الفصل السابع

المُلتهِم (الإنسان المفترس)

ما يفصل بين الحضارة والفوضى هو سبع وجباتٍ فحسْب.

مثل أسباني

فكِّر وتأمَّل فيما يلي: يُعتبَر عَظْم الفكِّ البشري واحدًا من الأدوات الأكثر تدميرًا على هذا الكوكب. ففي مُقابل كل وجبةٍ يَستهلكها كل فردٍ مِنا، تُفْقَد عشرة كيلوجرامات من التربة السطحية، ويُهْدَر ٨٠٠ لتر من المياه العذبة، بينما يُستَخدَم ١٫٣ لتر من الديزل، وثُلث جرام من المبيدات الحشرية، ويَنبعث ٣٫٥ كيلو من غاز ثاني أكسيد الكربون. وهذا لوجبةٍ واحدة فقط للفرد الواحد.

باستخدام الآلة الحاسبة، اضرب كلًّا من هذه الأرقام في ١١٠٠ لكل الوجبات التي تتناولها في السنة تقريبًا، ثم اضرب النتيجة في ١٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠، وهو عدد السكان المُتوقَّع بحلول العقد السادس من القرن الحادي والعشرين. في ثوانٍ معدودات، ستبدأ في إدراك لِمَ يواجِه نظامنا الغذائي الحديث مُشكلة، ولِمَ تَنقرض الحيوانات البرية. فقد أصبحت شهيتُنا هائلة وأعدادنا ضخمة بحيث إنَّنا أصبَحنا نلتهِم الأرض الآن — والتهامُنا للكوكب الذي نعيش عليه لا يُعتبَر تصرُّفًا يتَّفق مع الحِكمة.

تعتمد النُّظم الغذائية الحديثة على التكنولوجيا، ولكنها تعتمد أيضًا على الموارد المحدودة مثل التربة والنفط والأسماك والأسمدة والمياه النظيفة. ببساطة، تتمثَّل المُعضلة التي نُواجهها في القرن الحادي والعشرين في أن لدَينا طلبًا عالَميًّا مُتزايدًا على طعام يَعتمِد على قاعدةٍ من الموارد العالَمية المُتراجِعة. علاوة على ذلك، من المُرجَّح أن يُعاني نظام غذائي يعتمد بشكلٍ حاسم على الطقس الجيد في عالمٍ تَزداد فيه التقلُّبات المناخية. لهذه الأسباب، يجب أن يتغير، وسيتغيَّر فعلًا، نظامُنا الغذائي وكيفية إنتاجنا للطعام. في الواقع، سيتطوَّر الطعام على مدار القرن الحادي والعشرين بشكلٍ أسرع وأكثر إثارة للدهشة من أي حقبةٍ سابقة من التاريخ. فنحن في الواقع، في طريقنا إلى واحدٍ من أعظم العُصور البشرية، ألا وهو «عصر الغذاء».

إنَّ ما سيأكلُه البشر بعد قرنٍ من الآن، وكيف سيُنتجُونه ويَستهلكُونه، وقيمته الغذائية وتركيبته، كل ذلك سيبدو غريبًا بالنسبة لنا اليوم، تمامًا كما قد يبدو طعامنا الحديث لأجداد أجداد أجدادنا، قبل عصر المطبخ العالمي، والتخزين البارد، والوجبات الجاهزة، والطعام المُصَنَّع، والطُّهاة المشاهير، وبرامج الطبخ. ستَنشأ ثورة الغذاء هذه نتيجة الطلَب الذي لا يهدأ ولا يتوقَّف ونتيجة تزايد الضغوط على الموارد عبر جميع نواحي النِّظام الغذائي العالَمي، إلى جانب ظهور تقنيات جديدة استثنائية، وظهور توجُّهات رائجة في مجالات الزراعة والصحة والاستدامة.

انعدام الأمن الغذائي

هناك عشرة عوامل رئيسية تقودنا إلى انعدام الأمن الغذائي العالَمي، اثنان منها تخصُّ جانب الطلب وثمانية تخصُّ جانب العرْض. تميل مُعظم المحاولات لشرْح ما يحدُث في الغذاء العالَمي إلى غضِّ الطرف عن العديد من هذه العوامل، ولكن جميعها مُهمة، وكلها مُتشابكة، وجميعها يجب مُعالجتها في نفس الوقت إذا كنا نرغب في أن تظلَّ إمدادات الغذاء العالمية آمنةً خلال القرن الحادي والعشرين، عصر «ذروة النمو السكاني».

فيما يخصُّ جانب الطلَب، فالدافع وراء مُضاعفة إنتاج الغذاء العالمي هو النمو السكاني (وهو ما يتأثَّر بمعدلات المواليد وبالأشخاص الأطول عمرًا) وارتفاع مستويات المعيشة إلى جانب الطلب الاقتصادي على الأطعمة الأعلى جودة والأكثر غِنًى والأعلى في القيمة الغذائية، وخاصة في البلدان النامية والدول الصناعية الحديثة.

أما فيما يخصُّ جانب العرْض، فالعوامل الرئيسية التي تحدُّ من قُدرتنا على مضاعفة إنتاج الغذاء هي:
  • الفقدان المادي وتراجع خصوبة التربة في جميع أنحاء العالم، إلى جانب تقلُّص المناطق الزراعية في العالَم.

  • نُدرة المياه العذبة النظيفة في المناطق المُكتظة بالسكان، بينما تتَّحد المدن الكبرى وقطاع الطاقة معًا لسرقة مياه المُزارعين، مما يُقلِّل من الكمية المتاحة لإنتاج الغذاء.

  • التوافر غير المُؤكَّد وارتفاع تكلفة وقود النقل السائل حتى منتصَف القرن وما يليه.

  • حدوث نُدرة في الأسمدة المعدنية العالية الجودة بحلول منتصف القرن، مما يجعلها بعيدةً عن مُتناول معظم المزارعين.

  • الانخفاض المُستمر والانهيار المُحتمَل في مخزونات الأسماك البرية بسبب الإفراط في صيد الأسماك وتلوُّث المحيطات.

  • الانخفاض العالَمي في استثمارات القطاع العام في علوم الأغذية والزراعة ومصايد الأسماك، مما سيُؤدِّي إلى ركود في إنتاجية المحاصيل والمراعي ومصايد الأسماك، وزيادة ملحوظة في الأمراض المُتعلِّقة بالنظام الغذائي لدى البشر.

  • جفاف عالَمي في «رأس المال الصبور» للاستثمار الجديد في الزراعة وإنتاج الغذاء، إلى جانب شُيوع استثمارات المضاربة في الأراضي الزراعية والسِّلع، وممارسات الاستيلاء على الأراضي من قِبَل المضارِبين والشركات الغنية.

  • انقراض المناخ المُعتدِل الذي أدَّى إلى نهوض الزراعة والاستعاضة عنه بنظامٍ مناخي أكثر غموضًا يتَّسِم بحدوث الفيضانات والعواصف وحالات الجفاف وموجات الحرارة بصورة أكثر تواترًا وشدةً وفقدان الإنتاج في المزارع.

يُعتبر التضافُر بين هذه العوامل العشرة هو السبب الرئيسي لانعدام الأمن الغذائي العالَمي في الحاضر والمُستقبَل. لن يُؤدِّي حلُّ العديد من هذه المشكلات إلى حلِّ مشكلة الغذاء؛ إذ يتطلَّب تحقيقُ عالَم يتمتَّع بالأمن الغذائي حلَّ جميع المشكلات العشر في وقتٍ واحد، وبطرُق لا تتعارَض إحداها مع الأخرى. لا تُوجد حلول إعجازية، فحتى «المحصول الخارق» الأعلى إنتاجًا لا يزال يعتمد على وجود ما يكفي من التربة والمياه والنفط والمواد الكيميائية والأسمدة والمناخ المُستقر ليَنمو فيه. لا تُدرِك الحكومات ولا المُستهلكون ولا مُعظم القائمين على صناعة الأغذية نفسها الحجم الهائل للتحدِّي المُتمثِّل في زيادة الإنتاج في وقت تتقلَّص فيه الموارد.

لدى الإسبان — الذين تعلَّموا بلا شكٍّ من تجربة مريرة — مقولة قديمة مَفادها أن «ما يَفصل بين الحضارة والفوضى هو سبع وجباتٍ فقط.» وهو ما يعني أنه إذا مرَّ أكثر من يومَين على الناس بلا طعام، فسيَدفع أصحاب السُّلطة والنفوذ الثمن غاليًا. تاريخيًّا، اندلعت الثورتان الفرنسية والروسية بسبب المَجاعات، ووقَعَت كلٌّ من الإبادة الجماعية في رواندا والحرب الأهلية في دارفور على حدٍّ سواء بسبب النزاعات بين الجماعات العِرقية المُختلفة على الغذاء والأرض والمياه. وفي عام ٢٠١١، سقطت حكومتا مصر وتونس نتيجةً لحراك شعبي كانت بدايته احتجاجات تتعلَّق بالغذاء. في المجاعات الإقليمية في القرن الحادي والعشرين، يُعدُّ الجوع والنزاعات على الغذاء والأرض والمياه عوامل مُحتمَلة للعِصيان المدني وانهيار الحكومات وتدفُّق اللاجئين بأعدادٍ هائلة والإبادات الجماعية وحتى الحروب الدولية.

كم عدد الناس؟

سيَجلس الليلة نحو مائتي ألف شخصٍ إضافيين لتناوُل العَشاء، مقارنة بالأمس. ومع ذلك، فالنمو في عدد السكان ليس مجرَّد مسألة تتعلَّق بالأطفال المولودين، فهو يرجع أيضًا إلى الأشخاص الأثرياء الذين يعيشون حياةً أطول. سيَستهلِك الشخص العادي الذي يُقيم في بلدٍ مُتوسط العمر المُتوقَّع فيه مرتفع، ٣٥ ألف وجبة أكثر من الشخص الذي يعيش في بلدٍ لا يَزال معظم الناس فيه يموتون صغارًا في السنِّ نسبيًّا (منظَّمة الصحة العالمية، ٢٠١٢). علاوةً على ذلك؛ فالطفل الذي يُولَد لأبوَين ميسورَي الحال، سيَستهلك من ستة إلى عشرة أضعاف الموارد المحدودة أصلًا على الكوكب، مقارنة بالطفل المولود لأبوَين فقيرَين. ومن ثمَّ تُساهم المجتمَعات الغنية بصورة غير متكافئة في الضغط على الموارد التي تزداد محدوديتها، مثل التربة والمياه والمعادن والطاقة، وهو ما يُشكِّل خطر وقوع مجاعة ونشوب صراع على تلك الموارد. ويترتَّب على ذلك أنه إذا كان لجميع البشر الحقُّ في أن يتمتَّعوا بمستوى معيشة مُتوسِّط يرقى إلى الجيد، فالكوكب لا يُمكنه دعم سوى جزءٍ صغير فقط من سُكَّانه الحاليِّين على المدى الطويل.

باستثناء الأزمات الكبرى، فبحلول نهاية هذا القرن يُمكن أن يكون هناك ١١ مليار فمٍ يَحتاج للطعام. تُقَدِّر توقعات شُعبة الأمم المتحدة للسكان فيما يتعلق بمتوسط الخصوبة أنَّ عدد سكان العالَم سيَصِل إلى ١٠ مليارات نسمة في عام ٢٠٦٢ و١١ مليار نسمة في تسعينيات القرن الحادي والعشرين (إدارة الأمم المتحدة للشئون الاقتصادية والاجتماعية، ٢٠١٤). يُحذِّر بعض المُعلِّقين، مثل البروفيسور أدريان رافتري أستاذ الإحصاء في جامعة واشنطن، من أن تعداد السكان قد يصِل إلى ١٢ مليار نسمة (هيكي، ٢٠١٤). ومن ناحيةٍ أُخرى، يقول بول إيرليش مؤلِّف الكتاب الشهير الذي صدَر في عام ١٩٦٩، «القُنبلة السكانية»، إنه على الرغم من الانتشار العالمي للنسوية والنمو في الفُرَص الاقتصادية للمرأة، إلى جانب حملة التشجيع على تكوين عائلات أصغر، فإنَّنا يُمكن أن نَشهد ذروةً في عدد السكان تصل إلى ٨٫٥ مليارات نسمة في خمسينيات القرن الحادي والعشرين، ثم يبدأ انخفاض بطيء في الحدوث (إيرليش وإيرليش، ٢٠١٤). إن القدرة الاستيعابية للأرض على المدى الطويل غير مؤكَّدة، وهذا اعتمادًا على مُستويات المعيشة وخيارات الطعام التي يتَّخِذها الأفراد. وقد قَدَّرَ عالِم الأحياء إي ويلسون القُدرة الاستيعابية للأرض بعشرة مليارات — وذلك شريطة أن يُصبح الجميع نباتيِّين (ولكوفر، ٢٠١١). ومع ذلك — كما أشَرتُ في الفصل الثالث — نستخدِم نحن البشر بالفعل ما يُوازي ١٫٦ كوكب لتلبية احتياجاتنا الحالية؛ لذا فالعوامل المُقوِّضة قد تكون موارد مثل التربة والمياه (شبكة البصمة العالمية، ٢٠١٦). وهذا يعني أن قُدرة الكوكب على استيعاب البشر، الذين يعيشون بمستوًى معقول، على المدى الطويل قد تكون أقربَ إلى الأربعة مليارات نسمة التي كان يَستوعبها الكوكب في عام ١٩٧٤. بينما يقول البعض، مثل إيرليش، إنها أقرب إلى مليارَي شخص فقط بمعايير حياتنا الحالية. هذه هي نوعية الأهداف التي ستهدف الإنسانية الحكيمة لتحقيقها على مدار القرن المُقبل إذا كانت ترغب في ضمان بقائها ورفاهيتها وازدهارها على المدى الطويل. في هذه الأثناء، علينا أن نُخطِّط لإطعام العالَم خلال عدَّة عقود من «ذروة النمو السكاني» إلى أن تتمكَّن نساء العالم من خفض أعداد البشر بما يَكفي عن طريق تقليل خصوبتهن، كما يفعلن حاليًّا في جميع مناطق العالم.

تتراوَح التوقُّعات حول حجم الطلب على الغذاء المطلوب لإشباع احتياجات سكَّان العالَم حتى عام ٢٠٥٠، من معدَّل نموٍّ يَتراوح بين ١٫١ إلى ١٫٥٪ كل عام (ماكينزي وويليامز، ٢٠١٥). وهو ما يضع نموَّ الطلَب على الغذاء بين ٥٩ و٩٨٪ في الأربعين سنة القادمة. يَعتمد التبايُن الكبير على ما إذا كان المرء سيَفترض أن البلدان الحديثة الثراء ستتبنَّى المستويات الغربية من أكل اللحوم — وهو أمر واضح في الصين بالفعل، على سبيل المثال — أم ستَلتزم بنظامٍ غذائي يَغلب عليه النباتية (كما قد يُفضِّل العديد من الهنود).

لتلبية النمو السكاني ونمو الطلَب الاقتصادي في أماكن مثل الصين والهند وأمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط وغيره، فلا بدَّ أن يتضاعَف توافُر الغذاء العالمي من جميع المصادر في غضون نصف قرن. من حيث الحجم، يتضمَّن هذا إنتاج المزيد من الغذاء في السنوات الأربعين القادمة أكثر ممَّا كنَّا نُنتجه في الخمسة آلاف سنة الماضية (مجلة «إيكونوميست»، ٢٠١٥أ). ومع ذلك، فقد أصبح كلُّ ما يلزمنا للقيام بذلك من خلال الزراعة التقليدية شحيحًا: التربة والمياه والمُغذيات والطاقة والتكنولوجيا والأسماك ورأس المال والمناخ المُستقر الثابت.

إنَّ هذا التضارُب بين تزايد الطلَب وتقلُّص الموارد هو الذي يجعل الغذاء التحدِّي الرئيسي لعصرنا، بل والأكثر إلحاحًا حتى من تغيُّر المناخ (كريب، ٢٠١١).

حروب المياه

أول ندرة كبيرة ستَضرب الزراعة ستكون المياه. حذَّر تقرير للأمم المتحدة من أنه بحلول عشرينيات القرن الحادي والعشرين، سيُواجه نحو ٢٫٩ مليار شخص في ٤٨ دولة ضغوطًا مائية حادة. «ستُؤدي الحاجة إلى زراعة المزيد من الغذاء، وإنتاج المزيد من الطاقة، وزيادة إنتاج السِّلع الفاخِرة إلى زيادة الطلَب على المياه … والعاقِبة النهائية هي أنه بحلول عام ٢٠٣٠، يُمكن أن يكون الطلَب على المياه أعلى بنسبة ٤٠٪ من العرْض المتاح» (شوستر والاس وساندفورد، ٢٠١٥ب).

يستخدِم المواطن العادي في كوكب الأرض حوالي ١٣٨٦ طنًّا من المياه العذبة سنويًّا — ألف طنٍّ منها على شكل غذاء (هوكسترا وتشابين، ٢٠٠٧). على مدار عُمر الإنسان، يستخدِم كلٌّ منا كميةً كافية من المياه العذبة لأن تطفوَ فيها حاملة الطائرات الأمريكية «يو إس إس إنتربرايز»، وهي حاملة طائرات ضخمة تزن ٩٥٠٠٠ طن. يستهلك فنجان القهوة الصباحي المُنعش الذي نصنعه ١٤٠ لترًا من الماء لزراعة حبوب القهوة فقط، وتستهلك شريحة التوست ٤٠ لترًا من الماء لزراعة القمح. بينما يَستهلك القميص الأنيق العادي أربعة أطنان من الماء لإنتاج القطن فقط. يحتوي كأس النبيذ الذي تشربه في المساء على ١٢٠ ألف ملِّيلتر من الماء لإنتاج ١٥٠ ملِّيلترًا من عصير العنب المُخمَّر فحسْب. بينما يتطلَّب عشاؤك من الدَّجاج ستة أطنان من الماء لزراعة الحبوب التي تتغذَّى عليها الدجاجة التي تناولتْها (لينتيك، ٢٠١٤). أما إذا كان عشاؤك من اللَّحم الأحمر، فالكيلو الواحد من لحم البقر الذي يتغذَّى على الحبوب، يَستهلِك حوالي ١٥ طنًّا من الماء. ومع ذلك؛ فالقليل منَّا يفكر في الكميات الهائلة من المياه التي تستهلك في إنتاج غذائنا اليومي، أو في التأثير الضَّخم لسحب المياه من الأنهار وطبقات المياه الجوفية على إمدادت المياه العذبة والمساحات الخضراء في جميع أنحاء العالم. يُستهلك ما يقرُب من ٧٠٪ من كل المياه العذبة التي يستخدمها البشر في إنتاج المحاصيل المَروية ومراعي الماشية (منظمة الأمم المتَّحدة للأغذية والزراعة، ٢٠١٤)، والتي بدَورها تُوفِّر ما يقرُب من نصف الغذاء في العالم (والباقي تُوفِّره الزراعة التي تَعتمِد على مياه الأمطار). وتَتزايد حصة إنتاج الأغذية المروية عامًا بعد عام، حيث يزداد الضغط على إمدادات المياه في المناطق الزراعية الجافة بسبب تغيُّر المناخ. كما يَصِف الكاتب البريطاني فريد بيرس الأمر وصفًا بصريًّا، «كشخصٍ غربي نموذجي يأكُل اللحم، ويُسرِف في شُرب البيرة وتَجَرُّع الحليب، أسْتَهلكُ أضعاف وزني مائة مرة من الماء كلَّ يوم» (بيرس، ٢٠٠٦).

هذا الاستِخراج المُفرط للمياه العذبة لإنتاج الغذاء له تأثير عقابي على الأنهار والبحيرات ومصادر المياه الجوفية في العالَم، خاصَّة في المناطق الدافئة والجافة. في كثيرٍ من مناطق سلال الغذاء في العالَم، تُستخرج المياه الجوفية لريِّ المحاصيل على نحوٍ أسرع بكثيرٍ من قدرة تلك الطبقات الجوفية على إعادة الامتلاء، وذلك مع تناقُص منسوب المياه الجوفية في أجزاء من الصين والهند بمقدار مترٍ أو أكثر سنويًّا (دول وآخرون، ٢٠١٢). كما أشرنا في الفصل الثالث، تكمُن أهمية المياه الجوفية في أنها تُشكل ٩٥٪ أو أكثر من المياه العذبة المتاحة على الكوكب، وبمجرَّد استخراجِها، تتمُّ عملية إعادة تكوُّنها بالمعدلات الجيولوجية فحسْب. على سبيل المثال، بمجرَّد استخراج المياه حتى آخِر قطرة، يُقَدَّر أن أجزاء من حوض أوجالالا الجوفي التي تَروي المزارع في مناطق السهول الأمريكية المرتفعة قد تستغرق ما يصل إلى ستة آلاف عام لتمتلئ مرةً أخرى (بييلُّو، ٢٠١٢). تُوفِّر المياه الجوفية حاليًّا أكثر من ٤٠٪ من الغذاء العالمي (وادا، ٢٠١٢)، ووفقًا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، بحلول مُنتصَف القرن، قد نكون في حاجة لأن تُوفر المياه الجوفية ٦٠٪ من الغذاء نتيجة لندرة الأراضي الزراعية الجديدة التي تعتمد على مياه الأمطار. بمعدلات الاستخراج الراهنة، سيتمُّ استنزاف العديد من أهم مصادر المياه الجوفية الأساسية في العالَم في آسيا وجنوب آسيا والأمريكتَين وشمال أفريقيا والشرق الأوسط بحلول ثلاثينيات القرن الحالي، ممَّا يُهدِّد بأزمة في الأمن الغذائي العالَمي ويُمثل تهديدًا مباشرًا لحياة أربعة مليارات شخص يَعتمدون على الغذاء المزروع باستخدام مياه الآبار. كما يؤدي فقدان المياه الجوفية إلى تعريض الغابات ونباتات المناطق الخضراء التي تَعتمد عليها للخطر؛ حيث يُؤدي استخراجها إلى خفض منسوب المياه الجوفية بحيث تُصبح بعيدة عن جذور الأشجار والشجيرات، مما يؤدي إلى موتها. وهو ما يؤثر بدوره على رعي الماشية وإنتاج الغذاء من الغابات. باستخدام أدوات الجاذبية في الأقمار الصناعية التي تُحلِّق بعيدًا في الفضاء فوق كوكب الأرض، حصل العلماء في وكالة ناسا على نظرةٍ عامة عن نفاد مستويات المياه الجوفية في جميع أنحاء الكوكب (انظر شكل ٧-١)، ووجدوا أن ثلاثة عشر من أصل واحدٍ وعشرين حوضًا جوفيًّا رئيسيًّا في طريقها إلى النفاد الآن. يقول العلماء:

تشهد معظم طبقات المياه الجوفية الرئيسية في المناطق القاحلة وشبه القاحلة في العالم — وهي أجزاء من العالم تعتمد اعتمادًا شديدًا على المياه الجوفية — معدلات استنفاد سريعة بسبب استخدام المزارع للمياه … وهذا يَشمل سهل الصين الشمالي وحوض كانينج في أستراليا، ونظام طبقات المياه الجوفية بشمال غرب الصحراء الكبرى، وحوض الجواراني في أمريكا الجنوبية، والمياه الجوفية في مناطق السهول المرتفعة ووادي سنترال فالي في الولايات المتحدة، والمياه الجوفية الموجودة أسفل شمال غرب الهند والشرق الأوسط. (فويلاند، ٢٠١٤)

fig10
شكل ٧-١: تناقُص موارد المياه الجوفية في سبعة أحواض من سلال الغذاء الرئيسية في العالم. (المصدر: وكالة ناسا، ٢٠١٤.)
يَنخرط المزارعون في جميع أنحاء العالم في معركة من أجل كسب رزقهم — ومن أجل توفير إمداداتنا الغذائية — مع مدن ضخمة وشركات طاقة عملاقة تطمع في الاستيلاء على إمدادات مياههم المتضائلة. تَستهلك المدن الكبرى المتضخِّمة في كلٍ من آسيا وأمريكا الشمالية وأوروبا كميات هائلة من المياه الجديدة كلَّ عام. يتمُّ استنزاف وإعاقة مساحاتٍ كبيرة من المياه الجوفية، وكذا تلويثها من خلال التنقيب عن النفط والغاز (التكسير الهيدروليكي)،1 وإنتاج نفط الرمال القطرانية والتنقيب عن (وتفريغ) مناجم الفحم المكشوفة. عندما تتصارع شركات الوقود الأحفوري والمدن والمجتمعات الزراعية على حقوق المياه، يَخسر المزارعون (ومن ثمَّ نحن المُستهلكون) في جميع الحالات تقريبًا (انظر فينلي، ٢٠١٢ على سبيل المثال). كما تُوضِّح إحدى مجموعات الاحتِجاج من المزارعين الأستراليين:

أفضل أراضينا المُنتِجة للغذاء وأجود مناطقنا الطبيعية معرَّضة للخطر بسبب عمليات التنقيب غير الملائمة عن الفحم والغاز. تُغطِّي تراخيص وتطبيقات استكشاف الفحم والغاز أكثر من ٥٠٪ من أستراليا، وهناك خطط لمُضاعفة صادراتنا من الفحم ولنُصبح أكبر مصدر للغاز في العالَم. في القارة الأكثر جفافًا على كوكب الأرض، يُعدُّ الماء هو أغلى مَورِد لدينا. وعلى الرغم من ذلك؛ فالتنقيب … يعرض مُستجمَعات مياه الشرب لدَينا، ومواردنا من المياه الجوفية، وأنهارنا وأراضينا الرطبة للخطر. («إمباكتس»، ٢٠١٥)

وفي الوقت نفسه، أصبح هطول الأمطار في أكبر سلال الحبوب في العالَم غير مؤكَّد مع تغيُّر المناخ ودفئه، في حين يتضاءل تراكم الثلوج على سلاسل الجبال العالية؛ مثل جبال الهيمالايا، والهندوكوش، وجبال الأورال، والأنديز والروكي، التي تُعتبَر مصدر إمداد للعديد من أكبر أنهار العالم ونُظُم مياهه الجوفية التي يعتمد عليها إنتاج الغذاء (الدائرة العالمية لمُراقبة الكُتَل الجليدية، ٢٠١٥؛ براون، ٢٠١١). في العديد من البلدان، يعتمد المُزارعون على هذه الأنهار الكبيرة التي تجري على مدار السنة في ريِّ محاصيلهم، ولكن إذا اختفى «برج المياه» المُتجمِّد الخاص بالكُتَل الجليدية الجبلية، فلن تجريَ الأنهار سوى بشكلٍ موسمي. في بعض المناطق، مثل شمال الهند وباكستان وآسيا الوسطى، هذا يُمكن أن يُقلِّل الإنتاج الغذائي الذي يعتمد على المحاصيل المروية إلى النصف.

تُشكِّل كل هذه العوامل ضغطًا مُتزايدًا على الإمدادات الغذائية العالمية في هذه اللحظة الدقيقة من التاريخ الذي نَحتاج فيها إلى زيادتها. وهو ما يُعتبَر نتيجةً لقراراتٍ سيئة أو فاسدة اتَّخذتها الحكومات فيما يتعلَّق بتخصيص المياه، وكذا الجهل بالموارد، وانعدام النظرة المُستقبَلية، وتطبيقات السوق الغافلة عن المستقبل، وتحديد أسعار للمياه لا يستطيع المزارعون تحملها، ولكن يُمكن أن يتحمَّلها الآخرون.

التربة

يُعتبَر مُزارعو أيوا بالولايات المتحدة الأمريكية من بين المزارعين الأكثر كفاءةً في العالَم فيما يفعلونه، وهو زراعة محاصيل الذرة وفول الصويا وتربية الماشية بشكْلٍ رئيسي. لكن وفقًا لجامعة ولاية أيوا، لا يزالون يفقدون نحو ٣٠ مليون طنٍّ من التربة السطحية سنويًّا، بسبب تآكُل التربة بفعل العواصف بشكلٍ أساسي — وهذا بدَوره يُؤدِّي إلى خسارة نحو مليار دولار أمريكي في إنتاج الحبوب. يُمكن أن تصل الخسائر في عاصفة مَطيرة شديدة إلى ٦٤ طنًّا من التربة السطحية لكل فدان. إحدى الحقائق التي لا جدال فيها هي أنَّ الزراعة تَنطوِي على إنهاك التربة السطحية، إما عن طريق الفلاحة أو الرعي، ولا يُوجَد أي نظامٍ زراعي تقليدي يُمكنه تجنُّب حدوث ذلك تمامًا. ومع ذلك، إذا كان المُزارعون الجيدون يفقدون الكثير من التربة، فيُمكننا أن نتخيَّل ما يُمكن أن يَخسره المزارعون غير الجيِّدين. (إيلير، ٢٠١٤؛ كوكس وآخرون، ٢٠١٢) قبل قرنٍ من الزمان لم يكن لهذه المسألة أهمية كبيرة، فقد كان هناك الكثير من الأراضي الحرجية الجديدة التي يُمكن تطهيرها لتحلَّ محلَّ أيِّ أرضٍ أصبحَت في حالة مُتدهوِرة. أما الآن، فمع تقلُّص غابات العالَم والأراضي الزراعية، لم يَعُد الأمر كذلك.

يُقدر علماء التربة أنَّ العالَم يفقد، إجمالًا، حوالي ٧٥ مليار طنٍّ من التربة السطحية سنويًّا، ويَرجع ذلك بشكلٍ أساسي إلى إنتاج الغذاء (ويلكينسون وماكيلروي، ٢٠٠٦). وفي قياس مُنفصِل للظاهرة نفسها، كشفت الأقمار الصناعية عن تقلُّص مساحة الأراضي الزراعية في العالم بمعدَّلٍ يُنذِر بالخطر يَبلغ نحو ١٪ سنويًّا (باي وآخرون، ٢٠٠٨) حيث تحوَّلت بعضها إلى صحاري، ودُفِنَ بعضها الآخر تحت المدن المترامية الأطراف. كما حذَّروا من أنه إذا استمرَّ الأمر على هذا المنوال، فقد تَنفَد الأراضي الصالحة للزراعة من العالَم في غضون من خمسين إلى سبعين سنة (مارلر ووالين، ٢٠٠٦؛ كروفورد، ٢٠١٢).

لا يَكمن الخطأ في المزارعين الذين يُكافحون من أجل كسب العيش في ظلِّ الأسعار المنخفِضة التي يدفعها القائمون على السلسلة الغذائية العالمية للحصول على مُنتجاتهم. بل تكمُن المشكلة في اقتصاديات نظام الغذاء العالَمي التي لا ترحم ولا تُراعي المستقبل، وهو ما يدفع المزارعين وصناعاتهم إلى الاتجاه إلى الإنتاج غير المستدام في سعيهم للحصول على طعام أرخص. سعر الطعام الذي يُباع في السوبر ماركت رخيص، فسعره غالبًا يَبلغ ثلث أو أقل ما كان يدفعه أجدادنا للحصول على نفس الطعام (فان ترامب، ٢٠١٥). إلا أن له ثمنًا خفيًّا يتمثَّل في التربة المفقودة، والمياه المُستخرَجة من المناجم والمياه الملوَّثة، والمُغذيات المُهدرة، والمساحات الخضراء المُتدهوِرة، والمزارعين المُدَمَّرين والمجتمعات الريفية المُدَمَّرَة، وهو ما يضرُّ الزراعة الآن في جميع أرجاء الكوكب.

يَكمُن حلُّ هذه المشكلة في شقَّين؛ أولًا: تقليل الضغط الاقتصادي على المزارعين والأنظمة الزراعية في كل مكان، حتى يتمكَّنوا من العمل بصورةٍ أكثر استدامة (كريب، ٢٠١١). وثانيًا: الانتقال إلى طرق الزراعة التي لا تَعتمِد على التربة أو الأنظمة الأكثر كثافة في إنتاج الغذاء، مثل الزراعة المائية، والزراعة المائية المُركَّبة (أكوابونيك)، والزراعة الحيوية، والمزارع العمودية في المناطق الحضرية (هذا الفصل).

إهدار هائل

إن جيلنا هو أول جيل في تاريخ البشرية يتخلَّص من نصف طعامه.

ما بين ثلث ونصف الجهود التي يبذلها المُزارعون والبستانيُّون والعلماء الزراعيون في العالم — والتي تصل إلى ١٫٣ مليار طن من الطعام سنويًّا يزيد قيمته عن تريليون دولار — يَنتهي بها الحال في مدافن النفايات أو تتعفَّن في الحقول (جوستافسون وآخرون، ٢٠١١ب). يكون معدَّل الإهدار الأعلى في العالَم المُتقدِّم، حيث يَبلغ ما بين ٩٥ و١١٥ كيلو للفرد الواحد، مقارنةً بالإهدار في جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا وأفريقيا السوداء الذي يَبلغ من ٥ إلى ١١ كيلو للفرد. وبينما يُعاني ٨٠٠ مليون شخص من الجوع، يتخلَّص العالَم مما يَكفي من الغذاء لإطعام أكثر من مليارَي شخص. والسبب في ذلك يرجع في المقام الأول إلى سلسلة الغذاء العالمية التي تقدر الطعام بسعرٍ رخيص للغاية، وتدفع للمُزارعين لقائه ثمنًا زهيدًا. وفي قرنٍ يتَّسِم بانعدام الأمن الغذائي العالَمي، فهذه المُمارسات لا أخلاقية ولا اقتصادية ولا مُستدامة.

ومع ذلك، نظرًا لعدم استعداد أيٍّ من الدول الغنية التي تُهدِر طعامها لنقلِه في حالة صالحة للأكل إلى البلدان الفقيرة التي تَفتقر إلى الغذاء الأساسي (أي إعادة توزيع الغذاء)، فالحل الوحيد هو تزويد الدول الفقيرة بالمعرفة اللازمة لتُنتِج ما يكفي من طعامها. وهو ما قد يؤدِّي بهم إلى (أو يدفعهم نحو) تبنِّي طرُق الزراعة الحديثة وغير المستدامة والمكثَّفة.

تعتمد الزراعة الحديثة العالية التقنية، وفي الواقع مُعظم السكان، اعتمادًا تامًّا على استخدام الأسمدة لتحقيق عائداتٍ عالية من الغذاء والمحاصيل العلَفية. ومع ذلك، يستخدم العالم حاليًّا حوالي ٢٠٠ مليون طن من الأسمدة المعدنية سنويًّا لزراعة هذه المحاصيل (هيفر وبرودوم، ٢٠١٤). من المُحتمَل أنَّ حوالي ثلاثة أرباع هذه الكمية الهائلة من العناصر الغذائية يُفقَد، إما في المزرعة (حيث يُمكن أن تتسرَّب إلى المياه الجوفية، أو تتبخَّر في الغلاف الجوي، أو تُصبح مُحْتَبَسة في التربة أو تُغَذِّي الحشائش غير المرغوب فيها)، أو في شكل خسائر في المحاصيل بعد الحصاد، ومخلفات الطعام ومياه الصرف الصحي. كما تَنطوي محاولات مضاعفة إنتاج الغذاء العالمي من خلال أساليب الزراعة التقليدية على مضاعفة مُحتمَلة في المعدلات العالمية لاستخدام الأسمدة، لا سيما في آسيا وأفريقيا حيث تُعاني التربة من الفقر الشديد بسبب الزراعة الطويلة. وفي الوقت نفسه، يَنخفِض الكثير من احتياطيات الفوسفات والبوتاس عالية المستوى في العالَم، إلى جانب احتياطيات الفوسفور — وهو عنصر لا غِنى عنه لكل أشكال الحياة على الأرض — التي من المُتوقَّع نضوبها خلال حوالي خمسين عامًا (جيلبرت، ٢٠٠٩؛ بيرس، ٢٠١١). وتتفاقَم المشكلة بسبب أن معظَم احتياطيات الفوسفات المتبقية هي من الصخور الصلبة، وهو ما يتطلَّب المزيد من الطاقة الأحفورية لاستخراجها. في حين أن النيتروجين المُستخدَم في الأسمدة النيتروجينية وفير في الغلاف الجوي، إلا أن إنتاجه يَعتمد على الغاز الطبيعي وهو أحد غازات الدفيئة، وسوف يُصبح شحيحًا أيضًا بحلول منتصَف القرن. كل هذا سيرفع سعر الأسمدة الاصطناعية إلى مستوياتٍ لا يُمكن لمُعظم المُزارعين تحمُّلها، وخاصة في العالَم النامي. وهذا بدَوره يَعني انخفاض الإنتاج الزراعي في وقتٍ يزداد فيه الطلب — ومن ثمَّ نقص في الإمدادات وارتفاع في أسعار الغذاء للمُستهلكين.

كان للاستخدام الكثيف للسماد الكيميائي الذي يتكوَّن من النيتروجين والفوسفور والبوتاس (NPK) على مدار القرن الماضي أثرٌ جانبيٌ ضارٌّ آخر، ألا وهو استِنفاد أفضل أنواع التربة الصالحة للزراعة في العالَم من المُغذيات الدقيقة الأساسية للصحة والحياة. عندما تزيد من نموِّ نباتات المحاصيل بشكلٍ مُفرط باستخدام هذه الأسمدة، فإنَّ النباتات بدَورها «تُنَقِّبُ» عن تلك العناصر الثانوية، والجوهرية في الوقت نفسه، والتي لا يتمُّ الاستعاضة عنها وتمتصُّها. على سبيل المثال، تُشير دراسة أمريكية إلى أنه يتعيَّن علينا الآن أن نأكل خمس حَبَّاتٍ من الطماطم أو القرنبيط للحصول على نفس المعادن الأساسية التي كان يحصل عليها أجدادنا، قبل مائة عام، من تناول ثمرة واحدة فقط (مارلر ووالين، ٢٠٠٦). يشكُّ العلماء أيضًا في أن هذا الانخفاض في «كثافة العناصر الغذائية» في النظام الغذائي الحديث قد يكون عاملًا في ارتفاع معدَّل الإصابة بالأمراض المُزمنة المرتبطة بالنظام الغذائي.

كل هذا يُشكِّل إمكانية حدوث أزمة تتعلَّق بالمُغذيات في منتصف القرن، إذا استمرَّ النهج الحالي في تجريد التربة والأرض من معادنها، حيث إنَّ كل المناجم تَنفد في نهاية المطاف. الحل هو أن يقوم العالَم فورًا بإعادة تدوير جميع المغذيات الموجودة في نفاياتنا — نفايات المحاصيل، ونفايات الطعام، وخسائر ما بعد الحصاد، ومياه الصرف الصحي، وما تمَّ تقليمه وقصُّه من الغابات والحدائق وما إلى ذلك — وإدخالها مرةً أخرى في إنتاج الغذاء. ومع ذلك، سيتطلَّب ذلك من كل مدينةٍ وبلدة أن تَحظر التخلُّص من المواد الغذائية والنفايات العضوية الأخرى في مدافن النفايات، وأن تفرض إعادة تدويرها في إنتاج الأسمدة، ومُحسِّنات التربة، والسماد العضوي وغيرها من المُنتَجات، وأن تُنْشِيء مراكز معالجة محلية للقيام بذلك. كما سيتطلَّب الأمر تطوير الزراعة الحضرية على نطاق عالَمي للاستفادة من الكميات الهائلة من العناصر الغذائية التي تتركَّز في المدن الكبرى.

مخاطر الطاقة

النفط هو شريان الحياة للزراعة التي تَعتمد على الميكنة الحديثة. وهذا يعني أننا لإطعام أنفسنا فإن كلَّ فردٍ منا «يأكل» وقود الديزل الموجود في ٦٦ برميلًا من النفط سنويًّا — أو حوالي ١٫٣ لتر من الديزل في كل وجبة. النفط مطلوب لزرع طعامنا وريِّه وحصاده وتخزينه ونقله ومعالجته وتوصيله — وعادة ما تُستخدم نصف كمية النفط في المزرعة والنصف الآخر في المراحل الأخرى. بشكلٍ عام، يُمثِّل إنتاج الغذاء حوالي ٣٠٪ من إجمالي استخدام الطاقة في العالم (منظَّمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، ٢٠١٤أ).

الأمر ببساطة هو أنه بالنسبة لمعظم البشرية، دون النفط، لن يُوجَد طعام.

ومن ثمَّ فالصدمات النفطية المُستقبَلية تُمثل واحدةً من أعظم المخاطر وأكثرها مباشرة في تأثيرها على الإمدادات الغذائية العالمية، خاصة في البلدان المُتقدِّمة والمدن الكبرى. وقد تنشأ هذه الصدمات نتيجة الاستِنزاف التدريجي للاحتياطيَّات التي يُمكن الحصول عليها بسهولةٍ من النفط الأحفوري في العالَم — والتي تُعرَف باسم «ذروة النفط» — أو نتيجة الحروب وفشل الإدارة في مناطق الإنتاج الرئيسية، أو الكوارث المحلية. تحدُث «ذروة النفط» عندما يتخطَّى حقل النفط أعلى نقطةٍ من موارده المُستخرَجة، ويبدأ الإنتاج بالتراجع تدريجيًّا، وهو ما قد حدث مرَّاتٍ كثيرة في حقول النفط الفردية حول العالَم، ويَحدُث الآن في المناطق النفطية الرئيسية، مثل المملكة العربية السعودية (باترسون، ٢٠١٤). دفعت الاكتشافات الأخيرة، مثل اكتشافات القطب الشمالي، من مصادر غير تقليدية مثل الرمال القطرانية والنفط الصخري والتنقيب في المياه العميقة، بعض الخبراء إلى استنتاج أنَّ «العالَم لا ينفد من النفط نفسه، بل من قُدرته على إنتاج نفط عالي الجودة ورخيص وقابل للاستخراج اقتصاديًّا عند الطلب» (كولمان، ٢٠١٥). ومع ذلك، فإن العديد من بدائل البترول، مثل الرمال القطرانية أو الإيثانول المحصولي، أقل كفاءة بكثيرٍ من حيث الطاقة وقد لا تكون قادرةً على إمداد الحضارة الصناعية الحديثة بما يلزمها من طاقة.

إحدى القضايا الرئيسية، والتي غفَلَت عنها الحكومات والخبراء إلى حدٍّ كبير، هي أن الإنتاج العالمي للسيارات الجديدة في أوائل عام ٢٠١٠ نما بوتيرة أسرع بعدة مرَّاتٍ من حجم النفط الجديد الذي تمَّ اكتشافه من جميع المصادر التقليدية وغير التقليدية (المنظمة الدولية لمُصنِّعي السيارات (OICA)، ٢٠١٣؛ إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، ٢٠١٣). هذا النمو المُفرِط في الطلَب المُحتمَل على النفط نسبة إلى العرض، إذا ظلَّ كما هو عليه، سيخلق خطر حدوث صدماتٍ نفطية في المُستقبل. وبما أن العديد من مزارعي العالَم، وخاصة في آسيا وأفريقيا، لا يزالون في مرحلة الانتقال من أنظمة الزراعة اليدوية إلى أنظمة الزراعة الآلية، فهُم، وكذا المزارعون في أنظمة الزراعة الغربية التقليدية، الأكثر عُرضةً للتأثُّر من نُدرة النفط أو الأسعار المُرتفعة تأثرًا شديدًا. وعلى الصعيد العالَمي، فالسلسلة الغذائية التي تُسيطر عليها الشركات الكبرى التي تتبع نظام الإنتاج في الوقت المحدد لتوزيع الأغذية، تعتمد كليًّا على النفط وهي عرضة للتأثُّر الشديد بالتقلبات الكبيرة في أسعار النفط أو العرض. وكقاعدة عامة، لم تفعل الحكومات الكثير لتحُول دون وقوع ذلك، وهو ما يعني أنه في القرن الحادي والعشرين قد تنفجر أزمة نفط عالمية وتتحوَّل بسرعة إلى أزمة غذاء عالمية.

من المُفارقات الجوهرية للزراعة كثيفة الاستهلاك للطاقة أنه كلما زاد استهلاكها للنفط وتطهيرها للأرض، كلما زادت انبعاثات الغازات المُسببة للاحتباس الحراري، وقلَّ الاستقرار المناخي الذي تعتمِد عليه زراعة الغذاء. ومن ثمَّ فإنَّ النظام الغذائي الحالي القائم على النفط، يزرَع بيدَيه بذور دمارِه المُحتمَل. وإذا أرادت البشرية تجنُّب حدوث مجاعةٍ في منتصف القرن، فعليها أن تتغيَّر.

حل هذه المشكلة هو الإنهاء السريع لاعتمادية الصناعة الغذائية في جميع أنحاء العالم على الوقود الأحفوري. وتتمثَّل إحدى طرُق تحقيق ذلك في تطوير أنواع من الوقود السائل المُتجدِّد، ولكن بأشكالٍ لا تضعها في منافسةٍ مع الزراعة على الأرض أو الماء أو الطاقة أو الأسمدة. وسيتم استكشاف هذا البديل الواعد في الجزء التالي.

أفخاخ الجوع الحضرية

بحلول عام ٢٠٥٠، ستضمُّ مدن العالم أكثر من سبعة مليارات نسمة (منظمة الصحة العالمية، ٢٠١٤) وستُغطي مساحة من أفضل أنواع التربة الزراعية في العالَم تُعادِل مساحتها حجم الصين. هذه المدن العملاقة لها عَيب واحد رهيب، وهو أنها لا يمكنها إطعام نفسها. فهي تعتمد على شلَّال من الشاحنات أو الطائرات أو السُّفن التي تأتي يوميًّا لإعادة ملء المتاجر والأسواق بالبضائع. يُنقَل الكثير من طعامهم من على بُعد آلاف الكيلومترات، وأحيانًا من الجانب الآخر من الكوكب. ومن ثمَّ فأي انقطاعٍ في مسار الشحنات — كأزمة نفطية، أو حرب، أو حتى فيضان كبير أو عاصفة كبيرة — سيَنتُج عنه تضوُّر أي مدينة ضخمة جوعًا خلال أيام. لقد غفل مُعظَم المُخطِّطين العمرانيِّين العصريين عن أن الإمدادات الغذائية قد تتعطَّل. تُشير التجارب الحديثة لأحداث مثل إعصار هايان في الفلبين، وإعصار ساندي في الولايات المتحدة، وفيضانات بانكوك في عام ٢٠١١، إلى أن تهافُت السكَّان المحليِّين على الشراء بدافع الهلَع يُمكن أن يجرد المتاجر من كل المواد الغذائية في غضون من ٢٤ إلى ٤٨ ساعة. وفي حين أن مُعظم المدن لدَيها تدابير طارئة لمواجهة الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات أو الحرائق أو العواصف أو الزلازل أو تفشِّي الأمراض، إلا أن القليل منها مجهزة للتغلُّب على حالات الطوارئ الغذائية، ويعتمد معظمها بالكامل على المساعدات الخارجية.

تُشكِّل أزمات الغذاء والمياه والطاقة الآن تهديدًا رئيسيًّا معقدًا للمناطق الأكثر كثافة سكانية على وجه الأرض. وفي حين أن هذه الأزمات لا تُشكِّل خطرًا على الحضارة ككل، فإن أي انهيار قد تُعاني منه أي مدينة كبرى، سيؤدي حتمًا إلى حدوث موجات صدمة في مختلف أنحاء الكوكب في شكل موجاتٍ من اللاجئين، ونقص في المواد الغذائية، وارتفاعٍ حادٍّ في أسعارها، وآثار اقتصادية. إذا استمرت عدم جاهزيتنا الحالية لمواجهة ذلك، فمن المُرجَّح أن يشهد العالم العديد من هذه الأحداث في العقود القادمة.

ثمَّة قضية مُستجدة؛ ألا وهي رداءة الجودة الغذائية للنظام الغذائي الخاص بالعديد من سكان المناطق الحضرية، وخاصة من ذوي الدخول المتوسِّطة والمنخفضة. وهذا نتيجة لتصنيع المواد الغذائية في سلسلة الغذاء العالمية، واستخدام الآلاف من المواد الكيميائية في تصنيعها وتعبئتها، وكذا الاستعاضة عن الطعام الطازج بآخَرَ صناعي خضع للمُعالجة الشديدة أو بالوجبات السريعة في النظام الغذائي لكثيرٍ من الناس، والتي تحتوي على كميات زائدة من الملح أو السكر أو الدهون، ولكنها في الوقت نفسه تفتقر إلى الفيتامينات والمعادن الأساسية والمُغذيات الدقيقة. وهو ما قد نتج عنه «صحاري غذائية» حتى في المدن الغنية نسبيًّا، وأشكال جديدة من سوء التغذية، بما في ذلك أمراض السِّمنة والسُّكري في البلدان المتقدِّمة والنامية على حدٍّ سواء (جمعية التغذية الأمريكية، ٢٠١٠).

يَكمن الحل لكل هذه المشكلات في أن تزرع المدن كميات أكثر بكثير من طعامها، الطازج والمحلِّي، باستخدام أنظمة الزراعة الحضرية المتقدمة، التي سنُناقشها فيما يلي، ومن خلال إعادة تدوير جميع مياهها ومُغذياتها مرة أخرى في عمليات إنتاج الغذاء (كريب، ٢٠١١).

قصور مصائد الأسماك

بلغ الصيد العالَمي من الأسماك البرية ذُروته في عام ١٩٩٤، ومنذ ذلك الحين وهو في حالة ركود أو تراجع (الأمم المتحدة، منظمة الأغذية والزراعة ٢٠١٤ب). في الواقع، تُشير الأبحاث الحديثة إلى أن التدهور في مصائد الأسماك كان أكثر حدَّة (حتى) من تقديرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، وأنها تتقلَّص بنحو مليون طنٍّ في السنة (بولي وزيلر، ٢٠١٦)، وهي أخبار سيئة لكل من القطط وعشَّاق المأكولات البحرية على حدٍّ سواء. على الرغم من التقدُّم الذي أحرزتْه مجموعة قليلة من البلدان في تطوير مصائد مستدامة، فإنَّ الدرس المُستفاد هو أن الصيد العالَمي للبروتين البري من المحيطات لن يَتضاعف في الوقت نفسه الذي يَتضاعف فيه الطلب على الغذاء. في الواقع، مع تصنيف ٩٠٪ من مصائد الأسماك في العالَم على أنها مُستغلَّة بالكامل أو أُفرِطَ في استغلالها، سنكون محظوظين لو حتى حافَظنا على متوسِّط يبلُغ ثمانين مليون طنٍّ من الأسماك البرية. وفي الوقت نفسه، تتفاقَم مشكلات الإفراط في الصيد من خلال انتشار «المناطق الميتة» في كلٍّ من المُحيطات والسواحل (الفصل الثالث) التي لا يمكن للأسماك أن تعيش فيها، ومن خلال التدفق المتزايد للمواد الكيميائية السامَّة والبلاستيك والمعادن الثقيلة (الفصل السادس) التي ننشرُها في المُحيطات والتي ينتهي الحال بالكثير منها في الأسماك التي نتناولها.

شهدت العقود الأخيرة نموًّا هائلًا في تربية الأحياء المائية (الزراعة المائية)، حيث بلغ حصاد الأسماك والنباتات المائية في العالَم إلى ٦٧ مليون طنٍّ سنويًّا بحلول منتصَف عام ٢٠١٠. ومع ذلك، يعوق هذه الصناعة الواعدة توافُر مصادر البروتين والعناصر الغذائية اللازمة لإطعام الأسماك المُستزرَعة. لقد أصبحت الإمدادات من «الأسماك المُحرشفة» (التي يُطلِق عليها العامة أسماك النفايات) الآن أكثر استخدامًا كغذاءٍ بشري بسبب النُّدرة في أنواع أسماك المائدة. في حين أن تغذية صناعة تربية الأحياء المائية العالمية الضخمة الجديدة على الحبوب لن تُشكِّل سوى ضغطٍ أكبر على إمدادات الحبوب العالمية لكلٍّ من البشر والماشية مثل الأبقار والخنازير والدواجن. علاوة على ذلك، فتغذية الأسماك بالحبوب يزيد من تدهور التربة ويتنافَس مع الصناعات الزراعية الأخرى على الطاقة والأسمدة. تُشكِّل هذه العوامل عقبةً رئيسية أمام تطوير صناعة الأسماك المُستزرَعة في العالَم لتزدهر بما يُساوي إمكانياتها الحقيقية، والتي ربما تكون في حدود ٢٠٠ مليون طن. إذا كان من الممكن التغلُّب على «حاجز التغذية» هذا، فيُمكن للأسماك المُستزرعة أن تصبح بسهولةٍ الغذاء الرئيسي من البروتين للبشرية بحلول منتصف القرن، مُتفوقةً على كل أنواع اللحوم والدواجن الأخرى.

حل هذه المشكلة يَكمُن في المُحيطات نفسها، كما سنُناقش أدناه.

الجفاف المعرفي

بعدما تمخَّض الجهد العلمي العالَمي في مجال الغذاء والزراعة عن ولادة «الثورة الخضراء» شديدة النجاح، التي ضاعفَت من الإنتاج الغذائي العالمي، ازداد ركوده منذ ذلك الحين (ألستون وآخرون، ٢٠٠٩). من بين ما يزيد عن التريليون دولار التي استُثمِرَت على مستوى العالم في البحث العلمي والتطوير في الوقت الحالي، تُشير التقديرات إلى أنَّ أقل من ٥٪ منها مُخصَّص لتحسين الزراعة أو إنتاج الغذاء. وبما أن عدد السكان قد تضاعف منذ سبعينيات القرن العشرين، بينما تراجعت أبحاث الغذاء من حيث القيمة الحقيقية، فهذا يَعني أنَّنا قد خفضنا الجهود البحثية التي تكرسها البشرية في تأمين وتحسين الإمدادات الغذائية إلى أكثر من النصف. وقد أدَّى هذا الركود العلمي إلى حالة ثبات عالمي — وفي بعض الحالات إلى انخفاضات فعلية — في معدَّلات مكاسب عوائد المحاصيل (جراسيني وآخرون، ٢٠١٣). خلاصة القول، لم يَعُد إنتاج الغذاء يواكب الطلب على المدى الطويل، وهو منحى خطير للغاية.

لقد حدث أكبر انخفاض في مجال البحوث الزراعية في القطاع العام في البلدان المتقدمة، مثل أوروبا وأمريكا وأستراليا وحتى الصين. وما يُعوِّض هذا الانخفاض هو نموُّه إلى حدٍّ ما في القطاع الخاص. ومع ذلك، يميل هذا التطوُّر إلى تفضيل التقنيات المُربحة للمُساهمين في شركات التكنولوجيا، بدلًا من التقنيات التي يَرغبها المُستهلكُون، أو التقنيات الضرورية للزراعة المُستدامة، أو لصحَّة الإنسان أو البيئة. ففي الوقت الذي تعدُّ فيه تقنيات مثل التعديل الوراثي للأغذية بالكثير، إلا أنها لا يزال عليها تقديم زيادات أكبر في الغذاء المُقدَّم إلى مائدة العالَم، ولكنها في الوقت نفسه اجتذبت الاستثمار العام ممَّا أبعده عن مجالاتٍ جوهرية مثل علوم التربة وعِلم الأحياء الدقيقة للتُّربة وعلم الزراعة وعلم الحشرات واستزراع النباتات التقليدية. علاوةً على ذلك، يُشير الرفض المتزايد للأغذية المُعدَّلة وراثيًّا من قبل العديد من المُستهلِكين في أوروبا وآسيا وأستراليا والأمريكتَين إلى أن الإفراط في دعم تقنيةٍ واحدة قد يثبت أنه خطأ استراتيجي وسوء استثمار، وهذا في سياق ضعف الجهود في مجال علوم الأغذية العالمية.

الحل هو أن يُضاعف العالَم الاستثمار العام في العلوم الزراعية والغذائية وأن يُحاول تعويض ما قد خسرناه. نظرًا لوجود أدلة قوية على أن البلدان التي تتغذي جيدًا تُعاني من عددٍ أقلَّ من الحروب، بينما تُعاني البلدان الجائعة من المزيد من الحروب (على سبيل المثال، انظر دي سويا وجليديتش، ١٩٩٩؛ كارتر، ١٩٩٩ب)، وأفضل طريقة لتمويل ذلك ستكون من خلال تخفيض ميزانيات التسلُّح العالمي بنسبة ١٠٪ واستثمار المُدَّخرات في علوم الغذاء (كريب، ٢٠١١). سيؤدي ذلك إلى تحقيق «مكاسب سلام» مزدوجة، عن طريق تقليل كمية الأسلحة المتداولة وتقليل احتمالية الحروب في المناطق التي تُعاني ندرة الغذاء والأرض والمياه.

الأنظمة الغذائية القاتلة

لا يُعتبر النظام الغذائي الحديث آمنًا أو صحيًّا، حيث يُقدر علماء الطب أن اثنين من بين ثلاثة أشخاص يموتون في الوقت الحالي بسبب مرض مُرتبط بالنظام الغذائي (منظمة الصحة العالمية، ٢٠١٤). في المجتمعات الغنية، يموت الآن أكثر من ثلاثة أرباع السكان «بفعل أيديهم» — تلك الأيدي التي يُمسكون بها الشوكة أو عيدان تناول الطعام — ويُنفقُون الآن نصيب الأسد من الضرائب التي يفرضونها على مواطنيهم على محاولاتٍ غير ناجحة يُطبقُها نظام الرعاية الصحية لعلاج أمراض عضال بالأدوية وما إلى ذلك.

ببساطة، النظام الغذائي العالَمي لا بدَّ أن يتغير إلى نظامٍ جديد طازج، ومُتنوِّع، وصحِّي، يقي من الأمراض بدلًا من أن يتسبَّب فيها. نظام يسعى إليه المستهلكُون التوَّاقُون لصحة أفضل، والمزارعون الذين يرغبون في الحصول على دخل أعلى من مُنتَجات طازجة عالية الجودة، وكذلك يسعى إليه جيش مُتزايد العدد من المُتخصِّصين في الرعاية الصحية الذين رأوا ما يَحدُث أمام أعينهم في المستشفيات ودور الرعاية في جميع أنحاء العالم. وبذلك، يتَّجه الغذاء نحو ثورة جديدة، يكون فيها هو المُنقذ المُحتمَل لحياة مليارات من البشر.

إن العوامل التي تقتل الناس في العالَم هي نفس العوامل التي تقتل التربة والمياه، ألا وهي الإفراط في إخضاع سلسلة الغذاء العالمية للتصنيع، والأسعار الزهيدة التي تُدفَع للمُزارِعين. يوضح جون كروفورد من جامعة سيدني هذا فيما يلي:

علاقة الأمر بالصحة واضحة. يَميل الطعام الرخيص إلى أن يكون مُنخفضًا في البروتين ومرتفعًا في النشويات، وهذا بالضبط هو التوازن الخاطئ لأي مجتمع صحي. من خلال تحويل الغذاء إلى مجرد سلعة، أنشأنا نظامًا يحطُّ من القدرة العالمية على الاستمرار في إنتاج الغذاء، ويؤجج وباءً عالميًّا من مرض السُّكري والأمراض المُزمنة ذات الصلة. لقد كلفت السِّمنة ١٥٠ مليار دولار — أي ٢٠٪ من ميزانية الصحة — في عام ٢٠٠٨ في الولايات المتحدة، وهذه هي أحدث الأرقام المتاحة، وسترتفع هذه التكلفة الضخمة مع استمرار نظام الغذاء الفاسد في إحداث الخسائر. (كروفورد، ٢٠١٢)

يَحتوي الطعام الرخيص أيضًا على آثار للمبيدات الحيوية؛ ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يتمُّ استخدام نحو ستة آلاف مادة كيميائية مختلفة لزراعة ومعالجة وحفظ وتمديد صلاحية وتَنْكيه وتزيين وتغليف الأطعمة. يُعتبر التأثير الصحي المشترك لكل هذه المواد على المستهلك غير معروف، ولكن بما أن العديد منها معروفة بسُمِّيتها وبأنها من المواد المُسبِّبة للسرطان ولاضطراب الغُدد الصماء، فعدد الدراسات الطبية التي تُعلِن عن عواقبها المُحتمَلة على الصحة تتضاعف. كما أنه غالبًا ما يتمُّ استيراد الأغذية الرخيصة في الوقت الحالي من بلدانٍ نامية تكون فيها المعايير التنظيمية ومعايير النظافة منخفِضة، والفساد شائعًا، والتلوث منتشرًا، والمزارعون يفتقرون إلى الخبرة في استخدام المواد الكيميائية، وتقع أنظمة الزراعة تحت قبضة شركات الأغذية الجشِعة. نظرًا لانتشار سلاسل المتاجر الكبرى وشركات الأغذية التي يغلب عليها طابع العولمة، أصبح الآن هذا الطعام غير الصحي موجودًا على موائد كلِّ الناس.

إنَّ الحلَّ واضح ومُباشر، والأمر متروك لنا كمُستهلِكين بأن نختار تناول الطعام المَحلِّي والطعام الطازج، والطعام المُستدام، وأن نكون مُستعدِّين لمكافأة مُزارعينا بصورةٍ أفضل بكثير من الصورة الحالية على حِرصهم ومِهنيتهم في تقديم طعامٍ آمن، وطازج، وغير ملوَّث وبجودة غذائية عالية.

إما ذلك، أو ببساطة، سندفع ما نُوفره في السوبر ماركت في المستشفيات.

صدمة مناخية

بعيدًا عن الحرب النووية أو اصطدام الكُويكبات، ستكون الصدمة الكبرى التي تَنتظِر البشر في القرن الحادي والعشرين هي تأثير تغيُّر المناخ على الإمدادات الغذائية.

لقد انقرض في الوقت الحالي مناخ عصر الهولوسين الذي كان مصدر نشأة الزراعة قبل نحو ستة آلاف إلى ثمانية آلاف سنةٍ ماضية (رامستورف، ٢٠١٣)، ولن يعود هذا المناخ مرةً أُخرى؛ إذ تغيَّر العالم. فقد زادَت درجة الحرارة بمقدار درجتَين من جرَّاء الاحتباس الحراري — والذي ربما لا يُمكن تجنُّبه الآن — وهو ما سيجعل المحاصيل غير مُستقرة في معظم سلال الحبوب الكبيرة في العالم. في الهند، على سبيل المثال، قد تَنخفِض غلة الحبوب بنسبة تصل إلى ٤٥٪ (على سبيل المثال، انظر البنك الدولي، ٢٠١٣). وتُشير العديد من التقديرات العلمية إلى أنه، دون تَكَيُّف، يُمكن أن يُؤدِّي ارتفاع الحرارة بمقدار خمس درجات إلى خفض إنتاج الغذاء العالَمي إلى النصف، في الوقت الذي نحتاج فيه إلى مضاعفة الإنتاج. على سبيل المثال، مِن المتوقَّع أن تُعاني المحاصيل الأمريكية الأساسية، مثل الذرة وفول الصويا، من خسائر في الغلَّة تتراوَح بين ٦٣ و٨٢٪ (شلينكر وروبرتس، ٢٠٠٩). كما سيَتسبَّب ارتفاع مستوى سطح البحر الناتج عن الاحتباس الحراري في غمر مُعظم مناطق دلتا الأنهار المُنخفضة في العالم، والتي تعتبر هي نفسها سلال الغذاء الرئيسية. بحلول عام ٢٠٣٠، سيُضطر ٥٤ مليون شخص لمُغادَرة منازلهم كلَّ عام بسبب الفيضانات، بزيادةٍ قدرُها ١٥٠٪ عن المستويات الحالية (ليمان، ٢٠١٥).

إنَّ تأثير المناخ على الغذاء أمر محسوس بالفعل. ويُشير التقييم الخامس للهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ إلى ما يلي: «استنادًا إلى العديد من الدراسات التي تُغطي مجموعة واسعة من المناطق والمحاصيل، فقد كانت الآثار السَّلبية لتغيُّر المناخ على غلة المحاصيل أكثر شيوعًا من الآثار الإيجابية (مستوى ثقة عالٍ).» وهو ما يعني أمرًا خطيرًا بالنسبة للأمن الغذائي في المستقبل؛ حيث وجدت دراسة علمية دولية أن كل زيادة بمقدار درجة واحدة في درجة الحرارة المحلية تُؤدي إلى انخفاضٍ نسبته ٦٪ في غلَّة القمح (أسينج وآخرون، ٢٠١٤). وإذا لم يتمَّ تكييف محاصيل القمح بشكلٍ خاص بحيث تتماشى مع درجات الحرارة المرتفِعة هذه، فهذا يعني أن إمدادات الخُبز في العالم يُمكن أن تتقلَّص بمقدار الثلُث في الوقت الذي نحتاج فيه إلى مضاعفتها (معهد الموارد الطبيعية بفنلندا، ٢٠١٥). وإذا كان المناخ سيزداد حرارةً بمقدار أربع إلى خمس درجات مئوية، فستحتاج غلة المحاصيل إلى أن تتضاعَف لتعويض الخسائر المناخية، ثم أن تتضاعَف مرةً أُخرى لتلبية الاحتياجات البشرية. يتجاهَل مُعظم خبراء السياسة الزراعية، المُتمسِّكون بأنظمة الإنتاج القديمة، الحجم الهائل لهذا التحدي. وهو ما يُشير إلى أن الزراعة التقليدية ليست هي الطريقة التي سنُطعم بها البشر بشكلٍ رئيسي في عالَم أكثر سخونة وذي موارد مُستنفَدة.

ستؤثر هذه المُعضلة على كل شخصٍ على وجه الأرض، إن لم يكن بالجوع الفعلي، فعلى الأقل من حيث سعر الطعام وتوافُره وجودته الغذائية. وستُصبح هي المحرك الرئيسي للجغرافيا السياسية والحرب والهجرة والأمراض الوبائية والموجات الضَّخمة من اللاجئين خلال معظم القرن. وكما حذَّر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإن بعض هذه الحروب يُمكن أن تتطور إلى حروب نووية (كامبل وآخرون، ٢٠٠٧).

الحل لهذا المأزق هو أن تَعتمد البشرية بشكل أقلَّ بكثيرٍ على النظام الغذائي الأوروبي التقليدي الذي يعتمد على الحبوب واللحوم، ويتطلَّب مناخًا باردًا ومُستقرًّا، وأن تعتمد أكثر على نظامٍ غذائي أخفَّ وأكثر صحةً على الطريقة الآسيوية التي تعتمد على الأسماك والخضروات؛ وذلك باستخدام أنظمةٍ داخلية جديدة شديدة الكثافة وقادرة على مقاومة الآثار المناخية، أو لا تتأثَّر بها أصلًا.

إن هذا ليس مجرد تغيير في النظام الغذائي أو في النمط الغذائي الشائع، بل إن مُستقبل الحضارة يتوقف على هذا التحوُّل.

تَحَوُّل الزراعة

إننا ندخل في واحدة من أكثر الفترات المُثيرة والواعدة في تاريخ البشرية: «عصر الغذاء». فالحاجة إلى إطعام المدن الكبرى تُثير بالفعل اهتمامًا عالميًّا بالزراعة والبستنة الحضرية (دريشر، ٢٠٠٥). تَتراوح الأفكار بين «المزارع الرأسية» الزجاجية ذات التكنولوجيا الفائقة (انظر على سبيل المثال، ديسبوميير، ٢٠١٣؛ وانج، ٢٠١٥ب) التي تُنتج الخُضروات والفواكه والماشية الصغيرة، والزراعة واسعة النطاق للأطعمة الطازجة على الأسطح والجدران الحضرية، وازدهار الزراعة في الأفنية الخلفية والشرفات، ومُخصصات الأراضي الخاصة وإنتاج حدائق الأغذية العامة، واسترداد المصانع القديمة والأراضي الصناعية البور واستخدامها كمَزارع صغيرة مُزدهرة، كما هو الحال في مدينة ديترويت (كولاسانتي وآخرون، ٢٠١٢).

تَنتشر المزارع المائية المُركَّبة (أكوابونيك) حيث تُرَبَّى الأسماك وتُزْرَع النباتات في آنٍ واحد في أنظمةٍ مُتكاملة، من النرويج وأيسلندا وأمريكا، إلى كندا وفرنسا ونيوزيلندا وأستراليا (المزارع الزرقاء الذكية، ٢٠١٤). ومن بين الاقتراحات الحديثة إنشاء مزرعة رأسية تبلغ مساحتها أربعة آلاف هكتار لخدمة مركز مدينة روتردام (كارتر، ٢٠١١)، ومزرعة خضروات تبلُغ تكلفتُها ثلاثين مليون دولار أمريكي مُخصَّصة لمدينة نيوارك بولاية نيو جيرسي (وانج، ٢٠١٥أ)، ومزرعة خضروات وأسماك تبلغ تكلفتها خمسين مليون دولار سنويًّا لقرية ماكبرايد في كندا (إيكوتك، ٢٠١٢)، وصوبة زراعية زجاجية كُروية لمدينة لينشوبينج في السويد (بلانتاجون، ٢٠١٦). تقوم المُستشفيات الذكية بزراعة الخضروات الطازجة على أسطحها لمساعدة المرضى على التعافي من المرض (جرين، ٢٠١٢). وتُقدِّم المطاعم الذكية لزبائنها سلطةً خضراء لم تُحصَد مكوِّناتُها إلا قبل خمس عشرة دقيقة فقط من الطلَب (هيلد، ٢٠١٣). وفي أستراليا، تنتج شركة «بلو فارمز» أسماكًا وأعشابًا طازجة لإحدى سلاسل السوبر ماركت الوطنية الرئيسية باستخدام سيور ناقلة مُصمَّمة بشكل خاص لنظام الزراعة المائية المُركبة (ليج-باج، ٢٠١٤). في النرويج، تنتج «ميليوجارتنييريه» ٢٢٠٠ طنٍّ من الطماطم والفلفل العضوي في سبعة أشهر على مساحة سبعة هكتارات فقط (هيجلستاد، ٢٠١٤).

تعد هذه المؤسَّسات الحديثة مثالًا على الابتكار والتقدُّم التكنولوجي في أنظمة الإنتاج الغذائي المستدامة والمقاومة للمناخ في القرن الحادي والعشرين. وتتمثَّل سِماتها المميزة في الإدارة الدقيقة وإعادة استخدام المُغذيات، وإعادة تدوير النفايات والمياه والطاقة، والاستخدام المُنخفِض أو المنعدِم للمبيدات الحشرية، والمكافحة البيولوجية للآفات، والحفاظ على نظافة المحاصيل، وإنتاج المحاصيل المُتخصِّصة ومراقبة الجودة المُمتازة. وبما أن المحاصيل تزرع داخل أبنيةٍ بشكل رئيسي، فهي تكون مُحصنة إلى حدٍّ كبير ضدَّ الأحوال الجوية السيئة أو الظروف المناخية، ويمكن غالبًا زراعتها على مدار السنة. وعادة ما تبلغ غلة الغذاء عشرة أضعاف أو أكثر مما تُنتجه الزراعة في الحقول.

كما يُمكن التغلُّب على أزمات العالَم التي تلُوح في الأفق فيما يخصُّ التربة الصالحة للزراعة والمياه بطريقتَين أُخريين، عن طريق «المزارع الصحراوية» في البلدان الحارة والجافة و«المزارع العائمة» في المناطق القريبة من البحر ذات الكثافة السكانية المرتفعة. تَستخدِم المزارع الصحراوية — مثل تلك التي تنتشر حول مدينة وايللا في جنوب أستراليا (مارجوليس، ٢٠١٢) — الطاقة الشمسية لتحويل المياه الجوفية المالحة أو مياه البحر إلى مياهٍ عذبة لريِّ الفواكه والخضروات وأعلاف الماشية التي تُنتج الألبان في المناطق التي يكون فيها ضوء الشمس وفيرًا ولكن يَندُر وجود المياه الجيدة. هذان النوعان من المزارع يُقدِّمان حلًّا واعدًا لانعدام الأمن الغذائي في مناطق مثل الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وغرب الصين وجنوب وسط الهند وصحراء أفريقيا. علاوة على ذلك، فهما يُلغيان حاجة الشركات الصينية والأمريكية والعربية ذات النزعة الاستعمارية الجديدة إلى «الاستيلاء على الأراضي» التي تخصُّ المزارعين الأفارقة، مما يُتيح حصول الأفارقة على المزيد من الطعام الذي يزرعونه (روبرتسون وبنستروب أندرسن ٢٠١٠؛ شيفمان، ٢٠١٣). في آسيا على وجه الخصوص، يُصمِّم المُهندسون المِعماريون والبستانيون بعيدو النظر بالفعل صُوَبًا عائمةً عملاقة تُقَطِّر المياه العذبة من مياه البحر لتلبية الاحتياجات من الغذاء الطازج للمدُن الكبرى التي تقع على ساحل البحر مثل شنغهاي وطوكيو وسنغافورة ومومباي (شيلر، ٢٠١٤).

سيُعيد الغذاء تشكيل مدن القرن الحادي والعشرين الكبرى من خلال فلسفة «الهندسة المعمارية الزراعية» التي تَعتمد على دمج الإنتاج الغذائي المُستدام في البناء والتصميم الحضري. ستحلُّ «المدن الخضراء» الزاخرة بالنباتات، والطعام الطازج، والطيور والحشرات، محل المناظر الحضرية الخرسانية والزجاجية الملوثة والخالية من الروح الموجودة في الوقت الحالي، مما سيُعزز ظروف العيش والراحة والاستدامة. ستكون الركيزة الأساسية لهذه المدن هي إعادة تدوير جميع مياهِهم ومُخلَّفاتهم العضوية مرةً أخرى لتصبح جزءًا من الإنتاج الغذائي المُستدام؛ ومن ثمَّ تقليل البصمة المدمرة للمدينة بشكلٍ كبير على المساحات الخضراء المُحيطة بها وعلى الحياة البرية. إن طعام هذه المدن سيكون مقاومًا للمناخ — أي أنه لن يتأثَّر بصدمات الطقس التي سوف تضرب الزراعة الخارجية التقليدية. كما ستضمن وجود إمدادٍ غذائي شديد التنوُّع وطازج ومحلي لا يتعطَّل أبدًا. بحلول عام ٢٠٥٠، يُمكن أن توفِّر الزراعة الحضرية — من خلال الاستثمار الكافي والبحث والتطوير — ما يصِل إلى نصف الغذاء في العالم أو أكثر.

هذا الأمر ليس ضروريًّا للمدن الكبرى فحسْب، بل إنه سيُشكل أيضًا تخفيفًا كبيرًا للضغوط التي تقع في الوقت الحاضر على التربة والمياه والتنوُّع البيولوجي والمساحات الخضراء والمجتمعات الزراعية في العالم. لأول مرة، ستتمكَّن البشرية من إطعام نفسها بشكلٍ جيد وبتنوُّعٍ كبير، دون سلْب العالَم الطبيعي من موارده.

وهذا بدوره سيُمهِّد الطريق لتجدُّد المراعي والغابات والمساحات والمجتمَعات الريفية، وحبس الكربون واستعادة الحياة البرية المُعرضة للخطر حول العالم. من خلال قصر الزراعة على أفضل المناطق وأكثرها فعالية على مدى عدة عقود، يُمكن إعادة ما يصل إلى نصف المساحات الخضراء المُخصَّصة للزراعة والرعي في العالَم — وهي مساحة تزيد على ٢٤ مليون كيلومتر مربَّع، أي ما يعادل مساحة أمريكا الشمالية — إلى البرية تحت إشراف المُزارعين المحليين والسكان الأصليِّين. ونظرًا لعدم نجاح الحدائق الوطنية وجهود الحفاظ على البيئة الحالية في إبطاء معدَّلات الانقراض، فلن يقدر على منع حدوث الانقراض السادس لأنواع الأرض (كما هو موضَّح في الفصل الثاني) سوى مثل هذا التغيير الاستشرافي في إدارة نظام الأرض (كاري، ٢٠١٤). ومع ذلك، فهذه أيضًا أخبار جيدة للمُزارعين المَنكوبين في العالم؛ حيث لن يَدفعوا سوى ضريبةٍ بيئية صغيرة على الغذاء — عوضًا عن الثمن الباهظ الذي يدفعه الكوكب — وهو ما سيُمكنهم من تحقيق دخلٍ أفضل، وفي الوقت نفسه أخذ أفضل الأراضي الزراعية في العالَم بعين الاعتبار، مقابل إنتاج عالي الجودة ونظيف، يُزرَع بشكلٍ مستدام في ظل الظروف الطبيعية، بالإضافة إلى الدخل الذي سيُحققونه كمُديرين ومُشرفين على الأراضي التي استُعيدت فيها الحياة البرية.

الثورة الزرقاء

سيكون التغيير الثاني الضخم في «عصر الغذاء» هو انطلاق «ثورة زرقاء» في تربية الأسماك ونباتات المياه على نطاق لم نحلُم به من قبل. ينتج الاستزراع المائي في جميع أنحاء العالم ٦٧ مليون طن من الأسماك والنباتات المائية (الطحالب) سنويًّا (منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، ٢٠١٤ب)، ولكن ليس هذا سوى جزءٍ بسيط من إمكاناته. وسينمو الاستزراع المائي بمعدل ثلاثة، وربما أربعة أضعاف بحلول منتصف القرن. وبحلول عام ٢٠٥٠، تتوقَّع منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة أنه سيبلغ الطلب العالمي من البروتين الحيواني والأسماك نحو ٥٥٠ مليون طنٍّ كل عام (منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، ٢٠١٣). وإذا أردْنا إمداد العالَم بهذه الكمية من اللحوم، فسنَحتاج إلى زراعة ثلاثة مليارات طنٍّ إضافية من الحبوب، وهو ما يتطلَّب مساحةً من الأراضي الصالحة للزراعة تُعادل حجم ثلاث قاراتٍ أُخرى بحجم قارة أمريكا الشمالية. وبالنظر إلى تغيُّر المناخ ونُدرة الأراضي، فيُمكن القول إن هذا مُستحيل. إذًا من أين سيأتي علف كل هذه الحيوانات والأسماك؟

الجواب هو، من زراعة الطحالب، أو نباتات المياه. ففي المستقبل، ستُنتج مزارع الطحالب الضخمة — في البر والبحر وفي البحيرات المالحة — الغذاء للناس، والعلف للأسماك وغيرها من الماشية، والوقود المُستخدَم في النقل، وتصنيع الأدوية، والبلاستيك، والمنسوجات، والمواد الكيميائية النقية (كريب، ٢٠١٣). كما ستستعيض عن استخراج النفط الأحفوري ذي التَّكلفة المتزايدة ﺑ «الطاقة الشمسية السائلة»، وهو زيت طازج ينتج يوميًّا من الطحالب باستخدام أشعة الشمس والمياه المالِحة والمُغذِّيات من «النفايات» الحضرية، دون أي انبعاثاتٍ كربونية صافية. تَستثمر أكثر من ثلاثين دولة بالفعل فيما يُمكن أن يُصبح بحلول منتصَف القرن أكبر صناعة لزراعة المحاصيل في العالَم. ويُمكن زراعة الطحالب في صهاريج أو في أحواض في الأراضي القاحلة أو في البحيرات المالحة أو في حاويات الشحن أو على الطوَّافات العائمة أو في أكياس بلاستيكية ضخمة في المُحيط، حيث لا تَتنافس على المساحة مع المحاصيل الغذائية الأُخرى أو مع البرية، كما أنها مقاومة للتغيُّر المناخي. يُوجَد في العالَم ٧٢ ألف نوع من نباتات المياه (جويري، ٢٠١٢)، تَحتوي العديد منها على العناصر الغذائية الأساسية لنظام غذائي صحِّي، فهي المصدر الأصلي لزيوت أوميجا ٣، والبيتاكاروتين والعديد من الفيتامينات والمعادن. تحتوي هذه الطحالب عادةً على نِسبةٍ تتراوح بين ٣٠ و٧٠٪ من الزيت الطازج، والنسبة المُتبقية عبارة عن نشويات وبروتينات يُمكن تحويلها بسهولةٍ إلى غذاء بشري أو أعلافٍ للماشية والأسماك.

زيت الطحالِب هو، حرفيًّا، عبارة عن طاقة شمسية سائلة؛ إذ يمكن تحويل هذا الزيت إلى أي شيء يُمكن صُنعه من البترول الأحفوري — مثل الوقود «الأخضر»، والبلاستيك والمنسوجات والمواد الكيميائية والأدوية والمواد المُضافة إلى الأغذية. علاوةً على ذلك، قَدَّرَ الباحثون أنه يُمكِن أن تُوفر الطحالب كلَّ مُتطلبات الوقود اللازم للنقل في العالَم من مساحة ٥٧ مليون هكتار — وهي مساحة أصغر قليلًا من سويسرا — ويُمكن أن تكون هذه المساحة مُعظمها في المُحيط على أيِّ حال. فحتى إذا استخدمت المدن المَركبات الكهربائية، فستظل هناك حاجة للنفط في المزارع والطرق الطويلة والنقل البحري والجوي والأنشطة الهامة الأخرى. سيَضمن زيت الطحالب أن نظامَنا الغذائي لن ينفد أبدًا من الطاقة السائلة التي يَحتاجها لزراعة وحصاد ونقل إمدادات الغذاء العالمية. والأهم من ذلك، يساعد زيت الطحالب الصديق للمناخ على إبطاء الاحتباس الحراري وإبطال آثاره في نهاية المطاف.

أطعمة جديدة

وفقًا للخبير الزراعي الأسترالي الدكتور بروس فرينش، هناك ما لا يقلُّ عن ٢٧٦٠٠ نوع من النباتات الصالحة للأكل في عالمنا (فرينش، ٢٠١٦). وبما أن البشر المُعاصرين لا يستهلكون سوى بضع مئاتٍ من النباتات المختلفة، فهذا يعني أنَّنا بالكاد بدأنا في استكشاف كوكبنا من حيث ما هو جيد أو صحِّي أو لذيذ للأكل.

يأكل السكان الأصليون العديد من النباتات الصالحة للأكل، والتي تغيب عن النظام الغذائي الحديث، ولكن هذه المعرفة، معرفة محلية وهشَّة للغاية وسرعان ما ستذهب أدراج الرياح. معظم هذه النباتات من الخضروات، ويُمكن إنتاج الخضروات بسرعة أكبر وباستخدام كمية أقل من التربة والمياه والطاقة والكربون والأسمدة مقارنة بالأطعمة الأخرى. كما أنها تُناسب شكل نظام غذائي أكثر صحة يقي من الأمراض.

سواء جُمِعَت هذه النباتات من خلال الحصاد البري، أو زُرِعَت بطرق البستنة التقليدية، أو زُرِعَت مع الأسماك بطريقة الزراعة المائية المركبة، أو زُرِعَت بكثافة في المزارع الحضرية الرأسية، فإن الخضروات والفواكه والحبوب الجديدة بتنوُّعها اللامحدود ستشكل الدعامة الأساسية للنظام الغذائي العالمي في المستقبل. كما ستخلق صناعات ووظائف جديدة، وستُساعد في توظيف مليار من صغار المزارعين الذين تطردهم سلاسل المتاجر العملاقة وسلاسل الغذاء العالمية ومُغتصبو الأراضي من أراضيهم في الوقت الحاضر (كريب، ٢٠١٢).2

عند التفكير في مُستقبل الغذاء، ثمَّة اتجاهات أساسية أخرى من المُحتمل أن تُغير النظام الغذائي. في عام ٢٠١١، أنتجت جامعة ماستريخت أول نقانق اصطناعية في العالَم، وفي عام ٢٠١٣، أول هامبورجر اصطناعي في العالم، صُنِّعَ من الخلايا الجذعية الحيوانية (ماستريخت، ٢٠١٣). يتطلَّب إنتاج اللحوم المُصَنَّعَة كميةً أقلَّ بكثيرٍ من التربة والمياه والأسمدة والطاقة والكربون، مقارنة باللحوم التقليدية. ومن المُحتمَل أن يكون تناولها أكثر صحةً وأمانًا، كما أنها أرخص للمُستهلك. إنه لحم حقيقي، ولكن لم تتسنَّ له الفرصة قطُّ ليُصبح بقرةً تخور!

في غضون عقد من الزمن، يُمكن أن يشغل اللحم المُصَنَّع المرتبة الأخيرة في سوق اللحوم، كمجرد حشو للفطائر والنقانق والبرجر والوجبات الخفيفة وما شابه ذلك. ومن المُحتمَل أن يجتذب المُستهلِكين المُهتمِّين بالصحة و«الأخلاقيِّين» الذين يرغبون في تجنُّب استغلال الحيوانات، وأولئك الذين يرغبون في الحدِّ من تأثيرهم الشخصي على كوكب الأرض، ولكن في الوقت نفسه يظلُّ بإمكانهم التمتُّع بوجبة من اللحم. إذا كنتَ تشكُّ في أنَّ هذا الأمر سيَلقى شعبيةً ورواجًا، فانظر إلى ملابسك. قبل ستِّين عامًا، لم يكن أحد يرتدي ملابس اصطناعية، أما اليوم، فكُلُّنا نرتديها.

سيكون للزراعة الحيوية أيضًا تأثير تَحَوُّلي كبير على الغذاء في القرن الحادي والعشرين. فلطالما استُخدِمت زراعة الخلايا في العلوم الزراعية والطبية، ولكن في المستقبل القريب، هذه التكنولوجيا في طريقها للظهور على المستوى الصناعي لزراعة طعامٍ صحي (دال توسو وميلاندري، ٢٠١١). يُمكن زراعة خلايا من النباتات والفطريات والميكروبات والكائنات الحية الأخرى بكميات ضخمة في المفاعلات الحيوية، وتحويلها إلى أطعمةٍ صالحة للأكل ومُغذية، وحتى لذيذة. مرة أخرى، تُحقِّق طرُق الإنتاج هذه وفرًا كبيرًا في التربة والمياه والمُغذيات والطاقة مقارنة بالنظم الزراعية. والأهم من ذلك، يُمكن أن تُصمَّم خصيصًا لتلبية الاحتياجات الغذائية للمُستهلِك بشكلٍ فردي، وذلك بناءً على الملف الشخصي للمَخاطر الجينية، وهذا لحمايتنا من أمراض القلب أو السُّكَّري أو السرطان أو السمنة. لقد أصبح عصر النظام الغذائي اللذيذ والمُصمَّم خصيصًا لكل فردٍ وشيكًا.

نظرًا لأنَّ المذاقات الآسيوية والحاجة إلى إعادة تدوير المواد الغذائية أصبحا يَلقيان شعبية على مستوى العالم، فقد تُصبح الأطعمة غير المألوفة مثل الحشرات وقناديل البحر والزواحف أكثر وجودًا وبروزًا في المطبخ العالمي. ستلعب الزراعة الحشرية — زراعة الحشرات — دورًا خاصًّا في إعادة تدوير المُغذيات، على سبيل المثال، استخدام صراصير الليل المُستزرَعة لاستهلاك بقايا الخضروات، ثم إطعام الصراصير للأسماك أو الدجاج المُخصَّصة للاستهلاك البشري، أو استخدامها كطعامٍ بشري كأنواع الطعام الشعبية في جنوب شرق آسيا.

كما تَعِد التكنولوجيا المُتقدِّمة للطباعة ثلاثية الأبعاد بلعب دورٍ في تصميم الطعام الجديد. ستقوم «طابعة الغذاء» المُحمَّلة بالمكوِّنات أو حتى المُغذيات الأساسية، بتجميعها بالنسب الصحيحة ثم «تطبع» الوصفة المُختارة كطبقٍ جاهز للطلب. تعمل العديد من الشركات حول العالَم على تقنيات مُختلفة لجعل طباعة الغذاء هي صناعة المستقبل.3 لطباعة الغذاء تطبيقات تُستخدَم في المزرعة نفسها، وفي تصنيع الأطعمة الموحدة والمحددة بدقَّة، وصولًا إلى صُنع الحلويات المنحوتة بدقَّة من قبل الطُّهاة الرائدين في العالم.

مثلما كانت سبعينيات القرن العشرين هي عصر الموسيقى، وتسعينيات ذاك القرن هي عصر الإنترنت، فنحن الآن ندخل «عصر الغذاء». لم يكن المطبخ العالَمي بمثل هذا التنوُّع الهائل أبدًا، وفي الوقت نفسه، لم يكن بعيدًا كل هذا البُعد عن الوصول إلى تحقيق إمكاناته الحقيقية. ولم تكن الفُرَص رائعة أو مُمتازة بهذا الشكل من قبل. إن الطعام هو واحد من أكثر الأعمال الإبداعية التي نقوم بها نحن البشر.

ولكن اختيارنا لتوجُّهنا نحو الطعام بحلول عام ٢٠٥٠، سيُحدِّد مُستقبل حضارتنا العالمية ومصيرها.

ما الذي يجب علينا فعله؟

  • (١)

    تطوير الإنتاج الغذائي المُستدام في المناطق الحضرية باستخدام المياه المُعاد تدويرها والنفايات العضوية في جميع مدن العالم.

    كيفية التطبيق: «عدم استقرار المناخ سيدفع إلى تحوُّل معظم أشكال الزراعة إلى «الزراعة الداخلية» على أي حال، في حين أنَّ نقصَ المياه والأسمدة سيُشجِّع أيضًا على الاتجاه إلى «التكثيف المُستدام». ومع ذلك، فمن الأمور الضرورية: التخطيط الحضري (لإعادة تدوير كلٍّ من المياه ونفايات المُغذيات واستخدامها مرةً أخرى في إنتاج الغذاء)، وحوافز الاستثمار (من قبل الحكومات الحريصة على تجنُّب الأزمات الغذائية الناجمة عن تغيُّر المناخ)، وإجراء المزيد من البحث والتطوير في نُظُم الزراعة الحضرية والزراعة الحيوية.»
  • (٢)

    تربية الجيل القادم من البشر على تقدير واحترام الطعام بصورةٍ أكبر بكثيرٍ مما هي عليه اليوم.

    كيفية التطبيق: «يُمكن تحقيق ذلك من خلال تقديم فكرة «عام الغذاء» في كل مادة وفي كل مدرسة ابتدائية على هذا الكوكب، وتشجيع صناعة الأغذية على المساعدة في تثقيف المُستهلكين من خلال الترويج للأطعمة المُنتَجة بشكلٍ مستدام.»
  • (٣)

    من خلال فرض ضريبة على الغذاء، يُدْفَع المال للمزارعين والسكان الأصليين من أجل استعادة المساحات الخضراء والمياه والحياة البرية في العالَم والحفاظ عليها. وإعادة هيكلة اقتصاديات سلسلة الغذاء العالمية لتشجيع الإنتاج المُستدام من خلال توعية المُستهلِكين.

    كيفية التطبيق: «معظم الحكومات تطبق ضرائب استهلاك بالفعل. وفي هذه الحالة، من المقترح تطبيق ذلك على الغذاء أيضًا (بحيث يعكس التكلفة البيئية لإنتاجه) ومن ثم، إنفاق الإيرادات المُجَمَّعَة على دفع المال للمزارعين والسكان الأصليين لإصلاح الأضرار، واستعادة الحياة البرية في نصف كوكب الأرض. وبالنسبة للمواطنين الفقراء، فيمكن لتطبيق الدعم، أو قسائم المعونات الغذائية، أو الإعفاء الضريبي أن يُجنِّبهم تردِّي أحوالهم.»
  • (٤)

    الاستعاضة عن النفايات الحالية التي تبلُغ أقلَّ من ٤٠٪ من الغذاء العالمي بنظامٍ يُعيد تدوير جميع العناصر الغذائية في عملية إنتاج الغذاء.

    كيفية التطبيق: «هذا يَرجع إلى حدٍّ كبير إلى المُخططين العمرانيين الذين لا بدَّ أن يُنشِئوا في كل مدينة أنظمة إعادة تدوير «النفايات الخضراء» وحظر إلقاء الطعام أو النفايات الخضراء في مدافن النفايات.»
  • (٥)

    إعادة تشكيل النظام الغذائي العالَمي من نظام يؤدي إلى تدهور كوكبنا وتدهور صحتنا الشخصية، إلى نظامٍ يحمي ويحافظ على كليهما.

    كيفية التطبيق: «يُمكن تحقيق ذلك من خلال توعية أفضل بصحة المستهلك، وذلك من خلال المدارس، وخدمات الرعاية الصحية، وصناعة الأغذية (انظر رقم ٢ أعلاه)، ووسائل الإعلام ووسائل التواصُل الاجتماعي، وأسواق المزارعين، وما إلى ذلك. لتغيير طريقة إنتاج الغذاء، فمن الضروري للمُستهلِكين إرسال الرسائل الاقتصادية الصحيحة للمُنتجين والمُزارعين. ومن الضروري أيضًا أن تتبنَّى المِهَن الطبية الرعاية الصحية الوقائية والتغذية، وتُعطي لهما أولويةً أكبر من العلاجات الكيميائية.»
  • (٦)

    إعادة استثمار عُشْر مُخصَّصات الدفاع العالمي في تحقيق السلام العالمي من خلال الغذاء، لا سيما في مجال البحث والتطوير في مجالات الزراعة والبستنة والصحة الغذائية.

    كيفية التطبيق: «هناك حاجة لمزيدٍ من البحث الأكاديمي في قضية «السلام من خلال الغذاء» كي نُثبِت للحكومات أن فُرَص الحرب تقلُّ عندما تكون الإمدادات الغذائية آمنة، وأنَّ الاستثمار في الغذاء المُستدام يؤتي ثماره في تحقيق السلام. ولا بدَّ من إشراك الجيش في هذا الخطاب.»
  • (٧)

    تقديم فكرة «عام الغذاء»، وتعليم احترام وتقدير الطعام والوعي به في كل مدرسة ابتدائية على هذا الكوكب. وتمكين الأطفال من تثقيف والِديهم حول الغذاء المستدام والصحي، والعناية بالنظام البيئي الذي يُوفره.

    كيفية التطبيق: «المعلومات المطلوبة لتطبيق ذلك متاحة الآن، فهناك العديد من البرامج بالفعل التي تُعيد تقديم فكرة زراعة وتحضير الأطعمة البسيطة إلى المدارس الحضرية. يُمكن تحقيق ذلك دون تغيير المنهج، ولكن فقط من خلال إدراج موضوع الغذاء في كل مادة تُدَرَّس، بداية من العلوم والرياضيات، وصولًا إلى اللغات والجغرافيا والدراسات الاجتماعية والرياضة.»
  • (٨)

    ضمان تَوافُر وسائل تنظيم الأسرة والتعليم والرعاية الصحية للمرأة في جميع المجتمعات.

    كيفية التطبيق: «قد بدأ العمل على ذلك بالفعل، ولكنه لا بدَّ من المُضي بوتيرة أسرع وأن يقترن بإتاحة فُرَص متكافئة للمرأة، وقبول تولِّيها زمام القيادة في جميع مناحي الحياة. وهو ما يُفترض أنه سيجعل النساء يخفضن من معدلات خصوبتهنَّ بشكل طبيعي وطوعي، الأمر الذي سيُؤدي بدوره إلى خفض تعداد السكان، في حال حصُلن على التعليم والرعاية الصحية والقدرة ودعم تنظيم الأُسرة اللازمين لتحقيق ذلك.»
  • (٩)

    إنشاء نظام عالَمي قائم على الإنترنت لتشارك المعرفة الغذائية والزراعية مع جميع المُزارعين والمُستهلكين.

    كيفية التطبيق: «تعمل العديد من المُنظَّمات، العامة والخاصة، على هذا الأمر بالفعل، ولكنها بحاجة إلى التعاون بصورة أفضل وأكثر إلحاحًا.»

ما الذي يُمكنك فعله؟

  • استخدم قوَّة عُملتك كمُستهلكٍ لترسل رسالةً إلى تجار التجزئة والمُنتجين مفادها أنك تُقدِّر الأطعمة الآمنة والصحية والمستدامة والطازجة.

  • كن مُستعدًّا لمكافأة المُزارعين بإنصافٍ لرعايتهم واهتمامهم بالمساحات الخضراء، وكذا بإنتاج مُنتجاتٍ آمنة وصحية ولذيذة.

  • تناول الطعام الطازج والمَحلي والمُستدام والصحي. تعرَّف على ما تنطوي عليه هذه الأشياء وكيفية التمييز بين الحقائق القائمة على الأدلَّة، والمَزاعم المدفوعة بالمال أو المُعتقَدات التي لا أساس لها من الصحة.

  • تجنَّب عن وعيٍ «الأطعمة الصناعية» المُعالجة والوجبات السريعة غير الصحية، والأطعمة التي تَحتوي على الكثير من المواد الكيميائية والإضافات، والمُعلَّبة بكثافة، والتي لا تَحترم المُزارعين وتدفع لهم ثمنًا زهيدًا. تناول الطعام الذي يُساعدك في الحفاظ على صحةٍ جيدة مدى الحياة.

  • ادعم تنظيم الأسرة، وتعليم المرأة وغيرها من الوسائل الطوعية للحدِّ من عدد السكان.

  • عَلِّم أطفالك احترام الطعام وتقديره كما كانت تفعل كلُّ الأجيال السابقة، فيما عدا جيلنا.

  • افهم أنَّ سلوكنا وقِيَمنا تجاه الطعام ستُحدِّد مُستقبل الإنسان، سواء أكان خيرًا أم شرًّا.

  • ازرع المزيد من طعامك الطازج وأعِدَّهُ واستمتع به.

هوامش

(2) Based on the observation that the transition from smallholder farming to large-scale, intensive agribusiness in western countries has typically resulted in <80% of farmers leaving their farms.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤