الفصل الرابع

المنظر الأول

(عائشة في مسكنها مع خادمتها بريرة.)

بريرة : ما لك؟
عائشة (مطرقة) : ما بي من شيء!
بريرة : أتكتئبين وقد عاد النبي ظافرًا من غزوةٍ جديدة؟!
عائشة : «بني المُصطلِق»؟!
بريرة : نعم!
عائشة (في قلق) : أجاءوا بسبايا كثيرات؟
بريرة : نعم، ومن بينهن ابنه سيد القوم، وقد وقعَت في سهم أحد الأنصار!
عائشة (تنفرج أساريرها) : وقعَت في سهم أحد الأنصار! … اللهم حمدًا! … (تعود إلى القلق والإطراق) نعم … لكن هناك أخرى!
بريرة : من؟ … تلك المرأة التي خطبها؟
عائشة (في إطراق) : لقد أرسَلني أنظر إليها!
بريرة : وماذا وجدتِ؟!
عائشة (ترى النبي داخلًا) : صه! … اذهبي يا «بريرة»!
محمد : أتوجهتِ إليها يا «عائشة»؟
عائشة : نعم!
محمد : وماذا رأيتِ منها؟
عائشة (في فتور) : ما رأيتُ طائلًا!
محمد (باسمًا) : بلى … لقد رأيتِ خالًا في خدها، اقشعرَّت منه كل شعرة في جسدك!
بريرة (تدخل) : يا رسول الله! … امرأة من سبايا «بني المصطلق» أتتك في أمرٍ هالها!
محمد : من هي؟
بريرة : «جويرية بنت الحارث»!
محمد : أين هي؟
بريرة : بالباب!
محمد (متجهًا إلى الباب) : تعالَي يا «جويرية»!
عائشة (همسًا) : يا «بريرة»!
بريرة (همسًا) : إنها امرأةٌ حلوة ملاحة!

(عائشة تدنو من الباب وتُلقي نظرة على المرأة … فيصفر وجهها، وتهمس كالمخاطبة لنفسها.)

عائشة : نعم!
بريرة (همسًا) : والله ما هو إلا أن رأيتها الساعة على بابك، فكرهتها!
عائشة (كالمخاطبة لنفسها) : أنا كذلك!
بريرة (همسًا) : لقد عرفتُ أنه سيرى منها والله ما رأينا!

(عائشة تطرق مليًّا صامتة.)

محمد (بالباب) : ما شأنك يا «جويرية»!
جويرية (من الخارج) : يا رسول الله! … أنا بنت «الحارث بن أبي ضرار» سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخفَ عليك، فوقعتُ في السهم ﻟ «ثابت بن قيس» فكاتبتُه على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي!
محمد (يطيل إليها النظر) : هل لك في خير من ذلك؟
جويرية : ومن هو يا رسول الله؟
محمد : أقضي عنك كتابتكِ وأتزوجك!
جويرية (بغير تردد) : نعم يا رسول الله!
محمد : قد فعلتُ!
عائشة (من خلفه غير متمالكة) : أتتزوجها؟
محمد (يلتفت إلى عائشة) : نعم!
عائشة (تخفي ما بها وتبتسم) : على خير طائر!
محمد : أتكرهين ذلك؟
عائشة : ليس لي أن أكره ما تحب!
محمد : أصبتِ!
عائشة : لقد حُبِّب إليك النساء!
محمد : حُبِّب إليَّ الطيب والنساء!

المنظر الثاني

(أمام المسجد بالمدينة … بعض الناس يتهامسون … على رأسهم «عبد الله بن أُبي» وحسان بن ثابت ومسطح.)

حسان : اصدُقْنا الخبر يا «مسطح»!
مسطح : والله لقد صدقتُكم … إن العسكر كله يتحدث به!
حسان (في عجب) : «عائشة» و… «صفوان»؟!
مسطح : نعم … لقد رأيتُها بعيني على بعيره فيمن رآهما، وقد طلعا مع الصبح، وحدهما لا ثالث معهما، وقد عاد العسكر من غزوة «بني المصطلق» ونزل واطمأن!
ابن أُبي : إن «صفوان» فتًى جميل في الرجال!
حسان : وهي صغيرة السن …

(أحد الأنصار ينهض صائحًا غير متمالك …)

الأنصاري : كفُّوا عن هذا القول واتقوا الله!

المنظر الثالث

(عائشة، في مسكنها على فراش المرض، وإلى جوارها أمها زينب أم رومان.)

عائشة : يا أمي! … أتذكرين أني كنتُ إذا اشتكيتُ، رحمني رسول الله ولطف بي؟
زينب (مطرقة) : نعم!
عائشة : إنه لم يفعل ذلك بي في شكواي هذه!

(زينب تطرق ولا تجيب.)

عائشة (تنظر إلى وجه أمها) : ما للونك مصفرًّا؟
زينب : لا شيء بي!
عائشة : إنك تكتمينني أمرًا!
أم مسطح (تدخل مسرعة هامسة) : رسول الله!

(زينب تنهض، ويدخل النبي.)

محمد (متغير الوجه) : كيف تيكُم؟!
زينب (في إطراق) : بخير يا رسول الله!

(يخرج النبي دون أن ينظر إلى عائشة، وتخرج زينب في أثره تشيعه.)

عائشة (تتبعه بأنظارها حتى يذهب، ثم تلتفت إلى أم مسطح) : أرأيتِ جفاءه لي؟
أم مسطح (تنظر إليها مشفقة) : صبرًا يا «بنت أبي بكر»!
عائشة : لقد جاء وانصرف، دون أن يخاطبني بكلام! … إني أرى في وجهه شيئًا ما كنتُ أراه من قبل!
أم مسطح (كالمخاطبة لنفسها) : تعِسَ «مسطح»!
عائشة : ماذا تقولين؟
أم مسطح : تَعِس «مسطح»!
عائشة : لماذا تقولين ذلك له؟ … بئس لَعَمْر الله ما قلتِ لرجُل من المهاجرين … قد شهد «بدرًا»!
أم مسطح : أوَتجهلين ما يتحدث به الناس؟
عائشة (في قلق) : بماذا يتحدث الناس؟
أم مسطح : أنتِ و«صفوان»؟
عائشة (في قلق) : ماذا؟
أم مسطح : ليلةَ عادَ العسكرُ من «غزوة بني المصطلق» قد رآكما «مسطح» منفردَين، وأنتِ على بعير «صفوان»، وحدَّث به الناس، ولا أرى إلا أن النبي قد علم به!
عائشة (صائحة قائمة مستوية في فراشها) : أنا و«صفوان»؟
أم مسطح : إني أراه والله حديث إفك!
عائشة : أنا و«صفوان»؟! … أنا؟ … أنا؟

(تنفجر باكية.)

أم مسطح : هوني عليك! … هوني عليك!
زينب (تعود مسرعة) : ما بكاؤك هذا؟
عائشة (لأمها) : يغفر الله لك! … تحدث الناس بما تحدثوا به، ولا تذكرين لي من ذلك شيئًا؟!
زينب (مطرقة) : أي بنية، خفضي عليك الشأن؛ فوالله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر؛ إلا كثَّرن وكثَّر الناس عليها!
عائشة (تبكي) : أنا و«صفوان»؟! أنا و«صفوان»؟!
زينب (في ألم) : لا تبكي هذا البكاء!
عائشة (لأم مسطح وهي تجهش) : أتقولين إن «مسطحًا» قد رآنا؟!
أم مسطح : هوني عليك إنه حديث إفك!
عائشة (باكية) : إني … إني حقًّا كنت على بعير «صفوان» …
أم مسطح (في عجب) : حقًّا؟!
زينب (تلتفت إلى ابنتها) : أنت؟!
عائشة : انتظرا، أقص عليكما الخبر!
زينب : قصي!
عائشة (تكفكف دموعها) : تعلمان لمَّا كانت غزوة «بني المصطلق» اقترع رسول الله بين نسائه كما يصنع، فخرج سهمي عليهن، فخرج بي، فلما فرغ من سفره ذلك، وجَّه قافلًا حتى إذا كان قريبًا من المدينة نزل منزلًا فبات به بعض الليل، ثم أذن في الناس بالرحيل فارتحل الناس، وخرجتُ لبعض حاجتي وفي عنقي عقد فيه «جَزْع ظَفَار» فلما فرغتُ انسلَّ من عنقي ولا أدري، فلما رجعتُ إلى الرحل ذهبتُ ألتمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل، فرجعتُ إلى مكاني الذي ذهبتُ إليه فالتمسته حتى وجدتُه، وجاء القوم الذين كانوا يرحِّلون لي بعيري، فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه كما كنتُ أصنع، فاحتملوه فشدوه على البعير، ولم يشكُّوا أني فيه، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، فرجعتُ إلى العسكر وما فيه من داعٍ ولا مجيب، قد انطلق الناس فتلفَّفتُ بجلبابي، ثم اضطجعتُ في مكاني وعرفتُ أن لو افتُقِدتُ لرُجِع إليه … فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي «صفوان السلمي» وقد كان تخلَّف عن العسكر لبعض حاجته، فرأى سوادي فأقبل حتى وقف عليَّ، وقد كان يراني، فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون … ظعينة رسول الله! … وأنا متلففة في ثيابي، قال ما خلَّفكِ يرحمك الله؟ … فما كلمتُه، ثم قرَّب البعير، فقال: اركبي. واستأخَر عني، فركبتُ، وأخذ برأس البعير، فانطلق سريعًا يطلب الناس، فوالله ما افتُقِدتُ حتى أصبحتُ، ونزل الناس، فلمَّا اطمأنوا طلع الرجل يقود بي، فقال أهل الإفك ما قالوا … ووالله ما أعلم بشيء من ذلك إلا منكِ يا «أم مسطح» الآن!
أم مسطح : لا تبكي!
عائشة : الآن أدركتُ علة ما كنتُ أنكر من رسول الله! … إني لأدرك الساعة ما به!

المنظر الرابع

(محمد قائم في الناس يخطبهم أمام المسجد.)

محمد : «أيها الناس! … ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمتُ منهم إلا خيرًا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمتُ منه إلا خيرًا، وما يدخل بيتًا من بيوتي إلا وهو معي؟!»

(ينهض أسيد بن خضير.)

أسيد : يا رسول الله! … إن يكونوا من «الأوس» نكفكهم، وإن يكونوا إخواننا من الخزرج، فمُر بأمرك؛ فوالله إنهم لأهل أن تُضرَب أعناقهم!

(ينهض سعد بن عبادة.)

سعد : كذبتَ لعَمر الله! … لا تُضرَب أعناقهم، أمَا والله ما قلتَ هذه المقالة إلا أنك قد عرفتَ أنهم من «الخزرج»، ولو كانوا من قومك ما قلتَ هذا!
أسيد : كذبتَ لعَمر الله! … ولكنك منافق تجادل عن المنافقين!

(الناس يتساورون، ويكاد يكون بين الفريقين شر.)

محمد (ينزل بينهم) : انفضوا! … انفضوا!
علي (يصيح في الناس) : انفضوا أيها الناس؛ كما أمركم رسول الله!
محمد : ابقَ أنت يا «علي»!
علي : أنا يا رسول الله؟
محمد (وهو ينظر إلى أسامة بن زيد) : نعم وابقَ أنت يا «أسامة»!

(ينصرف الناس، ويبقى النبي وعلي وأسامة.)

أسامة : فداك أبي وأمي يا رسول الله!
محمد : أشيرا عليَّ!
أسامة : يا رسول الله أهلك، ولا نعلم إلا خيرًا، وهذا الكذب والباطل!
محمد : وأنت يا «علي» ما ترى؟
علي : يا رسول الله إن النساء لكثير! … وإنك لقادر على أن تستخلف، وسلْ جاريتها فإنها ستصدقك!
محمد : عليَّ بالجارية!
علي (يخطو نحو مسكن النبي وينادي) : يا «بريرة»!
بريرة (تخرج مسرعة) : لبيك!
علي (يقبض على ذراعها ويضربها) : اصدقي رسول الله!
بريرة (تصرخ ألمًا) : فيمَ؟ … فيمَ؟
علي : ما تعلمين عن مولاتك؟
بريرة : والله ما أعلم إلا خيرًا، وما كنتُ أعيب عليها شيئًا، إلا أني كنتُ أعجن عجيني، فأرجو منها أن تحفظه، فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله!

المنظر الخامس

(في مسكن عائشة … وهي بين أبوَيها تبكي، والنبي مطرق على مقربةٍ منهم.)

محمد (يرفع رأسه) : يا «عائشة»! … إن كنتِ قارفتِ سوءًا مما يقول الناس؛ فتوبي إلى الله يقبل التوبة عن عباده!
عائشة (يقلص دمعها وتنظر إلى أبوَيها لحظة؛ كأنها تنتظر منهما شيئًا) : ألا تُجيبان؟!
أبو بكر (في إطراق، وفي صوتٍ خافت) : والله ما ندري بماذا نُجيب؟
عائشة (للنبي منفجرة) : والله لا أتوب إلى الله مما ذكرتَ أبدًا، والله إني لأعلم لئن أقررتُ بما يقول الناس، والله يعلم أني منه بريئة؛ لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرتُ ما يقولون لا تصدقونني … ولكن سأقول كما قال «أبو يوسف»: فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون!

(تنهمر عبراتها بلا شهيق.)

(محمد يطيل النظر إلى عائشة متفكرًا … وفجأة تأخذه غشية.)

أبو بكر (همسًا، وهو مسرع إليه) : الوحي!

(ثم يسجيه بثوبه، ويضع تحت رأسه وسادة.)

عائشة (في دهش) : الوحي!
زينب (في رجفة) : اللهم عفوك ورضوانك!
عائشة (كالمخاطبة لنفسها) : الوحي؟ … من أجلي؟! … وايم الله لأنا أحقر وأصغر شأنًا من أن يُنزل الله فيَّ قرآنًا يُقرَأ ويُصلَّى به في المساجد!
أبو بكر (في رجفة) : اللهم رحمتك!
عائشة (في صوتٍ خافت) : لماذا تفرقان هذا الفرق؟ … فوالله ما أفزع؛ فإني أعرف أني بريئة وأن الله غير ظالمي!
أبو بكر (وهو لا يحيد عن النبي بنظره) : رحماك اللهم!
عائشة : أتخشيان أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس؟
أبو بكر : صه!
زينب (وقد رأت النبي يتحرك) : صه!
محمد (يُسرَّى عنه، ويجلس ويمسح العرق عن جبينه) : أبشري يا «عائشة»! … فقد أنزل الله براءتك!
عائشة (صائحة) : لربي الحمد! … لربي الحمد!
زينب (تتنفس في فرح) : الحمد الله!
أبو بكر (رافعًا يديه إلى السماء) : لك الحمد اللهم!
محمد (يتلو) : إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ!

المنظر السادس

(في المدينة … على مقربة من المسجد، الناس تتأهب للرحيل … أنصاريٌّ ومهاجريٌّ يتحادثان …)

الأنصاري : ما الخبر؟
المهاجري : رسول الله يخرج إلى «مكة»، يريد زيارة البيت الحرام!
الأنصاري : وهل تتركه قريش يدخل مكة؟
المهاجري : إنه يدخلها معتمرًا، لا يريد حربًا ولا قتالًا!
الأنصاري (يلتفت) : انظر … من هذا الرجل؟
المهاجري : هذا «بشر بن سفيان»، قادمًا ولا ريب من مكة يُفضي إلى النبي بشيء!
الأنصاري (يلتفت) : وهذا النبي قد خرج إليه!

(يخرج النبي وقد تهيأ للرحيل ومعه الناس، يتقدَّم بشر إليه، ويسلم عليه.)

بشر : يا رسول الله! … «هذه قريش» قد سمعَت بمسيرك، فخرجوا معهم العُوذ المطافيل … قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا ﺑ «ذي طوًى» يعاهدون الله لا ندخلها عليهم أبدًا، وهذا «خالد بن الوليد» في خيلهم … قد قدموها إلى كراع الغميم!
محمد : يا ويح قريش! … لقد أكلَتهم الحرب! … ماذا عليهم لو خلَّوا بيني وبين سائر العرب؛ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتَلوا وبهم قوة، فما تظن «قريش»؟ … فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يُظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة!
بشر : على بركة الله!
محمد (في عزم) : على بركة الله! … أزور بيت الله!
بشر : عسى أن تلين «قريش»؛ إذ تعرف أنك لا تريد حربهم!
محمد (لمن حوله) : مَن رجل يخرج بنا على طريقٍ غير طريقهم التي هُم بها؟

المنظر السابع

(«عبد الله بن أُبي» أمام المسجد بالمدينة ومعه أحد الأنصار.)

ابن أُبي : أعُدتم من «مكة»؟
الأنصاري : نعم … أوَما بلغك خبر الصلح؟
ابن أُبي : الصلح؟
الأنصاري : لقد تم بين رسول الله و«قريش» الصلح!
ابن أُبي : ماذا أسمع؟ … كيف ذلك؟
الأنصاري : عندما كنا ﺑ «الحديبية» أسفل «مكة»، بعثَت قريش «سهيل بن عمرو» إلى رسول الله، فكتبا عهدًا أن توضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وأنه من أحب أن يدخل في «عقد النبي» وعهده؛ دخل فيه … ومن أحب أن يدخل في «عقد قريش» وعهدهم؛ دخل فيه!
ابن أُبي : عجبًا!
الأنصاري (يلتفت) : … صه! … رسول الله!

(عبد الله بن أُبي ينصرف سريعًا، ويأتي النبي ومعه أبو بكر وعمر وعلي.)

عمر : اليوم قد أمِنَّا شر «قريش»!
أبو بكر : نعم … إنه لَفتحٌ مبين!
عمر : يا رسول الله! … الآن قد ثبت دينك وأقر به الجاحدون …
محمد : لله الحمد … «إن الله قد بعثني رحمةً وكافة»!
أبو بكر : لا للعرب وحدهم، إنما للعرب والعجم وخلق الله كافة!
محمد : صدقتَ يا «أبا بكر» إن الله أرسلَني إلى «هرقل» و«كسرى» و«المقوقس» و«نجاشي الحبشة»! … أدعوهم إلى الإسلام!
أبو بكر : فلنوجه إليهم يا رسول الله من يحمل إليهم كتبًا تدعوهم إلى الإسلام!
محمد : نعم! … أريد أن أوجه «دحية بن خليفة الكلبي» إلى «هرقل»، و«عبد الله بن حذافة» إلى «كسرى»، و«حاطب بن أبي بلتعة» إلى «المقوقس»، و«عمرو بن أمية الضمري» إلى «النجاشي».
علي : أنأتي بهم إليك يا رسول الله؟
محمد : نعم!

(علي ينصرف مسرعًا مع بعض الناس.)

عمر : لي يا رسول الله رأي!
محمد : قل لي «أبا حفص»!
عمر : إن اليهود ما برحَت لهم شوكة في «خيبر»، وإني لأخشى أن يؤلبهم علينا «الفُرس» أو «الروم»، أو يُنهضهم الثأر ﻟ «بني قريظة»!
محمد (يفكر قليلًا) : أصبتَ!
عمر : لا بد لنا من غزو «خيبر»!
محمد (في عزم) : نعم … تجهزوا لغزو «خيبر»!

المنظر الثامن

(في خيبر … النبي بين أصحابه متهلل الوجه.)

محمد : الله أكبر! … خربَت «خيبر»!
علي : نعم … ما بقي حصن إلا فُتِح!

(يتقدم دحية، وهو أحد المقاتلين.)

دحية : يا رسول الله! … لقد وقعَت «صفية» في سهمي، وهي جاريةٌ جميلة!
محمد : لقد اشتريتُها منك بسبعة أرؤس!
دحية : قبلتُ يا رسول الله!
محمد : ادفعها إلى «أم سليم» تُصنِّعها وتُهيِّئها!
دحية (منصرفًا هامسًا) : أين «أم سليم»؟
أحد الناس (همسًا) : مع ظعينة رسول الله!

(يدنو أحد الأنصار من دحية ويسأله …)

الأنصاري (همسًا) : «صفية» سيتزوجها رسول الله؛ أم يتخذها أمَّ ولد؟
دحية : ما أدري! … إن حجَبها فهي امرأته، وإن لم يحجُبْها فهي أمُّ ولد!

(يذهب.)

(تدنو من الأنصاري امرأةٌ يهودية ومعها شاة مشوية.)

اليهودية : أين محمد؟
الأنصاري : لماذا تسألين عنه أيتها المرأة؟
اليهودية : معي شاةٌ مشوية أحب أن أهديها إليه!
الأنصاري : هو هذا الجالس بين أصحابه!
اليهودية : أي الشاة أحب إليه؟
الأنصاري : الذراع!

(اليهودية تترك الأنصاري، وتخرج من ثوبها شيئًا تضعه في الشاة، وتكثر منه في الذراع.)

محمد (يرى المرأة بقربه) : من المرأة؟
اليهودية (تقدم الشاة) : يا «أبا القاسم»! … هدية أهديتُها لك!
محمد : جزاك الله خيرًا، خذوها منها!

(يتناولها منها بشر بن البراء أحد الحاضرين، وتنصرف المرأة وتقف عن كثب تنظر إليه.)

بشر (في نهم) : إنها شاةٌ مَصلية!
محمد (لأصحابه) : ادنوا فتعشوا!
بشر : إنك تحب الذراع يا رسول الله!
محمد : نعم … ناولْني الذراع!

(بشر يناول النبي الذراع، فينتهش منها، ويأخذ بشر عظمًا آخر ينتهش منه.)

(بشر يقف قليلًا دون أن يزدرد، وينظر إلى النبي.)

محمد (يقف فجأة عن النهش) : ارفعوا أيديكم، فإن ذراع الشاة تخبرني أنها مسمومة!
الجميع (في فزع) : مسمومة؟!
بشر (للنبي) : والذي أكرمك، لقد وجدتُ ذلك من أكلتي التي أكلتُ حين التقمتُها، فما منعني أن ألفظها إلا أني كرهتُ أن أبغِّض إليك طعامك، فلما أكلتَ ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوتُ ألَّا تكون ازدردتَها وفيها بغْي!
علي (لأحد الحاضرين) : اطرحوا منها لكلب!

(يطرحون منها لكلبٍ مارٍّ فيموت في الحال!)

عمر : إنه لم يتبع يده حتى مات!
علي : انظروا! … لقد عاد لون «بشر» كالطيلسان!
محمد (صائحًا) : ائتوه بحجَّام!
أبو بكر : أرى والله أن تحتجم يا رسول الله!
محمد : نعم … أريد أن أحتجم على كاهلي!
أبو بكر (لمن حوله) : أسرعوا في طلب الحجام!
محمد : أين هذه المرأة؟
الأنصاري (وقد قبض عليها) : ها هي ذي يا رسول الله!
محمد (للمرأة) : ما حملكِ على ما صنعتِ؟
اليهودية : إنك نلتَ من قومي ما نلتَ؛ قتلتَ أبي وعمي وزوجي، فقلتُ إن كان نبيًّا لم يضْرُره، وإن كان كاذبًا أرحتُ الناس منه!
محمد (لمن حوله) : اقتلوا هذه المرأة!

المنظر التاسع

(في مكة … عمرو بن العاص في أصحابٍ له من قريش.)

عمرو : تعلمون، و«اللات» أني أرى أمر «محمد» يعلو الأمور علوًّا منكَرًا … وإني قد رأيتُ أمرًا، فما ترَون فيه؟
قريش : ماذا رأيتَ؟
عمرو : رأيتُ أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر «محمد» على قومنا كنا عند «النجاشي» … فإنا أن نكون تحت يدَيه أحب إلينا من أن نكون تحت يدَي «محمد» … وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا؛ فلن يأتينا منهم إلا خير!
قريش : إن هذا لرأي!
عمرو : اجمعوا لنا إذَن ما نُهديه إلى «النجاشي»!

المنظر العاشر

(عند النجاشي وبين يديه رسول محمد، وهو عمرو بن أمية الضمري.)

الضمري : يا «أصحمة»! … إن عليَّ القول وعليك الاستماع … إنك كأنك في الرقة علينا منا؛ وكأنا بالثقة بك منك؛ لأنا لم نظن بك خيرًا قط إلا نلناه، ولم نخفْك على شيء قط إلا أمِنَّاه … وقد أخذْنا الحجة عليك من فيك، ألَّا يحيل بيننا وبينك شاهد لا يُرَد وقاض لا يجور، وفي ذلك وقْع الحزِّ وإصابة المفصل وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في «عيسى ابن مريم»، وقد فرَّق النبي رسُله إلى الناس، فرجاك لِما لم يرجهم له، وأمِنك على ما خافهم عليه، لخيرٍ سالف وأجرٍ يُنتظَر!
النجاشي : أشهد بالله إنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وإن بشارة «موسى» براكب الحمار؛ كبشارة «عيسى» براكب الجمل، وإن العيان له ليس بأشفى من الخبر عنه … ولكن أعواني من الحبش قليل، فأنظرني حتى أكثر الأعوان وأليِّن القلوب!

(يدخل عمرو بن العاص وأصحابه، فيلمح الضمري.)

عمرو بن العاص (لأصحابه هامسًا) : أتدرون من هذا بين يدَي «النجاشي»؟ … هذا «عمرو بن أمية الضمري» رسول «محمد»، لو قد دخلتُ على «النجاشي» لسألته إياه، فأعطانيه، فضربتُ عنقه؛ فإذا فعلتُ ذلك رأت قريش أني أجزأتُ عنها حين قتلتُ رسول «محمد» … ها هو ذا قد ودَّع «النجاشي» وخرج … هلمُّوا بنا!

(يتقدم إلى النجاشي ويسجد له.)

النجاشي : مرحبًا بصديقي!
عمرو : أيها الملك!
النجاشي : أهديتَ إليَّ من بلادك شيئًا؟
عمرو : نعم أيها الملك! … قد أهديتُ إليك أُدمًا كثيرًا!

(يقرِّب إليه الهدية.)

النجاشي (ينظر إليها معجبًا) : مرحى! … مرحى! … وشكرًا شكرًا!
عمرو : أيها الملك! … إني قد رأيتُ رجلًا خرج من عندك، وهو رسول رجلٍ عدو لنا … فأعطنيه لأقتله؛ فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا!

(النجاشي يغضب ويمد يده، فيضرب بها أنفه ضربةً شديدة.)

عمرو (في فرق) : أيها الملك! … واللات لو ظننتُ أنك تكره هذا ما سألتُكه!
النجاشي : أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه «الناموس الأكبر» الذي كان يأتي «موسى» لتقتله؟!
عمرو : أيها الملك! … أكذاك هو؟!
النجاشي : ويحك يا عمرو! … أطعْني واتبعه؛ فإنه والله لعلى الحق، ولَيظهرن على من خالفه كما ظهر «موسى» على «فرعون» وجنوده!
عمرو : أفتبايعني له على الإسلام؟
النجاشي : نعم!

(يبسط يده فيبايعه عمرو.)

المنظر الحادي عشر

(في الطريق إلى المدينة … عمرو بن العاص يقابل خالد بن الوليد.)

عمرو بن العاص (لخالد) : أين «يا أبا سليمان»؟
خالد بن الوليد : والله لقد استقام الميسم، وإن الرجل لنبي … أذهب والله فأسلم … فحتى متى؟
عمرو : أنت أيضًا؟!
خالد : نعم!
عمرو : والله ما جئتُ أنا كذلك إلا لأسلم!
خالد : هلمَّ بنا!

(يسيران في طريق المدينة.)

المنظر الثاني عشر

(في المدينة … النبي في المسجد.)

عمر : يا رسول الله! … لقد عاد من أرسلْناهم إلى الملوك من الرسل!
محمد : أدخلهم!

(يدخل الرسل وهم: دحية بن خليفة، وعمرو بن أمية، وعبد الله بن حذافة، وحاطب بن أبي بلتعة.)

عمر (لهم) : لقد أذِن لكم رسول الله!
محمد (لدحية بن خليفة) : ما وراءك يا «دحية»!
دحية : لقد وجهتَني يا رسول الله إلى «قيصر الروم»، فرد عليك بهذا الكتاب!
محمد : اقرأه!
دحية (يفتح الكتاب ويقرأ) : «… إلى محمد رسول الله! … إني مسلم ولكني مغلوب على أمري …»
محمد : كذَب عدو الله! … ليس بمسلم؛ بل هو على نصرانيته! … (يلتفت إلى عمرو بن أمية) وأنت يا «عمرو» ما وراءك؟
ابن أمية : توجهتُ إلى «نجاشي الحبشة» فأجاب أنه يشهد بالله أنك النبي الآتي الذي ينتظره أهل الكتاب، ولكن أعوانه من الحبش قليل، وطلب أن تُنظره؛ حتى يُكثر الأعوان، ويليِّن القلوب!
محمد (يلتفت إلى عبد الله بن حذافة) : وأنت يا «عبد الله»؟
عبد الله : توجَّهتُ إلى «كسرى»، وقدمتُ له كتابك، فأخذ الكتاب فمزَّقه!
محمد : مزَّق الله ملكه!
عبد الله : ثم أجاب: «مُلكٌ هنيء لا أخشى أن أُغلَب عليه، ولا أُشارَك فيه، وقد ملك فرعون بني إسرائيل ولستم بخيرٍ منهم؛ فما يمنعني أن أملككم وأنا خير منه، فأما هذا المُلك فقد علمْنا أنه يصير إلى الكلاب، وأنتم أولئك؛ تشبع بطونكم وتأبى عيونكم!»
محمد (يلتفت إلى حاطب بن أبي بلتعة) : وأنت يا «حاطب» ما وراءك؟
حاطب : قدمتُ على المقوقس فأجابني: «إني قد نظرتُ في أمر هذا «النبي» فوجدتُه لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى إلا عن مرغوب عنه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب … وسأنظر.» ثم أهدى إليك يا رسول الله «جاريةً قبطية» جميلة اسمها «مارية»!

المنظر الثالث عشر

(في المدينة … النبي وأبو بكر في المسجد، بين نفر من الخزرج، وهم: عبد الله بن أنيس، ومسعود بن سنان، وابن عتيك، وأبو قتادة وخزاعي.)

عبد الله : يا «رسول الله»! … لقد أصابت «الأوس» عدو الله اليهودي «كعب بن الأشرف»!
محمد : متى؟
مسعود : اليوم!
محمد : وكيف أصابوه؟
عبد الله : قتلوه بأسيافهم، ووالله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا عندك في الإسلام، ولن ننتهي حتى نوقع مثلها، فأْذن لنا في قتل اليهودي «ابن أبي الحقيق» وهو بخيبر!
أبو بكر (لمحمدٍ باسمًا) : إن هذين الحيَّين من الأنصار «الأوس» و«الخزرج»، ليتصاوَلان تصاوُل الفحلَين، لا تصنع «الأوس» شيئًا فيه غناء، إلا صنعَت «الخزرج» مثلهم!
عبد الله : نعم … وإنا لنستأذن رسول الله في أن نصنع مثل ما صنعَت «الأوس»!
محمد (باسمًا) : قد أذنتُ لكم!
الخزرج (صائحين فرحًا) : الله أكبر!
محمد : ولكني أنهاكم أن تقتلوا وليدًا أو امرأة!

(يخرج رجال الخزرج.)

بلال (يدخل فرحًا) : يا نبي الله!
أبو بكر : ما لك يا «بلال»؟
بلال (في فرح) : لقد جاء «خالد بن الوليد» و«عمرو بن العاص» كي يسلما!
محمد (مبتهجًا) : أدخلْهما!

(يدخل خالد وعمرو.)

خالد : يا رسول الله! … لقد تبين لي الحق من الباطل، وعلمتُ أنك رسول الله، وإني أبايعك على الإسلام!
محمد (فرحًا) : الله أكبر! … الله أكبر!
عمرو (يتقدم) : يا رسول الله! … وأنا أبايعك على أنْ …
أبو بكر (لا يتمالك) : على أنْ ماذا؟
عمرو : على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر!
محمد : يا «عمرو» بايع؛ فإن الإسلام يجبُّ ما كان قبله، والهجرة تجبُّ ما كان قبلها!

المنظر الرابع عشر

(محمد أمام المسجد مع أبي بكر يقبِل عليه نفر من الخزرج مهللين …)

عبد الله (في فرح) : الله أكبر!
محمد : ما وراءكم؟
مسعود : قتلْنا عدو الله ابن أبي الحقيق!
محمد : كيف؟
ابن عتيك : خرجْنا حتى إذا قدمْنا «خيبر» قمْنا على باب «ابن أبي الحقيق» ليلًا فأستاذنَّا عليه، فخرجَت إلينا امرأته، فقالت: من أنتم؟ … قلنا: ناس من العرب نلتمس الميرة! … قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه. وأغلقْنا علينا وعليها الحجرة؛ تخوفًا أن تكون دونه محاولة تحول بيننا وبينه، وصاحت امرأته؛ فنوهَت بنا، وابتدرْناه وهو على فراشه بأسيافنا، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه؛ كأنه قبطية ملقاة، ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكر نهي رسول الله ألا نقتل امرأة فيكف يده، ولولا ذلك لفرغْنا منها!
عبد الله (متممًا) : ولمَّا ضربْناه بأسيافنا، تحاملتُ عليه بسيفي في بطنه، حتى أنفذتُه وهو يقول: «حسبي! … حسبي!» وخرجْنا، فوقع «ابن عتيك» لسوء بصره من الدرجة، فوثئَت رجله وثأً شديدًا فحملْناه!
ابن عتيك : نعم … وأوقد «يهود» النيران، واشتدوا في كل وجه يطلبوننا، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه وهو يقضي بينهم، فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات؟! … فقال «خزاعي»: أنا أذهب فأنظر لكم. فانطلَق …
خزاعي : انطلقتُ حتى دخلتُ في الناس، فوجدتُ امرأته، ورجال «يهود» حوله وفي يدها المصباح، تنظر في وجهه، وتقول: «فاظ وإله «يهود»!» فما سمعتُ من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها!
أبو قتادة : ثم جاءنا فأخبرَنا الخبر.
أبو بكر (باسمًا) : ومن منكم قتله؟
ابن عتيك : أنا!
عبد الله : بل ضربَتي أنا!
خزاعي : إن أردتم الحقيقة فأنا الذي …
محمد : هاتوا أسيافكم!
الخزرج (يسرع كلٌّ إلى سيفه ويقدِّمه إلى النبي) : ها هي ذي!
محمد (ينظر إلى السيوف، ويشير إلى أحدها) : لمن هذا السيف؟
الخزرج : ﻟ «عبد الله بن أنيس»!
محمد (يشير إلى سيف عبد الله) : هذا قتَله، أرى فيه أثر الطعام!

المنظر الخامس عشر

(النبي في حي بالمدينة بين رهط من الناس.)

أبو رافع (يأتي وهو يجري ويلهث) : يا رسول الله! … أبشر! … أبشر!
محمد : بماذا؟
أبو رافع : ولدَت لك «مارية القبطية» الليلة غلامًا!
محمد (في فرح) : وُلِد لي غلام!
أبو رافع : نعم … وربِّك قد وُلِد لك غلام!
محمد (فرحًا) : يا «أبا رافع»! … لقد وهبتُ لك عبدًا!
أبو رافع (صائحًا يجري في الناس) : أبشروا أيها الناس! … أبشروا!
محمد (ينهض) : أيها الناس! … وُلِد لي الليلة غلام! … وإني سمَّيتُه … باسم أبي «إبراهيم»!

(يذهب مسرعًا، ومعه أبو رافع.)

المنظر السادس عشر

(عائشة في مسكنها مع أمها زينب أم رومان.)

أم رومان : لا تحزني يا بنيتي!
عائشة : وددتُ والله أني أنا أمُّ هذا الغلام!
أم رومان : عسى أن تُرزَقي غلامًا مثله!
عائشة : أما علمتِ؟
أم رومان : ماذا؟
عائشة : لقد حجب رسول الله «مارية»!
أم رومان : نعم … إنها قد ثقلَت على نسائه!
عائشة (كالمخاطبة لنفسها) : قد عق عنه رسول الله بكبشَين يوم سابعه، وحلق رأسه، فتصدق بزِنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدُفِن في الأرض … وتنافسَت فيه نساء الأنصار؛ أيتهن ترضعه!
بريرة (تدخل) : رسول الله جاء!

(تخرج أم رومان وتترك عائشة.)

محمد (يدخل فرحًا، حاملًا ابنه إبراهيم بين ذراعيه) : يا «عائشة»! … انظري! … انظري!
عائشة (ترفع رأسها في فتور) : ماذا؟
محمد (ينظر إلى الغلام بين ذراعيه) : انظري إلى شبهه بي!
عائشة : ما أرى شبهًا!
محمد : ألا ترَين إلى بياضه ولحمه؟!
عائشة : من سُقِي ألبان الضأن سَمِن وابيضَّ!
محمد (ينظر إلى الغلام) : أما درَيتِ يا «عائشة»؟ … لقد جاء إليَّ «جبريل» فقال: السلام عليك يا «أبا إبراهيم»!
عائشة (فاترة) : حقًّا؟
محمد : ألا يسرك هذا؟
عائشة : ما الذي جاء بك الساعة يا رسول الله؟!
محمد : جئتُ لكِ ﺑ «إبراهيم»؛ كي تنظري إليه!
عائشة (مطرقة) : قد نظرتُ إليه!
محمد (يلتفت إليها) : ما لكِ يا «عائشة»؟
عائشة : ما بي من شيء!
محمد (ينظر إليها مليًّا) : أغِرتِ!
عائشة (مطرقة) : كلَّا!
محمد : إنكِ والله قد غِرتِ!
عائشة (ترفع رأسها صائحة) : وما لي لا يغار مثلي على مثلك!
محمد (يبتسم) : أوَقد جاءك شيطانك؟

(صمتٌ عميق … تهدأ عائشة قليلًا.)

عائشة : أمعي شيطان؟
محمد : نعم!
عائشة : ومع كل إنسان؟
محمد : نعم!
عائشة : ومعك يا رسول الله؟
محمد : نعم! … ولكن ربي أعانني!

المنظر السابع عشر

(عائشة في مسكنها … تدخل عليها بريرة تجري.)

بريرة (وهي تلهث) : أجاءك الخبر؟
عائشة : أي خبر؟
بريرة : مات «إبراهيم»!
عائشة (في فرح ظاهر) : غلام «القبطية»؟!
بريرة : نعم! … نعم!
عائشة (تنهض وثبًا) : من أين عرفتِ ذلك؟
بريرة : الناس تتحدث به، ونساء النبي قد ذهبن يحضرن دفنه!
عائشة : عليَّ بإزاري!
بريرة : أين؟
عائشة : أذهب لأرى هذا الأمر!

المنظر الثامن عشر

(النبي في البقيع، ومعه الفضل بن عباس، وأسامة بن زيد، يحملان جثة إبراهيم وخلفهم مارية تبكي، ونساء من الأنصار والمهاجرين، وحفَّار يحفر قبرًا.)

الفضل : أندفنه هنا في «البقيع»؟
محمد (مطرقًا) : نعم!
أسامة (قرب الحفرة) : ادنُ يا «ابن عباس»! … هذا الحفار قد فرغ!
الفضل (يدلي بالجثة في الحفرة) : في جنة الخلد يا «إبراهيم»!
النساء (صائحات) : إن له إن شاء الله مرضعًا في الجنة!
محمد (على شفير القبر) : أرى فرجة في اللحد!
الحفار : إنها يا رسول الله لا تضر ولا تنفع!
محمد (يسوي بإصبعه الجدث) : أمَا إنها لا تضر ولا تنفع، ولكن تقر بعين الحي، إن العبد إذا عمل عملًا أحب الله أن يتقنه!
النساء (ينظرن إلى السماء صائحات) : انظروا! … انظروا!
محمد (يلتفت) : ماذا؟
النساء : انكسفَت الشمس!
أسامة (ناظرًا إلى السماء) : إي والله! … انكسفَت الشمس لموت «إبراهيم»!
النساء (صائحات) : لموت «إبراهيم» انكسفَت الشمس! … انكسفَت الشمس لموت «إبراهيم»!
محمد (ينهض ويلتفت إلى الناس) : أيها الناس! … إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، ولا ينكسفان لموت أحد ولا لحياة أحد!

(يسكت الناس لحظة، ويعود النبي إلى إطراقه.)

الفضل (ناظرًا إلى التراب وقد أُهِيل على إبراهيم) : رحمة الله على إبراهيم! … لو عاش كان صدِّيقًا نبيًّا!
محمد (للحفار) : أقد فرغتَ؟
الحفار : نعم!
محمد : مَن أحد يأتي بقربة ماء؟
أسامة (يُسرع إلى قربة، فيحملها ويجيء بها إلى النبي) : هذي قربة الماء يا رسول الله!
محمد : رُشَّها على قبر «إبراهيم»!
أسامة (يرش الماء على القبر) : استودعناك الله يا «إبراهيم»!
محمد (لا يملك نفسه) : لو عاش «إبراهيم» لوضعتُ الجزية عن كل قبطي!

(تسيل من عينَي النبي الدموع.)

أسامة : أتبكي، وقد نهَيتَ عن البكاء؟!
محمد (باكيًا) : إن «إبراهيم» ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرَين تُكملان رضاعه في الجنة!
الفضل : يا رسول الله تبكي وأنت رسول الله؟!
محمد : إنما أنا بشر، تدمع العين ويخشع القلب، ولا نقول إن شاء الله إلا ما يُرضِي الرب، والله لولا أنه أجلٌ معدود، ووعدٌ صادق، ووقتٌ معلوم، وأن آخرنا لاحِق بأولنا، لجزعْنا عليه جزعًا غير هذا … إنا عليك يا «إبراهيم» لمحزونون!

المنظر التاسع عشر

(النبي بين أصحابه في المدينة أمام المسجد.)

بلال (يتقدم بين يدَي النبي) : يا رسول الله! … لقد نقضَت «قريش» صُلح «الحديبية»!

(النبي يطرق مفكرًا.)

عمر : ما تقول يا «بلال»؟
بلال : رجال من «خزاعة» قدموا بهذا الخبر!
علي : ولمَّا يمضِ على الصلح اثنان وعشرون شهرًا!
أبو بكر (يلتفت) : نعم! … هذا «عمرو بن سالم الخزاعي» في رجال من «خزاعة»!

(النبي يرفع رأسه ناظرًا إلى رجال خزاعة.)

الخزاعي (يتقدم بين يدَي النبي) : يا رسول الله! … بعد أن دخلْنا في عقدك وعهدك عدَت علينا «قريش» ليلًا، ونحن آمِنون، فقتلوا منا عشرين رجلًا، فقدمْنا عليك نخبرك ونستنصرك!
محمد (يقوم يجر رداءه) : لا نُصِرتُ إن لم أنصرْكم مما أنصرُ منه نفسي!
الخزاعي : لقد بلغَنا أن قريشًا رهبوا الذي صنعوا؛ وندموا عليه!
بلال (ينظر) : هذا رجل ﻛ «أبي سفيان» مقبلًا مسرعًا!
أبو بكر (ينظر مليًّا) : نعم … هو «أبو سفيان»!
محمد (يقف) : كأني به قد جاء ليشد العقد، ويزيد في المدة!
أبو سفيان (يتقدم إلى النبي) : يا «أبا القاسم»! … إني جئتك في أمر!

(محمد لا يرد عليه شيئًا.)

أبو سفيان : جئتُ للعهد الذي بيننا وبينك!

(محمد لا يجيب.)

أبو سفيان (يمضي في القول) : ألك في أن نشد العقد، ونزيد في المدة؟
محمد (في صوتٍ خافت كالمخاطب لنفسه) : هيهات! … هيهات!

(يترك أبا سفيان وينصرف.)

أبو سفيان (لمن حوله) : لماذا لا يرد عليَّ شيئًا؟ … يا «أبا بكر» … كلم لي «أبا القاسم» أن يستمع إليَّ!
أبو بكر (يتركه ويمشي في أثر النبي) : ما أنا بفاعل!
أبو سفيان (يتجه إلى عمر بن الخطاب) : وأنت يا «أبا حفص»! … ألا تكلمه لي؟
عمر (يزوَرُّ عنه) : أأنا أشفع لكم إلى رسول الله؟ … فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتُكم به!

(يتركه ويتبع النبي.)

أبو سفيان (لعلي بن أبي طالب) : يا «علي»! … إنك أمسُّ القوم بي رحمًا … وإني قد جئتُ في حاجة فلا أرجعن كما جئتُ خائبًا فاشفع لي إلى «أبي القاسم»!
علي : ويحك يا «أبا سفيان»! … والله لقد عزم رسول الله على أمرٍ ما نستطيع أن نكلمه فيه!
أبو سفيان (لعلي) : يا «أبا الحسن» إني أرى الأمور اشتدَّت عليَّ فانصحني!
علي : والله ما أعلم شيئًا يغني عنك شيئًا، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجِر بين الناس، ثم الحق بأرضك!
أبو سفيان : أوَترى ذلك مغنيًا عني شيئًا؟
علي : لا والله ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك!

(يتركه ويذهب كي يلحق بالنبي.)

أبو سفيان (يقف وسط الناس) : أيها الناس! … إني قد أجرتُ بين الناس!
الناس (هازئين) : اركب بعيرك وانطلق!
أبو سفيان : صدقتم! … هذا أولى بي!

(يركب بعيره وينطلق.)

بلال (يأتي مسرعًا من جوار النبي) : أيها الناس! … إن رسول الله يأمركم أن تتجهزوا للقتال!

المنظر العشرون

(في مكة أبو سفيان في رجال من قريش ليلًا.)

قريش (لأبي سفيان) : ما وراءك؟
أبو سفيان : جئتُ «محمدًا» فكلمتُه، فواللات ما رد عليَّ شيئًا ثم جئتُ «أبا بكر» فلم أجد فيه خيرًا، ثم جئتُ «عمر بن الخطاب» فوجدتُه أعدى العدو، ثم أتيتُ «عليًّا» فوجدتُه أليَن القوم، وقد أشار عليَّ بشيء صنعتُه، فواللات ما أدري هل يغني ذلك شيئًا أم لا؟!
قريش : وبمَ أشار عليك؟
أبو سفيان : أمرني أن أجير بين الناس … ففعلتُ!
قريش : وهل أجاز ذلك «محمد»؟
أبو سفيان : لا!
قريش : ويلك! … واللات ما زاد الرجل على أن لعب بك … فما يغني عنك ما قلتَ!
أبو سفيان : لا واللات ما وجدتُ غير ذلك!

(يأتي أحد رجال قريش، وهو «بديل بن ورقاء» يجري.)

بديل : يا معشر قريش! … العسكر! … العسكر!
قريش (تقوم) : أين؟
بديل (يشير إلى ضوءٍ منبثق عن بعد) : انظروا تلك النيران!
قريش (في دهش وخوف) : نعم! … نعم!
أبو سفيان (ينظر إلى النيران) : نعم … ما رأيتُ كالليلة نيرانًا قط ولا عسكرًا!
بديل : هذه واللات «خزاعة» حمشَتها الحرب!
أبو سفيان (ناظرًا إلى النيران) : «خزاعة» أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها!

(يمر العباس بن عبد المطلب على ظهر بغلة النبي البيضاء.)

العباس (صائحًا بأبي سفيان) : … يا «أبا حنظلة»!
أبو سفيان (يلتفت) : «أبو الفضل»؟!
العباس : نعم!
أبو سفيان : ما لك … فداك أبي وأمي!
العباس : ويحك يا «أبا سفيان» … هذا رسول الله في الناس!
أبو سفيان (مرتاعًا) : «محمد»؟!
العباس : نعم … وا صباح «قريش»! … والله لئن دخل مكة، عنوة قبل أن تأتوه فتستأمنوه؛ إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر!
أبو سفيان : فما الحيلة فداك أبي وأمي؟!
العباس : والله لئن ظفر بك ليضربَن عنقك … فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك!
أبو سفيان : نعم! … هلمَّ بنا!

(يركب في الحال خلف العباس.)

المنظر الحادي والعشرون

(في معسكر النبي … العباس يمر بين المسلمين على البغلة، في طريقه إلى النبي وخلفه أبو سفيان.)

المسلمون (صائحين) : من هذا؟
العباس : أنا!
المسلمون : عم رسول الله على بغلته؟
أبو سفيان (قلقًا) : خشيتُ أن يكونوا قد أُمِروا فيَّ بشيء!
العباس : لا تخشَ شيئًا!
عمر (يلمح أبا سفيان) : من هذا!
العباس : أنا!
عمر (صائحًا) : «أبو سفيان» على عجز الدابة! … «أبو سفيان» عدو الله! … الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد!
العباس (يركض بالبغلة) : فلنسبقه إلى رسول الله!
أبو سفيان (ينظر خلفه في قلق) : إنه يشتدُّ خلفنا!
العباس : إن سبقَنا إلى رسول الله فأنت هالك!
أبو سفيان : أسرع بنا فداك أبي وأمي!
العباس (يوقف البغلة أمام مضرب النبي) : قد بلغْنا المكان! … هذا رسول الله!

(ينزلان ويتقدمان نحو النبي، وهو جالس أمام مضربه.)

أبو سفيان (همسًا للعباس) : كلمْه لي أول الأمر!
العباس (يتقدم) : يا رسول الله!
عمر (يصل مسرعًا، وهو يصيح) : يا رسول الله … هذا «أبو سفيان» قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد! … فدعني فلأضرب عنقه!
العباس : يا رسول الله! … إني قد أجرتُه!
عمر : يا رسول الله! … مُرني أتكلمْ!
العباس (يجلس إلى النبي، ويأخذ برأسه، ويلتفت إلى عمر) : والله لا يناجيه الليلة دوني رجل!
عمر : إن «أبا سفيان» عدو الله!
العباس : مهلًا يا «عمر»! … فوالله أن لو كان من رجال «بني عدي بن كعب» ما قلتَ هذا … ولكنك قد عرفتَ أنه من رجال «بني عبد مناف»!
عمر (يهدأ ويتلطف) : مهلًا يا «عباس»! … فوالله لَإسلامُك يوم أسلمتَ كان أحب إليَّ من إسلام «الخطاب» لو أسلم، وما بي إلا أني عرفتُ أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام «الخطاب» لو أسلم!
أبو سفيان (للعباس خافتًا في قلق) : كلمْ لي ابن أخيك!
محمد (يلتفت إلى أبي سفيان) : «أبا سفيان»!
أبو سفيان : نعم يا «أبا القاسم»!
محمد : ويحك! ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟
أبو سفيان : بأبي أنت وأمي … ما أحلمك وأكرمك، وأوصلك! … والله لقد ظننتُ أن لو كان مع الله إله غيره؛ لقد أغنى عني شيئًا بعد!
محمد : ويحك يا «أبا سفيان»! … ألم يأنِ لك أن تعلم أني رسول الله؟
أبو سفيان : بأبي أنت وأمي، ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك! … أمَّا هذه والله، فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا!
العباس (يغمزه بيده) : ويحك! … أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، قبل أن يُضرَب عنقك!
أبو سفيان : أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
العباس : يا رسول الله! … إن «أبا سفيان» رجل يحب هذا الفخر؛ فاجعل له شيئًا!
محمد : نعم … من دخل دار «أبي سفيان» فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن!
أبو سفيان (للنبي وهو منصرف مع العباس) : إنك والله لكريم!
محمد (همسًا للعباس) : يا «عباس» احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل؛ حتى تمر به جنود الله فيراها!

المنظر الثاني والعشرون

(بمضيق الوادي عند خطم الجبل … النبي مارٌّ في جيشه، العباس وأبو سفيان في ناحية ينظران إلى الجنود تمرُّ بهما.)

العباس : انظر إلى جنود الله!
أبو سفيان (مأخوذًا) : نعم! … نعم! … ما هذه القبائل كلها!
العباس (يشير إلى قبيلةٍ مارة) : هذه «سُليم»!
أبو سفيان : نعم … نعم … ومن هؤلاء؟
العباس : هؤلاء «مزَينة»!
أبو سفيان : نعم … نعم!
العباس : وهؤلاء قبائل «أسلم» و«غِفار» و«جهينة»!
أبو سفيان : نعم … نعم!
العباس : انظر إلى القبائل تمرُّ على راياتها!
أبو سفيان (في صيحة) : سبحان الله يا «عباس»! … من هؤلاء؟!
العباس : هذا «رسول الله» في كتيبته الخضراء!
أبو سفيان (في إعجاب) : الكتيبة الخضراء؟!
العباس : نعم المهاجرون والأنصار!
أبو سفيان : يا لكثرة الحديد في هذه الكتيبة! … لا يُرى والله منهم إلا الحدق من الدروع والحديد!
العباس : نعم!
أبو سفيان : ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، والله يا «أبا الفضل» لقد أصبح مُلك ابن أخيك الغداة عظيمًا!
العباس : يا «أبا سفيان»، إنها النبوة!
أبو سفيان : فنَعم إذَن!
العباس (يدفعه) : يا «أبا سفيان»! … النجاء إلى قومك!
أبو سفيان : صدقتَ!

(ينصرف إلى قومه.)

العباس : أسرع!

المنظر الثالث والعشرون

(في مكة … الناس مجتمعون، أبو سفيان بينهم يخطبهم.)

أبو سفيان (يصرخ بأعلى صوته) : يا معشر «قريش»! … هذا «محمد» قد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار «أبي سفيان» فهو آمن!

(تقوم إليه هند بنت عتبة غاضبة ثائرة من بين الناس.)

هند : أأنت تقول هذا؟
أبو سفيان : نعم … أقول هذا فاستمعوا إليَّ!
هند (تأخذ بشارب أبي سفيان وتصيح) : اقتلوا الحميت الدسم الأحمس! … قُبِّح من طليعة قوم!
أبو سفيان : اغربي أيتها المرأة!
هند (للناس) : لا تصغوا إلى هذا الرجل!
أبو سفيان (للناس) : ويلكم! … لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار «أبي سفيان» فهو آمن!
الناس : قاتلك الله! … وما تغني عنا دارك؟
أبو سفيان (يمضي في الكلام) : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن!
الناس (يرون الجيش مقبلًا، فيتفرقون مسرعين متصايحين) : الجيش! … الجيش! … محمد! … النجاء! … إلى المسجد! … إلى دوركم!

(يدخل النبي وجيشه ظافرين.)

عمر (صائحًا في أمراء الجيش) : يا أمراء الجيش! … لقد أمر رسول الله، إذا دخلتم مكة، ألا تقاتلوا إلا مَن قاتَلكم!
محمد (على دابته ناظرًا إلى السماء) : لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده!

(يخفض رأسه ويسير في طريق الكعبة.)

أبو سفيان (يلمح العباس) : يا «أبا الفضل»!
العباس (يدنو منه) : انظر إلى النبي! … إنه يضع رأسه تواضُعًا لله؛ لِما أكرمه به من الفتح حتى إن عُثْنونه يكاد يمس واسطة الرحل!
أبو سفيان (ناظرًا إلى النبي) : نعم!
العباس : اللهم لك الحمد! … فُتِحَت «مكة» بغير قتال!
أبو سفيان : لقد بلغ النبي «الكعبة»!
العباس (يتبع ببصره النبي) : نعم!
أبو سفيان : إنه قد رفع يده، وأمر في الكعبة بشيء!
العباس (يرى محمدًا على وشك الكلام) : إنه يشير إلى الأصنام!
أبو سفيان : نعم … صه! … إنه يتكلم!
محمد (صائحًا) : جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا!
عمر (لرجاله) : حطِّموا هذه الأحجار!

(المسلمون يحطمون أصنام الكعبة.)

(ابن رواحة الشاعر يقف إلى جوار النبي، ويصيح في حماسة.)

خلُّوا بني الكفار عن سبيلهِ
اليوم نضربكم على تنزيلهِ
ضربًا يُزيل الهام عن مَقِيلهِ
ويذهل الخليل عن خليلهِ
عمر : يا «ابن رواحة»! … أبينَ يدَي رسول الله، وفي حرم الله تقول الشعر؟!
محمد : خلِّ عنه يا «عمر»! … فلَهِي فيهم أسرع من نضْح النبل!
أبو بكر (للنبي في فرح وتأثر) : يا رسول الله! … لقد تم نصر الله لك، ولِما جئتَ به!
محمد (يتلو) : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤