الفصل الحادي عشر

كان الحارثُ بن عباد في فناء خَيمتِهِ عندما جاء الوفد إلى الحيِّ عائدين من رِحلتِهم إلى المُهلهِل بن ربيعة، وكانت زَوجُه أمُّ الأغرِّ ابنةُ ربيعة أختُ كُليب والمُهلهِلْ قاعدةً عند أطراف الخيام، تَنتظِر كعادتِها كلَّ يومٍ عودَةَ الوفد لكي ترى ابنها الحبيب عائدًا معهم؛ فإنَّها أحَسَّتْ منذ أرسلَهُ زَوجُها أنَّ فَلْذةَ كبِدِها يَسير مع ذلك الوفد مُتعرِّضًا للهلاك. كانت أمُّ الأغَرِّ تعرِفُ أخاها المُهلهِل، وكانت تُحسُّ أنَّ الرَّحِم لن تُلين قلبه ولن تعطفه على ولدِها الحبيب؛ لأنَّ دمَ كليب قد طمَسَ على قلبه، فلم يَبقَ فيه مَحلٌ لرحْمَةٍ ولا مَودَّة. ولمَّا رأتِ الرُّسل مُقبلين وحدَهم، أحسَّ قلبُها بما كان، كأنَّها شهِدَتْه بِعينَيها، فقامَتْ مُسرعةً تسأل في لهفةٍ عن ولدِها سؤال الوالِهِ المَشدوه، فأطرَقَ الرُّسل ومَضَوا في سبيلهم نحو خَيمة زَوجها صامِتين، ولم تَقْوَ ألسنَتُهم على النُّطق أمام الأم الثَّكلى، فاشتعلَ قلب المرأة وصاحَتْ في لَوعة، وَولوَلَتْ تَنوح في حُرقة، فَسَمِعها نِساء الحيِّ فأقبلنَ نحوَها سِراعًا وأجَبْنها بالعويل حتَّى اشتعلَ الحيُّ كلُّه بالصِّياح والبكاء.

وقام الحارِثُ مُسرعًا ليتعرَّفَ مبْعثَ الضَّجَّة المُنتشِرة. فلمَّا رأى الرُّسلَ عائدين وحدَهُم وليس فيهم بُجَير أدركَ ما كان، ولكنَّه ملك نفسه وكبَتَ ما في قلبه، وذهب بين الخِيام يُهدِّد ويَسبُّ، ويُؤنِّب وينهى، واتَّجَه إلى امرأتِه وقال لها عابسًا بصوتٍ كهدير الفحل: «يا أمَّ الأغرِّ لا أُريدُ إحداكُنَّ تَبكي أو تَصيح، ولا أسمَعَنَّ مِنكنَّ صوتَ نَحيب أو عديد، فوَحَقِّ مَناة إنَّ ابني لنِعْمَ القتيل. كافأ خالَهُ وأطفأ ثأرَهُ وأنا بقتلِهِ راضٍ، وليسَ مِن قومي بني قَيس بن ثَعْلبةَ من هو أكثرُ منه يُمنًا ولا أكرمُ مَقتلًا، فإنَّهُ قد أصلح بينَ ابنَي وائل وحقَنَ ما بَقِيَ من دمائهم.»

فخمَدَتِ الأصوات من رَهْبةِ السيِّد الصارِم، إلَّا نَشيج الأمِّ الثاكِل وهيَ تُحاوِلُ كِتمان صَوتِها طاعةً لزَوجِها، وتأبى حرارةُ كبِدِها أن تُطيع، وانصرف الحارث إلى الرُّسل ومضى بِهِم إلى فنائه، ليَسألَهُم عن جواب كِتابه، واتَّجَهَ إلى كبير الوفد وقال هادئًا: «ماذا قال المُهلهِل يا أبا ضُبيعة؟»

فوقَفَ أبو ضُبيعة حِينًا صامتًا، وكان قصيرًا دميمًا، فنظرَ إليه الحارِث وقال في شيءٍ من الحنَق: «قلْ جَوابَك أيُّها الرَّجل.»

فاقترَبَ الرجلُ منه كأنَّهُ يُريد أن يَهمِسَ في أذنه، ولكنَّهُ لم يقدِر على أن يَبلُغَ كتِفه، فتردَّدَ وبَقِيَ مُطرقًا، فعرَف الحارث أنه لا يُريد أن يتكلَّم في ملأ بَني ثَعلبة، فجَذَبَه من ذِراعِه في شيءٍ من العُنف حتى تنحَّى به إلى جانبٍ وقال غاضبًا: «تكلَّم يا جَحدر، أجبْني بما قال المُهلهِل، قلْ ولا تُخْفِ من قوله شيئًا، فإنه لن يَبلُغَ من القَسوَةِ مثل قَتلِ وَلدي، هل رَضِيَ المُهلهِل بدَمِ بُجير؟»

فنظر جَحْدر إلى الأرض وقال بصوتٍ خافِت: «ماذا أقولُ لك، إذا شئتَ إيجازًا قلتُ لكَ إنَّه قتلَ بُجيرًا ولَمْ يَرْوِ بِهِ غُلَّته.»

فصَرَّ الحارثُ على أضراسِه وقال للرجل: «إذن فلتَحمِلْ إلى أذُني كلَّ ما كان منه. قلْ ولا تدَعْ أمرًا إلَّا وصفتَه.»

فأخذ جَحدرُ يقصُّ عليه ما كان من المُهلهِل منذ ذهب الوفْدُ إليه، وجعل يُفصِّل له وَصْفَ ما رأى من عُنفِه وسُوء ردِّه، حتى بلغَ وصفَ ما كان منه عندما رأى بُجيرًا وسأله عن اسمه، فأغمَضَ الحارِثُ عَينَيه وتنفَّس نفَسًا عميقًا، وقال لجحدر: «دعْ ذلك الحديث ولا تُطلْ فيه. لقد قَتَله!»

فنظرَ إليه جحدر مُتردِّدًا وأمسك عن الكلام لحظة، فصاح به الحارث قلقًا: «امض! امضِ في حديثك. أليس قد قتله؟»

فقال جحدر وهو مُطرق: «لقد وددتُ أني لم أشهد ذلك الأمر ولم أسعَ فيه، فإنَّ تلك الصورة لا تزال ماثلةً أمام عَيني لا تُفارقني في سَير ولا في إقامة، ولا تبعُد عنِّي في ليلٍ ولا في نهار. ولو كانت دماء تغلِب تملأ البحار التي تُحيط بالأرض ما حسِبتُها تروي غَليل بني ثعلبة، لقد قتلَه وهو يقول: بؤ بشِسْع نَعْل كليب!»

فارتدَّ الحارث إلى الوراء خطوة، ونظر إلى مُحدِّثه وقد قَلَصت عضلات وجهه وزوى حاجِبَيه وصاح بصوتٍ أجش: «ماذا قلت؟ بشِسع نعل كليب؟»

فهزَّ جحدر رأسه ونظر إلى الأرض وهو يقول في حزن: «نعَمْ بشِسع نعل كليب.»

فصاح الحارث: «ألم يكن في تغلِب رجال؟ ألم يكن في تغلِب رجال؟»

فصاح جحدر: «كان امرؤ القيس بن أبان يُحاول أن يرُدَّه فلم يستطع. لقد بالَغَ في النُّصح والرجاء، ولكنَّ صوته غرق في العاصفة الهوجاء.»

فرفع الحارث يدَه مقبوضةً فوق رأسه، وعضَّ على نواجِذِه وتنفَّس نفسًا مُضطربًا كأنَّهُ يختنِق ثم قال: «ويلٌ للدَّاعِر من غدرِه! يا ويل زير النساء!» ثم سار مُسرعًا نحو مضارِب خِيامه يُهروِل في اضطراب وقلبُه يحترِق من الغيظ، وكان في سَيرِه يبعَث ألفاظًا مُتقطِّعة كأنَّهُ يُخاطب نفسه، ويَتبَع كلَّ لفظٍ منها آهة مَبحوحة، وكان جحدر والوفد يَسيرون وراءه، حتى إذا اقترب من منازله نظر وراءه إلى جحدر وقال في صرخةٍ مكتومة: «لقد برَّ الخبيث بعهدِه يومَ قال أنه لن يدَعَ شيئًا لكليب حتى ينتقِم له، حتى الشِّسع الذي كان يربِط به نعله، فكان ولدي قتيل ذلك الشِّسع.»

ثُمَّ ضحِك ضحكةً مُخيفة حتى ظنَّ جحدر أنَّ الرجل قد جُنَّ من وقْع مُصابه.

فلمَّا صار الحارث بين خِيامه وقفَ وصاح يُنادي عبدَين كانا في رحبة الحي، وقال بصوتٍ ثائر غاضب: «قَرِّبا مَربط النَّعامة منِّي!»

ثم ذهب إلى خيمته وغاب لحظة، وخرج ورُمحه في يدِه وهو يهزُّه هزًّا عنيفًا، ويُشمِّر كُمَّ ثوبه عن ذراعه، وصاح بصوتٍ يُدوِّي:

قَرِّبا مَربطَ النَّعامة منِّي
لقِحَت حربُ وائلٍ عن حيال

ثم وقفَ ورَكَز رُمحه في الرِّمال، وقد غلَبه الغضب وامتزَج في قلبه حِقد المَوتور بحُزن الأب المفجوع، ورأى امرأتَه جالسةً في جانب الخَيمة تَبكي وتُحاول إخفاء صوتِها، فنظر إليها ثم نظر إلى جحدر وصاح كأنه يُخاطبه:

قلْ لأمِّ الأغرِّ تَبكِ بُجيرًا
حِيل بين الرِّجال والأموال
فلَعَمْري لأبْكِينَّ بُجيرًا
ما أتى الماء من رءوسِ الجبال
لهفَ نفسي على بُجيرٍ إذا ما
جالتِ الخَيل يومَ حربٍ عُضال
قَتلوه بشِسع نعلِ كليب
إنَّ قتلَ الكريم بالشِّسع غال

ثم صمتَ قليلًا كأنَّهُ غصَّ بِريقه. فانفجرَت أمُّ الأغَرِّ صائحةً كأنها كانت تنتظِر تلك الكلمات لكي تُفرج عن نفسها بالعَويل والبكاء، وأسرَع إليها النساء فعاودْنَ ما كنَّ أمسكنَ عنه من النَّدْب والعويل، واشتعل الحيُّ كلُّه بالبكاء. واستأنف الحارث قوله بعد حينٍ وهو ينظر بعينَين شاخِصتَين نحوَ الأفق لا يلتفتُ إلى جمع بني ثعلبة المُتزاحِم حوله.

صاح في حُزنٍ وغيظ:

يا بُجَير الخَيرات لا صُلحَ حتَّى
تُملأ البِيد من رءوس الرِّجال
لم أكن من جُناتِها علم الله
وإني لحَرِّها اليوم صال

وأطرَقَ حينًا لا يقوَى على الكلام، ثم انتفض فجأةً وسلَّ سيفه وهزَّه فوق رأسه في عُنف، وعاد إلى إنشاده فصاح بصوتٍ يُشبه هدير الريح بين الصخور:

قرِّبا مَربَط النَّعامة منِّي
لقِحَتْ حربُ وائلٍ عن حيال
فلعمْري لأقْتُلَنْ بِبُجَيرٍ
عدَدَ الذَّرِّ والحصا والرِّمال
قرِّبا مَربطَ النعامة منِّي
ليس قَولي يُراد لا بلْ فِعالي

ثم أغمَدَ سيفه وألقى برُمحه أمامه في وسط حلقة الرجال، وتحرَّك مُهرولًا راجعًا إلى خَيمته وهو يُهمهِم ويهدر، فجعل يبحث عن سلاحه ودروعه، وأخذ قَوسَه التي كان قد نزَع عنها وترَها، وأخذ قِطعةً من الجلد كانت في رُكنٍ من الخيمة، وخرَج على قَومِه وهو يربِط طرفها في رأس القَوس، ويقول في أثناء ذلك كأنه يُخاطِب نفسه:

قرِّبا مَربط النعامة منِّي
قرِّباها وقرِّبا سرْبالي
قرِّباها وقرِّبا لأمَتِي زَغْفا
دلاسًا تردُّ حدَّ النِّبال
قرِّباها لمُرهَفاتٍ حدادٍ
لقِراع الكُهول يومَ النِّزال

وأخذ يذهب إلى خَيمته يُجهِّز فيها سلاحه شيئًا بعدَ شيء، وهو كلما جهَّز شيئًا خرج به وأنشدَ بيتًا أو بعض أبيات، ثم يرجِع إلى الخيمة فيُجهِّز شيئًا آخرَ يعود بعدَه إلى رحبةِ الحيِّ مُستمرًّا في إنشاده المُضطرب، حتى تجمَّعت في الرحبة كومة من الدُّروع والسلاح.

في هذه الساعة كان الشيخ مُرَّة قد بلغ مَنازل الحارث، ورأى الفُرسان مُلتفِّين حول زعيمهم الثائر، فانفرجَتْ له الجموع حتى اقتربَ من الرجل ومدَّ يدَه إليه، وقال له بصوتٍ مُتهدِّج: «مُصاب جَلَل يا أبا بُجير!»

فالتفتَ الحارث إليه ومدَّ يدَه إليه مُصافحًا، وقد ملك نفسه وزال عنه اضطِراب الغضب، واكتسى وجهه بدلَ ذلك هُدوءًا ينِمُّ عن عزيمة ثابتة، وقال يُخاطِب الشيخ: «ستذوق تغلِب عاقِبة ظُلمها.»

وكانت فرسه النَّعامة قد جاءت إليه عند ذلك يقودُها العَبدان، فاقترَب منها ومسح رأسها وهي تصهَل وتتمسَّح به، ثم اخترَط سيفه وقبَض على شَعر ناصِيَتِها فجزَّه، ثم قَبضَ على شعْرِ ذَيلها الطويل فقطعه، وسكنَتِ الفرَس وظهر عليها وجوم يُشبِهُ أن يكون حُزنًا، وقال كأنَّه يُخاطبها: «ليس بعدَ اليوم تدليل.»

ثم دفعها إلى العَبدَين الواقِفَين عند رأسِها في صمتٍ وخُشوع، وقال: «قرِّباها منِّي فالليلة نَسير إلى قتَلَة بُجير.»

ثم أخذ الشيخ مُرَّة من تحت ذِراعه وسار به إلى خَيمتِه، وتَبعَهما جحدر وبعض كبار قَيس بن ثعلبة، وانصرف شُبَّان الحيِّ ليُعِدُّوا خُيولهم للغزوَةِ العاجِلة في تلك الليلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤