٢

هللويا!

لقد عاد الشيخ كاظم الدجيلي في فبراير ١٩٢٤ إلى موضوع الشعر القصصي الحماسي الذي يُطلق عليه هذه المرة — ولعله نسي أني كنت من أنصار هذه التسمية — اسم «العلواء عند العرب»، فجاء يثبت وجود هذا النوع من الشعر تقريرًا «للحقيقة»، وإنصافًا للعرب، وترويضًا — طبعًا! — لذلك «العناد» الذي يأبى حضرته إلا أن ينسبه إليَّ.

ناقَشني، وصمت خمسة أعوام درس خلالها الحقوق، ونفحني بقصيدة نشرها في «الهلال»، ودعاني فيها ببعض الأسماء الحلوة التي يبتكرها الشعراء يوم يوطدون النفس على معالجة «العناد» عند امرئ بوجه من الوجوه، وعلى أن يسترضوه بالأوزان والأسجاع ليخاصموه بالنثر المرسل.

وكنت أعلم بقصيدة وبلا قصيدة، برسالة وبلا رسالة، باسترضاء وبلا استرضاء، أن الشيخ كاظم لن يسكت حتى يسكتني ويسكت المستشرقين القائلين بتغيب الشعر القصصي الحماسي من لغة العرب ولغات الساميين عمومًا.

وليسمح لي الشيخ كاظم أن أحاول إرضاءه في أن أضيف إلى بعض القصائد «العلوائية» التي ذكرتها سابقًا من حافظ وشوقي ومطران (أورد الأسماء على حروف الأبجدية) منظومات جديدة اطلعت عليها بعد … الفصل الأول من قضيتنا؛ إحداها «الحرب الكبرى شعرًا»، وهي منظومة طويلة تملأ كتابًا تامًّا، وتصف وقائع الحرب الكبرى، بقلم الأستاذ أسعد خليل داغر، وأخرى قصيرة هي «ترجمة الشيطان» للأستاذ عباس العقاد في الجزء الثالث من ديوانه، ومنظومتان للمرحوم عبد الحليم أفندي المصري.

ولئن خصصت هذه المنظومات بالذكر فلأني اطلعت عليها، وقد يكون هناك غيرها مما أجهله.

أنشأ الشيخ كاظم ينشر رده لتقرأ الناس، وظهر الجزء الأول من تلك المرافعة الجديدة في شهر فبراير. لا شك أنه تعب كثيرًا وبحث كثيرًا، وهو ولا شك مورد لنا مع أسماء المنظومات التي اهتدى إليها الاسم الذي كانت تُعرف به عند العرب؛ إذ كيف يهتدي المرء إلى فرع من الآداب ولا يهتدي إلى اسمه؟

فإذا أثبت الشيخ كاظم وجود الشعر القصصي الحماسي (وهو فاعل بإذن الله) في لغتنا، فهل يعترف لي شعراء العصر والمجامع العلمية بهذا «الفضل»؟ وهل يسلمون بأنه لولا «العناد النسائي» ما كنا وصلنا إلى هذه النتيجة «الباهرة»؟

قيل لي: يا سيدي الأستاذ إنك رحلت أخيرًا إلى إنجلترا لتدرس اللغة العربية في جامعة لندن، وسواء كنت الآن في إنجلترا أم في العراق فهات يدك أصافحها!

تعجبني منك نخوتك وتعصبك للغتك في أدب وهدوء ورصانة، ويعجبني منك ثبات خمسة أعوام رغم أعمالك الأخرى، ورغم قصائد الاسترضاء في الشعر والنثر.

قد تستغني اللغة عن كثير من شعرها، ولكنها لا تستغني عن همم رجالها وثباتهم وجهادهم للخير والحق والإنصاف.

أتمنى هذا الثبات وهذا الجد وهذه النخوة لجميع رجال الشرق، ولأجلها أصافحك عن بعد، أيها الشاعر العراقي، مصافحة الثناء والإعجاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤